السبت، 28 يناير 2017

قراءة في نصّ الشاعرة رنا صالح بعنوان ( مابين الحب والحرب ) بقلم / أسامة حيدر

قراءة في نصّ الشاعرة رنا صالح بعنوان ( مابين الحب والحرب )
من الصعب أن ترى من تحبّ ذبيحاً مغتالاً ؛ فما بالك إن كان الوطن هو المصلوب على قارعة كلّ الطرق تنهشه الكلابُ الضّالةُ . وما بالك بشاعر مرهف الإحساس قد اكتنز من زاد المشاعر والإحساس ما اكتنز وقد أضناه ما أصاب الوطن وأشقاه صورُ أهله يعيث فيهم الدهر كما يعيث الذّئب في الغنم .
يتملكك القهر ويجفوك الرّقاد وتصهل الجراح من كلّ حدب وتكثُر النّائبات لهيباً تشعل الجوف وفوق الطّلول تبكي الثّكالى ويئنّ اليتامى ويلطم الآباء وقد هدّتهم الفاقة وذلّهم العوزُ .
هذا غيضٌ من فيض المشهد في وطني الحبيب . فالبعض تعتريه الدّهشة ويعزّ عليه الكلام وآخرون ينفجرون شعراً من هول ما يرون . ورنا صالح من شاعرات الوطن اللّواتي هزّهنّ إيقاع الموت وضفعتهنّ المرارة وشظف العيش ومعاناة الأهل فها هي تصّور بدءاً حالها أمام هذا كلّه :
أنا الذّبيح على أعتاب مملكتي
أنازع القهر في أوتار حنجرتي
حتّى شعرها كاد أن يخونها لولا معجزةٌ سمت بأجنحة الشّعر :
قوادم الشعر جُزّت من منابتها
فاحتجت معجزةً تسمو بأجنحتي
وفي حرب كهذه يذهب الحبّ ليحلّ البغض والكره بين أبناء الوطن الواحد وتذهب براءة الأطفال تحت نعال الحياة :
غاب َالحنينُ ونبضُ الحُّب ِعن مدني
وهاجرَ الطفل ُمن أصقاعِ أوردتي
وعندما يتمزّق المرء بين حزن ومأتم ويكون نهباً للنّائبات وطريدا للقوادم منها يغيب حنينه للوطن رغم محبته المتجذّرة في أعماقه وتفقد البوصلة كلّ اتجاهاتها :
غطَّى المشيبُ حنايا القلبِ في زمنٍ
ضلَّ المسيرَ وتاهتْ فيه بوصلتي
وصارت اللّقمة مغمّسةً بالدّم المُراق يسطو عليها أزلامٌ أنجاسٌ وراحت الأماني تصطدم بالمصائب والموت العابث في كلّ مكان :
وقاسمتني رغيفَ الخبزِ معمعةٌ
وشاركتني بناتُ الدهرِ أُمنيتي
لا شيء أمام هذا الكمّ من الكوارث والدّمار والهلاك يجدي إلاّ التمسك بحبل الله والصبر :
ثُمَّ اعتصمتُ بحبلِ اللهِ في محني
واقتاتَ صبري على أورادِ أدعيتي
ويعتكف الإنسان في صومعة ذاته ليصلّي ويتضرّع إلى خالقه كي ينجّي الوطن ويعمّ الحبُ واقعاً وإلاّ ففي الخيال :
وألبسُ الليلَ ضوءاً من سنا وطنٍ
وأبدلُ الحربَ حبّاً في مخيِّلتي
* إنّ البحر البسيط على عظمته في حمل الفكر والمشاعر لم يستطع حمل كمّ مشاعرها الدفّاقة من الحزن والألم . وجاءت صورها لتخدم هذا الإحساس الثّرّ ( فهذا المساء قد نام على أهداب القافية )( والطفل يهاجر من أصقاع الأوردة )(والحرف الكسيح وليد الحرب )(وللمحبرة شطآن )( وقوادم الشّعر جزّت من منابتها )(والشّتاء يبكي ربيع القلب )(وللقلب حنايا غطّاها المشيب ) ....... وهي صور تدلّل على خصوبة الخيال وتجدّده . ويأتي قاموسها اللغويّ خادماً للمعاني والمشاعر ( هاجر . يغتال . الحرب . اشتعل . الأوجاع . ملّ . القهر . بنات الدّهر . ثحن . موت ........ )
ولحرف الرويّ حكاية إبداع فقد وظفته باتقان
فالتاء المكسورة تكمل المشهد وتغلق إطار اللوحة وهل بعد الكسر من انكسار فقد عبّرت به عن ضعف الدّاخل وهشاشته أمام خارج قاسٍ مؤلمٍ فاتك وهو روي مضاف إلى ياء المتكلّم لتقول إنّ الضعف ضعفها والدّعاء دعاؤها والأدعية أدعيتها والصومعة لها والمقصلة تقتلها .
وأتت القاف في الكثير من المفردات معلنة قسوة الواقع وهي تخرج من الحلق بؤرة القهر ( القهر . قافية . أصقاع . محرقة . القلب . مثقلة . أقنعة . ... )
وبعد ذلك سأقول إنّ هذا النصّ وشاعرته ينتميان إلى الحداثة لكنّها الحداثة التي تنطلق من آلام الوطن وجراحه وآماله وهمومه . لم تتخلّ عن التراث لكنّها جدّدته واستطاعت أن تستثمره فطورت أدواتها وأساليبها لتساير التّطور الزّمني مع الحفاظ على الأصالة .
27/1/2017
أسامة حيدر
______________________
النصّ للشاعرة رنا صالح الصدقة :
( مابينَ الحُّبِ والحربِ)
أنا الذبيحُ على أعتابِ مملكتي
أنازعُ القهرَ في أوتارِ حُنجرتي
نامَ المساءُ على أهدابِ قافيتي
خوفَ الرحيل،ِ وغارَ الجرحُ في لغتي
غاب َالحنينُ ونبضُ الحُّب ِعن مدني
وهاجرَ الطفل ُمن أصقاعِ أوردتي
حرفي الكسيحُ وليدُ الحربِ في وطني
يُغتالُ جهراً على شطآنِ مِحْبرتي
قوادمُ الشعرِ جُزَّت من منابتها
فاحتجتُ معجزةً تسمو بأجنحتي
بكى الشتاء ُربيع َالقلبِ واشتعلت
أوراق شعري لتذكي نارَ محرقتي
غطَّى المشيبُ حنايا القلبِ في زمنٍ
ضلَّ المسيرَ وتاهتْ فيه بوصلتي
سحابة ُالقلبِ بالأوجاعِ مثقلةٌ
ريحٌ ونارٌ وثلجٌ ملَّ أقنعتي
فقد شربْتُ كؤوسَ القهرِ مترعةً
وعسعس َالبرد ُفي أوصالِ منسأتي
وقاسمتني رغيفَ الخبزِ معمعةٌ
وشاركتني بناتُ الدهرِ أُمنيتي
ثُمَّ اعتصمتُ بحبلِ اللهِ في محني
واقتاتَ صبري على أورادِ أدعيتي
أُراودُ الحُّبَ في أرحامِ أزمنتي
ولو بحرفٍ نجا من موت مقصلتي
أسعى إلى حجراتِ الروحِ مُعتكفاً
أمضي الحياةَ إماما ًعند صومعتي
وألبسُ الليلَ ضوءاً من سنا وطنٍ
وأبدلُ الحربَ حبّاً في مخيِّلتي
 
تعقيب رنا صالح
رنا صالح قد يستطيع أي ناقد تحليل نص أدبي ولكن ليس لدى الجميع القدرة على سبر أغوار الكاتب كما تفعل أنت أستاذ أسامة حيدر بالنصوص التي تضعها تحت المجهر...فأنت توغل في العمق الفني وتعطي تذوقا"فنيا"متميزا"للنص ....ﻷنك قارئ نهم شغوف متابع لكل التطورات تمتلك قدرة المقارنة بين درجات البناء الابداعي ملم بالمعارف اللغوية واﻷدبية ثري المعلومة تتلمس مواطن الابداع وتكشف عن مكامنها ...لديك مرونة وذكاء تفتح من خلالهما للنص الذي أمامك عوالم متحركة وآفاق واسعة...باﻹضافة للحس المرهف والقراءة الواعية التي لاتحمل من خلالها النص مالايحتمل.....الشكر كل الشكر على قراءتك الماتعة أستاذ أسامة.. ولك امتناني وعرفاني ﻷنك فتحت أمام القراء عوالم جديدة للنص

 
تعقيب غسان الحجاج
غسان الآدمي عندما تفرض الجراحات وصايتها على الوجدان في مملكة الالم فلا مجال للصمت امام هذه الإجهادات التي تحرك التشققات في الانفاس باتجاه الانهيار الاخير لجدران الصمت وخروج صرخة الشاعرة المدوية صوتا وصدىً بهذه القصيدة المتخمة بأثقال تحملها الابيات على كواهلها ...
ليس بالغريب ان نرى هذه الرؤية النقدية والرؤية الشاعرية
من الاستاذالناقد
أسامة حيدر.
والشاعرة المبدعة رنا صالح
تحياتي واحترامي
 
تعقيب رنا صالح
رنا صالح عندما يتملكك اﻷلم حتى تصبح فيما بعد وصيا"عليه فلاأنت تغادر مملكته ولاهو يغادر شطآنك تمسي ذبيحا أمام أعتابه وتشعر بوحدة رهيبة وذهول جليدي يطوف في أحاسيسك وأوصال جسدك تصبح أنت وأوجاع الوطن توأمان ويصبح حرفك هو الابن الشرعي الكسيح لهذه اﻷوجاع ..يصيب الشلل أعضاء جسمك حتى تحس ببرودتها كما المريض المتعب المشلول عن الحركة العاجز عن فعل أي شئ .....حتى تأتيك معجزة تخرجك من تحت الأنقاض لتصرخ صرخة وجع يتردد صداها في أعماق الروح خارج حدود الزمان والمكان......لك شكري وتقديري أستاذ غسان الآدمي على مداخلتك القيمة

رد أسامة حيدر
أسامة حيدر الأستاذ غسّان كلّ الشّكر لمداخلتك التي تنم عن رهافة حس ووعي كبيرين ولا عجب فأنت شاعر مجيد وناقد بارع .
دمت بخير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق