الأحد، 27 نوفمبر 2016

علي البدر
عرض تحليلي نقدي لقصة "وجوه راقصة" للقاص حميد عمران الشريفي

-------------------------------------------------------
      
         وهكذا ".... وجد نفسه في وسط الشارع معرقلاً حركة السير وحوله الصبية الاخرون، يحاولون اخراجه من الشارع الذي دخل اليه راقصاً وهو يغط في نوم عميق." وهنا يصف الكاتب صبياً متعباً ألزمته الظروف ان يقف وسط الشارع لبيع الماء والمناديل الورقية بالتناوب مع أخيه الأصغر واشراف أبيه المعوق والذي يسير  بمساعدة عكازتين ، يأتي اليهم اخر النهار. طفولة سحقتها الحياة وامتصها القهر الطبقي فأصبح الشارع هو المصدر لحياة فوضوية مهانة. ولابد للضغط النفسي المولد لتوترات ضاغطة على هذا الطفل المسحوق، من ايجاد منفذ ولو للحظات يخلصه من هذه المعاناة، فقد " أتعبه الوقوف والصياح والتوسل بطَرق زجاج السيارات وضوضاء الشارع التي لا تنتهي." وكان الحلم.. أجل تلك اللحظات التي جعلته متنقلاً بين الشوارع، بيده علبة مناديل يبحث عن من يشتريها، "وكلما اقترب من احدى المركبات تختفي" فأصبح في حيرة من أمره.. وقد " دهش من هذا الطالع فقرر التراجع الى الرصيف.. يالها من كارثة. وحده بقي في الشارع ...وثمة صمت يحيط المكان. أحس بالخوف والغربة، جذبته الأضواء الملونة لألعاب المتنزه الذي صار أمامه وايقاعات حركتها.." وجد نفسه راكباً دولاب الهواء فحلق عالياً وهو يرمي مناديله الورقية بنشوة وسرور لتتحول الى  زهور مختلفة الأنواع، ترقص في الفضاء، وحولها تطير البلابل والعصافير وطيور أخرى لا يعرف اسماءها." وبلغت نشوته الذروة عندما وجد نفسه محاطاً بفتيان ،  وفتيات بعمره  يرقصون" حيث اختلط حلمه بواقعه وبدا وسط الشارع يقوم بحركات غريبة متناغمة مع ضجيج السيارات وصفارة شرطي المرور، فارتسم "الغضب على وجه أخيه الصغير ألذي أمسك به محاولا اخراجه من عالمه نحو الرصيف. 
       طفل بلا انتماء.. أجل غريب وسط مجتمعه، وكيف يشعر بالألفة وسط نظرة مجتمع دونية اليه؟ "يتعبه الوقوف والصياح والتوسل بطرق زجاج السيارات". انه عمل يومي  شاق تصهر فيه شخصيته وتتاكل ويشعر انه لاشيء في هذه الحياة.. بلا ارادة أو رغبة أو أمل. وقد نجح القاص حميد عمران الشريفي في الدخول وبذكاء، بعمق أحلامه عندما اختلطت تلك الطيور الجميلة المغردة "بطيور أخرى لا يعرف أسماءها.." انها المجهول ضمن حلم "أخذته به نشوة السرور.." فها هو يرمي مناديله الورقية التي تطعم عائلته خبزاً وتسد رمقها، قطعة قطعة، ليست تبرماً بل ليطيل حلمه وينتشي بخلجات وكركرات فقدها في واقعه. كركرات امتزجت مع ابتسامة ذلك الشرطي الذي يطعمه ويمنحه حنانا أبوياً يفتقده. أيها الدولاب أسرع فها أنا أراه يطعمني، ومعلمي " الذي يمر بسيارته ويشتري علبة مناديل أو علبتين.." وهكذا اقترنت النشوة المتأتية من سرعة الدوران بوجوه يحبها " ، ليبدو بعدها، عند تباطؤه، وجه أبيه قادماً اليه بعكازتين " ، يمر عليهم اخر النهار ليأخذهم الى البيت. وليست غريباً اقتران الألم والمعاناة بوجوه ساهمت في ايجادنا للحياة.. أجل أب يزرعهم وسط شوارع الضياع والغربة أول النهار. انها لمأساة أن نعيش مع الحلم ليعوضنا عن واقع مر لا يطاق. فها هو يستمر بنشوته راقصا مع " فتيان وفتيات بعمره... تنطلق حركات أجسادهم على ايقاعات مألوفة حيناً، وحيناً جديدة يسمعها لأول مرة.." حلم امتد لأعماقه وامتزج مع واقعه فبدا وسط الشارع يقوم بحركات تناغمت مع أصوات حركة المركبات وصفارة شرطي المرور وسط زحام صاخب، وبدا وكأنه يسبح وسط حركة دولاب هوائي لكنه رماه هذه المرة في واقع مؤلم، ولم يعد يسمع تغريدات الطيور التي تالف معها وانما صراخ أخيه محاولاً ايقاضه ودفعه بعيداً، حيث أفاق وتلمس علبة مناديله فوجدها كاملة، لكن وجه أبيه ظل شاخصاً أمامه...
      وقد تبدو القصة بأنها كتبت بأسلوب انسيابي بسيط، حيث كان ضمير الغاب مهيمنا عليها ، لكن التحليل المتأني لها يبين عمق نباهة الكاتب لعكس القهر الأجتماعي والتمايز الطبقي الذي يسحق جزءاً كبيراً من جيل تعتبره الأمم المتحضرة هو الجيل الواعد لها، وكان الحلم ضرورياً ليست لهذا الطفل، وانما لنا جميعا. وأجدني هنا ماراً على تلك النظرية التي تقول بأن الحلم وسيلة وبلغة علم النفس، حيلة لا شعورية، لتصريف طاقة كبتتrepressed  في اللاوعى unconsciousness وحاول الضمير اللاارادي ابعادها لتعارضها مع المحيط أو استحالة تحقيقها. ولنتصور شريحة واسعة لم يبق لها سوى الحلم، وهي جيل المستقبل الذي يعيش حياة عبثية كما الحال مع هذا الطفل. انها لمأساة لكنني وجدت الكاتب المبدع القاص حميد عمران الشريفي قد وجه صعقة انسانية عساها تحرك من نام ضميره وعاد بلا ضمير، همه امتصاص  جهد ودماء الفقراء في وطن نحفر من أجل الماء فيتدفق النفط.. وهذه مأساة بحاجة لقصة أخرى...
        وأخيراً.. لابأس من أشارة قد تبدو في رأيي المتواضع مهمة وهي عدم ضرورة الصيغة المباشرة لأظهار الحلم لأنه قد يضعف النص وأشارة واحدة قد تكفي كومضة مضيئة flash point للمتلقي ولا يفترض الأسهاب والكشف المجاني للمعلومة خاصة في بداية القصة، لعدم اضعاف روح الأثارة في النص فقد "استلقى الصبي على مصطبة قريبة من كابينة شرطي المرور التي وضعت للسيطرة على حركة سير المركبات في الشوارع المتقاطعة ... أخذته مع ارتخاء جسده سنة نوم رافعة روحه الى عالم الأنطلاق بلا حدود". ان مجرد ألأستلقاء يكفي أو الأرتخاء أو حتى الجلوس ، ومن الممكن حذف عبارة "سنة النوم" ، كما وان تحول المناديل الورقية الى " زهور مختلفة الأنواع ترقص في الفضاء" وحولها تطير البلابل والعصافير وطيور أخرى ..." يوضح الحلم تماماً، اضافة الى خاتمة القصة  " ٍوهو في نوم عميق" . وقد يكون ممكناً أعطاء مبرر لهذا التبسيط هو رغبة القاص في التركيز على ثيمة القصة the main theme وعدم تشتيت ذهن المتلقي.. ولكن وفي كل الأمور لابد للقاريء أن يتعب نفسه قليلاً ليشعر لاحقاً بنشوة القراءة حيث ينمو الذوق الأدبي لديه فنضمن تطور الأثنين، ألكاتب والقاريء معاً. وقد لاحظت هنا أن الكاتب أجبرنا بأن نعيد بعض مقاطع القصة عدة مرات، مما زاد من متعتنا وافتخارنا بأن بيننا كاتب مبدع تحكم بانفعالاتنا، من خلال سرد متوازن وعمق في المعنى وحلاوة في الأسلوب .
القاص حميد عمران الشريفي.. أهنؤك على ما كتبت واسمح لي أن أشكرك، فقد قضيت وقتاً ممتعاً مع قصتك. تحياتي...
علي البدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق