الصدق الفني في الادب العربي ...
أ.شاكر الخياط
-ح1-
----------------------------
أ.شاكر الخياط
-ح1-
----------------------------
( الشعر) :
++++++
الادب الذي يشتمل على اكثر من فن ومجال للابداع يكون فيه التعبير صادقا عفويا يظهر دواخل المبدع، وفيه من الالزام كذلك ان يكون الادب في جانب او جوانب ( ربما اخضعته ظروف لسنا نعلم دوافعها لكنها كانت المحرك لهذا النوع من الادب دون وجود للظاهرة الابداعية التي يكللها الصدق الفني) ، وبين الصدق الفني والتعبير الالزامي او الاجباري فرق كبير وهو حالة الابداع التي ترافق العمل واي عمل كان، وما الصدق الفني في التعبير وخصوصا الشعر ( مبحثنا ) هنا الذي يتكشف للقاريء قبل الناقد الذي سيعرف ذلك مهما حاول الشاعر ان يضفي على نتاجه حالة تقربه من الابداع والظهور بالجمالية العليا للوصول الى اقناع القاريء ان النص جاء عفويا فرضته ظروف الابداع المتعددة، ولكن مهما حاول ( المدعي) ان يصور من تزويق مضاف للعمل بان عمله كان من الرقي انه اتى طواعيا دون تكلف فهذا سينكشف لاحقا لامور وعوامل كثيرة تتحكم في مديات الابداع الفني للشعر..
منذ فترة طويلة تستوقفني قصائد كبيرة واعمال رائعة لكبار الادباء والشعراء على وجه التحديد، تسترعي مني الانتباه وتناول تلك الاعمال بالدراسة، ومع تقدم الزمن وتراكم الكم الهائل من الخبرة لسنين العمر التي جاوزت حد الاطلاع فقط، استوقفتني اعمال فنية على صعيد الشعر كانت من البلاغة اللغوية ومن الحس الفني العالي ومن الدقة في اختيار المفردات مالايمكن ان اتجاهله او يمر على النقد والنقاد مرور الكرام، لكن ادباء وشعراء تلك الاعمال لم يكن لهم الكعب المعلى في ساحة الادب والشعر على وجه الخصوص، وقد مر بنا شعر كثير ومرت بنا قصائد كثيرة حفظناها وعرفناها لكن مبدعيها ظلوا مجهولين آنذاك ولربما كان السبب هو عدم توفر مايتوفر الان من وسائل تواصل فاقت بقدراتها كل التصورات، الامر الذي دعاني ان استغل هذه الوسائل بما ينفعنا جميعا بدءا بنفسي ثم الآخرين، فعثرت على ظالتي التي كانت تؤرقني الى اوقات ليست بالبعيدة قبل الثورة المعلوماتية التي غطت على اجوائنا بدايات القرن الواحد والعشرين، مقدمة لنا المكتبة المتنقلة والدواوين الجاهزة والنقود والدراسات والبحوث، اضافة الى دقة وصحة المعلومة في اغلب من ثمان وتسعين بالمائة من تلك المعلومات حسب تقديري المتواضع ..
هذا الموضوع الذي كنت ابحث عن حيثياته منذ زمن، اهدى لي وفرة الراحة من التعب المضني للذهاب الى المكتبات والتفتيش في ادراجها بحثا ربما على اسم معين او معلومة لاتتجاوز ربما جملة مثلما حصل معي في سنة 1999 حين احتجت الى معلومة اتعبتني وقتها لم اجدها في متناول اليد آنذاك مما اضطرني الى الذهاب الى محافظة ميسان في جنوب العراق وشد الرحال الى احدى القرى لكي التقي بالذي لديه كتاب معين كنت ابغي الحصول على معلومة معينة فيه كنت بحاجة اليها،،،
اليوم وبعد انتشار واسع للوسائل التي تعين الباحث اجدني ملزما بل بحكم ماعانيت منه مرارا ان اضع نفسي كذلك في خدمة المتابعين من شعراء ونقاد عن موضوع مميز ومهم في حدود دائرة النقد وربما في دائرة الاطلاع الفني المميز عن الاطلاع العام للقاريء...
وساحاول جهد امكاني ان احصر موضوعة الصدق الفني في اقصر شرح توفيرا لوقت القاريء، وحرصا منا على ان يكون مبدا النفع المتبادل بيننا قبل ان يتسرب الملل (اللعين) الذي بات يخيم على نفسيات وامزجة المطلعين والمتابعين... واضعا هذه الحروف امام انظار الجميع سائلا العلي القدير التوفيق لنا جميعا في مسعانا، طالبا وبكلمحبة من الاقلام ان تتشارك هنا في ( آفاق نقدية) ملتقى الادباء والشعراء على وجه الخصوص... في موضوعة الصدق الفني وكما يقول المعلم الاول ارسطو في مفهوم الثنائية ( المادة والصورة)
" فالكون ( الحدوث أو الوجود ) ينتج عن تجوهر المادة بصورة ما يهبها واهب الصور ، والفساد والعدم ( الموت مثلاً) ينتج عن مفارقة الصورة للمادة . أي أن الوجود والعدم إنما ينتجان عن اقتران المادة بالصورة أو انفصالها عنها. وفي الأدب يهب الأديب للمادة صورة ما فيكون النص اللغة (مادة الأدب ) ، ويقترح للمعاني الشكل والبنية اللغوية التي تميّز النص الأدبي من سواه . وأدواته المتفق عليها في الشعر فتكون القصيدة ،
والصدق الفني الذي نحن بصدده هو ليس الصدق المجرد اي عكس الكذب في الامور الحياتية والشعرية، اطلاقا، انما الذي نريد من هذا التعبير ماذهبت اليه العرب قديما هو أن تكون الصورة الشعرية معبِّرة عن تجربة شعورية حقيقية، دخلت نفس الشاعر فازاح عنها الستار وكشف عنها الحجب فاعاد صياغة حقيقتها بحقيقة جديدة من خلق الشاعر نفسه، قد تكون الحقيقة المستجدة قريبة او مشابهة من محرك الحدث ام تكون بعيدة لاقرابة فيها من حقيقة الدافع الشعوري الاول، فالامر سيان لافرق بينهما، اذا التعبير الصادق الذي يحسه القارئ من خلال الشعر الذي صوره الشاعر على وفق ما رآه هو وليس على وفق مانريد رؤيته،، وما التفاعل معها الاحركة تساعد القاريء في إحداث التخييل المناسب، والذي يعبِّر بالصورة حدود عناصرها في الواقع العياني، ويمنحها التوافق مع حركات النفس الشعورية، وهذا ما عناه حسان بن ثابت بقوله :
وإنما الشعر لُبّ المرء يعرضه)
على المجالس إن كيسا وإن حمقا
وإنَّ أحسَنَ بيتٍ أَنتَ قائِلُهُ
بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَهُ: صَدَقا)
مما دفع بعض النقاد إلى أن يقول: "أفضل الشعر ما لم يحجبه عن القلب شيء" ،
وأن "أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه"، وهذا يعني أن أفضل الصور الشعرية هي التي تتمكن من النفس بحيث كأنها تعيش التجربة الشعورية التي أراد الشاعر نقلها من خلال الصورة. وابن طباطبا يوضح هذا حين يقول: "فإذا وافقت هذه المعاني هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند مستمعيها"، فإذا خلا التخييل من الصدق الفني كانت الإثارة باردة لا تحرك النفس مهما بذل الشاعر في تحسين الصور.
وهذا ما أشار إليه القاضي الجرجاني بقوله:
"قد يكون الشيء متقناً محكماً، ولا يكون حلواً مقبولاً. ويكون جيداً وثيقاً، وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً".
ويُعد ابن طباطبا أول من تحدث بشكل واسع عن قضية (الصدق في الشعر)، حين ربط الشعر بالصدق من جوانب متعددة: الصدق في التشبيه، والصدق في المشاعر، والصدق في القصيدة. وهو يرى أن الصدق يكرِّم عنصر الشعر، ولذلك فهو يرى أن على الشاعر أن " يتعمد الصدق في تشبيهاته وحكاياته، وأن يستعمل المجاز الذي يقارب الحقيقة"
وقد اعجبني نص جميل للشاعر روح التميمي اضعه امامكم لكي نستأنس به
( أن الشعر المؤثر يحكمه الصدق الانفعالي , والصدق الانفعالي أو الشعوري قد يكون واقعيا وقد يكون مفتعلا , وكلاهما في دنيا الأدب صدق ! ..وتفسير ذلك أن الشاعر عندما يعبر عن الوجدان ويغوص في أعماق الموقف يكون بين حالتين : فإما أن يكون غوصه نابعا من معاناة حقيقية تمده بالوقود الأدبي , من خلال تدافع الشحنات الوجدانية على شعوره وحواسه فينفعل بها ليشطر من خلال ذلك التفاعل ذرة الإبداع .. وهذا هو الصدق الواقعي ..وقد يتلبس حالة شعورية معينة , ويتقمص دورها الوجداني , فيعبر عن انفعالاتها .. وهذا هو الصدق الشعوري أو الانفعالي المفتعل . والتقمص وإن لم يكن محتواه وما يفرزه حقيقيا على مستوى الواقع , إلا أنه يوصف بالصدق إذا أجاد الشاعر الدخول في الحالة التي يعبر عنها , واستطاع أن يعبر عن مشاعرها .
والشيء المؤكد أن الصدق الشعوري الانفعالي الواقعي أكثر مجالا للإبداع من الصدق الشعوري الانفعالي المفتعل , وقديما قالت العرب : ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى ! لكن قد تكون قصيدة الصدق المفتعل أقوى من قصيدة الصدق الواقعي , والسبب يعود إلى قدرة الشاعر لا إلى تأثير الموقف وحقيقة التعبير .
ولعلكم تذكرون بيت البحتري الشهير الذي قاله احتجاجا على اندفاع الشعراء في عصره ـ وعلى رأسهم أبو تمام وابن الرومي طبعا ـ وراء الثقافة اليونانية التي راجت حينها بعد ترجمة كتب المنطق والفلسفة اليونانية , وتوظيف ذلك في الشعر .. حيث قال :
كلفتمونا حدود منطقكم ...... والشعر يغني عن صدقه كذبه !
والكذب الذي يقصده الشاعر ليس هو الكذب الذي يعمد إلى إخفاء الحقيقة .. بل هو الخيال الذي يصف حالة وموقفا نفسيا معينا دون أن يكون لذلك الموقف وتلك الحالة وجود في الواقع ..!
والشعراء المبدعون الذين أمتعونا بقصائدهم الخالدة عبر التاريخ ليس بالضرورة أن تكون قصائدهم وليدة حالة شعورية واقعية وهي ما نسميه بالمعاناة .. بل أغلبها ـ وفق ما أرى ـ جاء نتيجة تقمص ذلك الموقف أو تلك الحالة .
ومن هنا يتأكد أن الكلام مهما كان نوعه شعرا كان أم نثرا , لا يكون مؤثرا مالم يتصف بالصدق , والصدق كما أسلفت قد يكون واقعيا أو مفتعلا .. وقد قالت العرب : الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب , وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان..
الصدق ليس وحده المؤثر في النفوس وإن كان الأكثر تأثيرا ، الأدب فن , والفن بكل أشكاله مجال جميل منمق
والشعراء المبدعون الذين أمتعونا بقصائدهم الخالدة عبر التاريخ ليس بالضرورة أن تكون قصائدهم وليدة حالة شعورية واقعية وهي ما نسميه بالمعاناة .. بل أغلبها ـ وفق ما أرى ـ جاء نتيجة تقمص ذلك الموقف أو تلك الحالة .
ومن هنا يتأكد أن الكلام مهما كان نوعه شعرا كان أم نثرا , لا يكون مؤثرا مالم يتصف بالصدق , والصدق كما أسلفت قد يكون واقعيا أو مفتعلا .. وقد قالت العرب : الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب , وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان..
الصدق ليس وحده المؤثر في النفوس وإن كان الأكثر تأثيرا ، الأدب فن , والفن بكل أشكاله مجال جميل منمق
تميل إليه النفوس وتتأثر بحلاوته الشكلية أو الداخلية، وصدق التعبير عن المشاعر أعمق تأثيرا من عذوبة الصور وإن كانت آسرة مدهشة هكذا أظن .. ويحضرني مثيلا لما ذكرته قصة الشاعر الأموي عبدالله بن قيس الرقيات "وسبب تسميته بالرقيات أنه شبّب بعدد من النساء ممن اسمهن رقية" فقد دخل على عبدالملك بن مروان وأنشده :
يأتلق التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب
فقال له عبد الملك : يا بن قيس , تمدحني بالتاج كأني من العجم وتقول في مصعب بن الزبير :
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم , ومدحتني بما لا فخر فيه، وهو اعتدال التاج على جبيني الذي هو كالذهب في النظارة .
وهذه النظرة النقدية من عبدالملك صحيحة , فقد كان مدح ابن الرقيات لمصعب مدحا أملته عقيدة الإعجاب والولاء وكان الشاعر معروفا بتشيعه، والتشيع في ذلك الوقت يختلف عنه الآن .. أما مدحه لعبدالملك فقد أملاه
ظرف التكسب والمداراة .. و لذلك كان بيته في مصعب قويا لأنه نابع من قريحة صادقة وبيته في عبدالملك ضعيفا على الرغم من الصورة التي تضمنها
لأنه غير صادق في التعبير .)
وهذا ما اشرته ذاكرتي عن حالات يجد الشاعر نفسه فيها ملك خزينه ومحرك الحدث والاذن التي تسوقه طبقا لدخيلته ومخزونه من الحفظ والجدارة في امتلاك ناصية العروض بلا خلل، على انه سيسير على هذا البحر وسينتهج هذه القافية، اتفاقا مع الحدث – الموضوع – ، بطبيعة الحال هو المبدا الذي يجب ان يكون عليه الشاعر المطبوع وليس ذاك الذي يتهيأ او يهيء نفسه لصناعة قصيدة لموضوع ما بادءا بترتيب الاحتياجات الضرورية من المستلزمات من عروض
( بحر) يختاره هو وقافية يقررها هو بل مطلع قد يتغير الى ان يجد المناسب لما يريد من موضوع، هذا الفرق سيبرز شاخصا بين المصنوع في هذا المثال والمطبوع في المثال الذي سبقه، وعلى هذا الاساس انتهت او اُلغيت صفة من صفات الصدق الفني وهي الشاعر الشاعر، وليس الشاعر المدعي للشعر، ولان البحور كافة اصبحت مطلقة ومتاحة امام الشاعر في الوقت الذي كان قديما يشار الى تصنيف من قبل بعض الادباء والشعراء بان البحر الطويل مثلا يختص بالفخر، والرمل للغزل والوافر للحماس، واطلق العنان للشاعر حرا بان يكتب وفق مايشاء وهذه عقبة بسيطة كانت ربما تقف في مشيئة الفنان او تحدده وهكذا، وهذا المبدا انتهى تقريبا بعد سنين مما تم التعارف عليه، وهنا انتقلنا من شاعر الى شاعر فنان وهو الفرق الواضح بين قصائد كانت تتمتع بروح فنية راقية الشعور تتميز عن اخريات مما لايعد ولا يحصى من القصائد، والى وقتنا الحاضر لايخلد ولا يستقر في الذهن الا فن الشاعر في قصيدته او عمله الشعري، هذا المبدأ هو الذي يميز الصدق الفني للشاعر نفسه بين قصيدة واخرى مثلما يحسب هذا الشاعر على غيره من الشعراء الاخرين بالتميز والتفرد في اعماله...ان المشتركات بين الشعراء واحدة وكما قال الجاحظفي اختصاره معنى الشعر: ( الشعر مفردات ملقات على قارعة الطريق) والشاعر من اجاد انتقاءها، هذا الانتقاء الصحيح والباهر والارقى والابعد في الخيال هو الذي نقصده ونتمناه بالـ ( الصدق الفني) في الشعر، ومما لاشك فيه فهناك شعراء ذاع صيتهم وعلا شأنهم في اعمال خلدتهم، وهناك اعمال شعرية خالدة غُيِّبَ اصحابها واختلف – قديما – على صحة انتساب القصيدة لهم او لغيرهم، وهناك ابيات من الشعر استقرت وسرت امثالا وحكما تتداولها الناس في كل اصقاع الوطن الكبير، وما هذا الا لتمتع تلك الاعمال بالفن الراقي الذي اطره الصدق الفني للشاعر، يقول الجاحظ في كتابه
الفرق بين الشاعر الفنان الذي يتجلى الصدق الفني في اعماله، والشاعر الاخر الذي هو على عكس الاول...
بالمقابل اتمنى ان لايفهم من مقالي هذا ورايي المتواضع انني نصبت نفسي وليا وسلطانا اقيم هذا وارفعه وازيح ذلك، لانني لم اذكره، ابدا ليس هذا انما العملية هي حالة من التقييم لثوابت تدعو الى الاحتذاء بها من قبل الجيل الراغب في ان يكون شاعرا وفنانا كغيره من الخالدين، كيف؟ هذا مانريده... السؤال كيف اكون؟ هو الهدف من وراء هذا البحث...
في قصيدة ( سلوا قلبي) لامير الشعراء احمد شوقي رضي الله عنه يقول فيها:
وكل بساط عيش سوف يطوى .... وان طال الزمان به وطابا
كأن القلب بعدهم غريب .... اذا عادته ذكرى الاهل ذابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي .... كمن فقد الاحبة والصحابا
التوقف هنا عند البيتين الاثنين قبل الاخير هو تهيئة للبيت الاخير مقصد البحث، وعلى ما اذكر في نقاش ثقافي في جلسة حوارية سنة 1978 كانت لي مع زملاء من مصر الاسكندرية معنيين بالادب والشعر، عرفت ان كلمة ( خلق) الليالي كانت ( ظلم) الليالين لكن شوقي غيرها بمقترح عليه تماشيا مع روح النص وصاحب الذكرى الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يستوقفني في هذا البيت بالذات انني كنت احفظ القصيدة آنذاك كاملة وما يساعدني في استمرار الحفظ هو تكرار سماعها بصوت الرائعة ام كلثوم وهي تصدح بها لحنا عبقريا اجاد السنباطي تجسيد الكلمات فاظهرها بالجمالية التي عهدنا عليها السنباطي في الروائع،، كل ماتقدم لم يوصلني انا شخصيا الى ان اتلمس الحس والتصوير الذي كان عليه شوقي حين كتابة القصيدة لانني كنت ارى القصيدة بعيون المتلقي وبعيون المتابع وربما المحب لشوقي كونه شوقي، ولام كلثوم كونها الصوت الاوحد، ويقينا قبل هذا وذاك كله ارتباط الحدث بسيد الخلق واكرم الانبياء،، الذي جعلني انتبه الى هذا البيت بالذات وهو بمثابة قصيدة لوحده وبعد مرور اكثر من عقدين من تاريخ تعلقي بشوقي وام كلثومن كنت في ساعة احتضار وصلت معي الامور الى ان اسلم انني في لحظة كنت فيها بعيدا عن الوطن بما يزيد عن سبعة عشر عاما وفي ظلمة سجن - ابعدكم الله جميعا عن حيثياته-، وكان لي من السجن الانفرادي ما جعلني اسال الله ان يأخذ امانته لشدة ماعانيت، هناك وفي غياب الاهل والخل والاقرباء، وغياب الوطن بمفرداته، فـ
لا انيس يسمع الشكوى ولا ... خبر يأتي، ولا طيف يمر
بين حيطان وباب موصد.... كلما حركه السجان صر
هناك رايت شوقي، ليس شوقي الشاعر ولا شوقي الامير، ولا شوقي المترف، انما شوقي الكشاف المتشوف، كيف آن لشوقي وهو هناك في مصر ان ينتقل من زمنه حينها بروحه الى زمني حينها ويحل في روحي، آه كم اتذكر انني بكيت وبكيت حتى استرعى بكائي ذلك الذي كان يغلق كوة السقف المربعة والمنفذ الوحيدة التي تمنحني الحياة بنَفَس من خلال هوائها يديم حياتي على الاستمرا، فتارة يغلقها واخرى يفتحها غير مبال بمن يتضور ضيقا وجوعا وغربة وعذابا، بكيت كثيرا وقتها، وحين فاجأني بالسؤال عما يبكيني، لم اجبه انما انهمرت دموعي حين ذاك بشكل غير طبيعي ولم يأتني في تلك اللحظة بعد الله سوى شوقي و
ولا ينيك عن ظلم الليالي ... كمن فقد الاحبة والصحابا
عرفت حينها لماذا كان والدي يصر بتقديم شوقي بـ ( ملك الشعراء) حين كنت اعارضه كان يهز رأسه وهو يعي مايقول، في الوقت الذي كان التر ف يبعدنا عن فهم ما في النفوس التي خبرت الحياة...
كيف تسنى لشوقي ان يحل بروحي، بل، وهل جرب شوقي ما انا في وما مررت به؟ ربما حين كان في اسباينا لكنه لم يكن في السجنن ولم يكن في سجن في غربة مع عدو لايرحم ... اذا هذا هو التعريف الحقيق للصدق الفني، ان يحل الشاعر في كيان وجسد وروح من يخاطب لا ان يجمع الكلمات (الملقاة في الشارع) بترتيب جميل يصل الى الكلام المنمق الراقي في التعبير فقط، ابدا ليس هذا هو الشعر، الذي اقصده انا والذي يتحلى بالصدق الفني، لان الشعر اذا شابه الكلام فهو لم يتعد حدوده...
وهذه النظرة النقدية من عبدالملك صحيحة , فقد كان مدح ابن الرقيات لمصعب مدحا أملته عقيدة الإعجاب والولاء وكان الشاعر معروفا بتشيعه، والتشيع في ذلك الوقت يختلف عنه الآن .. أما مدحه لعبدالملك فقد أملاه
ظرف التكسب والمداراة .. و لذلك كان بيته في مصعب قويا لأنه نابع من قريحة صادقة وبيته في عبدالملك ضعيفا على الرغم من الصورة التي تضمنها
لأنه غير صادق في التعبير .)
وهذا ما اشرته ذاكرتي عن حالات يجد الشاعر نفسه فيها ملك خزينه ومحرك الحدث والاذن التي تسوقه طبقا لدخيلته ومخزونه من الحفظ والجدارة في امتلاك ناصية العروض بلا خلل، على انه سيسير على هذا البحر وسينتهج هذه القافية، اتفاقا مع الحدث – الموضوع – ، بطبيعة الحال هو المبدا الذي يجب ان يكون عليه الشاعر المطبوع وليس ذاك الذي يتهيأ او يهيء نفسه لصناعة قصيدة لموضوع ما بادءا بترتيب الاحتياجات الضرورية من المستلزمات من عروض
( بحر) يختاره هو وقافية يقررها هو بل مطلع قد يتغير الى ان يجد المناسب لما يريد من موضوع، هذا الفرق سيبرز شاخصا بين المصنوع في هذا المثال والمطبوع في المثال الذي سبقه، وعلى هذا الاساس انتهت او اُلغيت صفة من صفات الصدق الفني وهي الشاعر الشاعر، وليس الشاعر المدعي للشعر، ولان البحور كافة اصبحت مطلقة ومتاحة امام الشاعر في الوقت الذي كان قديما يشار الى تصنيف من قبل بعض الادباء والشعراء بان البحر الطويل مثلا يختص بالفخر، والرمل للغزل والوافر للحماس، واطلق العنان للشاعر حرا بان يكتب وفق مايشاء وهذه عقبة بسيطة كانت ربما تقف في مشيئة الفنان او تحدده وهكذا، وهذا المبدا انتهى تقريبا بعد سنين مما تم التعارف عليه، وهنا انتقلنا من شاعر الى شاعر فنان وهو الفرق الواضح بين قصائد كانت تتمتع بروح فنية راقية الشعور تتميز عن اخريات مما لايعد ولا يحصى من القصائد، والى وقتنا الحاضر لايخلد ولا يستقر في الذهن الا فن الشاعر في قصيدته او عمله الشعري، هذا المبدأ هو الذي يميز الصدق الفني للشاعر نفسه بين قصيدة واخرى مثلما يحسب هذا الشاعر على غيره من الشعراء الاخرين بالتميز والتفرد في اعماله...ان المشتركات بين الشعراء واحدة وكما قال الجاحظفي اختصاره معنى الشعر: ( الشعر مفردات ملقات على قارعة الطريق) والشاعر من اجاد انتقاءها، هذا الانتقاء الصحيح والباهر والارقى والابعد في الخيال هو الذي نقصده ونتمناه بالـ ( الصدق الفني) في الشعر، ومما لاشك فيه فهناك شعراء ذاع صيتهم وعلا شأنهم في اعمال خلدتهم، وهناك اعمال شعرية خالدة غُيِّبَ اصحابها واختلف – قديما – على صحة انتساب القصيدة لهم او لغيرهم، وهناك ابيات من الشعر استقرت وسرت امثالا وحكما تتداولها الناس في كل اصقاع الوطن الكبير، وما هذا الا لتمتع تلك الاعمال بالفن الراقي الذي اطره الصدق الفني للشاعر، يقول الجاحظ في كتابه
الفرق بين الشاعر الفنان الذي يتجلى الصدق الفني في اعماله، والشاعر الاخر الذي هو على عكس الاول...
بالمقابل اتمنى ان لايفهم من مقالي هذا ورايي المتواضع انني نصبت نفسي وليا وسلطانا اقيم هذا وارفعه وازيح ذلك، لانني لم اذكره، ابدا ليس هذا انما العملية هي حالة من التقييم لثوابت تدعو الى الاحتذاء بها من قبل الجيل الراغب في ان يكون شاعرا وفنانا كغيره من الخالدين، كيف؟ هذا مانريده... السؤال كيف اكون؟ هو الهدف من وراء هذا البحث...
في قصيدة ( سلوا قلبي) لامير الشعراء احمد شوقي رضي الله عنه يقول فيها:
وكل بساط عيش سوف يطوى .... وان طال الزمان به وطابا
كأن القلب بعدهم غريب .... اذا عادته ذكرى الاهل ذابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي .... كمن فقد الاحبة والصحابا
التوقف هنا عند البيتين الاثنين قبل الاخير هو تهيئة للبيت الاخير مقصد البحث، وعلى ما اذكر في نقاش ثقافي في جلسة حوارية سنة 1978 كانت لي مع زملاء من مصر الاسكندرية معنيين بالادب والشعر، عرفت ان كلمة ( خلق) الليالي كانت ( ظلم) الليالين لكن شوقي غيرها بمقترح عليه تماشيا مع روح النص وصاحب الذكرى الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يستوقفني في هذا البيت بالذات انني كنت احفظ القصيدة آنذاك كاملة وما يساعدني في استمرار الحفظ هو تكرار سماعها بصوت الرائعة ام كلثوم وهي تصدح بها لحنا عبقريا اجاد السنباطي تجسيد الكلمات فاظهرها بالجمالية التي عهدنا عليها السنباطي في الروائع،، كل ماتقدم لم يوصلني انا شخصيا الى ان اتلمس الحس والتصوير الذي كان عليه شوقي حين كتابة القصيدة لانني كنت ارى القصيدة بعيون المتلقي وبعيون المتابع وربما المحب لشوقي كونه شوقي، ولام كلثوم كونها الصوت الاوحد، ويقينا قبل هذا وذاك كله ارتباط الحدث بسيد الخلق واكرم الانبياء،، الذي جعلني انتبه الى هذا البيت بالذات وهو بمثابة قصيدة لوحده وبعد مرور اكثر من عقدين من تاريخ تعلقي بشوقي وام كلثومن كنت في ساعة احتضار وصلت معي الامور الى ان اسلم انني في لحظة كنت فيها بعيدا عن الوطن بما يزيد عن سبعة عشر عاما وفي ظلمة سجن - ابعدكم الله جميعا عن حيثياته-، وكان لي من السجن الانفرادي ما جعلني اسال الله ان يأخذ امانته لشدة ماعانيت، هناك وفي غياب الاهل والخل والاقرباء، وغياب الوطن بمفرداته، فـ
لا انيس يسمع الشكوى ولا ... خبر يأتي، ولا طيف يمر
بين حيطان وباب موصد.... كلما حركه السجان صر
هناك رايت شوقي، ليس شوقي الشاعر ولا شوقي الامير، ولا شوقي المترف، انما شوقي الكشاف المتشوف، كيف آن لشوقي وهو هناك في مصر ان ينتقل من زمنه حينها بروحه الى زمني حينها ويحل في روحي، آه كم اتذكر انني بكيت وبكيت حتى استرعى بكائي ذلك الذي كان يغلق كوة السقف المربعة والمنفذ الوحيدة التي تمنحني الحياة بنَفَس من خلال هوائها يديم حياتي على الاستمرا، فتارة يغلقها واخرى يفتحها غير مبال بمن يتضور ضيقا وجوعا وغربة وعذابا، بكيت كثيرا وقتها، وحين فاجأني بالسؤال عما يبكيني، لم اجبه انما انهمرت دموعي حين ذاك بشكل غير طبيعي ولم يأتني في تلك اللحظة بعد الله سوى شوقي و
ولا ينيك عن ظلم الليالي ... كمن فقد الاحبة والصحابا
عرفت حينها لماذا كان والدي يصر بتقديم شوقي بـ ( ملك الشعراء) حين كنت اعارضه كان يهز رأسه وهو يعي مايقول، في الوقت الذي كان التر ف يبعدنا عن فهم ما في النفوس التي خبرت الحياة...
كيف تسنى لشوقي ان يحل بروحي، بل، وهل جرب شوقي ما انا في وما مررت به؟ ربما حين كان في اسباينا لكنه لم يكن في السجنن ولم يكن في سجن في غربة مع عدو لايرحم ... اذا هذا هو التعريف الحقيق للصدق الفني، ان يحل الشاعر في كيان وجسد وروح من يخاطب لا ان يجمع الكلمات (الملقاة في الشارع) بترتيب جميل يصل الى الكلام المنمق الراقي في التعبير فقط، ابدا ليس هذا هو الشعر، الذي اقصده انا والذي يتحلى بالصدق الفني، لان الشعر اذا شابه الكلام فهو لم يتعد حدوده...
بارك الله فيك لكن تلامذة الطور الثانوي أنتحدث لهم عن الصدق الانفعالي ألا يختلط عليهم الأمر؟
ردحذفاريد نص عن الصدق الفني في النقد الحديث
ردحذفأزال المؤلف هذا التعليق.
حذفغير مفيد كلام فارغ
ردحذف