الأحد، 2 أكتوبر 2016

الجرس في الشعر العربي – (2)

إن من متممات الموسيقى ومكملاتها في الشعر هي الوزن والقافية بالنسبة للشعر العمود واما بالنسبة للشعر الحر او كما نسميه شعر التفعيلة فان للايقاع والبحر الذي يتناوله الشاعر اهمية قصوى مع التأكيد على ان واحدا من مسببات النجاح في كلا النوعين هي القافية اضافة الى مستلزمات اخرى قد تجتمع معا لتكوين الايقاع الموسيقي الذي يلتزمه الشاعر منذ البدء حتى النهاية، ولما للقافية من تأثير سمعي موسيقي يشارك في اظهار الجرس بالقوة او بالضعف حسب اختيار الشاعر لتلك القافية، والقوافي في الحر تختلف عن العمود فلا الزام على الشاعر بذلك سوى ان النقاد يفضلون ان تكون هناك عودة الى قافية معينة او كلمة ايقاعية مموسقة تختم الشطر سيتوقعها القاريء او المتلقي على حد سواء، وتعتبر من الجماليات الموسيقية والايقاعية كلما ابتعد الشاعر في الحر عنها ثم عاد اليها بعد حين بحيث سيظل المتلقي او المتابع يتوقعها لكي ينصهر مع النص موسيقيا ونغميا..والقافية ليست امرا ترفيا او هي من باب الكماليات في الشعر ووجودها ليس اعتباطيا ابدا او عشوائيا، وهي من الضروريات بالنسبة للعمود لانها مكملة لموسيقى وايقاع البيت وهي بوجودها تضفي على البيت الشعري موسيقى خارجية وداخلية متأمَلة بل تكون ملتحمة بالبيت بشكل جوهري، مكملة له، ، وتكون ذات سياق محكم باتقان، تتساوق فيه ضمن الحروف والحركات، وإن كانت تشكل بحد ذاتها مقطعاً صوتياً إيقاعياً منسجماً متماثلاً منتظماً في مجالي الموسيقى والزمن، فضلاً عن تأثير الطابع النفسي لها. والقافية هذه الموسيقى التي تتردد في كل بيت بانسجامها وإيقاعها تفضل البيت كله بجودتها كما يقول احد النقاد : "وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة، أرفع من حظ سائر البيت" وانا اتناغم مع هذا الطرح الجميل..وما تكرارها الا لإحداث النغم في الأبيات لان القافية تكرار موسيقي عذب مستساغ.
والقوافي على أنواع منها ما يكثر دورانها في الشعر، ومنها ما يقل استعمالها ومنها ما تنفر منه الأذواق.
وتخضع القوافي وحسن اختيارها، نسيجاً ومعنى وموسيقى لقريحة الشاعر، وقدرته وبراعته، وذوقه، وملكته اللغوية.
وهناك نوعان من القوافي التي تهم مبحثنا هنا وعلاقتها بالموسيقى فالاولى ثقيلة وتكون في اغلبها بعيدة عن التذوق العام مثل (التاء، والخاء، والشين، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والغين، والذال، والواو، والزاي) لقلة استعمالها، وثقل موسيقاها وعدم الميل لها، وفقدانها للعذوبة والحلاوة،.
وهذه الحروف لها علاقة بالموسيقى ايضا لان أصوات الحروف لها علاقة في تشكيل الصورة.
وقد اعجبني قول احد النقاد في هذا الخصوص (.. وإن استثمار البديع في الشعر لإحداث تناغم صوتي في الإيقاع الداخلي من خلال التجانس المتعدد في النوع والكم مما يغري بوجود هندسة صوتية لتشكيل صورة سمعية، حيث يتحرى الشاعر عن الأصوات الموسيقية المتجانسة على وفق معايير خاصة تقوم على التجانس مما يؤدي إلى ائتلاف اللفظ والوزن فضلاً عن تقوية النغم على الصعيد الإيقاعي "لأن الصوت آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت"
إن تجانس الأصوات من تجانس الحروف والألفاظ والجمل والقافية مع الإيقاع فتجد التلاحم والائتلاف قائماً مما يسبغ على الشعر جودة وحلاوة فتجده مسبوكاً "وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" ...
هذا مانريد ان نبدا منه في طرحنا لمسألة الجرس الموسيقي وهل هو ملموس ام محسوس ام هو تصوري خارج عن الاذن الطبيعية للانسان؟؟ ام ان امرا ما هناك يقف خلف هذا التساؤل؟
الجواب ان امرا ما يقف خلف هذا التساؤل، وهذا ما مكننا الله لكي نوصله للآخرين لافضلا انما لحسن ثقتنا بمن يتابعنا على ان هذه الموضوعة فيها ماينفع بل ويفيد المتلقي فاقول :
الاذن عند الانسان موضع الحس السمعي وبها ومن خلالها الى الدماغ تتم عملية السمع، لكن هناك ماخفي في هذا الجانب وهو اننا نسمع باذنين او لنقل بموضعين في موقع واداة السمع وهما الاذن الخارجية والاذن الداخلية، فماذا نسمع في كل منهما؟ الاذن المعتادة لكل واحد من بني البشر لها القدرة على السماع لذبذبات او موجة صوتية تقع تردداتها بين 15 هرتز و20000هرتز، وتمثل الصوت المسموع بواسطة الأذن البشرية العادية، ولهذا سأضطر الان الى الذهاب قليلا الى موضوع علمي ذي علاقة يهمنا لنعود ثانية الى الموضوع الرئيس...
حيث أن الحد الأدنى لتردد الصوت التي تحس بها الأذن البشرية الطبيعية هو 15 هيرتز تقريبا بينما الحد الأعلى هو 20 الف هرتز، وينخفض هذا المدى عند كبار السن إلى حوالي 12000 هرتز. وأقصى درجات الإحساس بالصوت لأذن بشرية عادية يقع في المدى بين 5000 هيرتز و8000 هيرتز والذي يشمل ذبذبات الحروف الهجائية. وكما هو معروف يمكن أحداث الموجات السمعية عن طريق الحبال الصوتية في الإنسان والآلات الموسيقية سواء الوترية أو النحاسية أو الأنبوبية وغيرها من الآلات الأخرى.
ومازاد عن 20 الف هيرتز فلا تسمعه الاذن البشرية وهذا مانسميه "الموجات فوق السمعية"، وما قل عن 20 هيرتز لا تسمعه الاذن البشرية كذلك وهذا مانسميه "الموجات دون السمعية".
وللافادة ان هناك من الحيوانات مايسمع الموجات دون السمعية وهناك من الحيوانات مايسمع الموجات فوق السمعية ولكن بحدود معينة، لذلك يتم استخدامها في الاستشعار بوجود الزلازل او الانزلاقات الجليدية او الصخرية او في التربة او اعماق البحار لانها بحدود لايمكن للاذن البشرية سماعها لاختلاف تردداتها عن مستوى آهلية الاذن البشرية.
وبما ان الجرس هو الربط بين صوت الحرف الواحد، والإيقاع هو عمليةتكرار الحرف بطريقة منتظمة ، اذا هناك علاقة وطيدة بين الاذن وأجزائها الداخلية والخارجية وآلية الاستماع، وهذا تقريبا هو لب بحثنا لاننا سنتعامل مع الصوت حتى وان كان النص مقروءا على اعتبار اننا نلفظ اثناء المطالعة وان كنا نقرأ صامتين، وسنبتعد قليلا الى معلومة علمية ارى من اللازم الانتباه اليها ومعرفتها لكي نعرف بعدها ما للاذن على صعيد التشريح الفسلجي من اختلاف بين مانعرف وما لانعرف وهذا هو اساس الجرس في الشعر او على صعيد الايقاع والموسيقى
" نعرف شدة الموجة الصوتية بأنها الطاقة التي تحملها الموجة في الثانية عبر وحدة المساحات العمودية على اتجاه انتشار الموجة . وحيث أن الشدة هي كمية الطاقة في الثانية ، إذن شدة الصوت هي القدرة المارة خلال وحدة مساحات عمودية على اتجاه انتشار الموجة . تقاس وحدة شدة الصوت بالواط لكل متر مربع. كما تستخدم وحدة (ديسيبل ) للتعبير عن شدة الصوت ، حيث أن الديسيبل يسهّل مقارنة أعداد كبيرة جدا بأعداد صغيرة جدا ، حيث تتغير شدة الصوت تغيرات كبيرة بين الهمس و الضوضاء ، وكلها يمكن أن تسمعها الأذن . بالنسبة للصوت : شدة الصوت العادية تكون عند 60 ديسيبل ، وابتداء من ديسيبل 90 فصاعدا تصاب الأذن بضرر إذا تعرضت لصوت بهذه الشدة لفترة طويلة . (هذا هام لمستمعي الموسيقي والأغاني بصوت عالى او بواسطة سماعات الأذن . يجب ألا يضعوا التضخيم إلى نهايته العظمى ، بل عليهم سماع الموسيقى بصوت معقول" . والجدول المرفق يوضح علاقة الصوت وشدة الصوت بمستويات السمع وقابلية الاذن البشرية على تمييز المستوى المقبول ذهنيا وفسلجيا والذي يتناسب مع قابلية الانسان على تحمل تلك الشدة..
وكل هذا له علاقة بمصطلح الرنين، ويمثل الرنين او الاهتزاز جزءا من اسرار الجرس في الشعر العمودي العربي.
قد يمكننا الاطلاع على أبيات باهتزازت متوازنة وقوية لكن نجد الجرس فيها تنقصه القوة والجمال، والاستحسان فيه لا يرقى إلى مستوى أبيات مشهورة. لهذا قمنا بالبحث عن سر آخر من أسرار الجرس في الشعر العربي العمودي سناتي اليه لاحقا.
بعد ملاحظة عميقة واستقراء أولي وجدنا اختلافا قد يكون احيانا واسعا بين الابيات والقصائد من حيث استعمال الحروف. أبيات تكثر فيها النون والميم وأخرى تكثر فيها الجيم والقاف والضاد وأخرى السين والصاد... وان أكثر ما شد انتباهنا هو جمال هذه الأبيات رغم وجود هذا الاختلاف. فما كان منا إلا أن نستنتج مبدئيا تأثير الحروف على الأشعار.
ولدراسة مدى تأثير الحروف العربية على الشعر العربي العمودي وقوة الجرس فيه, وجدنا أنسب طريقة استعمال تقسيم الحروف المعروف لدى علماء التجويد معتمدين في ذلك على المخارج والصفات وهو تقسيم دقيق جدا. لعدم الإطالة, وبودي ان ادعم هذه الدراسة ببيان هذا التقسيم ولمن أراد الإستفادة أكثر يمكنه الرجوع إلى كتب التجويد.
ولقد اجهد غيرنا كثيرا لينير لنا هذه المعلومات القيمة بالدقة التي سترون والتي اراني هنا ملزما لإدراجها استكمالا لواحدة من حلقات هذه الدراسة بذكر ما سياتي لاحقا، ظنا مني انه مكمل لما قبله ورابط وثيق لما بعده.
كتب الاستاذ " فكير سهيل" في ( رابطة الواحة الثقافية) وتحت عنوان "الجرس والايقاع في الشعر العربي" – وهو بحث ودراسة ذات قيمة رائعة لما لهذا القلم من مخيلة وقدرة ابداعية قدمت الكثير لخدمة اللغة العربية وادبها – انصح من يبحث عن التعمق في عوالم الشعر بقراءتها، اقتطع منها مايهمنا مع دعائنا للكاتب بالتوفيق:
(( " لقد أحصى علماء التجويد سبعة عشرة صفة تقسم إلى قسمين:
- صفات لها أضداد وعددها خمسة هي:
الجهر وضدّه الهمس.
الشدّة والتوسط وضدّهما الرخاوة.
الإستعلاء وضدّه الإستفال.
الإطباق وضدّه الإنفتاح.
الإذلاق وضدّه الإصمات.
ب- صفات ليس لها أضداد وعددها سبع هي:
1- الصفير. القلقلة. اللين. الانحراف. التكرير. التفشّي. الاستطالة.
اعتمدنا في دراستنا بشكل خاص على الحروف التي لها أضداد, على حروف الصفير التكرير
والتفشّي.
1- الهمس:
اصطلاحا ً: هو جريان النّفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج. جمعت حروفه في قول " فحثّه شخص سكت ". وما تبقى يمثل حرف الجهر. هذا يعني أن
2-الشدّة:
اصطلاحا هي انحباس جري الصّوت عند النّطق بالحرف لكمال الاعتماد على المخرج، وحروفها ثمانية مجموعة في قول: (أجد قط بكت) وعكسها الرخاوة وتتوسطها حروف اللين وهي ما تبقى.
3- الإستعلاء أو التفخيم:
اصطلاحا ًهو ارتفاع اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، وحروفه سبعة يجمعها قول " خص ضغط قظ ". الترقيق أوالإستفال هو باقي الحروف.
4-الإطباق (أو الانطباق):
اصطلاحاً هو تلاقي اللسان والحنك الأعلى عند النطق بالحرف ، أو هو تلاصق ما يحاذي اللسان من الحنك الأعلى على اللسان عند النطق بالحرف، وحروفه أربعة هي: الصاد، الضاد، الطاء، والظاء. وهي ط ظ ص ض وأقوى حروف الإطباق الطاء وأضعفها الظاء المعجمة بينما الصاد والضاد متوسطتان في الإطباق، وحروف الإطباق لا تخرج من الفم إلا حين التصاق اللسان بسقف الحلق. وعكسها الانفتاح وهو باقي الحروف.
5-الاذلاق:
اصطلاحا هو خفّة وسرعة النطق بالحروف لخروجه من ذلق اللّسان والشّفة (أي طرفيهما)، وحروفه ستة يجمعها قول: " فرَّ مِن لُبْ "، ثلاثة تخرج من ذلق اللسان هي الراء واللام والنون (لِنَرَ) وثلاثة تخرج من ذلقِ الشّفة وهي الباء والفاء والميم (بفم). الإصمات يمثل باقي الحروف. لا يوجد كلمة رباعية أو خماسية إلا أن يكون فيها مع الحروف المصمتة حرف أو أكثر من حروف الذلاقة، فإن لم يوجد فهي كلمة غير عربية مثل عسجد.
- حروف الصفير هي "س ص ز".
- حرف التكرير هو "ر".
- حرف التفشي هو "ش".
نلاحظ مما سبق أن صفات الحروف التي لها أضداد تحدد مقدار القوة والضعف عند الحرف العربي. فصفات الجهر, الشدّة, الإستعلاء أو التفخيم و الإطباق تمثل القوة والثقل في الحرف وصفاتها العكسية الهمس, الرخاوة واللين, الترقيق أو الإستفال والاذلاق تمثل الضعف والخفة." ))
وانطلاقا من هذا يمكننا ان نوافق مبدئيا على وجود تأثير لصفة الحرف العربي على البيت الشعري من حيث الايقاع والموسيقى والذي يحكمهم جميعا هو الجرس الذي هو روح الموسيقى والنغم.
 
تعقيب الشاعر / ماهر الأمين
 
ماهر الامين صباحك السعد أستاذنا الناقد الكبير ا. شاكر ...ما أروعها من إبانة ..وما أحسنه من إطناب...مادة مفيدة ستظل في الذاكرة...كل الشكر لحضرتك لحروفك التي تستحوذ على وجدانات الشعراء والمتأدبين..

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق