الخميس، 13 أكتوبر 2016

في النقد الادبي – 5 – بقلم الناقد / شاكر آل هيت

في النقد الادبي – 5 –
 
ان من يظن ان النقد بالنسبة للعرب وفي الادب حديث العهد ونحن متأخرون عن باقي الامم في ذلك فهو واهم لان هذا المنطوق وهذه الفرضية غير صحيحة.. فالنقد الادبي ولد مع ولادة الشعر ومنذ ان عرف العربي ان هذا الحرف الكريم سيميزه لاحقا عن بقية الامم بلاغة وفصاحة ، عرف معها النقد منهجا تقييميا للادب واسلوبا فكريا بنيويا رؤيويا يستند عليه الادب في بنائه ولا مفر منه فهما متلازمان بينهما شعور متبادل كالنسغ الصاعد والنسغ النازل في بناء حياة النبات... فلقد كان الشاعر ناقدا في الوقت الذي يرى شعر الآخرين ويتفحص مواطن الضعف والقوة في القصيدة، كان الآخرون يعينونه برؤية ما كان يرى عند غيره، ولهذا كان الشاعر اقرب من غيره على فهم الصنعة الشعرية، وعلى ادراك اسرار القبح والجمال... وعلى هذا الاساس كان من الصعب ان نحكم على الصورة الاولى التي نشأ عليها النقد الادبي العربي ذلك لأنه ارتبط بالشعر في نشأته، لان كل ما يمتلكه المفكرون والمتابعون لا يتجاوز مائتي عاما التي سبقت ظهور الاسلام، ولان اغلب من قرأنا لهم لم يذكروا احدا في الشعر قبل المهلهل بن ربيعة او امريء القيس بن حجر والذين يعتبرونهم اول من وطأ متون الشعر العربي..
يقول الجاحظ: " اما الشعر، فحديث الميلاد، صغير السن، اول من نهج سبيله وسهل الطريق اليه امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة.... فاذا استظهرنا الشعر، وجدنا له الى ان جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، واذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام ". (1)
يقول ابن سلام : " وكان اول من قصد القصائد وذكر الوقائع، المهلهل بن ربيعة التغلبي في مقتل اخيه كليب وائل " .
على اننا لا يمكن ان نسلم او نجزم بان الشعر الذي رأيناه قد وصل الى ما وصل اليه الان هو نفس الشعر الذي بدأ به العارفون منذ زمن بن حجر او المهلهل، كلا بالتأكيد، فلقد قطع الشعر احقابا وازمنة وهي سنة التطور والارتقاء، وهذا نفسه الذي نهجه النقد الادبي ومنذ عصر قبل الاسلام وقد تطور النقد وفقا لتطور الشعر ولا يخفى على احد ان الشعراء كانوا يأتون مثلا الى النابغة ليقرؤوه شعرهم ويعرفون منه مدى صلاحية او قوة وضعف ذلك الشعر، فمن اثنى عليه النابغة طار وحلق وبنى وانشد احسن من ذي قبل، ومن اشار اليه في ضعف او خلل ما، عاد لينتج ما هو احسن، ومن تلك النماذج ما يظهر جليا وواضحا لكل ذي اهتمام ومتابعة في الشأن النقدي ما اورده الينا الخبر من نقد النابغة الذبياني لبيتي حسان بن ثابت، لان العرب اجتمعوا على الرضا بآراء النابغة وقضائه بين شعرائهم، وهذا يوحي لنا بأمرين :
اولهما ان العرب اهتمت بالنقد وكانت معنية به على انه وسيلة الى تطوير الفن الشعري، لان مجد القبيلة يتمثل ببراعة شاعرها ....
ثانيهما وهو خاص باختيار الناقد، فهم يشترطون به ان يكون شاعرا فحلا، وصاحب تجارب وبصر بالشعر على ضوء خبرته الواسعة، والنابغة قد تمكن من التربع على هذه القمة في عصره، اذ رشحه تاريخه الطويل في قول الشعر وابداعه لأن تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ، وكانت الشعراء تأتيه لتعرض عليه قصائدها، وهو من يجيز الغث من السمين، وعلى هذا الاساس قد طار ذكر الاعشى والخنساء بسبب ثناء ومدح النابغة لهما...
يروى ان حسان بن ثابت انشد النابغة قصيدة قال فيها مفتخرا :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجـدةٍ دمـا
ولدنا بني العنقاء وابنـي محرق .... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابن ما
قال له النابغة ( وكان هذا راي الخنساء النقدي كذلك) انت شاعر لكنك اقللت جفانك واسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر ولدك، نقد البيت الاول يدل على وجوب التعبير عن المعنى باللفظ الذي يؤديه اداءا كاملا، بحيث ينهض اللفظ بحق المعنى، وهذه ملاحظة بارعة لان العرب تستحسن المبالغة في مواطن معينة، والفخر من هذه المواطن المحببة، اما نقد النابغة للبيت الثاني فهو دليل على معرفته بتقاليد العرب ووعيه بعاداتهم التي تعتد بالآباء والاجداد وتقيم وزنا لحسب القبيلة ونسبها، وعلى هذا فان نقد النابغة يقوم على تفضيل المبالغة جريا وراء المثل الاعلى في المعنى، كما يقوم ايضا على تقديس ما اعتاد عليه القوم، وتقديس المثل الاعلى ماثل في ان ( الجفنات ) وهي جمع مؤنث سالم لا تدل على الكثرة مثل ( الجفان )، لان جمع المؤنث السالم انما يدل- في اصل وضعه – على عدد قليل، على عكس جمع التكسير اذا كان للكثرة فهو يدل – في اصل وضعه – على اعداد مفرطة في الكثرة والكثرة تناسب الفخر، ولو قال الشاعر ( لنا الجفان ) لوصل الى ما يريد النابغة من المبالغة، ولتحقق المثل الاعلى من الفخر... ولو قال (البيض) لكان افضل من ( الغر) لان الغرة بياض قليل في لون كثير، وكذلك في (يلمعن بالضحى) فلو كان قد قال ( بالدجى) لكان ذلك اقوم.. ولو قال ( يجرين ) لكان اكثر واحسن من ( يقطرن)
وتقديس المثل الاعلى ماثل في ان كلمة ( اسيافنا ) – وان كانت جمع تكسير- فهي جمع قلة، فجموع القلة الاربعة ( افعل، افعلة، افعال، فعلة ) انما تدل - في اصل وضعها – على اعداد لا ترفع لأكثر من عشرة، وقد تهبط الى ثلاثة، والعد القليل في موطن الفخر غير مستحب عند العرب، ولو قال ( سيوفنا ) لوصل الى غايته في الفخر. ولقد حاول النابغة الذبياني ان يصل الى تحقيق المثل الاعلى القائم على المبالغة في الفخر عن طريق ناقدة لفظية مستخدما ذوقه الادبي وحسه اللغوي.
اما من ناحية العرف والعادة التي جرت عليها العرب في الافتخار بأصولهم من آباء واجداد – لا الافتخار بأبنائهم وفروعهم – فقد طبقها النابغة الذبياني على قول حسان بن ثابت ( واكرم بنا ابن ما ) ولم يقل ( فاكرم بنا ابا ) وهذه مسألة - وان كانت معنوية – ترجع الى الذوق العام الذي استهجن ان يفخر الشاعر بابنه لا بابيه، كما يفعل المفتخرون من العرب.
ولعلي ومن باب التذكير اجدني ملزما بالتعريج على مابقي في ذاكرتي وماحفظته من سبعينات القرن الماضي حول وجه صاف كالسلسبيل الرقراق لآية من آيات النقد وصورة لطيفة مشرفة ثمينة قيمة غاية في الدقة والرقي الفني الادبي ، لا زلت اذكر هذا الكتاب النقدي الرائع (( يتيمة الدهر)) لابي منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري المتوفى 429 هجرية رحمه الله، ورغم ان هدف الكتاب كما جاء في مقدمته على ما اذكر كان كما يذكر المتابعون:
((كتاب يبجث في الأدب العربي متخصص في الشعر العربي في فترة معينة أيام الدولة الحمدانية والدولة الديلمية . يتكلم على محاسن أشعار ذلك العصر وذكر أسماء الشعراء وشيئا من شعره. ولكن الثعالبي في كتابه هذا لم يقتصر على الترجمة المحضة والاستشهاد بالنصوص الشعرية، بل نراه يورد آراء نقدية قيمة وتعليلات أدبية ممتعة تنم عن ذوق أدبي رفيع، كما يعمد في كثير من الأحيان إلى المقارنة والموازنة بين من يترجم له وبين غيره من الشعراء في الفن الشعري الذي برع فيه . )) "2"
ولازلت اذكر كذلك بعض ما الحقه النقاد آنذاك من كتب تحمل قيمة عليا باساليب النقد شعرا ام نثرا، كتب برز منها على سبيل التميز والتفرد في المعلومة منها (دمية القصر وعصرة أهل العصر» لعلي البخرزي النيسابوري، وجاء بعدهما العماد الاصفهاني، فألف كتابه (خريدة العصر وجريدة العصر) احتذى فيه حذوهما، كما يصرح بذلك في المقدمة فملأ الحقبة الزمنية التي جاءت بعدهما، فترجم في كتابه، لأدباء عاشوا في النصف الثاني من القرن الخامس ثم في القرن السادس وكان عمله هذا أشمل، حيث وجدناه يسجل رجالا من الشمال الافريقي وجزيرة صقلية. ولم نجد بعد هؤلاء من ترسم خطاهم، بذلك العموم والخصوص، كما ذكرنا...
وما يهمنا من ذكر " يتيمة الدهر" ما بقي عالقا في ذهني منذ ذلك الحين لبلاغة وجرأة الثعالبي آنذاك، وما خلفه ذلك النقد وانا في عمر اتقبل واطبع كل ماكانت تقع عليه عيني من فنون الادب وغريبه على وجه الخصوص، وقد ساعدتني كذلك رفقتي لمن هم اشبه بمجانين الادب، وقدرتي وامكانيتي وحبي وشوقي لحفظ ما أقرأ،
ولقد تزامن مع قراءتنا آنذاك وجود حلقات شبابية عفوية كانت ظروف " الزمكان" تحكم تواجدها، وما اجملها اذ كان الفرات امام المتحلقين ينساب بتوئدة رومانسية بقربهم ومن امامهم ، وظلال الاشجار والنخيل وصوت شدو النواعير كان هو المحفز الامثل لتلك القرائح التي ما انفكت عن القراءة والتجاذبات الثقافية المتعددة التي كانت لي ولآخرين مثلي بمثابة المدرسة الوصيفة للمدرسة الرسمية، وما لم يُمحَ من خاطري كيف كنا ننقاش جرأة الثعالبي على الاعتراض على المتنبي في بعض مما ورد في كتابه المذكور، بخصوص بيتين في قصيدة المتنبي المشهورة، "على اقدر اهل العزم..." التي يمدح فيها سيف الدولة الحمداني:
وَقَفْتَ وَما في المَوْتِ شكٌّ لوَاقِفٍ .... كأنّكَ في جَفنِ الرّدَى وهْوَ نائِمُ
تَمُرّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزيمَةً ..... وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ
لكن اشد ما الزمنا بنقاش مطول وعذب لازالت حلاوته تحت لساني لم تذبها مرارة السنين ومعاناتها، كنت ومجموعة نناقش اعتراض الثعالبي بالخصوص على ماجاء في البيتين اعلاه حيث كان رأي الثعالبي ان المتنبي يجب عليه ان يقول :
(( وقفت وما في الموت شك لواقف.... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الابطال كلمى هزيمة .... كأنك في جفن الردى وهو نائم ))
وعند النظر والتمعن نجد ان الحق كان مع الثعالبي وان توليفته الاخيرة هي اجمل بكثير وارقى بل واعلى تصويرا مما قاله المتنبي، حتى وان كان المتنبي، لان التوافق الصوري المتصاعد فيما ذهب اليه الثعالبي كان اعلى رؤيويا، بل واشمل،،هذا وجه من اوجه النقد اسوقه هنا لعل من يتجرأ على الناقد دون وجه حق عليه اعادة النظر بما يقوله الناقد مع تاكيدنا على مواصفات الناقد العليا لكي يكون هو الوحيد الذي يمتلك الحق فيما يقترح لا لشيء الا لامانة علمية انفرد وتميز بها عن الآخرين...
(1) كتاب الحيوان للجاحظ
(2) يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر / الثعالبي / ص1
للحديث بقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق