قصتي مع السياب علي البدر
25 كانون الاول 1926 – 24 كانون الاول 1964
لم تكن السنون التي مرت سوى لحظات من زمن متسارع نشتاق اليها فأقول الله ما أحلى أيام زمان. ولم ادر لماذا العراقي وربما أخوتي في الدول العربية أيضاً يشتاقون للماضي ويشعرون بالارتياح والوداعه معه حيث ترتسم الابتسامه. وهكذا فقت على صوت رجل بملابس خليجيه داخل سيارة تحمل تابوتاً جعلنا نرتعب منه.. أجل فان الناس لم يألفوا هذه المشاهد وكنا نادرا ما نرى تابوتاً أو موكب تشييع ينادي لا اله الا الله حيث يمشي العشرات بل المئات أحياناً منكسي الرؤوس ألماً واسفاً.
- السلام عليكم. فين بيت "بدر شاكر السياب؟" رحت “للمعقل” وطلعتلي عايله متعرفه وجيت هني اسأل عليه.
- وعليكم السلام. اسفين عمو والله منعرفه وماكو بيت بهالاسم بهاي المحله...
ولأكثر من خمسة عقود، يدور هذا الحوار البسيط مع هذا الرجل في أعماقي ولازالت قسمات وجهه مرسومة في مخيلتي. أجل ومن يعرفه ونحن مجموعة من طلبة المدارس متجمعين قرب باب جامع “السيف” في “البصره القديمه”. "السياب.. بدر شاكر السياب".. لاأب.. لا عائله.. ياترى هل اقوم بدفنه وحدي؟ تساءل الرجل. لا لا مستحيل. هذا مستحيل.. ترجل من سيارته والتف حوله بعض الرجال وحملوا الجنازة وأدخلوها في جامع “السيف” حيث التف حولها الباكون فوجدت نفسي ابكي بحرقة ليست عليه ولكن لانني اشتقت لابي الذي لم أحظر جنازته.. هرولت مسرعا الى البيت واخبرت أخي الكبير بما حدث فأسف لذلك ولعن الظرووف التي تحارب الشاعر والقاص والعالم وأصحاب الكفاءه. أجل هذا الانسان لا بيت له فقد فصل من دائرته لأسباب سياسيه وتوفي في المستشفى الأميري في الكويت في غرفه رقم واحد بعهدة الأمير انذاك.. ومرت السنون واذا "بالسياب" يقف منتصباً أمام ساحل شط العرب قرب "كازينو البدر" طيلة الثمانية سنوات من عمر الحرب بيننا وبين جارتنا ايران. كانت الشضايا تملأ جسده وكانت احداها قد أصابت الكتاب الذي في جيب سترته المتهدله فمزقته. تطلعت اليه وتذكرت حواري مع النحات المرحوم "محمد غني حكمت" حول التمثال حيث رسمت خطاً وهمياً من مرفقه الى عظم الحوض فوجدت انه يلتقي اسفله . فقال لي : انني نبهت النحات نداء كاظم لكنه لم يستجب.
تطلعت اليه فوجدت الغبار يعلوه بينما تجمع الاطفال حوله وقررت ان اكتب قصة عنه خاصة وانني عرفت الشخص الذي نقله من الكويت الى البصره وهو الشاعر الكويتي " علي السبتي" حيث واراه التراب في مقبرة الزبير ، وكانت فرحتي عظيمه عندما استلمت رسالة منه يشكرني فيها على تذكره واهداء قصتي له عرفاناً مني اليه وقد شكرت صديقي الشاعر "حاتم الصكر" الذي اصبح في وقتها رئيس تحرير "مجلة الأقلام" التي تصدر من وزارة الشباب في العاصمة "بغداد" انذاك والذي نصحني بالكتابه الى اتحاد الادباء في الكويت لانه أصبح رئيسا له.
ياتري لم هذا الأضطهاد لأصحاب الرأي؟ هل الخوف منهم أم شعور بالنقص؟ وقد قرأت "للسياب" حواراً قديماً مع "ميشيل عفلق" نقلته مجلة "افاق عربيه" في وقتها وهذا في رأيي قد شجع فيما بعد على نصب تمثال يخلده ولم يصنع نصباً لشاعرنا لولا تحوله الى الفكر القومي وتخليه عن معتقده الذي امن به وهو الفكر الماركسي وتأليفه كتاباً يتهجم عليه وعلى قيادات الحزب الشيوعي العراقي.. واتمنى صادقاً من اتحاد الادباء ان يتذكر أكثر مبدعينا الحاضرين والغائبين كوفاء لمن عشق وطنه ومات غريباً أو مغيباً أو سجيناً أو محروماً...
===========================
سلاما يا بدر بن شاكر ((قصة قصيرة))
"إلى من حملك بيوم مطير تجوب شوارع البصره
الى الأنسان علي ألسبتي"
كعادته، كان منشغلا بشيء ما حوله .. هذا طفل يحدق في عينيه، و آخر يركز على أذنيه و ثالث يتعجب للحذاء الكبير الذي يلبسه. و هناك طفل تسلق صدره ماسكا بيده اليسرى الطرف السفلي لربطة العنق العريضة و بالأخرى كتاباً مندساً بجيب معطفه المتهدل ، محاولاً سحبه دون جدوى . تقدمت مبتسما ماداً ذراعي نحوه فرمقني بنظرات حلوة بريئة.
- خذ هذا لك .
- لا.. أريد هذا .
- وما الفرق ؟ انه نفسه. اجل يا صغيري.. نفسه . نزل مسرعاً وتناوله فرحاً وذهب. وكنت اعلم ان بدراً لن يرفض طلباً لصديق او رجاءً لغريب. رفعت رأسي فبدت عيناه محدقتين وكأنه يريد أن يقول شيئا. ذ
- يا "بدر" سلاماً.. يا "بدر" سلاماً.. جئت إليك. دمي كدمك ومياه الشط التي خلفك تسري في عروقي. لوحت جبهتي الشمس وارتسمت خضرة النخيل في عيني كما ارتسمت في عينيك.. يا بدر سلاماً. يا بدر سلاماً. وكانت خطوات خفير السواحل الجنوبية متسارعة نحوي:
- أراك تجهل مناجاة "بدر" !
- أجهل !
- أجل
- قل لي إذن كيف أناديه .
همس بأذني ثم اختفى بالظلام مودعا .
"يا مطر يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطر يا شاشا
عبر بنات الباشا"
ارتخت ذراعاه وتدليتا وبدتا متعبتين وازداد بريق عينية ، فبان أثر دموعه على وجنتيه واضحاً. ولم اشعر بتلك اللحظة التي نزل بها "بدر" من منصته فبدأنا بالعناق الحار وقد وضعت رأسي على صدره وأحسست بنبضات قلبه المضطربة.
- ناديتك وأنت وسط الحشود .. وبأعلى صوتي ، لكنك لم تسمعن، فقد طغى صوت الدمار وبكاء الأطفال على صوتي وامتلأ جسدي بشظايا" حارة فاقت بعذابها كي البدوي المرسومة بقاياه على ساقي، وتغير لون الماء الذي حولي، وعلمت انك تخندقت في "جيكور" وقد تعفرت جبهتك بترابها فأيقنت أنني لازلت أحيا. تذكرت حضن أمي وحب جدتي ووقار أبى الذي لم احضر جنازته وكان صوت إقبال يناديني . صرخت لأجلها .
- مرارة قاسية دهش لها أيوب لكنك لم تجزعي. سيبت وحيدا كالمسيح جر في المنفى صليبه، انزف وأنت تلعقين جراحي وتلهثين….
"إقبال يا زوجتي الحبيبة
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أبا وأما وارحمي نحيبه… "
- يا ليتني ، قال بدر، أعيش لأسفح نفسي على التراب واسمع ذلك الصوت بعتمة الليل وصحوة النهار: لقد حضر الغد ولن يبكيك ليل فقد ولى الظلام ، وتلك الأيام التي حملوك فيها بيوم مطير تجوب شوارع البصرة. هذا الذي صرخ بصوت مسموع:
"الشمس اجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق"
ذلك الصوت الذي تحول إلى ضحكات أطفال تعودوا زيارتي كل يوم لاستعارة كتابي وكنت في سري خجلاً فقد انصهر بجسدي ولن يعبث به أحد بعد اليوم لكنهم سيلهون بأذنَي ويقفون على ذراعي اليمنى المشوهة.
-مهلاً يا "بدر".. أقلت مشوهة؟
- انقل عتابي لمن صنعني ، فقد قبلت بهاتين ، وأشار لأذنيه، فهما من صنع ربي، لكنني لا احب ذراعي . قل له أن يعيد تجليد كتابي ويرقع ثيابي وأن…
-ولكن، قل لي يا"بدر". كيف هي الأمور الآن؟
-الأحبة يتحاورون قربي والشيوخ يستظلون بظلي ، فانظر لوجوه الناس والماء خلفي. ما أحلى ضحكات الأطفال..
-وهل تشكو من شيء يا "بدر"؟
-نعم . فأنا بحاجة لمن يزيل الغبار عني…. بحاجة إلى المطر.
- مطر
- مطر
-مطر
علي البدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق