الخميس، 24 نوفمبر 2016

الناقد العراقي علي البدر
:::::::
عرض تحليلي نقدي لقصة "لقاء بين فوهات البنادق"
للقاص مجيد الزبيدي
1) العرض التحليلي النقدي
يدفع الأنسان أحياناً رغم ارادته لحرب ضروس كان من الممكن تلافيها، ويبدو هذا مستحيلاً عندما تتحول أواصر الجيرة الى عداء شخصي بين حاكمين وكأن رقاب الشعب رخيصة لا قيمة لها في عالم التجارة بالوطنية والصمود. وكذا الحال في العلاقة بين الحاكم والشعب الذي يعتبره ملكاً موروثاً له ولعائلته.. ويحاول هنا الأديب القاص "مجيد الزبيدي" تصوير حقبة زمنية صعبة من تأريخ الشعب العراقي الذي ألف النكبات على ما يبدو، من خلال ثيمة theme انسيابية وكأنها بانوراما تنقلنا لماض قاس بات الناس فيه في قتال مع ألأخوة تارة أو مع قوى عالمية متعددة. وكجندي نقل لمقاتلة أخوته في الدين والوطن، ما عليه الا الخضوع للأوامر رغم المخاطر لذلك نراه يفضل اداء المهمة وحده وهي ربط سلك مقطوع يعيق الاتصال بين وحدتين عسكريتين. "لا.. لا.. دعني أتحمل الأمر وحدي، على الأقل ستكون الخسارة بي فقط." ويلفه القلق فقد يتيه ويبقى هائماً وسط الجبال بين لدغة أفعى أو هجمة حيوان بري" لذلك كان السلك الذي يتتبعه بوصلته الوحيدة، أوصلته لمكان الفصيل حيث وجد القطع على مسافة قريبة منه. وتكون معاناة رجوعه لمقر وحدته شديدة أيضا وسط ظلام دامس ومكان موحش مليء بالمفاجات وعندها شعر بأنه قريب من السماء ومن الخالق الذي يحيطه ويعطيه الأمان"أللهم أعدني سالماً لأجل أطفالي الستة وزوجي المسكينة.." وتبقى الأفعى هاجسه المرعب.." أللهم نجني من لدغة أفعى في هذا المكان الموحش.." وهنا تأتي المفاجأة، حيث استجابة الله سبحانه لدعائه. وهنا يربط الكاتب وبذكاء عبرتين رائعتين، الأولى الأعتماد على الله سبحانه فهو قريب منا والثانية ان العرب مع الأكراد أخوة تعمقها الأيام ولن تلغيها أجندات تجار الدم. لنتصور أننا أمام تيه وموت شبه محقق ويأتي صوت من وسط الظلام: يا أخي يا أخي.. توقف وارم سلاحك.."كاكا... قف... ارم سلاحك" وتكون المفاجأة، عندما يزيل لثامه ويعانقه وسط ظلمة الليل ولدغات العقارب فيتحاوران ويتذكران أيام دراستهما معاً في المتوسطة. يعطيه سلاحه ويبلغ أقرانه بأبعاد فوهات بنادقهم وبأنه سيوصله سالماً لمقر وحدته.."كاكا..لقد ساقوكم الى هنا على الرغم من تقدم أعماركم..كاكا لا تخف أنا صديقك محمود علي.وكان الاستغراب عميقاً حيث "عقدت الدهشة ألسن الجميع عندما ذكرت لهم ما وقع لي، ومصادفة لقائي بصديق عزيز كان المنقذ لي من الأسر على الأقل". لكن القدر كان أقوى عندما قتل "محمود عام 1991وهو يتصدى للجيش الزاحف لاسترداد السليمانية ...بعد انكسار الجيش العراقي خلال أحداث غزو الكويت." 
وهكذا تعكس أحداث القصة أدباً ملتزماً بعيداً عن روح التعصب وشاداً لأواصر الشعب بكافة قومياته المتاخية. وكان "السلك" محورا سيميائياً  symbolدارت التفاصيل حوله.  فكان استدراجنا لعمق الثيمة ناجحاً خلال بعد مكاني يسلب الأمان كون القادم غريباً عنه وقد سيق عنوة رغم ارادته. ومنذ اللحظة الأولى التي بدأ بطلنا بمهمة ايجاد القطع الحاصل في السلك، كان خوفه "أن لا يكون فريسة حيوان أو للدغة حية سامة." وكان بأمكانه أن يكمل "أو قتل الأكراد لي.."، لكنه وبذكاء ومسؤولية ترفع عن ذلك لأنه في الحقيقة لم يؤمن أبداً على ما يبدو بأنه سيوجه سلاحه لأحد أبناء شعبه رغم السلبيات وعدم الأتزان في بعض المواقف من الطرفين.
لقد كان السرد انسياباً ابتعد عن التعقيد وبالحقيقة حاول الكاتب التأكيد على الحدث والأبتعاد عن الحبكة القصصية plot فبدت القصة مقتربة نوعاً ما من الحكاية في بعض تفاصيلها " بعد إنتهاء حرب عام 2003 ،وحصول الهدوء في إقليم كردستان ، تذكرت صديقي (كاكا محمود علي) .قصدت مدينة السليمانية ،كنت في شوق عارم للسؤال عنه، ومتوقعا أنه الآن يتبوّأُ منصبا رفيعا يؤهله لذلك نضاله المسلّح لسنوات طويلة ،والشهادة الجامعية التي يحملها. سؤالي أوصلني لعائلته التي وجدتها تسكن في حي فقير......." 
      ولو سمح لي القاص المبدع بأكمالها هكذا: " ودارت السنون و هاجس في أعماقي أن أبحث عنه، ويا لمصيبتي عندما وجدت عائلته في حي فقير في السليمانية. أما محمود.. أجل كاكا محمود فقد قتل في مواجهة مع الجيش الزاحف لاسترجاع المدينة بعد أعوام من هزيمة الجيش العراقي في حرب الكويت ."

 2) القصة:

- لا ، لن أسمحَ لكَ بالذهاب ؛ الوقت متأخر والمنطقة خطرة جدا وهي تعجُّ بالمسلحين .
رفض آمر السرية السماحَ لي بتسلّقِ المرتفعِ العالي الذي يقع في أعلاه (الفصيل الأول ) للعثور على مكان السلك المقطوع بيننا ،وربطه من جديد ليتسنى لي مواصلة الإتصال بهم مثل بقية الفصائل الأخرى كل نصف ساعة كما هو المعتاد ليلا،وإيصال موقف السّرية كاملاً لمقر الفوج في منطقة (بازيان ) ،الذي يبعدعنا بمسافة ستة عشر كيلومترا .
- لا...لا ... لاأسمح لك بالذهاب لأنك ببساطة ستكون صيدا سهلا للعدو .
- سيدي ، لكن كيف سأوصل الموقفَ إلى مقر الفوج، وأنا لست متيقِّنا من أن الأمر لديهم على ما يرام؟ .سأتوكل على الله وأذهب ،الأقدار بيد الله.
صمَتَ الآمر للحظات ، ثم قال بحسرة:
- إذا كنتَ مصرّا ؛ فخذْ معك أحدَ المقاتلين ليرافقك .
- لا.. لا.. دعني أتحمّل الأمرَ وحدي ،على الأقل ستكون الخسارة بي فقط....
كان المساء قد هبط في تلك المنطقة الجبلية .وقف جميع رفاقي ، وكأن على رؤوسهم الطير وهم ينظرون إلى واحد منهم قد لا يرونه مرّةً أخرى. حملت بندقيتي وعلى صدري جعبة الذخيرة ،وأنا أنظر إتجاه مكان الفصيل في المرتفع الذي أمامي . كانت دموع رفاقي الجنود قد انبجست من مآقيهم وهم يودّعونني وأدعيتهم لي بالعودة سالما تدفعني بإصرار للذهاب والمجازفة .
أمسكتُ السلكَ وبدأتُ الحركة معه صاعدا الصخور والأجحار الكبيرة ، والمسالك الضيقة . .كان السلك هو دليلي الوحيد لتتبع الإتجاه الصحيح لمكان الفصيل لأن الرؤية لدي تكاد تنعدم تماما في هذا المكان الموحش. كل ما كنت أرجوه في تلك اللحظات الرهيبة أن لا أكون فريسة حيوان ، او للدغة حية سامة ، وما عدا ذلك لم يخطر ببالي شئ أخشاه.كنت بين فينة وأخرى أتحسس نظارتي الطبية هل ما زالت فوق عينيّ حينما أتعثّر وأسقط ولمرات عديدة .
لا أدري كم من الوقت قد مضى ، ولا مقدار المسافة التي بقيت لأصل مكان الفصيل. السلك ما زال بيدي لم أعثرعلى مكان قطعه حتى الآن . لم أدَعْه يفلت من يدي أبدا مهما تعثّرت ،او سقطت لأنني من دونه سأكون في التّيه ،لا أعرف الإتجاه الصحيح للصعود ،او للرجوع . لقد اختارني آمر السرية لأكون مسؤولا عن البدالة السلكية عوضا عن المهام الأخرى من حراسة ،ودوريات قتالية ، لسببين :الأول كوني أحد أصدقائه المقربين أيام الدراسة الثانوية ، والثانية لكوني أضع نظارات ثقيلة فوق عينيّ . كل شئ في البدالة كان على ما يرام بالنسبة لي، كنت أجد فيها فسحةً من الوقت لأقرأ ما يتيسر لي من الكتب ،والمجلات التي أحضرها معي عند عودتي من الإجازات الدورية . لكن في بعض المرات يتسبب قطع السلك بإزعاجات، وبعض المشاق لي في بحثي عن مكان القطع ، رغم أنه كان يحدث نهارا أمّا بسبب التفافه بساق إحدى البقرات الراعيات لوحدهن في هذا المكان من الجبل ، أو أن يعمدَ أحدهم من سكنة المنطقة من المتعاطفين مع حركة العصيان بقطعه للإيذاء ليس إلاّ. لقد تم سوقي مع الكثيرين من مواليدي الذين هم أصلا خارج سن المكلفية ، والإحتياط ، لحاجة الجيش لأعداد جديدة من قدامى الإحتياط وحتى من غيرهم ، في مواصلة الحرب مع إيران . لم يكن من الوارد أبدا الإمتناع او العصيان لأن العواقب ستكون وخيمة ،و قائمة الإتهامات طويلة ، وأبسطها الجبن وبالتالي السوق رغما إلى ساحات التدريب ، ومن بعدها الى المكان المخصص للوحدات المحتاجة ، في الشمال ،او في الجبهة أمام العدو . . لم يكن لدي أي استعداد للحياة العسكرية أبدا، ولهذا لجأت للبدل النقدي في حينه؛ للتخلص من أعبائها الثقيلة على نفسي. أما الآن فلا مهرب ولا منجى من السوق إلى صفوف الجيش الذي يقاتل منذ ست سنوات عدوا يفوقه كثيرا بالعدة والعدد ،و يرفض السلام او الهدنة ،كما كان يقولون لنا.
يا الله ... أخيرا...لاح لي نور بدأت أقترب منه شيئا ،فشيئا، بكل تأكيد هو منبعث من مقر الفصيل الذي أقصده ... يالله... لقد اقتربت منه كثيرا .ولكن ما زال السلك بيدي ، لم اجد القطع لحد الآن ... ها أنا اسمع لغطهم ، بل هم ينادووني بالإسم .
- أبا خليل... نحن هنا...لقد وصلتَ...
بكل تأكيد إتصل بهم آمر السرية لاسليكيا وأخبرهم بأنني قادم إليهم . ياللمفاجأة ، قبل خمسين مترا من مكان الفصيل انفلت السلك من يدي ، إذاً وجدت القطع أخيرا قريبا منهم. نزل نحوي جنديان وبيد أحدهما مصباح يدوي ، سرعان ما وجدا معي السلك المقطوع ،وأوصلناه بالجزء الآخر . صعدت بسرعة ، وحققت الإتصال مع البدالة في المقر في الأسفل .بعد تناولي وجبة العشاء وتناولي كوبا من الشاي ، عزمت على العودة . حاولوا منعي ، وإقناعي بالمبيت عندهم حتى الصباح، لكنني أصررت على النزول رغم الظلام الدامس . ودّعتهم أمسكت بالسلك ورحت أنزل معه بكل يسر ،هو دليلي الوحيد للوصول إلى مقرسريتي التي لا أرى لها أثرا في هذا المكان الجبلي . كان النزول أسهل بكل تأكيد ، سيما وأنا قدنجحت في إصلاح السلك المقطوع ، وها أنا عائد يملؤني الزهو والسرور.إبتعدتُ كثيرا، وخمّنت مع نفسي أنني الآن في منتصف المسافة ... اللهم نجني من لدغة أفعى لا أراها في هذا المكان الموحش ودامس الظلام ،اللهم أعدني سالما لأجل أطفالي الستة ،وزوجي المسكينة ...بدأتْ الكثيرمن الأفكار تجتاح رأسي . ها قد مضى على وجودنا هنا أكثر من ثمانية أشهر وما زلنا ننتظر بلهفة العودة بنا إلى معسكرنا ، بعد انهائنا للواجب المناط بنا.لقد سمعنا أننا على وشك تغييرنا ، ، ولكن لم يظهر للآن ما يدل على ذلك. 
فجأة سمعت من يصرخ :
- كاكا...ففْ...إرمِ سلاحَك 
في لحظة وجدت نفسي محاطا بفوهات البنادق وهي تلامس رأسي وجسدي... يالله لقد وقع المحذور إذاً.
- كاكا... هل لديك مسدس؟؟ إرمه حالاً...
نزعت البندقية من عاتقي ،وجعبة الذخيرة ، وجلست على الأرض. لم أرَ أحدا ولكني أحسست بهم حولي. أحدهم أضاء في وجهي مصباحا صغيرا، وراح يتأمل تقاسيم وجهي . فجأة قال لي بالعربية: 
- كاكا ..... .؟!. 
أدهشني أن يناديني باسمي شخص لا أعرفه ، ولا أراه في هذا المكان والظرف العصيب.
- كاكا... لقد ساقوكم إلى هنا على الرغم من تقدم ، أعماركم ... كاكا لاتخف أنا صديقك (محمود علي) .
عانقني بحرارة ، ثم ناولني سلاحي وجعبة الذخيرة ... 
همس مع رفاقه بالكردية والتفت نحوي:
- يالله ...هيا صديقي سأوصلك إلى أقرب مكان لمقرسريتك ، سأضمن سلامتك بنفسي .
قادني من يدي وراح ينزل بي الى الأسفل.
- كاكا... كنا صديقين في المتوسطة ،والأعدادية ،و نسكن في منطقة واحدة ،ونتبارى في كتابة الشعر ،والقصة.، هل تتذكرني؟؟ ...نعم تذكرته حالا ، طلبت منه أن أرى وجهه، لبّى طلبي، أضاء المصباح الصغير قسمات وجهه الوديع.. تذكرتُ أنه قد غاب منذ سنوات، وسمعت أنه التحق بالحركة الكردية... ياللمصادفة أن ألتقيه هنا بعد كل هذه السنوات في هذا الظرف القاسي ؟ يالغرابة الصدف.!.
صرنا قريبين جدا من مقر السرية ، تعانقنا ، ودّعني واختفى بسرعة...
أطلقتُ من بندقيتي رصاصةً في الهواء، شقّتْ سكون الليل وأنا أقترب إشعارا منّي بعودتي ...كان الكلُّ بانتظار البطل الذي لم يهبْ الخطر ، راحت القُبَل تتناوش خديّ بودٍّ صادقٍ ونظرات الإعجاب والإكبار تغمرني من كل جانب .
لقد عقدت الدهشة ألسن الجميع عندما ذكرت لهم ما وقع لي ،ومصادفة لقائي بصديق عزيز كان المنقذ لي من الأسر على الأقل .
بعد إنتهاء حرب عام 2003 ،وحصول الهدوء في إقليم كردستان ، تذكرت صديقي (كاكا محمود علي) .قصدت مدينة السليمانية ،كنت في شوق عارم للسؤال عنه، ومتوقعا أنه الآن يتبوّأُ منصبا رفيعا يؤهله لذلك نضاله المسلّح لسنوات طويلة ،والشهادة الجامعية التي يحملها. سؤالي أوصلني لعائلته التي وجدتها تسكن في حي فقير في إحدى ضواحي المدينة، عرفت منها أن (كاكا محمود ) قُتل عام 1991 وهو يتصدى للجيش الزاحف الذي كان يعتزم استرداد السليمانية من قبضة المسلحين الأكراد الذين استولوا عليها بعد 
انكسار الجيش العراقي خلال أحداث غزو الكويت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق