الاثنين، 5 ديسمبر 2016

" رد الجميل" قصة قصيرة بقلم/ علي البدر

ولم تكن تلك اللية باردة كالعادة. احساس مفاجيء شعرت خلاله بضيق وبحاجة لنسمات هواء منعشة. كان أخي الأكبر يغط في نوم عميق عندما تسلل هواء بارد داخل الغرفة، منحني انتعاشاً بحاجة اليه. عاودت القراءة ثانية لكتاب قرأته أكثر من مرة، ليست اعجاباً بأسلوبه أو مؤلفه وانما للبحث عن حقيقة، كما يدعي البعض، وهي تلك الرغبة التي تغور في عمق الأنسان لاستغلال أخيه الانسان واستعباده. ميول الشر والعدوان بدلاً من انفعالات الحب والخير. سيطرة وسحق وقتل وبكل قسوه منذ الأيام الأولى للتأريخ. تساؤلات أرقتني.. يا ترى أيكون الأنسان شريراً أو خيراً بطبعه أم بتطبعه؟ وان كان خيراً بطبعه فلماذا يميل المجنون الى العنف والعدوان بعد أن كان متزنا ومسالما؟ وكانت دائرة الأصدقاء التي أتحرك خلالها تمتلك أفكاراً متضاربة في أمور كثيرة، لكنها أثبتت أنها حلقة متماسكة يسودها الود واحترام الرأي، رغم أعمارنا التي هي في سن المراهقة، الا نادراً عندما يشتعل الجدال بيننا وينتهي الى الزعل أحياناً.
- يا أخي، قال عبد الله. الأنسان شرير بطبعه وأنت تعلم عندما خلق الله ادم....
- قلت لك مرارا لا تتكلم هكذا أرجوك والا لم أستمع اليك ثانية.
- عفوا. يا أخي. عندما خلق الله سبحانه نبينا ادم عليه السلام من طين ونفخ به من روحه ثم خلق زوجته حواء، ولد لهما قابيل وهابيل. قتل قابيل أخاه شرقتلة وهم في جنان الخلد والأرض واسعة ورغم ذلك حدثت أول جريمة في التأريخ. اذا كان الأنسان شريراً بالتطبع فمن الذي علم القاتل ورباه وطبعه على الشر؟ ولنقل أنه حيادي كصفحة بيضاء يكتب بها المجتمع تأثيراته ومنهأ تأثيرات الأبوين، فأي مجتمع عاش به الأخوان؟
وكان غالباً ما يوصلنا "عبد الله" الى ممر مغلق نشعر ونحن بهذا العمر والتجربة البسيطة اننا محرجون أمامه فتبدو عليه علامات الزهو والأنتصار. وكان اخر زاوية ضيقة وضعنا فيها عندما ذكر قصة النبي الذي بقي مع قومه أقل من الف سنة ولم يصلحهم، حتى ابنه كان من العاصين رغم التهديد بالطوفان. والظاهر أن هذا الأبن لم يؤمن بنبوة أبيه وهو في بيته يعيش معه ويربيه تربية أنبياء ولكن دون جدوي..
فتح أخي عينيه وطلب مني قليلاً من الماء ثم أغمضهما. أغلقت كتابي ونزلت من سريري لكنني سمعت صوت حركة غريبة وسط باحة الدار. سرى الرعب في جسدي وبت لا استطيع الوقوف. جمعت قواي وصرخت بأعلى صوتي " حرامي حرامي...". وبالطبع لم أخرج، حتى أخي الذي طلب الماء قبل لحظة لم ينهض بل بقي نائماً أو بالأحرى بقي مغمضاً عينيه ولم يتحرك، عدا امي العجوز التي هبت وفتحت باب الغرفة لكنه صعد الدرج وهرب خلال السطوح المتلاصقة عبر سياج متهريء. وفي اليوم الثاني اجتمع الأهل والجيران في بيتنا واتفق الجميع بأنني جبان اكتفيت بالصراخ ولم أهجم عليه وأمسكه، الا أمي التي دافعت عني وقالت الأن اشجعك أكثرعلى شراء الكتب والمطالعة وان هذا الكتاب الذي بين يديك قد أنقذنا وخلصنا من السرقة ولكن حافظ على عينيك... واستطعت اقناعها بتربية كلب يحرسنا وفعلاً بعد أشهر قليلة مرت، كبر الكلب الذي تالف معنا واستجاب لتربيتنا له. وكانت تربية صارمه. فعليه أن يقضي حاجته فوق السطح وأن يستجيب للسلسلة الحديدية الضخمة المنتهية بطوق جلدي حول رقبته.
وكانت غرفتي تتوسط فناء البيت حيث الغرف تتوزع حوله، وأمامها السلم الذي يوصلنا الى السطح. وكان باب الدار أثرياً ضخماً، يقفل بمزلاج أسود وخلفه ممر يقود لفناء واسع حيث نور الشمس يسطع داخله ومطر الشتاء ينهمر وسطه. وقد تعود الكلب وقت الظهيرة على النوم خلف الباب لوجود تيار هوائي بارد من فتحته. وكانت المفاجأة عندما سمعنا صراخاً حاداً لأمرأة تطلب النجدة بأعلى صوتها فهرعنا مشدوهين خارج الدار ولم نر سوى نعلين لأمرأة وعباءة سوداء وسط الشارع. ياتري لمن هذه العباءة؟ وكيف ذهبت لبيتها؟ لحظات صمت مرت لكن الجميع انفجر ضاحكاَ، وبدأت التوقعات من أفراد العائلة حول ردة الفعل عندما تكون المرأة المرعوبة وسط زوجها وأبنائها تلهث وهي حافية القدمين وسافرة.. وكانت المفجأة بل الكارئة الثانية بعد شهرين تقريبا، عندما جاءت والدتي وهي تلطم على خديها "ولكم طلعت زوجة مدير البلدية باخر الدربونه. أويلي راحت تركض حافية وبلية عباية.." وعندها قررت امي وأخي الكبير التخلص من الكلب رغم أرادتي. وعندما ركبت دراجتي كان طرف السلسلة الحديدية بيدي اليسرى والكلب بجانبي مهرولاَ دالعاً لسانه من شدة الحر. ولا أدري لماذا رفض شرب الماء أو اكل قطعة اللحم في ذلك الصباح! ياترى هل علم أننا نخونه ونتنكر اليه. لم يكن هذا الحيوان مجرد كلب بل كانت انفعالاته انسانية غيورة وصادقة. كنت أبكي وأنا أقوده..يا الهي أيعقل أن أغدر به هكذا.. لم أجرؤ على النظر اليه وكنت خجلاً من نفسي، وبالحقيقة خجلا منه. أيمكن أن أكون بهذه القسوة؟ شعرت بارتداد قيمي داخلي عندما ساحت مخيلتي بين صفحات الروائي "ويليام كولدنك"، "The Lord of the Flies" ، والذي أنقذنا كتابه في تلك الليلة، حيث سيطر الشر على قيم الخير في صراع دموي بين أطفال بعمر الزهور وها أنا أقارن بين كلب وفي، مشكلته وفاؤه وبين رجل تسلل الينا لسرقتنا وربما قتلنا. لساعة وأكثر، وكلبي يهرول لاهثاَ . نسيت وربما تناسيت حاجتنا للراحة ولو لدقائق.
- لا أريده هنا ثانية. امتنع الجيران عن زيارتنا، والبيت الذي به كلب لا تدخله الملائكة.. هكذا قال لي عمك ذات يوم.
- ولماذا لاتدخله يا أمي؟ قلت ذلك بانفعال. وماذنبي ان كانت الملائكة تخاف من الكلاب؟
- أسكت ولا تضحك. كلامك هذا بتأثير أصدقائك والكتب التي تقرؤونها فأنت لاتعرف عن الدين بس الصلاة والصوم..
- وكيف عرفت يا أمي؟ قلت ذلك وأحسست أنها شاطت غضباً فردت بانفعال.
- ما هي صلاة الليل؟ تكلم. شروطها وركعاتها و....؟ وكان هذا أصعب سؤال واجهته.. ولا أدري هل يتوجب علي هذه الصلاة وأنا طالب في المدرسة أم تحتاج لعمر معين. انها لحيرة ما بعدها حيرة. وعندما سألت مدرس الدين في اليوم الثاني وألذي يدرسنا ورائحة الخمر تفوح منه، قال لا تسأل عن موضوع غير موجود بالمنهج.. ضحك جميع الطلاب وقال أحدهم استاذ يمكن انت مسامع بصلاة الليل أبدا.. فقال انها صلاة نصليها بالليل..
وهكذا أصبحت فكرة ارجاعه الى البيت شيئاً مستحيلاً أمام سيل الرفض من أمي وأخي الذي بدا متحمساً رغم أنني أعلم أنه يحابيها وربما خوفاً منها. وكان لزاماً علي أن أرجع لوحدي. ربطته في نخلة باحدى البساتين وكان يهز ذيله تودداً كالعادة. مسكت دراجتي وحركتها قليلا فتوقفت حركته وحدق في وجهي وأمال رقبته فشعرت أنه كائن بشري لم ينقصه الا الكلام. أدرت ظهري خجلاً وهو يقاوم طوقه وتلك السلاسل الحديدية ولكن دون جدوى... مضت ساعات الليل بثقل الجبال. نهضت مرعوباً لصوت مبحوح وكانه أنين طفل أتعبه البكاء.. يا للهول. وجه تيبست عليه الدماء وجروح نازفة موجت لون شعره بلون أحمر قان، وبدا منهكاً وهو يسحب تلك السلاسل التي قطعها. شاطت أمي غضباً وانهال اللوم عليً من أخي كالمطر وأنا أمسح جروحه حول عينيه ورقبته وظهره..
وكان الطريق موحشاً. كثبان رملية وريح عاصفة تشوي الوجوه. نزلت وفتحت الصندوق الخلفي وبأشارة مني قفز وتسمر واقفاً وسط صحراء ممتدة. يا الهي.. كيف سأتركه هنا؟ ابتعدت عنه فلم يتبعن لكنه مشى خطوات ورجع يشم اناء الماء والعظم المكسو بقطعة لحم . أدرت له ظهري ونحن ننطلق راجعين.. بقي واقفا لحظات ثم ركض خلفنا بجنون لكن المسافة بيننا بدت تتسع وتتسع. توقف فجأة ثم استدار راجعاً عله يجدني هناك..
علي البدر
 
تعقيب نائلة طاهر
 
ندى الأدب أن لا يجد الإنسان ما يتوقعه من أبناء جنسه فهذا هو الغالب ان كان لطبيعة بشرية جبل عليها أو نتيجة مكتسبات سلوكية لاحقة .وأن لا يفي الإنسان نفسه لأخيه أمر معلوم معاش تنبني عليه الملامح الاجتماعية الظاهرة للإنسانية لكل هذا وجدت الحروب والظلم والجرائم والاستبداد. المشكلة في كل هذا أننا نتخلى دائما عن الاحتفاظ بما يمكن أن يغير من هذا أو يحمينا من كل ما يترتب عن طبيعة الشر المغروسة بنا وحولنا ونظل في حالة من الغوغاء والنقاش الذي لا يقنع أي طرف منا لهذا تتواصل الإشكالات في ظل العجز عن إيجاد الاجوبة والحلول المناسبة لها .فكل محاولة للخلاص تنتهي بجريمة ..تنتهي بالدم مثلها مثل كل المحاولات بالوطن العربي .
طبعا نحن بصدد نص قصصي قصير أراده الكاتب واقعيا مع تضمين لبعض الرمزيات دون دخول في متاهة السيريالية لأن الأمر لا يحتمله أسلوب الكاتب الذي أراد أن يكون منطلقه الواقعية فحرص على توظيف كل قدراته الوصفية خاصة فيما يتعلق بالمكان والزمان وتداعياتهما على البطل والأطر التي وُضع بها .بحيث كان السرد موفيا لكل قواعد القص القصير الذي من أهم عناصرها الإيجاز المعتدل لا الكثيف .وحين ننجح في الاختزال دون أن نسقط في الاستعجال وبنفس الوقت نأتي على الأحداث بسرد متكامل يحوي التفاصيل الصغيرة والكبيرة من غير أن نسقط في الملل يعطي النص مشروعيته الكاملة ويحيله قسرا إلى خانة كبيرة لا تأوي الكثير من كتاب القصة القصيرة وهي خانة أسميها *شرعية وجواز كتابة القصة القصيره *لأن ليس كل نص حكائي هو قصة قصيرة وليست القصة القصيرة -حواديث -
شكرا لهذا النص الثري
 
رد علي البدر
 
Ali Albadir تحياتي اليك وممتن لكامك الواقعي ووجهة النظر الصائبة وفي كل الاحوال يبقى الانسان رمز العطاء والحب والتضحية.. تحياتي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق