الجمعة، 7 أكتوبر 2016

رؤية نقدية في شعر (البحتري) بقلم الناقد / لمجد بن منصور

رؤية نقدية في شعر (البحتري)
 
أولاً: يجب علينا قبل كلِّ شيء أنْ نُعرِّف بالشاعر – كما هي العادة – قبل الخوض في الحديث عنه في هذه الدراسة النقدية البسيطة عن (شعر البحتري) ، ولعلّ شهرة هذا الشاعر وسهولة البحث عنه تُغنينا عن الدخول في تفصيل نسبه وتفاصيل حياته ، فنكتفي بهذا التعريف الموجز عنه ، فنقول:
هو أبو عبادة ، الوليد بن عبيد الطائي ، أحد شعراء العصر العبّاسي ، لُقِّبَ بالبحتري نسبةً إلى أحد أجداده وهو (بحتر بن عتود).
بدأ البحتري بنظم الشعرِ صغيرًا حتى اتصل بأبي تمّام الطائي الشاعر المعروف فأنشده البحتري شعرًا أُعجِبَ به أبو تمّام فضمّه إليه ، وكتب إلى أهل معرّة النعمان يُوصيهم به.
وبعد أن استوثق البحتري من قوّة شاعريته يمّمَ شطر بغداد واتصل بالوزير (الفتح بن خاقان) ومدحه ، فكان بوابته التي أوصلته إلى الخليفة (المتوكل) العباسي الذي قرَّبهُ إليه حتى صارَ أحد ندمائه.
وقد عاصرَ البحتري بعد المتوكل خمسة خلفاء هم: (المنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، والمهتدي ، ثم المعتمد).
ثانيًا: كثيرًا ما نجد في أيِّ دراسةٍ أدبيّة أو نقدية تناولت (شعر البحتري) عباراتٍ بعينها تتكرّر دائمًا في وصف شعره بسلاسة العبارة وحسن الديباجة ، ولعلّنا نستطيع الجزم بأن نَقَدَة الشعر القدماء أجمعوا على ذلك ، ونذكر منهم (الثعالبي) مثلاً حيث يقول: (يُضرَبُ به المثل ، لأنَّ الإجماع واقعٌ على أنّهُ في الشعر أطبعُ المحدثين والمولّدين ، وأنّ كلامه يجمعُ الجزالةَ والحلاوة والفصاحة والسلاسة ، ويُقال إنّ شعره كتابةٌ معقودةٌ بالقوافي).
ويقول ابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة): (وأمّا البحتري فكان أملح صنعةً وأحسنَ مذهبًا في الكلام ، يسلك فيه دماثةً وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقّة).
وعلى هذا النهج سار نقّاد عصرنا أمثال طه حسين والعقّاد وشوقي ضيف وغيرهم يتّبعون آثار القدماء فيمتدحون شعر البحتري ، وطه حسين يقول في ذلك: (وربّما أجود شعر البحتري ما قاله في المتوكل).
وهذا الحكم على شعر البحتري - في رأيي المتواضع - يرجع إلى أنّ هؤلاء النقّاد لم ينظروا إلى شعره (نظرة فنية) وإنّما كان حكمهم هذا من ناحية (الوضوح والخفاء ، ورشاقة العبارة والديباجة).
ولكنّنا نجد هنا رأيًا لعبدالقاهر الجرجاني يخالف كُلَّ ذلك عندما أصبحت نظرته لشعر البحتري نظرة فنيّة وخاصة فيما استحسنه (طه حسين) في مدائح البحتري للمتوكّل ، حيث انتقد عبد القاهر الجرجاني معاني النوع النازل الذي انحطّ له البحتري إلى المتوكّل.
وهناك سببٌ آخر أيضًا يُفسّر إعجاب القدماء بشعر البحتري نستطيع أن نستشفّه من نصيحة أبي تمّام له بقوله: (وجملة الحال أن تعتبر شِعركَ بما سلفَ من شِعر الماضين ، فما استحسنَ العلماءُ فاقصُدْه وما تَرَكوهُ فاجتنبْه ترْشَد إنْ شاء الله).
وهذا دليل قاطع على أنّ أبا تمّام كان على درايةٍ ووعيٍ بطريقة تفكير علماء عصره ، إذْ كان لهذه النصيحة دورٌ كبير في رفع مكانة البحتري إذْ نرى كيف أجمعَ عليه أهلُ عصره وختموا الشعراء به ، وما ذلك إلاّ لأنّ كلامه قدْ قرُبَ منهم وفهموه وعرفوا غرضه ولم ينظروا في كلامه النظرة الفنية ذلك لأنّ (النقد) لم يكن قد صار عِلْمًا بعد.
وقد يقول قائلٌ هنا: كيف ينصحُ أبو تمّام تلميذه البحتري بذلك وهو نفسه لا يؤمن بالتقليد ولا يعمل به ، ولو أُشير عليه بما أشار لرفض ، وذلك واضحٌ في شعره ؟!.
وهنا نقول: إنّ من وراء هذه الغرابة في النصيحة نُدركُ ذكاء أبي تمّام وموضِعَ البحتري ، فالأستاذ قدّرَ التلميذ قدره فأخلصَ له النصح بما يوافقه ، وجازت النصيحة على البحتري فعمِلَ بها فوقف على سياسة الشعر كما قال.
وفي ظنّي أنّ البحتري لو أراد اتّباع أستاذه لما استطاع لأنّه لم يكن له ما كان لأبي تمّام في محفوظه من الشعر والألفاظ ، ولم يكن لديه ما لدى أبي تمّام من علوم مختلفة.
ومن يرجع إلى ديوان البحتري -هذا الديوان الضخم- يجد فيه هذه الصفات العامة التي قال بها العلماء والنقّاد ، ولكن ليسَ معنى هذا أنّه يمتاز في ذلك عن بعض كبار الشعراء في العصر العبّاسي.
ومن خلال القراءة النقدية البسيطة لديوان البحتري يستطيع القارئ أن يلاحظ عدّة أمورٍ ، منها:
1. نلاحظ على مديح البحتري أنّه كان يعمد فيه إلى ربط المدح بالوصف – وصف القصور والحدائق والطبيعة – كنوع من أنواع الزينة الشعرية ، وكان هذا دَيْدَنَهُ ودستوره الذي سار عليه في أكثر مدائحه.
واعتقدُ أنّ ذلك ليسَ إلاّ ضربًا من ضروب التكلّف والصنعة ، ومن الأمثلة على ذلك مدحه للهيثم الغنوي في قصيدته التي مطلعها
أكَانَ الصِّـبَا إلاّ خيالاً مُسلِّمَا ......... أقامَ كرجعِ الطّـرْفِ ثُمّ تصَرَّما
ونراه هنا قد ربط المدح بالوصف ، بل إنّه تَرَكَ الممدوح إلى وصف الربيع في أبياته المشهورة
أتاكَ الربيعُ الطّلقُ يختالُ ضاحـكًا ......... من الـحُسْنِ حتّى كادَ أن يتكلّمَا
وقدْ نبّهَ النوْرُوزُ في غَلَسِ الدجى ........ أوائِـلَ وَرْدٍ كُـنّ بالأمـسِ نـوّمَا
يُـفــتِّــقُـهــا بَـرْدُ الــنــدى فـكـأنّـهُ ......... يـبُـثُّ حديثًا كان بالأمسِ مُكَتّمَا
ومن شجـرٍ ردَّ الــربيعُ لِـبَــاسَــهُ ...... . عـليهِ كما نَـشَّرْتَ وشيًا مُنَمْنَمَا
أحَـــلَّ ، فـأبْدَى للعـــيونِ بشاشةً ........ وكانَ قـذًى للعينِ إذْ كان مُحرّمَا
ورَقَّ نسـيمُ الريحِ حتى حَسِبْـتُهُ .... ... يـجيءُ بـأنْـفَاسِ الأحـــبّةِ نُعّـمَا
كما يرى بعضُ النقّاد أنّ البحتري اختار هذهِ القافية لكي تلائم اسم الممدوح (هيثم) وذلك في البيت القائل:
[]أقِلَّ وأكْثِرْ ، لَسْتَ تُدْرِكُ غَايةً .......... تَبينُ بـها حتى تُضَارِعَ هيثما
وقد كان البحتري يعمد إلى ذلك في كثيرٍ من قصائده ، فمثلاً رائيّتهُ التي يمدح بها المتوكّل في البيت القائل:الله
مكّنَ للخليـفةِ جَعْفَرٍ .......... مُلْكًا يُحسِّنُهُ الخليفةُ جَعْفَرُ
والانتقال إلى (وصف الطبيعة) كثيرٌ في شعره وخاصةً في القصائد التي يمدح بها وزير المتوكل (الفتح بن خاقان).
2. نلاحظ أنّ شعر البحتري اشتملَ على كثيرٍ من (معاني الحكمة) خاصةً في المدح والرثاء ، ومن أبياته الحكمية المشهورة من قصيدة يمدح بها (هيثم بن هارون المعمر) قوله إذا ما الجرحُ رُمَّ على فسَادٍ .......... تَـبَـيَّن فيه تَفْريطُ الطبيبِ
وقوله في قصيدةٍ يمدح بها (الفتح بن خاقان وابنه):
]ولنْ تَسْتبينَ الدهرَ موضِعَ نِعْمَةٍ ........ إذا أنتَ لمْ تُدْلِلْ عليها بِحاسدِ
وكذلك في مرثيّتهِ لأبي عيسى بن العلاء قوله:
أخي متى خاصمتَ نفسك فاحتشد ....... لها ، ومتى حدَّثتَ نفْسَكَ فاصدُقِ
فقد كان فيها البحتري (حكيمًا) أكثر من كونه شاعرًا حيث ذهب البحتري فيها إلى اصطناع الحكمة إذْ تحدّثَ عن علل الأشياء وعن الدهر وسرِّ الحياة في مسلكٍ حكميٍّ منظوم ، ومثل ذلك كثيرٌ في شعره.
3. وردتْ أبياتٌ للبحتري في ديوانه تكاد تكون أقرب إلى النثر من كونها شعرًا ، وذلك مثل قوله:
إذا الـمرءُ لم يرضَ ما أمكنهْ .......... ولم يَـأْتِ من أمـرِهِ أزينهْ
وأُعْـــجِـبَ بالعُــجْــبِ فاقتادهُ ......... وتـاهَ بهِ التِّـيهُ فاستحسنهْ
فَدَعْـهُ فـقــد ســاءَ تدبــيـرهُ .......... سيضحكُ يومًا ويبكي سننهْ
4. يرى بعض النقّاد أنّ البحتري لم يكن يُحسِن التخلّص من موضوعٍ معين لآخر ، كانتقاله من الغزل مثلاً إلى المدح ، وذلك شائعٌ في شعره.
ثالثًا: بعد هذه القراءة السريعة لديوان البحتري نرى أنه لا يختلف من حيث مواضيعه عن أكثر الدواوين الشعرية في زمانه فهو كَسِواه من الشعراء صَرَف أدبه في التزلّف إلى رجال الدولة ، ولذلك كان جُلُّ شعره في المديح الذي تمرّسَ عليه طويلاً حتى صار مدمنًا له طلبًا للثروة وفرارًا من الفقر الذي كابده أوّل حياته ، لِذا فإنّه وظّف شعره لاستمناح المال وطلب الحاجة حتى لو اضطرَّ إلى تغيير مبادئه وقيمه ، إذْ إنّه كان يمدح كل من كانت مصلحته لديه.
إذن ، البحتري كان يرى في الشعر وسيلة لأشياء كثيرة ، ولم يكن الشعر تعبيرًا عن مواجده بقدر ما كان وسيلةً لتحقيق طموحه.
ونستطيع القول هنا: أنّ البحتري – مع ما نجده من رشاقةٍ في شعره – لا ينظِمُ عادةً بثًّا لوجدٍ متَّقدٍ ، أو تصويرًا لخوالج شخصيّة صادقة ، وإنْ كُنَّا نطلِقُ عليه لقبَ (شاعر) فليسَ ذلك لما ضمّه ديوانه من قصائد المدح والرثاء وإنّما لقصيدته (السينية) الشهيرة التي تعدُّ من روائع الشعر العربي ، وهي قصيدةٌ طويلة اخترنا منها قوله:
صُنتُ نَفسي عَمّـا يُدَنِّـسُ نَفسـي.........وَتَرَفَّعتُ عَـن جَـدا كُـِّ جِـبـسِ
وَتَماسَكتُ حيـنَ زَعزَعَنـي الـدَهـ........ـرُ التِماسًا مِنـهُ لِتَعسـي وَنَكسـي
بُلَغٌ مِـن صُبابَـةِ العَيـشِ عِنـدي.........طَفَّفَتهـا الأَيّـامُ تَطفيـفَ بَخـسِ
وَبَـعـــيـدٌ مـــا بَـــيـنَ وارِدِ رِفَــهٍ.........عَـــلَـلٍ شُـــربُـهُ وَوارِدِ خِـــمـسِ
وَكَـأَنَّ الزَمـانَ أَصبَـحَ مَحـمـولاً.........هَــــواهُ مَـــعَ الأَخَــسِّ الأَخَــــسِّ
وَاشتـِرائـي العِـراقَ خُطَّـةُ غَبـنٍ.........بَـعدَ بَــيعـي الشَــآمَ بَيعَـةَ وَكـسِ
لا تَـرُزنـي مُــزاوِلاً لاخــتِـبـاري.........بَعدَ هَـذي البَلوى فَتُنكِـرَ مَسّـي
وَقَديـمًـا عَـهـــِدَتـنـي ذا هَـــنـاتٍ........آبِيـاتٍ عَلـى الدَنِــيّـاتِ شُـــمـسِ
وَلَـقَـد رابَـــنـــي ابــنُ عَـــمّـي.........بَــعـدَ ليـنٍ مِـن جانِـبَــيـهِ وَأُنـسِ
وَإِذا مـا جُـفيـتُ كُـنـتُ جَـديــرًا.........أَن أَرى غَيرَ مُصبِحٍ حَيـثُ أُمسي
حَضَـرَت رَحلِيَ الهُمومُ فَوَجَّـهـ..........ـتُ إِلى أَبيَـضَ المَدائِـنِ عَـنسـي
أَتَسَلّـى عَـنِ الـحُـظـوظِ وَآسـى.........لِــمَـحَـلٍّ مِــن آلِ سـاسـانَ دَرسِ
أَذكَرتِـنـيهُـمُ الـخُطـوبُ التَوالـي........وَلَـقَـد تُــذكِـرُ الخُــطـوبُ وَتُنسي
وَتَـوَهَّمـتُ أَنَّ كِـسـرى أَبَـرويـ.........ـــزَ مُعـاطِــيَّ وَالبَـلَهـــبَـذَ أُنـسـي
حُلُـمٌ مُطبِـقٌ عَلـى الشَـكِّ عَينـي.........أَم أَمـانٍ غَـيَّـرنَ ظَنّـي وَحَدسـي
وَكَأَنَّ الإيـوانَ مِن عَجَـبِ الصَنـ..........ـعَةِ جَوبٌ في جَنبِ أَرعَـنَ جِلـسِ
يُـتَـظَنّـى مِـنَ الكَــآبَـةِ إِذْ يَــــبـ.........ـدو لِــعَينَـي مُــصَـبِّـحٍ أَو مُمَـسّـي
مُزعَجًا بِالفِراقِ عَـن أُنـسِ إِلفٍ.........عَـزَّ أَو مُرهَـقًـا بِتَطليـقِ عِــرسِ
عَكَسَت حَظُّهُ اللَيالي وَبـاتَ الـ.........ـمُشتَري فيهِ وَهـوَ كَوكَـبُ نَحـسِ
فَــهـوَ يُـبـدي تَجَــلُّـدًا وَعَـلَـيـهِ.........كَلكَـلٌ مِن كَلاكِـلِ الدَهـرِ مُرسـي
لَم يَعِبهُ أَن بُـزَّ مِـن بُسُـطِ الـديـ.........ـباجِ وَاستَـلَّ مِن سُتـورِ الـمَقـسِ
مُشمَخِّـرٌ تَعـلـو لَـهُ شُـرُفـاتٌ.........رُفِعَـت في رُؤوسِ رَضوى وَقُدسِ
عُـمِّرَت لِلسُـرورِ دَهـرًا فَصـارَت..........لِـلتَـعَــزّي رِبـاعُـهُـم وَالتَـأَسّـي
فـَلَـهـا أَن أُعـيــنَـهـا بِـــدُمـوعٍ...........مـوقَـفــاتٍ عَلـى الصَبابَـةِ حُبـسِ
ذاكَ عِـندي وَلَـيسَت الـدارُ داري.........باِقتِرابٍ مِنها وَلا الجِنسُ جِنسي
وَأَراني مِن بَعدُ أَكلَفُ بِـالأَشـ.........ــرافِ طُـرًّا مِـن كُـلِّ سِـنـخِ وَأُسِّ
فالبحتري في هذه القصيدة لم يكن في معرضٍ للمدح ، أو انتظار إعجاب الممدوح ، أو كسب العطاء ، بل كانَ شاعرًا صادقًا منفعلاً فجاءت وقفته أمام إيوان كسرى بمثابةِ لحظةِ تأمّل استوقفه فيها سوءُ أحوالهِ الخاصة في ظروفِ مشيبه ويأسه فكانت بحقٍّ صورةً صادقةً لِما يحسُّ به من اضطرابٍ وتمزّقٍ في جوٍّ سيطر عليه الحزنُ والألم فتجلّت في هذه القصيدة قدرته الشعرية الحقّة على رسم الصورة الخارجية والالتفات إلى التاريخ والآثار التي تجسّد عبرة الأيام.
ولعلّنا نستطيع أيضًا – إذا حكمنا بنفسِ المعيار الذي قِسنا عليه (السينية) – أن نُضيف إليها مرثيّته التي رثى بها (المتوكل) حين قتله ابنه (المنتصر) وهو في مجلس لهوٍ وطرب وكان البحتري حاضرًا في ذلك المجلس ، والتي يقول فيها
مَحَلٌّ عـلى الـقَاطُـولِ أخْـلَقَ داثِرُهْ........وَعادتْ صُرُوفُ الدّهرِ جَيشًا تُـغاوِرُهْ
كأنّ الصَّـبا تُـوفي نُـذُوراً إذا انـبَرَتْ........تُـرَاوِحُـهُ أذيَـــالُـهَا، وَتـــُبَـــاكِــرُهْ
وَرُبّ زَمَـــانٍ نَـاعِـمٍ ثَـــمّ عَـهْـــدُهُ.........تَـــرِقُّ حَـوَاشِـيهِ وَيُونِـقُ نَـاضِـرُهْ
تَـغَـيّــرَ حُسْنُ الجَـعْـفَرِيّ وأُنْـسُـهُ........وَقُـوّضَ بَادي الجَـعْفَرِيّ وَحَـاضِرُهْ
تَـحَمّـــلْ عَـــنْـهُ سَـاكِـنُـوهُ فُجَـاءَةً..........فَـعَـادَتْ سَـوَاءً دُورُهُ وَمَـقـــابِــرُهْ
إذا نَـحْـنُ زُرْنَـاهُ أجَـدّ لَـنَا الأسَى.........وَقَد كَانَ قَـبلَ اليَوْمِ يُـبـهَجُ زَائِــرُهْ
وَلم أنسَ وَحشَ القصرِ، إذ رِيعَ سرْبُهُ.........وإذْ ذُعِـرَتْ أطْــلاَؤهُ وَجَـآذِرُهْ
وإذْ صِـيحَ فيهِ بالرّحِـيلِ، فهُـتّـكَتْ.........عَلى عَـجَلٍ أسْـتَـارُهُ وَسَـتَـائِرُهْ
وَوَحْـشَـتُـهُ، حَـتّى كأنْ لَمْ يُـقِمْ بِهِ.........أنيسٌ، وَلمْ تَحْسُـنْ لِعَـينٍ مَنَـاظِرُهْ
كأَن لمْ تَبِتْ فـيهِ الـخِـلاَفَةُ طَلْـقَـةً..........بَشَاشَـتُها، والـمُلكُ يُشرِقُ زَاهرُهْ
وَلمْ تَـجْمَـعِ الـدّنيَـا إلَيهِ بَـهَـاءَهَا.........وَبَهجَتَهـا، والعيشُ غَضٌّ مـكاسرُهْ
فأينَ الحِجابُ الصّعبُ، حَيثُ تَــمَنّـعَـتْ.........بِـهَيْـبَـتِـهَا أبْوَابُـهُ وَمَـقاصِرُهْ
وأينَ عَـمِـيدُ الـنّاسِ فـي كلّ نَـوْبَةٍ.........تَـنُوبُ، وَنَاهي الدّهرِ فـيهِمْ وآمرُه
تَخَفّى لَـهُ مُـغْـتَـالُهُ تَـحــتَ غِــرّةٍ...........وَأوْلَى لِمـَنْ يَـغْـتَـــالُهُ لَوْ يُـجَاهِرُهْ
فَمَا قَاتَـلَتْ عَنْهُ الـمَـنَايَا جُـنُـودُهُ............وَلاَ دَافَـعَــــتْ أمْلاَكُـهُ وَذَخَـائِرُهْ
وَلاَ نَصَرَ الـمُعتَـزَّ مَنْ كَانَ يُرْتجـَى.........لَهُ، وَعَـزِيزُ القَـوْمِ مَنْ عَزّ نـاصِرُهْ
تَعَـرّضَ ريب الدهر من دونِ فتـحِـهِ.........وَغُـيّبَ عَـنهُ في خُرَاسَانَ طـاهِرُهْ
وَلَـوْ عَـاشَ مَـيْتٌ أوْ تَـقَرّبَ نَازحٌ..........دَارَتْ مِـنَ الـمَكْـرُوهِ ثَمّ دَوَائِرُهْ
وَلَـوْ لعُبَـيـدِ الله عَـوْنٌ عَـلـيهمُ...........لَضَاقَـتْ عَـلَى وُرّادِ أمْـرٍ مَصَادِرُهْ
حُلُومٌ أضَـلّـتْـهَا الأمَـاني وَمُـدّةٌ..........تَنَاهَتْ، وَحَتـفٌ أوْشَـكـتَهُ مَقَادِرُهْ
وَمُغْـتَصَبٍ للقَـتلِ لَمْ يُخْشَ رَهْـطُهُ.........وَلـمْ تُحتَـشَمْ أسْـبَابُهُ وَأوَاصِـرُهْ
صَريعٌ تَـقَاضَاهُ السّـيُوفُ حُشَاشَـةً..........يَجُودُ بها، والـمَوْتُ حُـمْرٌ أظـافرُهْ
أُدافعُ عَنـهُ بـالـيَـدَيـنِ وَلَْم يَكُنْ..........ليَثْـنِي الأعَادِي أعزَلُ اللّيلِ حاسـرُهْ
وَلَوْ كَانَ سَيفي ساعةَ القتل فـي يدي.........درَى القاتلُ العَـجلانُ كيفَ أُسـاوِرُهْ
حَـرَامٌ عـليّ الرّاحُ بَـعْدَكَ أوْ أرَى.........دَماً بدَمٍ يَـجرِي عَـلى الأرْضِ مـائرُهْ
وَهَلْ أرْتَجِي أنْ يَـطْـلُـبَ الدّمَ وَاترٌ.........يَدَ الـدّهْـرِ، والمَـوْتُورُ بـالدّمِ وَاتِرُهْ
أكانَ وَليُّ الـعَـهْـدِ أضْمَرَ غَدْرَةً ؟!.........فَمِـنْ عَـجَـبٍ أنْ وُلّيَ العَهدَ غادرُهْ
فـلا مُـلّيَ البَاقـي تُرَاثَ الذي مَضَى.........وَلاَ حَـمَلـَتْ ذاكَ الدّعَاءَ مَـنَابِـرُهْ
وَلاَ وَألَ الـمَـشْكُوكُ فيهِ، وَلا نَجـَا.........من السّيفِ ناضِي السّيفِ غدراً وَشاهرُهْ
لَنِعمَ الدّمُ الـمَسْـفُـوحُ لَيلَـةَ جَعفرٍ.........هَرَقـتُمْ، وَجُـنحُ اللّيلِ سُودٌ دَيَـاجِرُهْ
كأنّـكُمْ لـمْ تَـعْلَـمُوا مَنْ وَلِـيُّـهُ.........وَنَـاعيهِ تَحْتَ الـمُرْهَفَاتِ وَثَـائِـرُهْ
وإنّـي لأرْجُـو أنْ تُـرَدّ أُمُـورُكُـمْ.........إلى خَـلَفٍ مِنْ شَخـصِـهِ لا يُـغَادِرُهْ
مُـقَـلِّـبُ آرَاءٍ تُـخَـافُ أنَـاتُـهُ.........إذا الأخرَقُ العَـجلانُ خـيفتْ بَوَادرُهْ
ومع أن هذه القصيدة ليست بجودة (السينية) إلاّ إنّها – في رأيي – تجسِّد مشاعر الشاعر الحزينة بصدقٍ وإخلاص ، حتّى أنّ هولَ الصدمة عليه لم يجعله يُفكّر فيما قد تُورِدُهُ قصيدته هذه من موارِد الهلاك والتلف.
وأخيرًا نقول: إنَّنا إذا استثنينا القصيدة (السينية) من الديوان نستطيع أن نصف البحتري بأنّه (واصِف) أكثر من كونه (شاعر) ، ويؤكّد حكمنا هذا ما قاله الشريف الرضي رحمه الله: (أمّا أبو تمّام فخطيبُ منبر ، وأمّا البحتري فواصفٌ جؤذر ، وأمّا المتنبّي فقائدُ عسكر
 
 
تعقيب الناقد / غازي أحمد أبو طبيخ
 
آفاق نقديه يالروعة هذا المبحث وعمق دلالاته اخي الباحث البارع الاستاذ Ben MansourLamjedd الفاضل.. لقد اتحفتنا زادكم الله علما ايها الاخ والصديق الحميم..
واعلم يا أخي أنك بإسهامتك المميزة هذه قد رفدتنا بما يجعلنا نطمع بالمزيد..
شاكرين لجنابكم هذا المسعى التثقيفي التوعوي النبيل،والسلام..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق