" جُزرُ الجُذام ... مخيمات النازحين ... الموت المؤجل "
اذهلني ماسمعت عن مستعمرة الجذام والتي تقع ضمن حدود محافظة ميسان العراقية جنوب البلاد، كان وقع هذه المعلومة كالصاعقة على راسي وانا استمع مستغربا الى حديث لاحد الجالسين بالقرب مني قبل اكثر من اربعين عاما يروي العجب في احدى اماكن بغداد عن مالايتقبله العقل بالسرعة المعهودة، عرفت ان هناك موتا مؤخرا يسعى اليه الانسان برغبته بعد ان اعيته كافة الحيل لكي يجعل المجتمع يقبله، فلا ارض تحويه ولا مجتمع يأويه بعد ان رفض حتى الاهل احتضانه ورعايته، وكثيرون هم من مروا بمثل هذه الحالات من الاصابة بمرض الجذام، ايام من التفكير والقلق مما سمعت، قررت ان اشد الرحال الى حيث الجزيرة لكي اقف عن قرب على واقع دفعني ان ابدا برسم خارطة رواية جديدة، كانت الافكار تتزاحم امامي على ساحة اديمها، وبين قبولي الامر واندفاعي للشروع بالكتابة، وبين متطلبات الحياة ومشاغلي الروتينية الدائمة كنت كمن يتردد تارة ويشد العزم تارة اخرى للبدء...
سافرت الى مدينة العمارة حيث لي صديق حميم جمعتني به علاقة لطيفة، كان التواصل بيننا شبه دائم، في اليوم التالي لوصولي ذهبت الى بيته وكنت اعرف انني ساتناول الغداء هناك مع عائلته لما يتمتع به واهله من طيبة وكرم غريب، ونحن نتجاذب اطراف الحديث، كان وجهه يوحي بانه مستغرب من مقدمي لموضوع يبدو انه امر مقبول وليس فيه غرابة لسكان العمارة الذين يشترك اغلبهم في معرفة ماذهبت انا لأسبر اغواره، لكن وجه الاستغراب الذي كان يعتري صاحبي هو حقيقة ترحالي من بغداد الى العمارة لهذا الغرض، وتساؤله فيما اذا كنت حقا قد اتيت لهذا السبب، اقنعته انني كنت اقرا عن جزيرة او مايسمى مستعمرة من هذا النوع كانت قد انشأت بدايات القرن العشرين لتكون مقبرة لمجموعة من المصابين بالجذام كانت اليابان تستغلهم في صناعة بعض ادوات الحرب حين استعمرت كوريا لمدة تزيد عن خمسة وثلاثين عاما، كان صاحبي يرسل نظراته الى وجهي كانها سهام قاتلة، واكاد اتحسس غرابته، لكنه مالبث ان انتبه انه يكلمني انا صديقه، وهو قد تعود مني على مثل تلك التصرفات لكن اصراري على زيارة الجزيرة هو الذي كان موضع استغرابه اكثر، عاجلني بسؤال فيما اذا كنت اكتفي بشاهد عيان سيروي لي عن الجزيرة وهذا سيغنيني من وجهة نظره عن مشقة الاجراءات والطرق الوعرة والبعيدة الى تلك المثابة التي لا ارى انذاك سواها وقد ملكت عليَّ عقلي وكياني، ورغم اشتياقي البالغ لفض عذرية هذا السر، زاد شوقي اكثر عندما انتهى محدثي من السرد الممتع شارحا لي دقائق الامور هناك كانه عاشها تماما، لكن الذي لفت نظري اكثر وجعلني في قلق مرير وكأن دوار بحر قد تملك راسي فلم اعد اجد للاتجاه مسارا، "مراسم الزواج" في تلك البقعة النائية من العالم، تلك المراسم التي ما ان اذكرها بتفاصيلها التي احزنتني حد البكاء مرارا، وكان اللاهدف في الحياة هو العامل المسيطر على الاطروحة من خلال عقد القران وعملية الزواج ومستقبل المولود الجديد في بقعة لا تمت للحياة بصلة، وقد حاولت ابعاد الاسئلة المتوالدة بتكاثر شديد الانهمار كانهن يلدن ايميبيا، وقد طوقني بل ولبسني موضوع وشبح التفكير والكتابة لمشروع الرواية الذي كنت افكر به لساعات وبعمق بعد ان خاب املي في ان احقق لقاءا مع اهل المستعمرة تلك، وانتهى ذلك الامل وتلك الرغبة ونسيت الامر ولم اعد اتذكره الا حين يصادفني موكب زفاف، لكن ذلك التردد في ذاكرتي قد تلاشي دون عودة بحكم السنين...
اليوم وانا اتجول في بقعة كانها ليست على هذا الكوكب، استوقفني مشهد زفاف كما استوقفني قبل اربعين عاما لعرس يتيم منكسر الخاطر اسقطني ارضا بعد ان كنت معتقدا ان السنين قد قست على قلبي وصيرته كالحديد او اشد بأسا... لم اكن اعرف انني لم ازل طفلا يبكيه ابسط مايكون...
لم اكن اعرف الا حين تاكدت وبنفسي ان هناك من الدمع بهذا القدر الذي نزفته عيناي وسط استغراب معيتي من زملاء كانوا يرافقونني، لم ار ولم انظر الى مراسم الفرح المفتعلة التي حاول من احاطوا بموكب العرس الحزين اضفاءها على مراسم لم تتعد بضعة انفار تحيط بهم الخيم، وبين متعثر باوتادها او مصطدم بكياناتها الواهنة كان موكب الزفاف يسير باتجاه لا اعرفه، ولا اظن ان بوصلات العالم تستطيع حصر مؤشره الى اي الاتجاهات سيسير او في اي الاماكن سيستقر، وما شكل الجنين بعد ولادته، وما المستقبل المجهول الذي ينتظر الوليد، هذا اذا ظل الوالدان على قيد الحياة بعد تراكم المعاناة وقساوة الحياة في القادم من مجاهيل القدر، كنت ارى الغرابة على وجوه زملائي وزميلاتي وهم جميعا يسعون جاهدين في محاولة منهم لايقافي عن النزف وليس البكاء، حتى انتبهت الى نفسي، حينها انتابني شعور غريب اعادني الى منتصف السبعينات من القرن الماضي، كيف كنت منبهرا ومستغربا مما سالقى في زيارتي الى مستعمرة الجذام في مدينة العمارة، كانني اعود الى الواقع المؤلم القديم،
لست في مخيم للنازحين العراقين، انما انا الان في مستعمرة جذام مستحدثة، ينتظر ابناؤها الموت، لكنه مؤجل الى حين ....
تعقيب الناقد / غازي احمد أبو طبيخ
آفاق نقديه ما اعظم هذ السرد الصحفي المكتظ بالحس الروائي المبدع..وليس غريبا عليك ..ولكنه الذي يختصر بحوثا ومؤلفات مصورة للإقناع بضرورة المعالجة السريعة لمثل هذه الكارثة الوطنية بل الانسانيه..?!"
ولقد كانت درجة الافناع مذهلة اسلوبا فذا وشدا مشوقا حصيفا حتى انني حين انهيت القراءة شككت انني التقطت انفاسي خلال المتابعه..
الا فبورك هذا القلب الكبير..
وبورك هذا القلم المذهل النظير..تحية لك من القلب ايها الرائع الاستاذ Shakir Al Hitالجميل..والسلام..
ولقد كانت درجة الافناع مذهلة اسلوبا فذا وشدا مشوقا حصيفا حتى انني حين انهيت القراءة شككت انني التقطت انفاسي خلال المتابعه..
الا فبورك هذا القلب الكبير..
وبورك هذا القلم المذهل النظير..تحية لك من القلب ايها الرائع الاستاذ Shakir Al Hitالجميل..والسلام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق