في النقد الادبي – 9 –
عندما باشرنا هذه الدراسة قررنا ان نجعل الانصاف فيما بين الشعر والنثر واحد وان لانميل في تقييمنا الى طرف عنه الى الطرف اخر، وها نحن اليوم ندخل باب النثر ونعني به كل اصناف وفنون النثر القائمة والقديمة وما برع فيها الكتاب او ما خفت نورها بسبب التطور او حصول تلك المستجدات التي طرأت على الادب بشكل عام فكان للنثر وفنونه نصيبا من هذا التغيير.. آخذين بنظر الاعتبار وقدر الامكان ما قال الآخرون من تعاريف فيه....
النثر هو الكلام الفني الجميل، المنثور بأسلوب جيد لا يحكمه النظم الإيقاعي - كما هي حال الشعر - تميزه اللغة المنتقاة والفكرة الجلية، والمنطق السليم المقنع، المؤثر في الملتقي.
من فنون النثر- الرواية القصة بأنواعها والمقالة والخطبة والمسرحية النثرية وفنون النثر الوصفي كالنقد الأدبي وتاريخ الادب والأدب المقارن كما هناك أنواع للنثر الفني (الإبداعي) كالمقامة والسيرة أو الترجمة والرسائل الأدبية والأمثال والوصايا، على الرغم من أن بعض هذه الأنواع لم يعد له صدى يذكر في المدار الأدبي المعاصر، كالمقامة والرسائل الأدبية والأمثال والوصايا.
ولا يقل النثر في فنه عن الشعر وهما عمودا الادب العربي.. ومثلما الابداع في الشعر فهناك المساحة التي لا تقل في احيان كثيرة عن رحبة الشاعر في الابداع... الامثلة كثيرة ومختلفة عن فنون النثر ومن هم الاعلام الذين اجادوا فيه...
واما المفاضلة بين الشعر والنثر فهي وان لم تصنف على انها باب من ابواب النقد الا انها لا تقل شأنا عنه، وهي محايدة لا تميل الى فن عن اخر قبل البدء بالنقد لاحدهما... وقد برز هذا الفن في التراث النقدي الاندلسي، ويعتبر قضية من قضايا النقد العربي القديم، فموضوع المفاضلة بين الشعر والنثر من القضايا التي اولاها النقاد العرب القدامى اهتمامهم وخصوها بكثير من عنايتهم، وقد اشتد الجدل حول هذه القضية بين المفكرين والنقاد العرب في القرن الرابع الهجري، من امثال ابي سليمان المنطقي ( 380 هـ)، وابي اسحق الصابي ( 384 هـ)، وابن هندو الكاتب ( 420 هـ) ، وابي علي مسكويه ( 421 هـ)، وغيرهم ممن تناول ابو حيان التوحيدي (414 هـ) آراءهم ومواقفهم في مقابساته ومسائله ومناقشاته،
فقد روى في كتابه " المقابسات" مقابسة عن ابي سليمان المنطقي ( في النثر والنظم وايهما اشد اثرا في النفس) ونقل في كتابه ( الهوامل والشوامل) اجابة ابي علي مسكويه على سؤال يتعلق بالنظم والنثر ، وعن مرتبة كل واحد منهما، وطبقات الناس فيهما، وانتهى الى ان الاكثرين قدموا النظم على النثر، ولم يحتجوا فيه بظاهر القول، في حين قدم الاقلون النثر وحاول الاحتجاج به.
ونحن اذ نقف على مسافة واحدة بين الشعر والنثر، لابد ان نذكر الآراء الكثيرة التي ناصرت النثر كما ذكرنا للآراء الكثيرة التي ناصرت الشعر على ان التصوير والتعبير والمعنى متواجدة اضافة الى كثير من المشتركات بينهما، لذا نجد النقاد يقفون على نفس المسافة بين الاثنين وهذا ما نأمله من الناقد ولا نريد ان نشترط على من يتناول القصيدة بالنقد ان يجعل او يخيل للمتلقي او للقارئ ان الناقد شاعرا فحلا، وان من يتناول النثر بالنقد يراه المتلقي انه كاتب ذو قلم لا يبارى، لأننا انتهجنا العرض في دراستنا وليس الالزام والفرض، تجد الحاتمي (388 هـ) على سبيل المثال وهو من النقاد المعدودين في القرن الرابع الهجري، يدلي بدلوه في موضوع المفاضلة بين الشعر والنثر، ويميل الى الشعر، اذ يقول فيه" وأولى هذين بالمزية والقدم المتقدمة المنظوم، فانه ابدع مطالع، وانصع مقاطع، واطول عنانا، وافصح لسانا، وانور انجما، وانفذ اسهما، واشرد مثلا، واسير لفظا ومعنى...
وعرض المرزوقي ( 421 هـ) في مقدمته على شرح حماسة ابي تمام لقضية المفاضلة بين الشعر والنثر، فمال الى جانب النثر، وفضله على الشعر، محتجا لذلك بثلاثة اسباب، اولها:
ان الخطابة كانت لدى الجاهليين أهم من الشعر، وكانوا يعدونها اكمل اسباب الرياسة، وافضل آلات الزعامة، وكانوا يأنفون من الاشتهار بقرض الشعر، ويعده ملوكهم دناءة. وثانيها: ان الشعراء حطوا من قيمة الشعر باتخاذهم الشعر مكسبة وتجارة، فمدحوا السوقة، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيم عند الطمع فيه بصفة الكريم، والكريم عند تأخر صلته بصفة اللئيم. وثالثها: ان الاعجاز بالقران لم يقع بالنظم. ولهذه الاسباب كان النثر – عنده – ارفع شأنا من الشعر، ومن ثم تأخرت مرتبة الشعراء عن الكتاب. اما ابن رشيق فقد انتصر للشعر، في باب المفاضلة، وليس تقصي اراء النقاد العرب القدامى ومواقفهم من قضية المفاضلة بين الشعر والنثر من غايتنا هاهنا، لكننا عرضنا لبعض تلك المواقف والآراء بالقدر الذي يفيدنا في توضيح اراء ومواقف النقاد الاندلسيين من هذه القضية، وهو ما سنحاول الابتعاد عنه على اننا لا نميل لاحد منهم في هذه الدراسة وليس بما نؤمن به وندافع عنه، فالمجال هنا لذكر من كان يدافع عن النثر او عن الشعر لا يستوعب او يحتوي على مزيد من الآراء، لاننا نرى ويقينا هناك من يرى كما نرى بان هناك ضرورة لتجنب المفاضلة بين الشعر والنثر على سبيل العموم، فكل منهما فن قولي، له وظيفة وغاية، وتجري عليه معايير القبح والجمال، والابداع والاخفاق، ولكل منهما فضله في مجاله التعبيري عن غائية سامية،
على اننا قد نضر بالكاتب دون الشاعر، هذا اذا كانا منفصلين، لكن اين سيقف الناقد اذا كان الشاعر هو نفسه كاتبا؟ هل سيمجده في الشعر مثلا ويحط منه في الكتابة؟ هذا واحد من الاسباب التي دعتنا ان نؤكد ونحث الاخرين معنا على النظر الى النص والى شكل صنف الادب دون النظر او التعرف او محاولة حتى معرفة من هو المبدع.. وهنا سنجد الناقد اكثر قربا من روح النقد لو تمعن واحسر تركيزه على مقومات النص، وربما اكتشف الناقد الحصيف الثاقب النظر ذو الخبرة ان هذا النص لهذا القلم مثلا، على اننا هنا نتراصف ونقف بقوة مع من يستنكر التعصب لجهة الشعر او لجهة النثر لان لكل منهما وظيفته وغايته، وهذا كما نرى هو روح الادب، باعتباره فنا يعبر شعرا ونثرا عن مجالات الحياة المختلفة.. والناقد الفذ هو من لم يأبه لنجومية الشاعر او الكاتب لان قلم الناقد ارقى كعبا منهما، برغم ان الادب قد ولد قبل النقد، لكن تقدم النقد الى ما وصل اليه الان جعله في باب القضاء او الحاكم الذي يعود اليه كلا المبدعين، على ان ما وصل اليه النقد من مدارس وتطورات في منهجيته جعلته يسير بشكل متميز وغريب في الوصول الى اثبات نفسه وحلوله كنوع من انواع الادب برغم حداثته عن الادب، مكونا بذلك علاقة بين النص والمتلقي والتي اصبحت جوهر العملية النقدية الحديثة والمعاصرة، والتي تُرى في النص الادبي بفنونه وانواعه، وهنا تكون مهمة النقد الادبي واحدة من رؤاه العصرية، وهي البحث في العلاقة بين تنظيم الحس الجمالي الانساني وبين خصائص البناء الادبي واللغة، وباقترابنا من ابواب الخاتمة في دراستنا يتعين ان نقول بان النقد الادبي هو فن الحكم على التجارب الادبية الحديثة والتراث الادبي والاثار الفنية،
وكما هو معروف لدى اهل الشأن أعلى تعبير لغوي وما يبتكره على اللغة من سباقات جديدة تظهر إثارة في النقد الأدبي قبل أي فن من الفنون الأدبية أو أي جنس من الأجناس الأدبية الأخرى، نظراً لأن التمييز بين الشكل والمعنى في اللغة وبين الأثر أو الصورة ، فالتأثير في الأسلوب ظاهرة طبيعية لا شك فيها...
للحديث بقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق