الأحد، 4 ديسمبر 2016

هل العُصاب و النرجسيّة خلف الإبداع ؟ بقلم/ أسامة حيدر

هل العُصاب و النرجسيّة خلف الإبداع ؟ 

 كلّ أديب مريضٌ أيّاً كان لونه الأدبيّ ، وهو مريضٌ بالعُصاب أو النّرجسيّة . ولا يخلو أديبٌ من هذين المرضين .
و الحقُّ أنّ وراء هذه الفكرة الشائعة فكرةِ العلاقةِ السببيّة بين عُصاب الفنّان وقدرته على الإبداع فكرةٌ أخرى قديمةٌ متأصّلةٌ تقول :" إنّ الحصول على المقدرة لايكون إلاّ بالمعاناة ، فالشخصُ العُصابيّ يخضعُ في صورة غير واعية لنظام يُقلع فيه عن بعض المتعة أو القوّة أو هو يُنزل بنفسه الألمَ كيما يضمن نوعاً آخرَ من القوّةِ أو نوعاً آخرَ من المتعةِ . وقد عبّر الشاعرُ عن هذا المعنى حين قال عن "الشّاعر" :
يستلذُّ الآلامَ في نشوةِ الوحي وفيها الدواءُ و الأدواءُ
وعندما تنتهبُ نفسَ الشاعر الآلامُ يجد عوضاً عنها تلك اللذةَ التي يستمتع بها وهو في نشوة الوحي ، وفي هذه النشوة يكمن مرضُ الشاعر ودواؤه . ولابدَّ أن يعني هذا أنّه بسبب تلك الآلام كان الوحي ، ومع الوحي كانت النشوة . أي أنّ المعاناة كانت السبيل إلى الوحي ، أي الإبداع . وكان الإبداع وسيلةً لإخضاع تلك الآلام و التلذذ بها . فلولا الآلام ما كان الوحيُ ، ولولا الوحيُ ما كانت اللّذةُ . فإن كان هذا ليؤكّدُ شيئاً فإنّه يؤكّد تلك العلاقة السببيّة بين عُصاب الفنّان وقدرته على الإبداع . وربّما لهذا السبب كان نزار قبّاني يقول :" أنا لاأحرّض إلاّ في الخريف . الربيعُ لا يعني لي شيئاً " . وممّا لا يُخفى أن الخريف يعني موت الطبيعة ، ويعني فيما يعنيه المعاناة القادمة من المخاض الخريفيّ .
ويذكر فرويد عالم النفس الشهير أنّ الفارق بين المجنون و الفنّان ، وكلاهما مريضٌ عقليّاً ، أنّ المجنون يبقى في خياله أمّا الفنّان فيجدُ ، ويعرف كيف يجدُ ، مخرجاً من عالم الخيال وأن يعود ليضرب في الواقع بقدمٍ ثابتةٍ . ويرى شارلزلامب في دفاعه عن سلامة العقل في العبقريّة الصادقة :" أن الشاعر يحلمُ وهو يقظان ، فلا يتسلط عليه الموضوع ، وإنّما يسيطر هو عليه " . ويعني ذلك أنّ الشاعر يتحكّمُ في خياله أمّا العُصابي فيتسلط خياله عليه و لا يستطيع بالتالي أن يعود إلى الواقع .
أمّا النرجسيّة عند الأديب فلها شأنٌ آخرُ ، فهو مضطرٌ أن يُضحّي بها أو يستبعد قدراً كبيراً منها من أجل الجمهور ، لأنّ الفنّان الذي يمجّد ذاته لن يلقى أيّ تقدير من الناس ، ولهذا يحاول الفنّان و الأديب ( الناثر أو الشاعر) أن يختفي خلف أدبه ويُمجّد أدبه كما فعل الكثير من الأدباء و الشعراء وهذا المتنبي يقول :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صممُ
انظر إلى المتنبيّ كيف أخفى نرجسيته خلف أدبه ، ولكنّه عاد إلى إظهارها واضحةً :
الخيل و الليلُ و البيداء تعرفني و السيف و الرمح و القرطاس و القلمُ
وثمّةَ خطٌّ فاصلٌ بين الشاعر بوصفه فنّاناً و البطل أو الزّعيم . فالبطل يحتفظ بنرجسيته كلها ، وهو يريد السيطرة على عواطف أتباعه ومشاعرهم وهو يريد من هذه العواطف و المشاعر أن تكون أدوات لتحقيق أغراضه الخاصّة لإنجاز خططه في تعظيم شخصه ، أمّا الفنّان فهو زعيمٌ للناس لكنّه زعيمٌ من خلال عمله لا بشخصه الخاصّ ، ويرغب في كسب العواطف ، ولكن بغير دوافع وراء ذلك ... ويبدو المتنبي حاملاً للصفتين معاً النرجسيّة و البطولة هنا .
ولإرضاء هذه النرجسيّة فقد كتب الكثير من الشعراء والأدباء كتاباتهم تحت أسماء مستعارة ، وآخرون أنفقوا الكثير من الأموال من أجل أن تنشر أعمالهم لأنّ نشر تلك الأعمال يدغدغ فيهم شعور الزّهو عندما يرون أنّ نتاج عقولهم يشغل عقول الآخرين ، وقد عبّر المتنبي عن هذا المعنى بقوله واصفاً قصيدته وما تفعل بالنّاس :
أبيت ملء جفوني عن شواردها ويسهر القوم جرّاها ويختصمُ .
ورغم أنّ الدراسات الحديثة تُشير إلى ضعف هذه المقولات إلاّ أنّ الماضي يشير إلى ما كانت تعتقده العربُ من وجود جنّيّ خاص بكل شاعر ، ونسبوا الذّكيّ إلى عبقر وهو وادٍ يكثر فيه الجنّ على رأيهم ، ونظروا إلى الشاعر نظرتهم إلى من مسّه الجنّ يلقنه ما يقول فيبدع . وللحقيقة " أنّ وصف الشّاعر بالجنون لم يكن حينذاك يعني بطبيعة الحال أنّ الشاعر يعاني مرضاً عقليّاً بمقدار ما هو محاولةٌ لتفسير قدرته الفذّة التي خُيّل إليهم أنّها لايمكن أن تكون لبشرٍ " .
وربّما كان الغموض الذي يكتنف الفنّان هو ما دفع النّاس لتفسير شخصيّته بما هو أغمضُ عندما فرضوا وجود قوىً روحيّة( الشياطين ، الجنّ ) تساند هذه الشخصيّة وتدعمها وتلقنها ما تقول .
 
تعقيب غازي احمد أبو طبيخ
 
آفاق نقديه مادة ممتعه ونافعه..وابوابها مفتوحة للحوار الجاد..احسنت كثيرا اخي وزميلي استاذ أسامة حيدرالعزيز..خالص تقديرنا لإسهاماتكم المغنيه..تحياتي..
 
رد أسامة احيدر
أسامة حيدر أخي الأستاذ غازي الآن أصبح للمادة طعم ولون ورائحة بمرورك عليها .
دمت بخير .
 
تعقيب دنيا حبيب
دنيا حبيب صراحة موضوع جديد الطرح -خاصة بعالم الفيس- وأنا شخصيا استفدت منه.
مهم جدا ألا نكتفي بنقد الشعر، بل كذلك بتفسير وتحليل الذوات الشاعرة، ليس هذا من باب الفضول، وإنما هذا يساعد كثيرا في تحليل النصوص الأدبية. جدا المقال كان مثمر ومقنع وبه أدلة بسيطة وواضحة.
أصلا لدىالإنسان عامة لديه نرجسية وغيرها لكن بدرجات متفاوته حسب بيئة وظروف كل شخص. ومؤكد الشاعر "ظروفه الإبداعية وموهبته" تجعل منه أرض خصبة لزراعة نرجسيته..
نتمنى أن نقرأ مزيدا من تلك المواضيع المختلفة والمهمة..
 
رد أسامة احيدر
أسامة حيدر أسعدني مرورك دنيا حبيب .
 
تعقيب اياد الشاوي
اياد الشاوي شكراا استاذ أسامة للفكر الواسع والطرح الجميل انرت جوانب مظلمة
 
تعقيب ليث الدخيل
Laith Aldakel الالم والحزن تنتج العبقرية..ويكفيك ان مرض الصرع لدى عبقري الرواية الحديثة ..فيودور دويستوفسكي..كان وحيا له..في كتابة اعظم اعماله الادبية..تحياتي..صديقي اسامة حيدر..
 
تعقيب سوسو سالم
Soso Salem تحياتى لك استاذ اسامه حيدر على هذه النبذة العبقرية
 
تعقيب نائلة طاهر
ندى الأدب قرأت مقالتك والمفروض أديبنا في هكذا حالات أرد ردا ثريا يساند الطرح أو يبرز بعض النقاط المبهمة بمزيد من التحليل فهكذا تعودت اذا أعجبت بعمل أدبي ما .كنوع من تثمين عمل الكاتب وكممارسة للنرجسية التي بداخل كل منا كما أثبت انت ،فأظهر بعض من قدراتي ودرايتي بالموضوع .....لكن ما وجدت مجالا لتحقيق كل ذلك فالموضوع تناولته بعلمية تحليلية خاصة وان قلة تطرقوا له .لذلك ليس أمامي سوى القول انك بحثت في الموضوع الجدير بالبحث ،الموضوع المتصل بنا وبشدة والذي له أبعاد معروفة للبعض لكن الكثرة عاجزة عن إثباتها وتحديدها بمصطلح علمي .فشكرا لا تكفيك.
ملاحظة :نفس الموضوع كنت أنا والأستاذة
دنيا حبيب ناقشناه ثم بعد دقائق نزلت حضرتك المقالة التي وضحت كل ما كان اشكالا بالنسبة لنا .فقالت دنيا ما كتبه الأستاذ أسامة هو رسالة من الله لنا (يعني سبحانه ارسل من يوضح لنا )
 
رد أسامة احيدر
أسامة حيدر شكرا لك أختي نائلة . أسعدني أنّي قدمت شيئاً ذا قيمة وأضفت ما رغبتما فيه .
تحياتي لك وللأخت دنيا .
 
تعقيب غسان الحجاج
غسان الآدمي لقد عشت حالة من التساؤل مؤخرا مخاطبا ذاتي هل انا نرجسي او اتقمص النرجسية عند الكتابة لكني تهربت من الاجابة ربما لاني لا امتلك هذه الاجابة لكن ما اعرفه ان حالة اللاوعي هي اوسع فضاء لدالة الخيال والتي عندها يحصل الانعتاق الذهني ليمتد خارج حدود معطيات التوقع هذه الحالة لا تأتي في كل حين ولكنها عندما تأتي يجب اقتاصها وامساك خيوط اللحظة الجنونية بالمغازلة والاسترخاء او تقمص الجنون ان صح التعبير وليس بطريقة اخرى ....مجرد رأي خطر ببالي.......تحياتي استاذ اسامة حيدر لقد امتعتنا بهذه الدراسة الالمعية
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق