دراسة
الوعي الإنساني في تجربة شعرية
للشاعر محمد الزهراوي أبو نوفل
بقلم الأستاذ العربي بن جلون / 1997
الوعي الإنساني في تجربة شعرية
للشاعر محمد الزهراوي أبو نوفل
بقلم الأستاذ العربي بن جلون / 1997
ينزل المطر الشعري ليحيي الأرض البكر. ليجعل الآلي إنسانا حقيقيا ، ذا شعور إنساني ينبض بالصفاء ، يفنى في الآني والآتي ، في الأنا والآخر ، لأن الشعر في البداية والنهاية ، الوعي الذاتي الوليد للإنسان ، ليس كفرد منكفئ ، على ذاته ، بل كعنصر من العناصر البشرية المشتركة، المنخرطة في عالم حي من الإحساسات الإنسانية .
لقد كثر الشعراء وقل الشعر !.. نادراً ما يشدنا نص شعري إلى
فساحة فضاءاته ، نادرا ما يأسر فينا الرؤية ، المخيلة ، ليخترق الحدود الجغرافية ، ليسافر بنا إلى الأعماق والأغوار المنسية ..
في هذا الزمن الكسيح ، في هذا الكون الفسيح ، نادراً ما نعثر على نص شعري يوقظ الأشياء التالفة يشعل الحرائق في الجاهزي ،
يخلخل الرتابة ، السكونية ، يعري الطحالب يكسر الصمت .. نحن
نرنو إلى هذا اللون الشعري ، الذي ينثال شرارات من الدهاليز
والسراديب المعتمة في نفسية الشاعر !
إذا كان النص الشعري الحقيقي ، كما يحدد أدونيس ، ذا مستويات غنية من الإيماءات والإيحاءات ، فإنني أعي أن مقاربة لتجربة الزهراوي أبي نوفل غير كاملة ، شاملة ، في حاجة ماسة إلى إضاءات تشريحية على محك تلك (الشبكة) !
الملمح الأول في هذه الشبكة ، أن قصائد الشاعر محمد الزهراوي أبي نوفل (موضوعية)
.بالمفهوم (البارتي) ... أي أن اللغة الشعرية تهرس العلاقة اللسانية الطبيعية ...فما من قارئ يحدد دلالاتها بدقة ، أو يرجعها إلى قاموس مفرداتي بعينه ..
هي طليقة تنضد اللفظ الشعري لتنسج موضوعة مطلقة ، لا تسيجها حدود ، فيلفي القارئ
نفسه ، في عالم ثري من الصور والرموز الإشارية ، الإيحائية .
لا يعني هذا الحكم البدئي ، أن هذه اللغة مقطوعة الجذور ، تحدث قطيعة فكرية ، فنية ،
مع التواصل الطبيعي التلقائي ، أو تحفر شرخا عميقاً ، بفصلها عن اللغة الأم ، بل إن هناك حبلا سريا يلحمها بالمرئي واللامرئي ، بالحسي والخفي ، بالكائن والمتخيل .. لغة لها حضورها الزمني ، ماضيا ، حاضرا ، مستقبلا ...
تفصح عن الخارجي ، كما تفصح عن الداخلي ، تنير للشاعر عالمه الجواني ، كم تنير له الواقع البراني !
لعل نص "الكتبية" أنموذج أول ، لذلك التفاعل بين الشاعر والواقع ، على المستوى اللفظي ، الرؤيوي ، التخيلي فالكتبية كمعلمة تاريخية ، تغدو دلالة ترميزية لإرادة الشاعر الفردية
التي هي قبس من الإرادة الجماعية .. دلالة الوجود ، الكينونة ، الديمومة ، تحدي هجانة
الواقع الموبوء :
رغم الحزن ..
تبدو شامخة في
عزها الموحدي
عصية الدمع
تمضغ مرثية الموال
تتوغل في عمق
تعاليها كالبياض
الملمح الثاني أن الشاعر يرسم الغد ، يلونه بذاته الغنائية ، يشحنه بتجربته الحياتية
الطويلة . لكن الماضي ، من جهة ثانية يحضر كتضاريس جلية ، كشاهد تاريخي
حي . لأنه كما يقول هرقليط : "لا تنزل النهر الواحد مرتين ، فالماء الجديد يجري من حولك دائما" في هذا الأفق ، نلحظ أن الزهاوي أبا نوفل يفترش أرضية تارخية مشرئبة إلى الغد : :
غرناطة تقسو
على عنقود شرفتها ،
ليكتمل النبض
لا تسألي عن أصلي
ولا داعي للترجمان
أنا الما ء يا أخت مريم
من أحفاد ذي يزن
جئت أصب في نهاراتك
من الأرق إليك ..
لنسكر في قصيدتنا
ونغوص في غسق الحنبل
في نص "الغريب" يرنو أبو نوفل إلى مدينة فاضلة ، لم تبرز إلى الوجود ، تستقر في ذاكرته كأنها قرطبته الجميلة :
وها أنا في
حضن المسافات
أخوض حزنا ،
نحو أندلس جاءها الغيث
إلى مدينة على
هيأة أنثى فاتنة الروح
أبراجها تغفو في ذاكرتي
اسمها ياسادتي قرطبة
إن الحقول الدلالية التي تؤثثها الرموز التاريخية ( أندلس ، قرطبة ، غرناطة ، طروادة الروم ، الفرس ، البراق ، بلقيس ، سليمان ، بلال ، داوود ، ذو يزن .....)
لا تشكل أبعادا إشارية عادية ، بل بنيات تعبيرية في علاقات مع الواقع ، تحيلنا على شخصياته الفاعلة في حياتنا العربية . الشاعر إذ يستغل هذه الدلالات اللفظية ، فإنه يقرن الحاضر بالرصيد الثقافي الجمعي ، ليرسم الرؤية ، ليكسر قسرية اللحظة ، ليعتصر الأزمنة . .
الملمح الثالث أن هذا الشعر ، يجسد صوت التحول الذاتي ، إحساساً نبيلا بالتفاؤل ، تطلعا إلى آفاق غادية باسمة :
آت يوم قيامتي ..
آت !!
ومهما تطاول الليل ..
مهما تأخر الصبح
سوف أسرج ..
فرس الشهامة
فرس القيامة العربية
،،، وأعود .
و لـ (أم الحجارة) الثكلى، ينبجس نور ينسجه الشاعر :
سهوا أناديك
آناء الليل..
وفوق ما ..
وسعت ضلوعي أحبك
لا تقولي تخليت
آت .. أنا والذين معي
نستأنف ذكري..
غير أن هذا الصوت ، لا يفتأ أن يفصح عن تلك الحفر، الأخاديد العميغة ، العالقة بين تحرقاته ، تشوفاته ، وحبيبته فلسطين ، فتقمص النص الشكل الفعلي لصراعه مع عناصر
الظلامية ، القهر .. لأن الشعر في كل حقبة من حقبه التاريخية ، يجسد ذلك الصراعي القائم بين الإنسان والواقع :
ما أقسى أن يحول
بيني وبينك الثلج ،
وهذه الساعة النحيسة
يبدو من هذا المسح القصير ، أن الشاعر يشيد النص من دلالات لاعقلانية ، غير متماثلة والدلالات الكامنة في الواقع ، مثلا (الثلج) يفقد إمكاناته االمادية ، ليستجيل دلالاة طافحة بالإيحاء ، هذا ما يعنيه (شلير) : الشعر شيء لا يخضع لقوى العقل النشيطة أي أن الشعر يكتنز الرمزية الداخلية ، العاكسة لـ ا(للا وعي) .
القاموس المفرداتي للشاعر الزهراوي أبي نوفل ، يرشح صورا لا عقلانية فلو سبرنا نصوصه الشعرية ، لعثرنا على تقابلات من ثنائيات ضدية ، تنقل هذه الصور الدلالية من (الرؤية) إلى (الرؤيا) ، من الواقع إلى الحلم
أ ـ الماء ، الغيث ، المطر ، الرذاذ ، النهر ، البحر ، النبع ، النبيذ
، الندى ، ، تقابل : القيظ ، الصهد ، الهجير ، النار ، الحريق ، الجوع ، الظمأ ، السعير..
ب ـ الصبح ، الشمس ، النهار ، الظل ، الدفء ، الفجر ، النجم ،الضوء ، القمر ، الصحو ، قوس قزح ، .. تقابل : الجليد ، الثلج ، البرد ، الريح ، الضباب ، الرماد ، العاصفة ، الغبار ، الليل ، ...
ج ـ نورس ، الحب ، فرس الشهامة ، الأتان ، الأيل ، الهدهد ، الحمام ، ، تقابل : الذئاب ، طيور الرعب ، ابن آوى ، التنين ، الثعابين ، غربان النفط ، النسور ...
د ـ الورد ، الزهر ، السوسن ، البنفسج ، الأقحوان ، التفاج ، البرتقال ، الكمثرى ، الرمان ، العنب ، الخوخ ، البلج ، السفرجل .. تقابل : الصنوبر ، العوسج البري ....
هذه البصمات المورفولوجية الملتحمة بالعالم النباتي ، الحيواني في الأرضية العربية ...هذه البصمات الفزيوغرافية المؤثثة للفضاء العربي ، ينتقيها الشاعر من حقلها (الرؤيوي) ليحيلها إلى الرؤيا ، إلى الحقل الذهني ـ التخيلي ..لا يسبكها في مفهومها المعجمي ، بل في علاقتها الصميمية بين مدلول اول (حسي) ومدلول ثان (مجرد) . هي سمة ملازمة لشعر م . الزهراوي أبي نوفل ، لأنه كسائر الشعراء ، يهفو إلى ترسيخ حالات ، فضاءات كامنة
في ذاتيته ، نفسيته ، الحياة ـ كمثال ـ غير قائمة لولا الماء .. هذه الحقيقة بديهية ، لكن الماء في النص الشعري ، يصير بطلا من سلالة ذي يزن ، ينبجس من الماضي ، ليقلص المسافات الزمنية ، بين الذوات ، الأنوات المحيطة : :
أنا الماء يا أخت مريم
من أحفاد ذي يزن ..
جئت أصب في نهاراتك
من الأرق إليك ..
هذه فيروز تناشد الماء أن يحيي في الإنسان المهزوم طموحاته ليقهر الموت ، الخراب ، الانكسار :
عاشقة صاغها
الضوء من عسل
أتت من عاصفة ..
توقف المبحرين
في الفاجعة ..
تنهيدة سريالية شق
الأمر عليها ..
تهيب بالنهر أن يتجمع
لنخرج قسرأ من
قافلة الموت ..نتجمع
ظلا في هذا الصهد
في هذا الأفق الرؤيوي ، نلفي الأزمنة في حركية الإبداع ، متفاعلة ، متلاحمة ، يرفد كل منها الآخر ، الماقبل أو المابعد ، والشخصية المبدعة ، كالشاعر مثلا ، ذات منظور شمولي ، تستحضر الأزمنة كلها في نتاجاتها ، تمزجها لتنتج صورا . ألم يقل (إليوت) :
الزمن الحاضر والزمن الماضي ..
حاضران كلاهما ، ربما في الزمن الآتي..
والزمن الآتي يحتويه الزمن الماضي..
ألزمن كله حاضر أبدا ..!
نخلص من هذه المقاربة إلى ملمحين آخرين :
ـ تشكل شفافية الصور العمود الفقري لغالبية النصوص الشعرية ، يل الخلايا التي تثري أنسقتها الفنية ، أنسجتها الفكرية . في الشعر ، تغدو هذه الصور تشكيلا لدلالات حياتية ، ليس على المستوي التخيلي فقط ، إنما على المستوى القاموسي كذلك . لأن اللغة بتوظيفها هذه الصور ، تفقد بعدها المعجمي ، للإمساك بالدلالات الخفية الماسة للمرئيات ، الملونة لذاتية ، نفسية الشاعر ، حالة الواقع . هذا يحفز بنا إلى أن نقر دون أدنى تحفظ ، أن قصائد
الزهراوي أبي نوفل ، ذات ثنائية مركزية : الذاتية ـ الغيرية .
في (الغريب) يرحل الشاعر ـ الرمز للأنا ، للأنت ، للنحن ـ ..عن المرارة ـ الأرض .. لم يتحمل الحصار، أو يستكين لإغراءاتها فرحل نحو الأبعد ، عبر مفازاته النفسية ، وإن كان الرحيل ، في النص ، ماديا بحتا :
ها أنا أبتعد ..
والمنازل مثل الظل تمحى
وسروة الدار عن عيني تغيب
تقول زرنا ثانية أيها الفتى
من أجل شهادة الميلاد
أو رؤية أحباب ..
ما ودّعوك أيها الولد
وأرخيت عنان جوادي
مبتعدا..
أ قطع مفازة امرأة ،،
تنفث القيظ ..
وعواء ذئاب .
تفضي بنا هذه النقطة إلى الإحساس الإنساني للشاعر ، يقول إيلوار : على الشاعر أن يفتح طريقا فسيحا لتمجيد الإنسان .شعر الزهراوي أبي نوفل إنساني ينغمس في الهم العربي أولا ، ثم الهم الإنساني ثانيا ، لا يشهد العالم حدثا جسيما دون أن يقول فيه الشاعر م . الزهراوي أبو نوفل شعرا .. فهذه (بيروت) القادمة من خراب الرماد ، (سليمان خاطر) الذي أطلق عله النار ابن آوى ... (بلال) الطفل الفلسطيني الحالم بنجمة الصبح ... الحالم بنجمة الصبح .. الشهيدان حسين مروة ، خليل الوزير(أبو جهاد) ..ناجي العلي ، سلفادور دالي ، لوكا ، شارنوفيل ، أمل دنقل ....
لقد كثر الشعراء وقل الشعر !.. نادراً ما يشدنا نص شعري إلى
فساحة فضاءاته ، نادرا ما يأسر فينا الرؤية ، المخيلة ، ليخترق الحدود الجغرافية ، ليسافر بنا إلى الأعماق والأغوار المنسية ..
في هذا الزمن الكسيح ، في هذا الكون الفسيح ، نادراً ما نعثر على نص شعري يوقظ الأشياء التالفة يشعل الحرائق في الجاهزي ،
يخلخل الرتابة ، السكونية ، يعري الطحالب يكسر الصمت .. نحن
نرنو إلى هذا اللون الشعري ، الذي ينثال شرارات من الدهاليز
والسراديب المعتمة في نفسية الشاعر !
إذا كان النص الشعري الحقيقي ، كما يحدد أدونيس ، ذا مستويات غنية من الإيماءات والإيحاءات ، فإنني أعي أن مقاربة لتجربة الزهراوي أبي نوفل غير كاملة ، شاملة ، في حاجة ماسة إلى إضاءات تشريحية على محك تلك (الشبكة) !
الملمح الأول في هذه الشبكة ، أن قصائد الشاعر محمد الزهراوي أبي نوفل (موضوعية)
.بالمفهوم (البارتي) ... أي أن اللغة الشعرية تهرس العلاقة اللسانية الطبيعية ...فما من قارئ يحدد دلالاتها بدقة ، أو يرجعها إلى قاموس مفرداتي بعينه ..
هي طليقة تنضد اللفظ الشعري لتنسج موضوعة مطلقة ، لا تسيجها حدود ، فيلفي القارئ
نفسه ، في عالم ثري من الصور والرموز الإشارية ، الإيحائية .
لا يعني هذا الحكم البدئي ، أن هذه اللغة مقطوعة الجذور ، تحدث قطيعة فكرية ، فنية ،
مع التواصل الطبيعي التلقائي ، أو تحفر شرخا عميقاً ، بفصلها عن اللغة الأم ، بل إن هناك حبلا سريا يلحمها بالمرئي واللامرئي ، بالحسي والخفي ، بالكائن والمتخيل .. لغة لها حضورها الزمني ، ماضيا ، حاضرا ، مستقبلا ...
تفصح عن الخارجي ، كما تفصح عن الداخلي ، تنير للشاعر عالمه الجواني ، كم تنير له الواقع البراني !
لعل نص "الكتبية" أنموذج أول ، لذلك التفاعل بين الشاعر والواقع ، على المستوى اللفظي ، الرؤيوي ، التخيلي فالكتبية كمعلمة تاريخية ، تغدو دلالة ترميزية لإرادة الشاعر الفردية
التي هي قبس من الإرادة الجماعية .. دلالة الوجود ، الكينونة ، الديمومة ، تحدي هجانة
الواقع الموبوء :
رغم الحزن ..
تبدو شامخة في
عزها الموحدي
عصية الدمع
تمضغ مرثية الموال
تتوغل في عمق
تعاليها كالبياض
الملمح الثاني أن الشاعر يرسم الغد ، يلونه بذاته الغنائية ، يشحنه بتجربته الحياتية
الطويلة . لكن الماضي ، من جهة ثانية يحضر كتضاريس جلية ، كشاهد تاريخي
حي . لأنه كما يقول هرقليط : "لا تنزل النهر الواحد مرتين ، فالماء الجديد يجري من حولك دائما" في هذا الأفق ، نلحظ أن الزهاوي أبا نوفل يفترش أرضية تارخية مشرئبة إلى الغد : :
غرناطة تقسو
على عنقود شرفتها ،
ليكتمل النبض
لا تسألي عن أصلي
ولا داعي للترجمان
أنا الما ء يا أخت مريم
من أحفاد ذي يزن
جئت أصب في نهاراتك
من الأرق إليك ..
لنسكر في قصيدتنا
ونغوص في غسق الحنبل
في نص "الغريب" يرنو أبو نوفل إلى مدينة فاضلة ، لم تبرز إلى الوجود ، تستقر في ذاكرته كأنها قرطبته الجميلة :
وها أنا في
حضن المسافات
أخوض حزنا ،
نحو أندلس جاءها الغيث
إلى مدينة على
هيأة أنثى فاتنة الروح
أبراجها تغفو في ذاكرتي
اسمها ياسادتي قرطبة
إن الحقول الدلالية التي تؤثثها الرموز التاريخية ( أندلس ، قرطبة ، غرناطة ، طروادة الروم ، الفرس ، البراق ، بلقيس ، سليمان ، بلال ، داوود ، ذو يزن .....)
لا تشكل أبعادا إشارية عادية ، بل بنيات تعبيرية في علاقات مع الواقع ، تحيلنا على شخصياته الفاعلة في حياتنا العربية . الشاعر إذ يستغل هذه الدلالات اللفظية ، فإنه يقرن الحاضر بالرصيد الثقافي الجمعي ، ليرسم الرؤية ، ليكسر قسرية اللحظة ، ليعتصر الأزمنة . .
الملمح الثالث أن هذا الشعر ، يجسد صوت التحول الذاتي ، إحساساً نبيلا بالتفاؤل ، تطلعا إلى آفاق غادية باسمة :
آت يوم قيامتي ..
آت !!
ومهما تطاول الليل ..
مهما تأخر الصبح
سوف أسرج ..
فرس الشهامة
فرس القيامة العربية
،،، وأعود .
و لـ (أم الحجارة) الثكلى، ينبجس نور ينسجه الشاعر :
سهوا أناديك
آناء الليل..
وفوق ما ..
وسعت ضلوعي أحبك
لا تقولي تخليت
آت .. أنا والذين معي
نستأنف ذكري..
غير أن هذا الصوت ، لا يفتأ أن يفصح عن تلك الحفر، الأخاديد العميغة ، العالقة بين تحرقاته ، تشوفاته ، وحبيبته فلسطين ، فتقمص النص الشكل الفعلي لصراعه مع عناصر
الظلامية ، القهر .. لأن الشعر في كل حقبة من حقبه التاريخية ، يجسد ذلك الصراعي القائم بين الإنسان والواقع :
ما أقسى أن يحول
بيني وبينك الثلج ،
وهذه الساعة النحيسة
يبدو من هذا المسح القصير ، أن الشاعر يشيد النص من دلالات لاعقلانية ، غير متماثلة والدلالات الكامنة في الواقع ، مثلا (الثلج) يفقد إمكاناته االمادية ، ليستجيل دلالاة طافحة بالإيحاء ، هذا ما يعنيه (شلير) : الشعر شيء لا يخضع لقوى العقل النشيطة أي أن الشعر يكتنز الرمزية الداخلية ، العاكسة لـ ا(للا وعي) .
القاموس المفرداتي للشاعر الزهراوي أبي نوفل ، يرشح صورا لا عقلانية فلو سبرنا نصوصه الشعرية ، لعثرنا على تقابلات من ثنائيات ضدية ، تنقل هذه الصور الدلالية من (الرؤية) إلى (الرؤيا) ، من الواقع إلى الحلم
أ ـ الماء ، الغيث ، المطر ، الرذاذ ، النهر ، البحر ، النبع ، النبيذ
، الندى ، ، تقابل : القيظ ، الصهد ، الهجير ، النار ، الحريق ، الجوع ، الظمأ ، السعير..
ب ـ الصبح ، الشمس ، النهار ، الظل ، الدفء ، الفجر ، النجم ،الضوء ، القمر ، الصحو ، قوس قزح ، .. تقابل : الجليد ، الثلج ، البرد ، الريح ، الضباب ، الرماد ، العاصفة ، الغبار ، الليل ، ...
ج ـ نورس ، الحب ، فرس الشهامة ، الأتان ، الأيل ، الهدهد ، الحمام ، ، تقابل : الذئاب ، طيور الرعب ، ابن آوى ، التنين ، الثعابين ، غربان النفط ، النسور ...
د ـ الورد ، الزهر ، السوسن ، البنفسج ، الأقحوان ، التفاج ، البرتقال ، الكمثرى ، الرمان ، العنب ، الخوخ ، البلج ، السفرجل .. تقابل : الصنوبر ، العوسج البري ....
هذه البصمات المورفولوجية الملتحمة بالعالم النباتي ، الحيواني في الأرضية العربية ...هذه البصمات الفزيوغرافية المؤثثة للفضاء العربي ، ينتقيها الشاعر من حقلها (الرؤيوي) ليحيلها إلى الرؤيا ، إلى الحقل الذهني ـ التخيلي ..لا يسبكها في مفهومها المعجمي ، بل في علاقتها الصميمية بين مدلول اول (حسي) ومدلول ثان (مجرد) . هي سمة ملازمة لشعر م . الزهراوي أبي نوفل ، لأنه كسائر الشعراء ، يهفو إلى ترسيخ حالات ، فضاءات كامنة
في ذاتيته ، نفسيته ، الحياة ـ كمثال ـ غير قائمة لولا الماء .. هذه الحقيقة بديهية ، لكن الماء في النص الشعري ، يصير بطلا من سلالة ذي يزن ، ينبجس من الماضي ، ليقلص المسافات الزمنية ، بين الذوات ، الأنوات المحيطة : :
أنا الماء يا أخت مريم
من أحفاد ذي يزن ..
جئت أصب في نهاراتك
من الأرق إليك ..
هذه فيروز تناشد الماء أن يحيي في الإنسان المهزوم طموحاته ليقهر الموت ، الخراب ، الانكسار :
عاشقة صاغها
الضوء من عسل
أتت من عاصفة ..
توقف المبحرين
في الفاجعة ..
تنهيدة سريالية شق
الأمر عليها ..
تهيب بالنهر أن يتجمع
لنخرج قسرأ من
قافلة الموت ..نتجمع
ظلا في هذا الصهد
في هذا الأفق الرؤيوي ، نلفي الأزمنة في حركية الإبداع ، متفاعلة ، متلاحمة ، يرفد كل منها الآخر ، الماقبل أو المابعد ، والشخصية المبدعة ، كالشاعر مثلا ، ذات منظور شمولي ، تستحضر الأزمنة كلها في نتاجاتها ، تمزجها لتنتج صورا . ألم يقل (إليوت) :
الزمن الحاضر والزمن الماضي ..
حاضران كلاهما ، ربما في الزمن الآتي..
والزمن الآتي يحتويه الزمن الماضي..
ألزمن كله حاضر أبدا ..!
نخلص من هذه المقاربة إلى ملمحين آخرين :
ـ تشكل شفافية الصور العمود الفقري لغالبية النصوص الشعرية ، يل الخلايا التي تثري أنسقتها الفنية ، أنسجتها الفكرية . في الشعر ، تغدو هذه الصور تشكيلا لدلالات حياتية ، ليس على المستوي التخيلي فقط ، إنما على المستوى القاموسي كذلك . لأن اللغة بتوظيفها هذه الصور ، تفقد بعدها المعجمي ، للإمساك بالدلالات الخفية الماسة للمرئيات ، الملونة لذاتية ، نفسية الشاعر ، حالة الواقع . هذا يحفز بنا إلى أن نقر دون أدنى تحفظ ، أن قصائد
الزهراوي أبي نوفل ، ذات ثنائية مركزية : الذاتية ـ الغيرية .
في (الغريب) يرحل الشاعر ـ الرمز للأنا ، للأنت ، للنحن ـ ..عن المرارة ـ الأرض .. لم يتحمل الحصار، أو يستكين لإغراءاتها فرحل نحو الأبعد ، عبر مفازاته النفسية ، وإن كان الرحيل ، في النص ، ماديا بحتا :
ها أنا أبتعد ..
والمنازل مثل الظل تمحى
وسروة الدار عن عيني تغيب
تقول زرنا ثانية أيها الفتى
من أجل شهادة الميلاد
أو رؤية أحباب ..
ما ودّعوك أيها الولد
وأرخيت عنان جوادي
مبتعدا..
أ قطع مفازة امرأة ،،
تنفث القيظ ..
وعواء ذئاب .
تفضي بنا هذه النقطة إلى الإحساس الإنساني للشاعر ، يقول إيلوار : على الشاعر أن يفتح طريقا فسيحا لتمجيد الإنسان .شعر الزهراوي أبي نوفل إنساني ينغمس في الهم العربي أولا ، ثم الهم الإنساني ثانيا ، لا يشهد العالم حدثا جسيما دون أن يقول فيه الشاعر م . الزهراوي أبو نوفل شعرا .. فهذه (بيروت) القادمة من خراب الرماد ، (سليمان خاطر) الذي أطلق عله النار ابن آوى ... (بلال) الطفل الفلسطيني الحالم بنجمة الصبح ... الحالم بنجمة الصبح .. الشهيدان حسين مروة ، خليل الوزير(أبو جهاد) ..ناجي العلي ، سلفادور دالي ، لوكا ، شارنوفيل ، أمل دنقل ....
المصدر : تضاريس الكتابة
قراءة في الأدب المعربي
العربي بن جلون / 1997
قراءة في الأدب المعربي
العربي بن جلون / 1997
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق