الأحد، 16 أكتوبر 2016

في النقد الادبي – 8 – بقلم الناقد / شاكر الخياط

في النقد الادبي – 8 –

ان موقفنا من المناهج النقدية المعاصرة لم يكن متقاطعا ولا ينبغي له ان يكون مطلقا، لاننا نستقي من الاخرين ونتلاقح معهم على ان لانترك مالدينا من خير عامر جانبا، لأننا نعتبر النقد من أهم الحوافز الدافعة الى ازدهار الإبداع الأدبي, وتطوير أشكاله الفنية ومقاصده الفكرية والثقافية وتنوع مناهجه التحليلية والثقافية وما فتئ كل إبداع سردي أو شعري يقابل بإبداع نقدي في مواكبة ذائبة. عبر توالي العصور وتعاقب الأجيال وما ازدهر الأدب في عصر من العصور إلا وكان النقد رافداً له وتفسيراً أو تقييماً أو إبداعاً وكلما قلّت القراءة المبدعة خبت جذوة الإبداع وقاربت الأفول فوقف الكتّاب عند عتبة السائد واكتفى النقاد والدارسون بما تحقق لديهم من مناهج وأدوات ورؤى. فجاءت قراءاتهم تقليدية مكرّرة.‏
ـ أي أن الهدف ليس الأدب أو الشعر وإنما أدبية الأدب أو شعرية الشعر أو بمعنى آخر ما يجعل الأدب أدباً في خصائصه ووظائفه وقضاياه ورؤاه الآنية والمستقبلية, فإلى أي عصر يعود إنتاج المناهج النقدية الحديثة?‏
يعود انبثاق المناهج النقدية الحديثة في أوربا إلى تراث ثرٍّ من التراكمات الثقافية والتيارات الفكرية المختلفة التي عمل بها على إثرائها تقاطع العديد من المعارف والآداب العالمية لحضارات وشعوب متباينة وما انبثق عنها من فلسفات مثالية وإسلامية ووجودية ومادية وذرائعية وبقدر ما انتعشت تلك المناهج في الغرب كان لها أثرها في الدراسات النقدية العربية اتباعاً مرة ومثاقفة في طور آخر وقد برزت هذه المناهج في عدد من الاتجاهات يمكننا حصرها في مسارين:‏
ـ مسار المناهج السياقية: وعمادها الاثراء من خلال التحصيل الدائم ( الاسقاطات) السياقية كعامل يستوجب توفره والثاني الأحكام التذوقية (الانعكاسية) والملابسات الخارجية في تحديد مقاصد النص ودلالته وفيها يستعين الناقد في قراءاته للنصوص بالملابسات الاجتماعية والثقافية والنفسية ونحوها. ونلمس ضمن هذا المسار جملة من المناهج لعل من أهمها:‏
ـ المنهج الاجتماعي: أو ما عرف بالواقعية الاشتراكية والنقد الثقافي الذي تولد عن المادية التاريخية مع كارل ماركس من منظور علاقات الانتاج الاقتصادي والطبقات الثقافية في المجتمع على اعتبار انها حصيلة للحالة التطورية لمراحل الفكر البشري حيث يعدّ الأدب نتاجاً للواقع الاجتماعي ومن إعلامه ( بيير زيماولوي ألتسير) و( جورج لوكاتش) وغيرهم كما وجد اهتماماً من لدن النقاد العرب خلال الخمسينات والستينات لارتباطه بحركات التحرر والتوجه الاشتراكي في العالم.‏
ـ المنهج النفسي: ويعتمد على إسقاط مقاصد النص المقروءة على الحالات النفسية التي ترافق الشخص في نموه وما يلازمه من كبت وعقد نفسية تترسب في اللاوعي نتيجة الحظر الاجتماعي، وقد برز منهج التحليل النفسي من فلسفة اللاوعي مع ( فرويد) و(جون لاكان) وغيرهما.‏
ـ المنهج الظاهراتي: وقد انبثق هذا المنهج من الوجودية مع ( جان بول سارتر ) ثم تبلور في فلسفة (إدموند هوسرل ) وانتهى إلى مبدأ القطيعة المعرفية مع (غاستون باشلار) ثم إلى السينمائية الصوفية (جوليا كريستيفا) ويرى هذا المنهج أن المعرفة أو مقاصد النص مرتبطة بتحليل الذات وهي تتعرف على العالم في حال تقمصها لعملية الإبداع فيقوم النقاد بتحليل الوعي البشري الذي استبطن الأشياء فتحولت إلى ظواهر قابلة للدراسة.‏
ويلاحظ أن بعض هذه قد ولى وانحسر نسبياً مثل النقد الثقافي والاجتماعي الذي عرف بالبنيوية التكوينية أو الواقعية الاشتراكية والظاهراتية ونظرية التحليل النفسي في حين ظل (المنهج البنيوي) قائماً في شكل بنيويات مستحدثة وإن حكم بعض الدارسين والنقاد بانتهاء النقد البنيوي ونفوقه . باسم (ما بعد البنيوية) أو (الحداثة) كما في التفكيكية والنصية ونظرية التلقي والمداولة وأسرارها من وجهة نظر معرفية شمولية.‏
ـ أي أن الهدف ليس الأدب أو الشعر وإنما أدبية الأدب أو شعرية الشعر أو بمعنى آخر ما يجعل الأدب أدباً في خصائصه ووظائفه وقضاياه ورؤاه الآنية والمستقبلية, فإلى أي عصر يعود إنتاج المناهج النقدية الحديثة?‏ على الرغم من ان العديد من المناهج النقدية الحديثة, ذات الاتجاه اللغوي في تناول النص ؛ ظهرت في مطلع القرن العشرين كالشكلية والبنيوية والأسلوبية والتفكيكية وغيرها . لكن هذه المناهج اختلفت جميعها في طريقة تناول النص وانطلقت في تناولها للنص الأدبي من بنيته اللغوية , باعتباره أولا وأخيرا نصا لغويا يستغل إمكانات اللغة الواسعة في اكتساب خصوصيته .
وإذا كان كتاب أرسطو يحاول وضع القوانين والخصائص النوعية للملحمة والتراجيديا، فإن هذا يعكس بصورة جلية أن ما نسعى إليه الان هو أمر مختلف تماماً، حيث نؤسس لكي نتخذ من الصناعة الشعرية بمفهومها المعروف موضوعاً لنهجنا او كتابنا المزمع ، وهذا كفيل بأن يحفظ لنا لا نقل تفردنا في هذا بل حقنا في طرح الجديد كما نرى في هذا السياق.
واذا لم نتعامل مع مصطلح الشعرية كمنهج نقدي بوجه مباشر، وإنما كمكون شعري، وظاهرة فنية وجوهرية لصناعة اللغة الشعرية، فهذا لا نراه يقلل من جهدنا او مسعانا لما نريد البتة، اننا نسعى إلى الوصول لتحديد منهج نقدي دقيق يمكن أن نرسم حدوده بصورة فاعلة وقوية في مجال النقد الأدبي الحديث. ولعلنا نعطي لأنفسنا الخصوصية المتصلة والمرتبطة بما تقدم من عرض زاخر للإرث الرائع الذي نفتخر به على الدوام، لا تلك المنتمية الى واقع ادبي اخر رغم عدم تقاطعنا مع كل اشارة في النقد الادبي من شأنها تقويم العمل الادبي وبأية غاية او طريقة تتناسب واستمرار الحياة في النص.
واجدني ملزما ان اقف مع ما ذهب اليه ( حازم القرطاجني ) وبكل ما امتلك من قوة ابداعية داعيا غيري ممن يتراصف معنا ان يرى ويغني المبحث هذا لأنه بالضرورة ان يكون لنا ما يميزنا في عملية النقد الادبي ( الشعر او النثر):
وأول ما يمكن التنبه إليه عند القرطاجني أنه نظر إلى الشعرية على أنها مجموعة من القوانين والقواعد التي تضبط عملية الصناعة الشعرية، وتكسبها خاصيتها وسماتها المحددة، وكل عمل لغوي لا يخضع إلى تلك القوانين، إنما هو كلام ليس فيه من الشعر إلا الوزن والقافية " وكذلك ظن هذا أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق كيف اتفق نظمه، وتضمينه أي غرض اتفق... وإنما المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى القافية.. ولا بد لي هنا ان اعترف بما سيحصل من موائمة ومصاهرة فيما بين النص الحداثوي واسلوب نقده الحديث او لنقل الجديد، وبهذا نكون قد حفظنا للعمود والقريض كيانه والوهيته وفي نفس الوقت جارينا الحداثة وتعاملنا مع النص كفتاة لم تتجاوز السابعة عشر من العمر وهي تُزف الى بساط العرس بزينة نقدية متعففة لم تخدش مشاعرها ومحافظة على أنوثتها بتاج مرصع بأسمى مفردات الزمرد والياقوت...
واذ نشير هنا الى ضرورة اخضاع الصناعة في الشعر الى قوانين وحدود تضبط حركتها،
فهذا يؤكد أن هذه القوانين لا تتأتى من خارج جنس العمل الشعري، ولم تكن يوما لتتناسب مع كل طاريء او دخيل مهما كان حجمه، وإنما هي مستقرة ومتبلورة فيه وتستنطق من داخله، فهي نابعة منه لتأخذ صورتها التجريدية، وهي طريقته ومنهجه التي تضبط عملية إنتاجه وقراءته ونقده، وفي الوقت نفسه لا نريد ان نغفل شيئاً أساسياً على المستوى الإجرائي، وهذه القوانين ينبغي أن تأخذ شكلاً كلياً، وإطاراً إجمالياً لا تفصيلياً، لأن كل نص شعري يفرض قوانينه الخاصة، وطرقه المميزة في نسج كلماته، وتراكيبه، وصوره، وبناء أخيلته... وهذا الذي نؤكد عليه بل وندعو مصرّين على ان التجديد لا يعني الانحراف، والتطور لا يعني الامساك بعصى اوربية غربية مغلفة دون النظر الى تلك الحيثيات التي مازلنا نذكرها في هذا البحث... والتي من شأنها اعادة الخارجين عن الصف الى الحضن الدافئ، والشجر المثمر الوافر ، وتلك اللآلئ اللامعة من التراث الغني الوفير... وقد يذهب من يوسم مزاعمنا عكس ذلك، الى باب الاتهام الذي لا يستند على أي اساس من الصحة... لأننا لم ولن نتعامل يوما مع الشكل الخارجي للقصيدة الشعرية ممثلاً في مطلعها، وأغراضها، أو بعض صفاتها اللغوية، وإنما دأبنا على ان نجعل جل اهتمامنا ينصب وينشغل بما هو خفي، وما هو كامن في النص، لان أثر ذلك سيظهر واضحا في النفس ولا يظهر هو في ذاته؛ تلك هي الشعرية التي تنتج وحسب ما نرى من عمليتين متعاضدتين في النص الأدبي هما: التخييل، وحسن التأليف وما بينهما من تلاحم؛ إذ إن كلاً منهما لا تتحقق فاعليته في النص الشعري بعيداً عن الآخر، وهذا ما نلاحظه عندما يكون النص الشعري ممتلئا ومثقلا بالألفاظ والنزعة الخطابية، وكذلك الحال عندما يفيض النص النثري بالألفاظ الشعرية، عند ذلك سيفقد كل منهما ميزته عند بوابة الآخر.. بحيث سيصبح ان لا فرق بين عباءتيهما وهذا خلل يؤشر في الحال، وهذا دليل تأكيدنا مرارا على الشعرية في النص... فلا الشعر ينبغي ان يكون نثرا، ولا النثر ينبغي له ذلك، لان كل منهما (ابداع )، ولان كل منهما في فلك مستقل يسبحون.... أي تظل الشعرية هي الوظيفة السائدة في النص الشعري، والإقناع هو الوظيفة السائدة في النص النثري...
( وهذا ما قاله جون كوهين ـ أحد رواد الأسلوبية ـ مؤخراً)
للحديث بقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق