الخميس، 17 نوفمبر 2016

جمال القيسي : العراق
محنة النص / قراءة في قصيدة  ( محنة بندول ) لنور السعيدي

عندما يقرأ الناقد ،، او المتلقي ،،نصاً يغرقه ،،في دوامة رمزية ،،يعيش في محنة حقيقية ،،عن  البحث في معطيات  متضاربة  ومتنوعة ،،وأسانيد ،،موغلة في الرمزية والكثافة ،،وتلك الصفة ،،هي ما تتسم  بها اعمال  الأديبة نور السعيدي،،مع شبكة تصويرية  تصيبك بالفزع،،اشبه بفلم الرعب،،،لكنه بواقع كامل الأبعاد ،،هي متمكنة ومحترفة لاتفقد زمام السيطرة،،من اول كلمة حتى اخرها ،،تعرف كيف تشكل عالمها،،ومن ثم تطلب منك حل الأحاجي  العسيرة،،ان تجرأت ودخلت هذا العالم ،،تتخلى عنك ،،وتتركك تتخبط ،،في جدرانه ،،،هذا ،،عندها تاخذك التأويلات ،،لتصدر احكاماً،،تتيقن فيما بعد،،انه ما انزل بها من سلطان،،وتعيد الكرة،،،وثالثة ورابعة،،،وربما هناك من يقول،،ومالذي يجبرنا على هذه العسرة ؟ ،،،وأقول ببساطة تلك هي متعة الادب ،،وميزته،،نحن نحصل على الادب كلما حصلنا على بنية لفظية ذات استقلال ذاتي ،،اي ان معاني الكلمات وما سيتمخض عنها من خلال تقابلها وتجاورها وتقاطعها مع بعض في النص الواحد،،،وهذه المعاني  ستكون مبهمة ،،خارج هذا النص ،،او انها تؤدي غرض اخر،،،إذاً المعنى في الكلمات او فائض المعنى  ،،يكمن في هذه البنية المستقلة ذاتياً،،والمكتفية ،،بدلالاتها ،،ضمن فضاء النص او محفل الخطاب،،انها قاموس الدلالة لوظيفتي الخطاب الأسانيد ،،والهوية ،،أقول  (   اذا غابت هذه البنية المستقلة فأننا نحصل عندئذ على لغة ) ،،نعم ان الادب نوع متخصص من اللغة واللغة نوع متخصص من وسائل الاتصال،،وسبب انتاج هذه البنية الأدبية المستقلة،،اي النسق اللفظي في النص ،،وهو المكتفي بذاته ،،،هي عملية وإجراء ،،ينتج حقل من الاستجابات المتصلة باللذة والجمال والاهتمام،،،وبذلك يكون الواقع ثانوي بالنسبة لمبدأ اللذة ،،،وأي نص ادبي او هكذا يسمى،،اذ لم يكن يؤدي الى هذه الشبكة المفهومية الخاصة به ،،بالرمز،،وإذا لم يمارس عملية إقصاء الواقع،،يتحول الى جنس خارج الادب بالتمام،،،من هنا يأخذ علينا بعض الأصدقاء ،،اهتمامنا البالغ بالنصوص ذات الكثافة الرمزية ،،والبعيدة عن الواقع،،،

ونعود الى نص نور السعيدي المثخن بالبنى اللفظية ذات الاستقلال الذاتي،،،ولكننا سنبسط قدر الإمكان ،،،سنعالج النص من خلال الغوص بعمقه الدلالي،،،ومن ثم الانطلاق من النص الى خارجه،،،اذ ان النص ينقسم الى جزئين  رئيسيين ،،الاول ذاتي وداخلي،،اذ تمعن نور السعيدي في وصف ،،مشاعرها ،،والمحددات التي تكبلها،،سواء النفسية،،او المساحة الزمنية لحركة هذه المشاعر،،و تصف نفسها بسجين،،و هناك سجان ،،هي قد ولته  امرها،،والعلاقة بين الاثنين ،،حب وتألف ،،لكنه من موضع ،،قاسي،،عاطفة اشبه بالسلة،،لكنها من حجر،،مع ذاكرة ،،متصدعة من الالم،،ربطت عليها عصابة من صفيح،،وهنا تبرر قسوة الحياة والظروف،،وتخطي العمر،،تتربع على ركام من المشاعر المتكلسة،،لكنها رغم ذلك لم تفقد هذه المشاعر وظيفتها،،،الا انها بلا ،،هوية زمنية،،،وتصف بشكل مبهر،،الواقع القسري،،للعراق،،وهو وصف تجاوز حد الفجيعة وانعكاسه على الانسان وبالذات المرأة ،،من خلال ( ملسوعة من أغاني التتر ) ،،هذا التوظيف لا يضاهيه امر أخر،،،نوع من الإحالة المركبة،،،والمدن العراقية،،( تكنس مدنا راكضة بلا شوارع ) ،،ان كان هناك توثيق لحال المدن في العراق مهما بلغت دقته  فأنه  لايستطيع ان  يعطي هذا العمق النفسي ،،والصورة عن مدن الخراب التي خلفتها الحروب،،وجعلت منها خواء ،،من النبض الإنساني ،،واعادت تشبيه عودة المهجرين الى هذه المدن الخربة،،،بالعودة الى التيه،،،لكنه محدد الهدف،،انه الى جحيم ،،امعنت السعيدي ،،بقسوته،،( جرب،طلي بقطران،،وخبز ملعون يدر النمل ) ،،،من يستطيع وصف الرحلة عبر ( بزيبز ) ،،بمثل هذه الدقة والتأريخ ،،انها كتبت وأرخت ،،الالم الإنساني البالغ ،،العطب،،،و خطت مدونة  الفعل الإنساني ،،المخجل والمعيب لتأريخ  مأزوم  منذ آدم وحتى قيام الساعة،،وهنا تأتي أهمية الشاعر ودوره،،،في تدوين اللحظات الحرجة بكل ابعادها،،انها جينالوجيا الروح الهائمة ،،الرافضة لكل قوة غاشمة ،،وكل ظلم ،،وتلك هي ميزة الادب عن غيره،،من النتاج الثقافي،،،
وفي المقطع الثاني تنتقل من الذات الى الموضوع،،،ليتألق النص في فضاءات واسعة،،،( يا كل اللعنات،،،انت ) ،،هناك من تخاطبه،،،وتلومه،،لانه كان يجب عليه ان يفهم ،،كل هذا الوجع الإنساني ،،ولا اعتقد جازماً،،ان هناك من هو بهذا المقام،،امام فخامتها الانسانية،،اللهم الا اذا كان رمزاً،،،لكل مفقود،،شطبته الحروب من الحياة ،،بالموت،،او غياب آدميته ،،ولم اجد وصفاً للحرب اعمق مما ذهبت اليه المتألقة نور السعيدي ،،الحرب = محنة بندول،،،وكلنا نعلم ان حركته لا تجنح الى جانب،،هو غير مستقر،،في حيّز اللاتعين،،الحرب مهما تزينت انها بلا هدف،،وفي معنى اخر بالغ  الحرب = مزمار أفعى ،،،انه الآلة الموسيقية التي تخرج الأفعى برمزيتها القاتلة من سلة الحاوي ،،،انها الأنثى  المسفوحة ،،بفعل التردي الإنساني ،،،المرأة العراقية المهدورة القيمة ،،تعسفاً وجوراً،،،والعالقة بهذا الحيّز التاريخي المعتم،،،

ربما أطلت بالشرح،،ولكنني لم أغطي الموضوع،،لانه بحاجة الى مقالات طويلة،،،لاحتواء جميع البنى اللفظية،،،
تحياتي للسيدة الفاضلة الأديبة الكبيرة نور السعيدي،،،،على هذا النص الرائع في كل تفاصيله،،،،،،

جمال قيسي / بغداد




القصيدة 
مِحنة بندول .
سجينٌ ،،،
وسجانٌ سجينٌ بسَلَةٍ من حِجارةٍ
تثخنُ بها ريحٍ مُفَتقةٍ
لها ذاكرة بعِصابةٍ من صفيحٍ
تَئنُ بسيرها المُجَعَّد 
تكنسُ مُدناً راكضةً بلا شوارع
تمرُ بحلمِ لإصبعٍ منزوع الوجه
بومةٌ صبورةٌ ملْسوعةٌ من أغاني التتر
ولحومٌ منضودةٌ بدَوارقٍ خشبيةٍ
تَملَصَتْ منها ذخيرةِ حلم 
تُأَرْخِن ،،،،
لإصطفاف التيه المفتوح على جَرَبٍ 
طَلى بقطرانٍ وخبزٍ ملعونٍ يَدّرُ النمل
يا كل اللعنات ،،، أنتَ
قبل الطوفان ،، كنا حِوارأً
بجغرافية الثقب الأسود
كالساموراي ،،،
طَفَرنا من جسدِ الإنتماءِ
لبريقٍ تنكرَ بزَي الفراغ المُصَوِت
هَلا ،،، تعلمتَ مني ؟؟؟ 
أنَّ اللآحضور كدفوفٍ باردةٍ
وموتٌ مُعلَّق بضفيرةٍ
ولأن الحرب ،،،
مِحْنة بندول ـ مزمار أفعى
وحُمّى زاحفةُ لِقنْطيرٍ * على منبرٍ مُبخَّرٍ بلأفيون
ظلَّ السلامُ ،،،،
جسد لمَحْضيَّة بوجهِ 
ضفدع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قنطير = داهية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق