الخميس، 23 فبراير 2017

قراءة في تجليات جنان محمد بقلم / الناقد شاكر الخياط

قراءة في تجليات جنان محمد
هناك اكثر من لون ابداع في النثر وخصوصا اذا كان ذلك الابداع في لونه يقترب من الشعر او يرتدي ثوبه الفضفاض ويحمل عصاه الساحرة لتجتمع المفردات المتناسقة مع الروح المتوهجة في هودج عرس محمول على الاكتاف بعد ان تزوق بالدمقس وتسربل بالحرير الآتي عبر طريق التبت ليحط على راحلة موسيقاها ايقاع متناغم وهديل الحمام الذي التزمته الكاتبة بين الحين والاخر حتى كدت اوسم هذا النص بالهديل، لكن اللحن بوح جميل متناسق مع الخلجات ومتوائم مع النظر الى امام الى ابعد من الحاضر لكي يتسم البوح بالامل بعد ان استند متكئا على ماض جميل ذاكرا ومتذكرا تلك الصباحات الدراسية والتي هي سمة الرقي ولبنته الاولى...
لم يكن النص يشعر بالتعب مطلقا، فلقد كان واقفا منتصبا كقامة جنان الممشوقة، لم ارها لكنني ابصرها هكذا، وان لم تكن كما ظننت فيجب ان تكون، هذا ما اراه لها، لعل فراستي تخطيء لكنها قليلا ما تحبطني بعد علمي انها بالظن ارقى من الجيدة وهذا ما الفته عنها، هذا القوام كان دائم الحركة منذ انطلق القلم الرائع ليصوغ الكلمات بكل توئدة وهدوء اشعرني ان الكاتبة كانت مستلقية على اريكة من زبرجد، يظللها الزيتون الحلبي والزيزفون الشامي، والنخيل البصري، والمانجو المصري، لقد كانت اطلالة حملت معها اسسا وأطرا انسانية متقدمة حتى لانك ترى ان هذا النص يمكن ان يكون لاكثر من مكان واكثر من زمان، هذا الزمكان الهلامي الابعاد الذي قيدته جنان بحدود الوطن المحبوب الى حد العبادة قد اضحى وطننا جميعا والزمان امسى زماننا كلنا، نحن آل العشق وآولي الحنين، نحن من لم يكن لدمعنا ثمن على الاطلاق، نحن هؤلاء الاطفال النورانيين الذين كلما كبرنا عدنا اصغر روحا وأحن قلوبا، والا كيف ( ... واشتاق كل مافيك حتى الغبار...) الذي لايمسكه حد فيخترق حتى الثقوب الصغيرة، هذه الصورة يمكن ان تكون في منحى اخر غير هذا الذي جاءت به الكاتبة، الا ان الروح المتدفقة بالرعاف الباكي على الدوام حول السلب الى ايجاب، ونقلنا كأننا في هبة غبار نشم رائحته حقيقة عبر الشبابيك التي ما ألفنا اغلاقها...
ان يرتبط الامل من الواقع المعاش الى العود ثانية للماضي الجميل بذكرياتها وعلى قمتها هديل الحمام الساخن بل الملتهب لكنه ليس كما الفيزياء قد قررت من قبل ان اللاهب او الساخن دائما يكون فوق الصفر المئوي، ابدا اللهيب والسخونة في روح هذه التي ابتليت بحبها لمدينتها كان ليس كالحر او اللهيب انما هو البرد الذي تجاوز السبع درجات نزولا، هذا الانثيال يمثل لي رقيا رؤيويا عاليا قد لاينتبه اليه الكثير لكنني ارى الكاتبة الان وكيف تكتب، ذلك اعتبرت هذه الاقتناصة للمتناقضات المقبولة تصعيدا عاليا في اسلوب السرد او في اسلوب نقل الواقع الى ىسريالية ليست متمردة انما هادئة في غلافها وصورتها الخارجية لكنها متوفزة في باطنها وجوهرها المتحمس لان يقول اعلى من هذا...
القلم الذي يبتدا من ( صوت المروحة السقفية..) ولا يعرف للان كيف يجسد هذا الصوت بالحروف المقروءة لهو قلم ارتقى بنزوله الى محليتها هنا الى قمة العلا المتحضر، كم جميلة تلك الاشياء التي تصنع الكاتب، والكاتب الفنان، فهناك فرق بين شاعر وشاعر فنان، وهناك فرق بين كاتب وكاتب فنان، فمن يبتعد عن الاشياء التي كانت تمثل وسائل ملعب الصبا وذكرياته الى التخلي عنها تصورا من البعض ان في هذا الابتعاد رقيا وتطورا وعلا فهو واهم، لان كثيرين هم من ارتقوا سلم المجد الادبي من الحارة والزقاق والقرية... الخ، كيف يتحول صوت المروحة الى هديل حمام؟! هذه ليست اعجوبة وليست معجزة لكنها توليفة غاية في الروعة نجحت الكاتبة كثيرا في جمعها عائدة الى الماضي بغض النظر عن زمن ذلك الماضي بعيدا كان ام قريبا، حتى خلتني اقف امام هذا الاستخدام الجميل، ليس لقوة المفردة او الاتيان بالطلاسم كما يفعل البعض لكن العكس هو الذي اجبرني وربما غيري مثلي على الوقوف كثيرا متخيلا الجو الذي عاشته جنان وهي اثناء الكتابة مقابل ماكان يحاصرها من واقع في ( هديل الحمام، وصوت المروحة) حتى ظننت انني في غرفة مفتوحة الشبابيك منفرجة الستائر في يوم صيفي متغير الحرارة في درجاتها...
هذا الهديل الذي دوخ ابي العلاء من قبل في حمامته التي لم يكن يعرف ما اذا كانت قد (.. شدت ام ناحت على غصنها..) آنذاك؟! الا ان جنان افصحت بعد ان اخبرتها الحمامة ولمرات كثيرة انها كانت تنادي هذا العالم وتحديدا وقت المطر ...
كثيرة هي النقاط التي سجلت لصالح النص ولصالح كاتبته المتأنقة جنان، لعلي اعطيت النص جزءا مما يستحقه وهو ليس فضلا انما هذا النص فيه ابعاد فلسفية وفنية في آن واحد رغم صعوبة التقائهما...لم اسجل مايستحق التاشير من نقاط سلبية، فلقد كان الاسلوب جميلا والروي فائقا الى حد الانبهار...
خالص اعتباري.
النص:
إنّني حقًّا أحبّكِ يا مدينتي .. وأشتاق كلّ ما فيكِ..
حتى الغبار الذي يتسرّب من كلّ الثقوب وكان عليّ أن أمسحه كلّ يوم، أشتاق الرائحة المنبعثة من الخِرقة القطنيّة المبتلّة عندما تمرّ عليه..
صوت الحَمام يأتي دافئًا، بل ساخنًا ملتهبًا، أشعر بالحرّ ودرجة الحرارة حولي سبعٌ سالبة. يذكّرني صوت الحمام بالصباحات الدراسيّة فقط،
أتساءل : هل كنتُ حقًّا أنام للظهيرة في أيام الإجازات فيفوتني هديله ساعة الشروق؟!
يأتي برائحة الحِبر على أوراقي الجامعيّة، برائحة عطري على قميصي الأبيض بعد نهارٍ طويل، برائحة المناديل الورقيّة مبتلّة بالماء نجفّف بها وجوهنا بعد غسلها بماء قارورة باردة، برائحة مِقوَد سيّارة أبي معطّرًا من عِطره.
صوت الحمام يأتي مصحوبًا بالصوت المميّز للمروحة السقفيّة، أشياء لا تعرفها هذه البلد ذات الهدوء المقيت. صوتٌ لا أعرف كيف يُكتَب، إنّه ببساطة قابلٌ للتذكّر والإحساس وليس للكتابة.
هنالك هدوءٌ محبّب.. وهدوءٌ مريض. هذه البلد مبتلاة بالنوع الثاني. هدوءٌ يذكّرني بأفلام الكرتون الصامتة: شخصيّات متحرّكة بدون موسيقى تصويريّة ولا كلام. هذه هي الحياة هنا.
وحين يتذكّر الحمام هنا أنّه حَمام، وأنّه يعبّر عن نفسه بالهديل، أصاب أنا بنوعٍ من الصدمة: ماذا؟ كيف؟ لماذا؟ لا يمكن!
هنالك كائنٌ يقف على الشجرة ويتفاعل مع هذا الكون ويعبّر عن هذا التفاعل بارتياح وسعادة! صوتٌ آخر لا علاقة له بضجيج السيّارات ولا صخب الشباب الطائشين ولا نعيق الغربان.
صوتٌ نديٌ لا تخنقه أنفاس السجائر المنتشرة في كلّ مكان، لا شيء يطفئها سوى المطر.
لذلك أبقى أحبّ المطر مهما أغرقني في أوقات غير مناسبة، وحده يغسل الجوّ.. ويُبقي هديل الحمام.
الحَمام لا ينتظر من يدعوه ليعبّر عن رأيه في الحياة، ورأيه دائمًا واحدٌ سهلٌ واضحٌ خالٍ من التعقيد: هديل.


 
 
تعقيب غازي احمد أبو طبيخ
آفاق نقديه لقد سحرنا هذا السفر النقدي الفني البارع الرائع اخي ابا عبدالله الاستاذ الناقد الجميل Shakir AL Khaiattالفاضل..ولقد استوقفني النص قبلك او ربما معك في ذات الوقت , ولكنني اسررت في نفسي انك اقدر مني في التعير عن السرديات جميعا بحكم تخصصك وبحكم عمق وقدم تجربتك علي هذا الصعيد..والحمد لله انني لم احرك ساكنا , اذن لخسرنا هذا الجمال النقدي الحميم, كل التقدير اخي ايها الاديب الكبير.وتحية من خلالك الى الست الكابتة الطيبه..تحياتي واعتزازي والسلام..
تعقيب كريم القاسم
كريم القاسم الاستاذ العزيز شاكر الخياط ، لقد وضعت اصبعك على مساحة خضراء ، قد اسقيتها بخبرتك المعهودة لتحيلها الى جنة وارفة ، لقد ابدعت واشرقت كعادتك ايها الحبيب اباعبدالله ... تقديري الكبير
 
تعقيب ماهر الامين

ماهر الامين يا لسعدها الأستاذة جنان أن احدودقت به هذه التجليات الجمالية الهادئة للناقد الأغر العلم الأستاذ شاكر الخياط...هذا السفر النقدي كما أطلق عليه الوالد شيخ الادباء الغازي كالحب النضيد...جنة وارفة الظلال كما فال أستاذي الأروع كريم القاسم...شكر الله لكم جميعا...

 
تعقيب ربا مسلم
Ruba Msallam بوركت قراءة رائعة سلمت اناملك
 
تعقيب غسان الحجاج

غسان الآدمي ربما علي ان اعترف بأنّ القراءة النقدية سحرتني اكثر من النص ذاته وعليه قررت ان اقرأ النص مرةً اخرى ولكن النتيجة لم تتغير ربما لان الاستاذ شاكر فتح افاق النص امام جمهور القراء بسلاسة رؤيته متنقلا بين تفاصيل النص الدقيقة التي لم تعب عن كشوفاته العبقرية ...
تحياتي للناقد الاستاذ شاكر الخياط وصاحبة النص الاستاذة جنان محمد


 
 
 
 
 
 

 
 
 

هناك تعليقان (2):

  1. أما بعد ..أيها المرشد الفاضل والجليل والأستاذ الغالي الذي أعتز بوقوفه على سطوري وإن امتطى صهوة الصمت فكيف به وهو ينطق وأي نطق ..لقد كنت أقرأ كلماتك -التي لا يختلف اثنان أنها فاقت نصا إحساسا واحترافا - وأشعر بأني أستمع للهديل-الذي أحب- غير أنه هذه المرة يختلف عن كل مرة -فلطالما ارتبط عندي بذكريات الماضي- لكنه اليوم يجسد رؤى المستقبل.. لقد وقفت على كل حرف ..اعتنيت بكل نقطة وفاصلة...ربت على كتف كل إحساس وحنين اعتراني وأنا أخط ما دونت في خاطرتي المشتاقة لهديل السلام في بلدي الباردة حرارة والمشتعلة حربا ..
    لقد كانت كلماتك بلسما..نسيما ربيعيا دافئا شذيا عانق روحي عناقا طويلا ومنحها السكينة والسعادة أن هناك من يقرأني بكل هذه الحرفية والعظمة والجمال ..
    ربما لو انتهجت عبارات الشكر المعهودة لكان شكري باردا مبتذلا ..لكن هذا الدمع الذي انساب ساكنا متحدا مع ابتسامتي الآن هما من صنعك وروحي من الأعماق تلهج بشكرك أيها السامق النبيل ...
    محبتي وفائق التقدير ..
    تلميذتك :جنان محمد

    ردحذف
    الردود
    1. تحاياي والتقدير لكل المارين..

      حذف