الاثنين، 10 أكتوبر 2016

 الكاتبة أم وفاء قوادري 
الجزائر 

سلام عليك يا "ازنينة"[1]
(مهداة مع التحية إلى الأستاذ الكريم "ابن سليمان عبدالهادي" إمام العربية وناطقها البذاخ... الذي قاد أجيالًا من طلَّاب العلم النبلاء الشرفاء.. في مسيرة حافلة بالعطاء؛ خدمة للسان العربي، وصونًا للغة الضاد عندنا، مع الدعاء له بالشفاء.)
فاح عَبق "ازنينة" وأريج بوحها، وتضوَّعَت ساحاتها سمو العلم، ورقي المعرفة.
وها هي ذي كبجعة رابضة بين التلال، قلعة رومانيَّة ضاربة في القدم، بها مرَّت جحافل الفتح الإسلامي فقدَّسَت ثراها، وانضوى إلى كنفها الأمير عبدالقادر[2]، فواسَته وضمدَت منه الجراح، مهوى مَن كانوا لأرواحنا زادًا، ولقلوبنا عدة وعتادًا، لها ولهم في الأفئدة سكن ووكن.
امتدَّت يدي بهدوء، فاستلمتُ الوريقة التي كتب عليها رقم هاتفه، عدتُ إلى البيت ولم أمهِل وقتي وأنتظر؛ بل سارعت أخط الأرقامَ على هاتفي كوَشْي من الحناء، وأخشى عليها التفلُّت من بين أصابع يدي!
يا ألله، أهي أرقام أم جواهر؟!
قفز قلبي من مكانه، كان يلف ويدور مرحًا، زدتُ في تكلفة الأماني، فصحت في خاطري:
• هب والدي عاد إلى الحياة! ترى كيف ستعلن يا قلب فَرحتي؟
امتزجتْ في الجوى صورتاهما، ولم أعد أفرِّق بين مَن أنجبني وربَّاني، ومَن علَّمني عشق لغة القرآن.
وتقفز من عالم الذِّكرى صور شتَّى، تتجاذبني ويسرقني الحنين.
والدي يدخل البيت بهدوئه ووقاره، بإحدى يديه عكَّازته، وبالأخرى وريقة يشير بها إليَّ:
• لقد أكَّد لي على حضورك المسابقة، واطمأنَّت نفسي إلى سفرك مع المجموعة، هي رفقة آمِنة لا ريب.
مسحة من رضا وحبور على محيَّاك يا والدي، وكأنِّي بابتسامتك المشرقة تبارك هذا التفويض! وأنعِم به من تفويض، أسداه إليك مربٍّ نحرير، ذو علم وأدب، فزاد من حرصك على نبتَتِك التي نذرتَ أن ترعاها.
في بيئة تُجرِّم تعليم البنات، وتَزدري الاهتمام المبالَغ فيه بالأنثى، وقف الوالِد المشفِق العطوف خجلًا، يقدِّم رِجلًا ويؤخِّر أخرى، يعزم أحيانًا على الثبات في مواجهة هذا المدِّ الجارف، والسيل العرمرم من الاعتراضات، ويستسلم أخرى.
ولا حيلة أمامي إلَّا الإصرار والدأب على مواصلة الصَّبر على شوك هذا الطَّريق، لا.. لا انكفاء ولا انثناء، مهما كانت العوائق، فللمعرفة عِشق جارف متدفق بين الضلوع.
••••
هناك في مدينتي، فوق هضبتها وبين روابيها، يولَد الحلم صغيرًا، يترعرع بين أفنانها، ثمَّ ينمو ويكتمل.
وفي مدينتي الابتسامة غذاء ودواء.
أمَّا الكلمة عندنا، فلا تعرف المستحيل، تسكن قلوبنا، فتعطينا الدِّفء في شتاء أيامنا، ونستروحها صيفًا نسائم عليلة.
هناك في مدينتي، كانت بدايتي مع عالم المعرفة والكتاب، رعاها أساتِذة فضلاء، كان الجد والمثابرة دأبهم، والنَّجاحُ والتفوق حلمَهم، زرعوه فينا، فتشبَّثنا به عبر السنين.
كانوا يسمُّوننا جيل الاستقلال، وجيل النَّصر، وجيل الحرية.
استقلال لم يأتِ بالسَّهل، ونصر على عدوٍّ متغطرس مكابِر، وحريَّة افتكت من براثن القَهر والإذلال.
هناك في مدينتي، طَرقتُ بابَ الخير، ورجوتُ مفاتيحه، يوم أحببتُ العلمَ، وعشقت القلم.
أحببت العلم؛ فهو نَهج الكبار، وميراث الأنبياء، وزاد الدنيا والآخرة.
وعشقتُ القلم؛ فقد رفَع المولى قدرَه، وأعلى شأنَه، فابتدأ بخلقه، وأقسم به لشرفه وعظيمِ فضله.
وفي مدينتي، كان الكل على نَهج الملائكة، يتواضع إجلالًا للعلم وللقلم.
فحيثما التفت يطالعك النور الربَّاني يشعُّ من "المحضرة"[3]، ليلامس قلبك، ويسمو بفكرك.
وكان للوِرد القرآني - بيننا - حضور يليق به المكان صباح مساء.
وفي مدينتي، تطالعك الوجوه بقسمات وألوان شتَّى، لكنها تنتظم - جميعها - تحت مسمَّى (وإنْ ضنُّوا عليَّ كرام!).
فيا مدينتي، ها هي ذي أشواق قلبي نديَّة، أبثُّك إياها، فعليك وعلى الكرام سلام.
••••
هو ذا صوتك - بعد أزيد من ثلاثين سنة - قوي متهدج، يلِج منافذ قلبي، يبحث له عن صدى سكَن الأعماق، ربَّيت فينا الأخلاقَ وهذَّبت الرُّؤى، علمتنا حبَّ العروبة، وحب اللغة الشاعرة[4] لغة الضاد.
تفانيت في شرح قواعدها، وسَبكِ المفردات، وكانت أصواتنا تَمتزج رغبة ورهبة، تبغي مشاكلتك في كيفيَّة السرد وطريقة الإلقاء.
والحذر كل الحذَر أن نخطئ في حَضرتك، فننصب مرفوعًا أو نجر المنصوب.
••••
سج يا قلب واسبح في الخيال، ارسم ذِكرى مقاعد الدِّراسة، وأيامنا جذلى تتباهى بلغة هي "الهوية الواقية"[5]، هي لغة القرآن.
مجد قواعدها، ولملم شتاتَ ما ضاع منها بيننا، بجفوة منَّا وغمط انتساب.
لغة رعاها الآباء، امتزجَت بالحليب فرضعناها صغارًا، وتلوَّنَت بالدم فسَرَت في العروق، رفرفت ببلاغتها فوق روابينا، وتدفَّقَت سحرًا وبيانًا في أوديتنا، فكانت لظمئنا كالماء الزُّلال.
صدح بها من هاهنا الإبراهيمي[6]، وحمل رايتَها ابنُ باديس[7].
فيا خادِم لغة القرآن، رعت قلوبنا ما زرعت فيها، فلك منَّا خالص الشُّكر، وكل الاحترام.
••••
رافلة في زينتك.
تلتحفين شمسَ الهجير.
تتلألأ ذِكراك في أوردتي.
وتسري نسيماتك في شراييني.
يا مدينتي يا أنا.
يا ظمأ التبتل.
يا كل الحنين.
** ** **
[1] مدينة قديمة تقع شمال صحراء الجزائر؛ حيث "العرب الأمازيغ"، كانت تمثِّل خط عبور قوافل الحج وطلَّاب العلم من بلاد المغرب والأندلس إلى المشرق العربي... سمِّيَت بعد الاستقلال والتعريب بالإدريسية.
[2] هو الأمير عبدالقادر الجزائري؛ رمز المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي.
[3] المحضرة: تعني في لهجتنا المحلية: كتَّابًا، مفرد كتاتيب: أماكن تحفيظ القرآن الكريم للناشئة.
[4] وصف للأديب الكبير "العقاد"؛ يقصد به اللغة العربية.
[5] وصف الأديب الكبير "العقاد" اللغة العربية بأنها: "الهوية الواقية".
[6] البشير الإبراهيمي: نائب وخليفة الإمام ابن باديس ورفيق نضاله.
[7] هو الإمام "عبدالحميد بن باديس" مؤسِّس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.l


.........................
الرؤيا النقدية للناقد لشاكر آل هيت
انه لسرور كبير وتكليف طيب يصل الى حد العرفان للاستاذ الكريم ابو طبيخ المحترم... تحية لك سيدتي قوادري على هذا التسلسل اللطيف، متمنيا لك النجاح، من الطبيعي ان يذهب قص الكاتب الى التقريرية او المباشرة التوثيقية لامور تفرضها لغة الحدث، فهناك من الحدث مايكون وقعه محفزا لا غير، فينبري الكاتب بالتصعيد الى حد الرمزية الكبيرة وربما الابهام في البعد عن واقع ولب ومحور الحدث، وهناك ما لا يستطيعه الكاتب ابتعادا لا لضعف في قلمه، انما تنام تحت هذا السرد وخصوصيته حب الحدث او لنقل بطولة الحدث التي تاخذ الكاتب الى ان لا يغادر نقطة الضوء ولب الحدث الذي هو موطن القوة في دفع الكاتب ان يراصف الاحداث دون النظر الى جماليات السرد وهذا حسن التقرير وهو بوح صادق لالقاء الحدث قبل الوصف على عكس الاول الذي يهتم بالوصف دون المرور بهذا الشكل المقبول والصحيح من الروي،... ما ذهبت سيدتي اليه كان من وجهة نظري المتواضعة يحتوي الاثنين ففي وجهة من السرد كنت قاصة اوصلت ماتريد بعد ابتعادها عن نقطة ومحور الحدث وصياغة الامور مثلما تتمنى وتريد قوادري، والثانية عندما تغلب الحدث على قلمك النبيل برغم ماكان يحمل ومثلما نعرف من عوامل القص والوصف، فاصبح قلمك هذا بالغ الروعة وصافي الحس اقرب الى من يوثق تقريرا لايريد من خلاله ترك الشاردة الصغيرة او اهمالها ظنا انه ربما لم يف بنقل الحدث الى درجات مايريد... من الناحيتين سيدتي الفاضلة كنت وكان قلمك موفقين بهذه الاقتناصة والتذكرة لجميل الايام الخوالي.... ولانني على معلومة بتلك المناطق، ابدا لم استغرب بعض التنقلات التي وردت فيها، وهي كانت في الحالتين تحمل جمال هذا القلم ونقاء دواخل الكاتبة، تحية للجزائر كل الجزائر، تحية لشهداء الجزائر، تحية لقادة الجزائر، تحية لاقلام الجزائر التي تتعطش للعربية تعطش الساري الى هدف في صحراء قاحلة وقت الهجير... شكرا لك سيدة قوادري ولعلنا لامسنا تحليليا ولو من باب الانصاف هذا الريبورتاج القصصي الطيب العطر ... وافر محبتي واعتباري.... تقبلي مودتي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق