علي البدر
تحليل نقدي لقصة "ألبرابرة قادمون" للروائي أحمد خلف
1) ألعرض النقدي التحليلي:
"استوقفني عند الناصية مساءً، وقال لي وعيناه جاحظتان والدهشة تعلو محياه." ياترى.. من هو الذي استوقفه؟ ولماذا عيناه جاحظتان؟ وأخيراً.. ألدهشة.. ما سببها؟ بداية استفزنا بها الكاتب بثلاثة ومضات مضيئة flash points. تجبرنا على القراءة الحذرة المتأنية.. هل هما صديقان أم غريبان؟ و "كدت أنفجر بضحكتي المعروفة لديه.." انهما صديقان إذن فالضحكة "معروفة لديه." والدهشة.. ما سببها؟ ايعقل "أن نغض الطرف عما يفعله الجناة بأهلنا صاغرين أن نقتص منهم يوماً؟". لدينا وطن مستباح اذن مقابل ردة فعل سلبية غير فعالة وهذا يثير الاستغراب بالطبع.. "أين ذهب المال وأين اختفى الحلال؟" قال الرجل الذي جحظت عيناه قبل قليل وبدا أكثر انفعالاً واستغراباً . "ما عدت أطيق للأمر صبراً. لا ورب الكعبة.. ".
وهكذا استمر بانفعاله مقابل ردة فعل منضبطة تبدو عقلانية من صاحبه الذي تركه " يفرغ ما في جعبته من كلام " بعضه يحف به الصدق كله وبعضه الاخر لا أدري كيف يمكنني الوثوق من حقيقتة، لكنني اتبعت ما يتبعه الحكماء من القوم...، الذين يستمعون الى وجيب قلوبهم." لا الكلام الانفعالي الذي قد يحوي الكثير من المبالغة، وبالتأكيد عندما تكون الأحداث جسيمة تكون المبالغات والأشاعات واردة، لكن هاجساً من القلق مشوباً بالفضول مع ارتداد داخلي ولد حوارأ ذاتياً monologue ": لماذا أنت خائف عليّ؟ هل تعرف ما يدور في الجوار ولا تريد البوح به الي بالصراحة المفترضة بصديق أن يصارح صديقه؟". ويأتي الجواب صاعقاً:
- ألا تعلم أن البرابرة قادمون؟ قال الرجل. وهنا تستمر محاولة الأستدراج ليكون الجواب "عقلانيا.. بعيداً عن حواشي الكلام.."
- هذا شأنهم. أليس البرابرة جزءاً من الحل؟ وهنا يلوح الرجل بذراعيه في الفضاء وكأنه يلملم غضبه ويحتوي انفعالاته التي انفجرت كما يبدو كالبركان:
- أقول لك البرابرة قادمون، تحدثني عن الحل...؟
- لا يمكن العودة الى البيت يا صاحبي... انهم يتربصون بالمارة..
حوار يستهل به الكاتب بداية القصة حيث يُعْلمنا أخيراً بأن صديقه هذا رجل ضرير " الرجل الضرير قال هذا.."، ربما يعتمد على بصيص من النور ليس إلاّ، حيث ان الوقت مساء ويتصوره ليلاً بهيماً :"الى أين تمضي في هذا الليل البهيم؟..". وقد أرسل الكاتب ومضات أخرى تعطي ملامحه بصورة غير مباشرة. جحوض العينين، وهي طريقة غالباً ما يمارسها الأعمى محاولاً اقتناصَ مزيدٍ من ملامح الصورة التي أمامه " وقال لي وعيناه جاحضتان."، وأيضاً إنه غالباً ما يلوح بيده في الهواء بحركة متناغمة مع حركة رقبته وجحوض عينيه، وربما لم تكن تلك الومضات كافيه فقد اضطر الكاتب للكشف التام عنه. ويبقى السؤال: هل يستوقف الضرير البصير أم العكس صحيح؟ "استوقفني عند الناصية مساءً..." والناصية هنا التقاء شارعين!
وهكذا نعيش وسط حالة من التوجس الذي اذا ما شابَهُ الخوف المستمر والتهديد من المحيط الذي يعيش الفرد وسطه، يتحول الى قلق، عند اعتمادنا على النظرية الفرويدية Sigmund Freudبالتحليل النفسي. شيء ما سيحدث.. الكل يعلم ومنهم ذلك الرجل الذي يدعي أنه يتبع " الحكماء من القوم" والذي حاول بذكاء تفريغ ما بمخيلة الضرير من أفكار متراكمة متداخلة مع الذي سمعه ،فقد تعود فاقدوا البصر السؤال لأشباع فضولهم، وفي الطرف الاخر انسانٌ لن تغويه المصائب والخطوب أبداً." وانما يميل أن يكون " على علم بما يحيط بنا." من خطر يدخل البلاد في متاهة مالها من قرار. ومن يحمي ذلك التراب الذي ولدنا فوقه ودفن السلف تحته؟ يا الهي أيعقل أن يدافع المسحوق وسط تناقض وصراع طبقي قسّم المجتمع الى غني وفقير مدقع؟ هذه هي الكارثة.. فكنت " أعرف أن الفقراء من أهالينا يزدادون فقراً والأغنياء يغطسون بالحرير ولا أحد ينقذنا من مستنقع الرذيلة أبداً.." ياترى.. من يوقف تلك الهجمة؟ ها أنا " أقطع الطريق وحدي بتلك الساعة التي انقطع فيها تيار النور ..." وبات عديم الثقة بأقدامه التي قد تسوقه الى المحنة أو التهلكة" كما يقول صاحبه. وفي كل الأمور.. لابد من الحذر برسم الخطوات الواثقة فأنا " لست من تغويه المصائب والخطوب." ، ولابد " أن أكون على علم بما يحيط بنا.." ألبيت.. لابد من الوصول اليه.. ظلام أغرق الحي.. " توقفت على مسافة بيّنة من بيتنا." لحظات ثقيلة ومربكة وكأن الزمن قد توقف. " كم ينبغي علي السير حتى أصل؟ " هل أنام في العراء؟ هل أتأبط ذراعي وأنام وأغفو ساعة من الوقت؟"
ولابد من مقاومة الأحساس بالوحدة فهي بصيص أمل أو نور يمنحه دعماً ليثق بأقدامه التي لابد أن تسوقه الى الأمان.. فكان ذلك الأب الذي استعمل كفلاش باك flash back و " ألذي لم يكن قد تعلم القراءة والكتابة في مدارس الحكومة لكنه ختم كل ايات الذكر الحكيم عن ظهر قلب ومنها تعلم الحكمة والعبرة وأخذ دروس الصبر والسلوان.." فكان الأب بالنسبة اليه كشعاع من نور يمنحه الثقة بالنفس والاطمئنان ويحذره " من الغفلة والتقاعس مهما كان بعيداً". وعليه " لم أكن أخالفه أو أرفض أي طلب له."
وهنا يكشف الكاتب عن عمله فقد " كنت أنا الذي يلوّح بالمصباح الضوئي للقطار القادم وعلى ضوء ذلك الفانوس كان القطار يزحف بثقة نحو محطته مطمئناً... وكانوا ينادونني يا مرشد القطار.." لقد أعطته وظيفته شعوراً بالفرح والرضا فهو يرحب بالقطار.." ويالها من فرحة عند رؤية المسافرين " مستبشرين بوصولهم الى أهاليهم ومنازلهم.." ويبدو أن الألتزام ألذي جاء نتيجة تلبيته واطاعته العمياء لذلك الأب الناضج الذي حذره من الغفلة أو التقاعس عن مرماه مهما كان بعيداً ، قد منحه الثقة بالنفس ممزوجة بحب الناس فيسعى لخدمتهم من خلال واجبه الذي يؤديه برغبة وبدون منية على أحد.. وهنا يرتبط ذلك الوهج الابوي ألذي غُرِسَ في أعماقه بوهج ذلك الفانوس المرتبط بفرحة القادمين وفرحته أيضاً على مر السنين حيث الرجوع لبيته ليلاً فقد أحب المشي في الليل منذ أن كان يافعاً " حتى لو كان الظلام الكثيف يغطي الكون كله.." وها هو الان وحيداً. ياترى... هل أواصل السير والهواجس تكمن في كل بيت.. أشباح طوقته في عتمة الليل المقفر. أيعقل أن تتوقف قدماي في تلك الدروب التي أعرفها.."جاؤا يحملون الهراوات والعصي والبلطات وكانو على مسافة قريبة مني" وكان نداء أبيه حاضراً . ياولدي " الصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب أن نحسن اقتناصها" ها هي اللحظة أمامه الان.. أشباحٌ في عتمة ليل.. غزاة "بعصيهم وأسلحتهم اليدوية الجارحة والراضة.." يا الهي.. هل أقاتلهم؟ ولكن كيف وما هي الوسيلة التي سأواجههم بها؟ . تَرَدّدَ للحظات، وكان لابد من تلك اللحظة الحاسمة أن تأتي. أجل.. " ألصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب أن نحسن اقتناصها" هكذا علمني أبي.. ذلك الرجل " ألذي لم يصغ الى صوت معلم في مدرسة، انما تعلم الحكمة من عمله اليومي.." وكان هناك من تشمم الرائحة.. رائحة الغنيمة ولا يمكن لمن تملأ أنفه تلك الرائحة الا ويتحرك نحوها.. كلب واحد عوى تبعه عده كلاب يتراكضون "كلما تراجع أحد الأشباح من الرجال بعصيهم وأسلحتهم..تجمع حولي الكلاب وبعضهم يرنوا اليَ.." وجوه شاهدتها في النهار عند مدخل السوق وفي أحد المقاهي "، بينما التفّت الكلاب حولي لتحرسني وأنا أتابع تراجعهم .
- نحن البرابرة قادمون، ألا تعرفنا؟ من أين لك هذه الحشود؟ حتماً ستكون لك معنا جولة قادمة..
و.. يحسم الصراع لصالح انسان متمسك بمبادئه حيث يخطو " نحو البيت خطوات وئيدة.. وقد أدركتُ اني سأصل البيت لامحال.. ولم يكن مصير الغزاة في النهاية الأ هكذا.. الهزيمة ما دام الشعب متماسك مع بعضه. لن يصبر الشعب على ضيم وقهر طبقي وعبودية لغازٍ معتدٍ أثيم، وسيكون طعماً للكلاب ودرساً أبدياً على مر العصور.." حتماً ستكون لك معنا جولة قادمة." قال الغرباء.. وهم ينهزمون..
كان الأسلوب السردي سلساً ومتوازناً أظهر امكانية الكاتب الروائي أحمد خلف، حيث بدت محاولته لتكثيف النص واضحة مع بروز ملامح الاسلوب الروائي الذي سيطر على بعض مفاصل القصة، لكنه نجح وبابداع في المحافظة على الأسلوب السردي للقصة القصيرة، فكان الربط بين الأحداث مثيراً وانسيابياً يضطرنا لأعادة القراءة ليشدنا لتفاصيل الأحداث من خلال ثيمة theme عبّر عنها باسلوب الحوار مرة dialogue أو باستعمال ضمير الغائب أخري وأيضا الحوار مع الذات monologue وقد شكل وبمجمله لوحة فنية رائعة عبر سيناريو حبك ببراعة فنية وأدبية وبتنا نرى الأشباح ونحن معه وسط ظلام دامس، ونتحفز لمقاومة الغزاة. لقد امتلكت هذه القصة معاييرها الفنية وخصائصها التقنية واستندت على ركائز تدوينية جعلت النص يعبر عن ذاته ويتوغل لذهن القاريء بانسيابية أخاذة وتسارع ملفت للنظر. أجل.. كل هذه الأمور أعطتها حضوراً مؤثراً فاعلاً، قد يجبر المتلقي على التوقف لربط خيوط الثيمة الرئيسية main theme ، والتي مؤداها الألتزام بحماية الوطن ومنع الأغراب من تدنيس أرضه سواء من الأجانب أم تيارات متزمتة دنيئة.
وكان الحوار مع الرجل الضريرمقتضباً، لكنه مُحمّل بقوةٍ انفجاريةٍ هائلة، وياليت الكاتب لم يكشف عن إعاقته بمعلومة مجانية " ... ألرجل الضرير قال هذا." ولا بأس من ابدالها بجملة: " قال الرجل ذلك وهو يتحسس الطريق بعصاه." ليبلغ التعبير الذروة climax . لقد خضعت القصة لأبعاد "زمكانية" أخذتنا من حيث لاندري للبيت الذي يمنح الألتزام ولمحطة القطار، حيث يقف به البطل بفانوسه وهو سعيد ثم الى دروب حفظها منذ صباه ويحاول الأغراب تدنيسها. لكننا وبالتأكيد سنصل الى بيوتنا امنين.. عندما يذوب الخوف وتتشابك السواعد وندري " ما الذي يدور حولنا ..فبيننا أبو ذر والمقداد ومالك الأشتر." وحراسنا " لا ينامون الليل أبداً..."
الروائي أحمد خلف. أهنؤك على ما كتبتَ ونحن فخورون وأنت بيننا. اشكرك.. فقد قضيت وقتاً ممتعاً مع قصتك.. تحياتي..
علي البدر
=====================================================
ألقصة:
استوقفني عند الناصية مساء, وقال لي وعيناه جاحظتان والدهشة تعلومحياه :
ـ- الى اين تمضي في هذا الليل البهيم ؟
كدت انفجر بضحكتي المعروفة لديه لكلمة الليل البهيم :
ـ- الى البيت , لقد انهيت حراستي وغادرت المحطة !!
ضحك وعيناه ما تزالان تنظران اليّ نظرة عجب واستفسار عن الذي يجري من حوله وهو لا يعرف لماذا يصر شخص مثلي على العناد والمطاوله مع حفنة من قطاع الطرق واللصوص واشباح الليل , وقال لي - : الا تدري ما الذي يدور من حولنا ؟ هل صحيح اننا نغض الطرف عما يفعله الجناة بأهلنا صاغرين على امل ان نقتص منهم يوما ؟ هل هذا صحيح بالله عليك ؟ اين ذهب المال واين اختفى الحلال ؟ ما عدت اطيق للأمر صبرا لا ورب الكعبه , الم يكن من بيننا ابو ذر والمقداد وابن الاشتر ؟ .. تركته يفرغ ما في جعبته من كلام واخبار بعضها يحف به الصدق كله وبعضه الآخر لا ادري كيف يمكنني الوثوق من حقيقته , لكني اتبعت ما يتبعه الحكماء من القوم , في انهم لا يشغلون انفسهم بحواشي الكلام انما يستمعون الى وجيب قلوبهم , اردت أن اقول له لماذا انت خائف عليَ ؟ هل تعرف ما يدور في الجوار ولا تريد البوح به اليّ بالصراحة المفترضة بصديق ان يصارح بها صاحبه ؟
قال لي بصوت لم يخل من نبرة التوجس والحذر من القادم من الايام:
- الا تعلم أن البرابرة قادمون ؟
- هذا شأنهم اليس البرابرة جزء من الحل ؟
لوح ذراعه في الفضاء وتدفقت قريحته بالقول :
- اقول لك البرابرة على الابواب , تحدثني عن الحل ! كيف يكونون حلا لنا ؟
- الرجل الضرير قال هذا ..
- لا يمكن العودة الى البيت ياصاحبي .
- تلك شيمتك تخشى الغرباء في كل حين ..
- انهم يتربصون بالمارة من الناس !!
- كنت اقطع الطريق الى البيت وحدي تلك الساعة التي انقطع فيها تيار النور واصبح من الصعب عليَ رؤية الموجودات من حولي , كانت الصعوبة البالغة بالنسبة لي ليس في كثرة العثرات في الدرب إنما بازدياد عدد الاشباح من حولي مما جعلني أشك في أن خطواتي ما عادت محل ثقة في تنقلاتي , واذا لم يستطع المرء الاعتماد على وجيب قلبه كيف يثق بأقدامه التي قد تسوقه الى المحنة او التهلكه كما يردد صاحبي , وانا لست من تغويه المصائب والخطوب ابدا, إنما أميل الى أن اكون على علم بما يحيط بنا , وكنت اعرف أن الفقراء من اهالينا يزدادون فقرا والاغنياء يغطسون بالدمسق وبالحرير ولا أحد ينقذنا من مستنقع الرذيلة هذا ابدا ؟
توقفتُ هناك في مدخل الحي وعلى مسافة بيّنةً من بيتنا, كم ينبغي عليّ السير حتى اصل ؟ هل انام في العراء ؟هل اتأبط ذراعي واغفو ساعة من الوقت ؟ وكيف احمي نفسي من اللصوص المردة و شذاذي الآفاق , اولئك الذين لم يبقوا لنا من شيء , كان ابي المقعد بعد تقاعده المجحف في السنوات الماضيه , يحذرني من الغفلة او التقاعس عن مرماي مهما كان بعيدا عن متناول يدي ,صحيح لم يكن أبي قد تعلم القراءة والكتابة في مدارس الحكومه لكنه ختم كل آيات الذكر الحكيم عن ظهر غيب ومنها تعلم المزيد من الحكمه والعبرة واخذ دروس الصبر والسلوان على ما يصادفنا في حياتنا اليوميه , لم اكن اخالفه او ارفض له أي طلب الا ساعة عودتي من عملي فهي دائما تكون في الليل وفي ظلامه الدامس , كان يعجب على سكوتي إزاء هذه الفوضى التي تلم بي وبحياتي كلما تأخرت في القدوم الى المنزل بعد انقضاء ساعات عملى في محطة القطار . كنت أنا الذي يلوّح بالمصباح الضوئي للقطار القادم وعلى ضوء ذلك الفانوس كان القطار يزحف بثقة نحو محطته مطمئنا وعلى اتم الوجوه واذ ارحب به اعني بالزائر الجديد يكون الراكبون قد هبطوا مستبشرين بوصولهم الى اهاليهم ومنازلهم واصدقائهم اذا ما عرفوا بوصول القطارالى المحطة الاخيرة , كان هذا ديدني بل قل عملي الذي اتقاضى عنه مرتبي ولا فضل لي على احد ولا من له سابقة عليّ , الجميع هنا في محطة القطار يعرف ماذا ينبغي عليه أن يفعل , وكان حشد من الناس ينادونني يا مرشد القطار واخرون ينادونني بصاحب الفانوس وأنا عارف ان لكل منا تسمياته الخاصة التي جبلت عليها نفسه ولا يجد من غضاضة في تركها او التخلي عنها , وكان من الصعب عليّ التخلي عن عاداتي التي اخذت عليها منذ كنت صبيا غرا او فتىً يافعا , وكنت احب السير في الليل وحيدا حتى لو كان الظلام الكثيف يغطي الكون كله ذلك لا يعني عندي اي شيء ولا يشكل اي خطورة على سلامة تفكيري وما تنتابني من خواطر ملتهبه ,.. ذلك الحي وتلك الشوارع والطرقات والدرابين كلها اعرفها معرفتي ليدي هذه , لا شيء يحول بيني وبينها ليلا ام نهارا , وكان ابي يقول لي : الصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب ان نحسن اقتناصها في اقل من هنيهة بل قل في شاردة عابرة من الزمن لا يمكن لنا أن نلامسها ملامسة اليد ورؤية العين تلك هي ضربة الحظ يا ولدي , وكنت اعجب لكلامه وانبهر لتناسق افكاره وانتظامها في خياله بحيث لا يدع لي فرصة تأمل كلماته بل اغرق في فيضها وتناسقها واسأل نفسي : ـــ اين تعلم هذا كله وهو الرجل الذي لم يصغ الى صوت معلم في مدرسة انما تعلم الحكمة من عمله اليومي ؟
لم يعد امامي من حيص بيص للهرب فقد أحاط بي حشد كبير من الاشباح في ظلام الليل المقفر , والغريب حدث ما كنت اتوقعه في ليل الوحشة ذاك , توقفت قدماي عن السير في الدروب التي اعرفها تماما , وتلفتُ يمنةً ويسرة كانوا يتدفقون من كل زاوية ومنعطف , جاءوا يحملون الهراوات والعصيّ والبلطات , كانوا على مسافة مني , ادركت أني سائر الى حتفي لا مناص , هل اقاتلهم ؟ ولكن كيف وما هي الوسيله التي سأواجههم بها ؟
كان صوت واحد قد ارتفع في الانحاء .. كلب واحد عوى بعده جاء عدد من الكلاب يتراكضون وقد تشمموا الرائحة , رائحة الغنيمة رائحة لا يمكن لمن تملأ انفه الرائحة الا ويتحرك نحوها , كان عدد الكلاب يزداد كلما تراجع عدد الاشباح من الرجال بعصيّهم واسلحتهم اليدويه الجارحة والراضة , تجمع حولي عدد من الكلاب يتشمم ثيابي وبعه يرنو الي , لم اتحرك ولم اطلق لساقي العنان بل تسمرت في مكاني لحين تأذن لي الكلاب بالسير نحو المنزل , كنت قد تبينت بعض الوجوه التي سبق لي أن شاهدتها في النهار عند مدخل السوق وفي احد المقاهي , ولكن لم استطع التيقن بصورة قاطعه من حقيقتهم , ومن اشخاصهم مع اني كدت اجزم انهم هم انفسهم. قد فكرت بهم وانا اتابع تراجعهم المذعور لمّا شاهدوا عن بعد كيف اصطفت الكلاب الى جانبي كأنها تنتظر مني الاشارة بالهجوم على الاشباح , صحت بصوت قوي الشكيمة لما رأيت الكلاب تحيط بي لتحرسني من لفيف القتلة:ـــــ من هناك ؟
جاءني الصوت قويا وساخرا :
- نحن البرابرة قادمون ,الا تعرفنا؟ ام انك تتغاضى عن وجودنا , من اين لك بهذه الحشود من الكلاب ..
حتما ستكون لنا معك جولة قادمه .
كانت الكلاب قد نبحت مرة اخرى , وبعضها زمجر بصوت مخيف فعلا .
تسألت : - الا ترى انك اخطأت الهدف ؟
ــــ قل لي ياهذا , الى متى ستظل تحتمي بكلاب الحراسة ؟
خطوتُ نحو البيت خطوات وئيدة خشية أن تظن بي كلاب الحراسة اني انوي القيام بهجوم ضدها , لم اتبين خطواتي انا وقد تركت امر السير البطيء الى قدميّ تسوقانني على مهل وقد ادركت أني سأصل البيت لا محال مادام حراسي لا ينامون الليل ابدا ..
تحليل نقدي لقصة "ألبرابرة قادمون" للروائي أحمد خلف
1) ألعرض النقدي التحليلي:
"استوقفني عند الناصية مساءً، وقال لي وعيناه جاحظتان والدهشة تعلو محياه." ياترى.. من هو الذي استوقفه؟ ولماذا عيناه جاحظتان؟ وأخيراً.. ألدهشة.. ما سببها؟ بداية استفزنا بها الكاتب بثلاثة ومضات مضيئة flash points. تجبرنا على القراءة الحذرة المتأنية.. هل هما صديقان أم غريبان؟ و "كدت أنفجر بضحكتي المعروفة لديه.." انهما صديقان إذن فالضحكة "معروفة لديه." والدهشة.. ما سببها؟ ايعقل "أن نغض الطرف عما يفعله الجناة بأهلنا صاغرين أن نقتص منهم يوماً؟". لدينا وطن مستباح اذن مقابل ردة فعل سلبية غير فعالة وهذا يثير الاستغراب بالطبع.. "أين ذهب المال وأين اختفى الحلال؟" قال الرجل الذي جحظت عيناه قبل قليل وبدا أكثر انفعالاً واستغراباً . "ما عدت أطيق للأمر صبراً. لا ورب الكعبة.. ".
وهكذا استمر بانفعاله مقابل ردة فعل منضبطة تبدو عقلانية من صاحبه الذي تركه " يفرغ ما في جعبته من كلام " بعضه يحف به الصدق كله وبعضه الاخر لا أدري كيف يمكنني الوثوق من حقيقتة، لكنني اتبعت ما يتبعه الحكماء من القوم...، الذين يستمعون الى وجيب قلوبهم." لا الكلام الانفعالي الذي قد يحوي الكثير من المبالغة، وبالتأكيد عندما تكون الأحداث جسيمة تكون المبالغات والأشاعات واردة، لكن هاجساً من القلق مشوباً بالفضول مع ارتداد داخلي ولد حوارأ ذاتياً monologue ": لماذا أنت خائف عليّ؟ هل تعرف ما يدور في الجوار ولا تريد البوح به الي بالصراحة المفترضة بصديق أن يصارح صديقه؟". ويأتي الجواب صاعقاً:
- ألا تعلم أن البرابرة قادمون؟ قال الرجل. وهنا تستمر محاولة الأستدراج ليكون الجواب "عقلانيا.. بعيداً عن حواشي الكلام.."
- هذا شأنهم. أليس البرابرة جزءاً من الحل؟ وهنا يلوح الرجل بذراعيه في الفضاء وكأنه يلملم غضبه ويحتوي انفعالاته التي انفجرت كما يبدو كالبركان:
- أقول لك البرابرة قادمون، تحدثني عن الحل...؟
- لا يمكن العودة الى البيت يا صاحبي... انهم يتربصون بالمارة..
حوار يستهل به الكاتب بداية القصة حيث يُعْلمنا أخيراً بأن صديقه هذا رجل ضرير " الرجل الضرير قال هذا.."، ربما يعتمد على بصيص من النور ليس إلاّ، حيث ان الوقت مساء ويتصوره ليلاً بهيماً :"الى أين تمضي في هذا الليل البهيم؟..". وقد أرسل الكاتب ومضات أخرى تعطي ملامحه بصورة غير مباشرة. جحوض العينين، وهي طريقة غالباً ما يمارسها الأعمى محاولاً اقتناصَ مزيدٍ من ملامح الصورة التي أمامه " وقال لي وعيناه جاحضتان."، وأيضاً إنه غالباً ما يلوح بيده في الهواء بحركة متناغمة مع حركة رقبته وجحوض عينيه، وربما لم تكن تلك الومضات كافيه فقد اضطر الكاتب للكشف التام عنه. ويبقى السؤال: هل يستوقف الضرير البصير أم العكس صحيح؟ "استوقفني عند الناصية مساءً..." والناصية هنا التقاء شارعين!
وهكذا نعيش وسط حالة من التوجس الذي اذا ما شابَهُ الخوف المستمر والتهديد من المحيط الذي يعيش الفرد وسطه، يتحول الى قلق، عند اعتمادنا على النظرية الفرويدية Sigmund Freudبالتحليل النفسي. شيء ما سيحدث.. الكل يعلم ومنهم ذلك الرجل الذي يدعي أنه يتبع " الحكماء من القوم" والذي حاول بذكاء تفريغ ما بمخيلة الضرير من أفكار متراكمة متداخلة مع الذي سمعه ،فقد تعود فاقدوا البصر السؤال لأشباع فضولهم، وفي الطرف الاخر انسانٌ لن تغويه المصائب والخطوب أبداً." وانما يميل أن يكون " على علم بما يحيط بنا." من خطر يدخل البلاد في متاهة مالها من قرار. ومن يحمي ذلك التراب الذي ولدنا فوقه ودفن السلف تحته؟ يا الهي أيعقل أن يدافع المسحوق وسط تناقض وصراع طبقي قسّم المجتمع الى غني وفقير مدقع؟ هذه هي الكارثة.. فكنت " أعرف أن الفقراء من أهالينا يزدادون فقراً والأغنياء يغطسون بالحرير ولا أحد ينقذنا من مستنقع الرذيلة أبداً.." ياترى.. من يوقف تلك الهجمة؟ ها أنا " أقطع الطريق وحدي بتلك الساعة التي انقطع فيها تيار النور ..." وبات عديم الثقة بأقدامه التي قد تسوقه الى المحنة أو التهلكة" كما يقول صاحبه. وفي كل الأمور.. لابد من الحذر برسم الخطوات الواثقة فأنا " لست من تغويه المصائب والخطوب." ، ولابد " أن أكون على علم بما يحيط بنا.." ألبيت.. لابد من الوصول اليه.. ظلام أغرق الحي.. " توقفت على مسافة بيّنة من بيتنا." لحظات ثقيلة ومربكة وكأن الزمن قد توقف. " كم ينبغي علي السير حتى أصل؟ " هل أنام في العراء؟ هل أتأبط ذراعي وأنام وأغفو ساعة من الوقت؟"
ولابد من مقاومة الأحساس بالوحدة فهي بصيص أمل أو نور يمنحه دعماً ليثق بأقدامه التي لابد أن تسوقه الى الأمان.. فكان ذلك الأب الذي استعمل كفلاش باك flash back و " ألذي لم يكن قد تعلم القراءة والكتابة في مدارس الحكومة لكنه ختم كل ايات الذكر الحكيم عن ظهر قلب ومنها تعلم الحكمة والعبرة وأخذ دروس الصبر والسلوان.." فكان الأب بالنسبة اليه كشعاع من نور يمنحه الثقة بالنفس والاطمئنان ويحذره " من الغفلة والتقاعس مهما كان بعيداً". وعليه " لم أكن أخالفه أو أرفض أي طلب له."
وهنا يكشف الكاتب عن عمله فقد " كنت أنا الذي يلوّح بالمصباح الضوئي للقطار القادم وعلى ضوء ذلك الفانوس كان القطار يزحف بثقة نحو محطته مطمئناً... وكانوا ينادونني يا مرشد القطار.." لقد أعطته وظيفته شعوراً بالفرح والرضا فهو يرحب بالقطار.." ويالها من فرحة عند رؤية المسافرين " مستبشرين بوصولهم الى أهاليهم ومنازلهم.." ويبدو أن الألتزام ألذي جاء نتيجة تلبيته واطاعته العمياء لذلك الأب الناضج الذي حذره من الغفلة أو التقاعس عن مرماه مهما كان بعيداً ، قد منحه الثقة بالنفس ممزوجة بحب الناس فيسعى لخدمتهم من خلال واجبه الذي يؤديه برغبة وبدون منية على أحد.. وهنا يرتبط ذلك الوهج الابوي ألذي غُرِسَ في أعماقه بوهج ذلك الفانوس المرتبط بفرحة القادمين وفرحته أيضاً على مر السنين حيث الرجوع لبيته ليلاً فقد أحب المشي في الليل منذ أن كان يافعاً " حتى لو كان الظلام الكثيف يغطي الكون كله.." وها هو الان وحيداً. ياترى... هل أواصل السير والهواجس تكمن في كل بيت.. أشباح طوقته في عتمة الليل المقفر. أيعقل أن تتوقف قدماي في تلك الدروب التي أعرفها.."جاؤا يحملون الهراوات والعصي والبلطات وكانو على مسافة قريبة مني" وكان نداء أبيه حاضراً . ياولدي " الصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب أن نحسن اقتناصها" ها هي اللحظة أمامه الان.. أشباحٌ في عتمة ليل.. غزاة "بعصيهم وأسلحتهم اليدوية الجارحة والراضة.." يا الهي.. هل أقاتلهم؟ ولكن كيف وما هي الوسيلة التي سأواجههم بها؟ . تَرَدّدَ للحظات، وكان لابد من تلك اللحظة الحاسمة أن تأتي. أجل.. " ألصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب أن نحسن اقتناصها" هكذا علمني أبي.. ذلك الرجل " ألذي لم يصغ الى صوت معلم في مدرسة، انما تعلم الحكمة من عمله اليومي.." وكان هناك من تشمم الرائحة.. رائحة الغنيمة ولا يمكن لمن تملأ أنفه تلك الرائحة الا ويتحرك نحوها.. كلب واحد عوى تبعه عده كلاب يتراكضون "كلما تراجع أحد الأشباح من الرجال بعصيهم وأسلحتهم..تجمع حولي الكلاب وبعضهم يرنوا اليَ.." وجوه شاهدتها في النهار عند مدخل السوق وفي أحد المقاهي "، بينما التفّت الكلاب حولي لتحرسني وأنا أتابع تراجعهم .
- نحن البرابرة قادمون، ألا تعرفنا؟ من أين لك هذه الحشود؟ حتماً ستكون لك معنا جولة قادمة..
و.. يحسم الصراع لصالح انسان متمسك بمبادئه حيث يخطو " نحو البيت خطوات وئيدة.. وقد أدركتُ اني سأصل البيت لامحال.. ولم يكن مصير الغزاة في النهاية الأ هكذا.. الهزيمة ما دام الشعب متماسك مع بعضه. لن يصبر الشعب على ضيم وقهر طبقي وعبودية لغازٍ معتدٍ أثيم، وسيكون طعماً للكلاب ودرساً أبدياً على مر العصور.." حتماً ستكون لك معنا جولة قادمة." قال الغرباء.. وهم ينهزمون..
كان الأسلوب السردي سلساً ومتوازناً أظهر امكانية الكاتب الروائي أحمد خلف، حيث بدت محاولته لتكثيف النص واضحة مع بروز ملامح الاسلوب الروائي الذي سيطر على بعض مفاصل القصة، لكنه نجح وبابداع في المحافظة على الأسلوب السردي للقصة القصيرة، فكان الربط بين الأحداث مثيراً وانسيابياً يضطرنا لأعادة القراءة ليشدنا لتفاصيل الأحداث من خلال ثيمة theme عبّر عنها باسلوب الحوار مرة dialogue أو باستعمال ضمير الغائب أخري وأيضا الحوار مع الذات monologue وقد شكل وبمجمله لوحة فنية رائعة عبر سيناريو حبك ببراعة فنية وأدبية وبتنا نرى الأشباح ونحن معه وسط ظلام دامس، ونتحفز لمقاومة الغزاة. لقد امتلكت هذه القصة معاييرها الفنية وخصائصها التقنية واستندت على ركائز تدوينية جعلت النص يعبر عن ذاته ويتوغل لذهن القاريء بانسيابية أخاذة وتسارع ملفت للنظر. أجل.. كل هذه الأمور أعطتها حضوراً مؤثراً فاعلاً، قد يجبر المتلقي على التوقف لربط خيوط الثيمة الرئيسية main theme ، والتي مؤداها الألتزام بحماية الوطن ومنع الأغراب من تدنيس أرضه سواء من الأجانب أم تيارات متزمتة دنيئة.
وكان الحوار مع الرجل الضريرمقتضباً، لكنه مُحمّل بقوةٍ انفجاريةٍ هائلة، وياليت الكاتب لم يكشف عن إعاقته بمعلومة مجانية " ... ألرجل الضرير قال هذا." ولا بأس من ابدالها بجملة: " قال الرجل ذلك وهو يتحسس الطريق بعصاه." ليبلغ التعبير الذروة climax . لقد خضعت القصة لأبعاد "زمكانية" أخذتنا من حيث لاندري للبيت الذي يمنح الألتزام ولمحطة القطار، حيث يقف به البطل بفانوسه وهو سعيد ثم الى دروب حفظها منذ صباه ويحاول الأغراب تدنيسها. لكننا وبالتأكيد سنصل الى بيوتنا امنين.. عندما يذوب الخوف وتتشابك السواعد وندري " ما الذي يدور حولنا ..فبيننا أبو ذر والمقداد ومالك الأشتر." وحراسنا " لا ينامون الليل أبداً..."
الروائي أحمد خلف. أهنؤك على ما كتبتَ ونحن فخورون وأنت بيننا. اشكرك.. فقد قضيت وقتاً ممتعاً مع قصتك.. تحياتي..
علي البدر
=====================================================
ألقصة:
استوقفني عند الناصية مساء, وقال لي وعيناه جاحظتان والدهشة تعلومحياه :
ـ- الى اين تمضي في هذا الليل البهيم ؟
كدت انفجر بضحكتي المعروفة لديه لكلمة الليل البهيم :
ـ- الى البيت , لقد انهيت حراستي وغادرت المحطة !!
ضحك وعيناه ما تزالان تنظران اليّ نظرة عجب واستفسار عن الذي يجري من حوله وهو لا يعرف لماذا يصر شخص مثلي على العناد والمطاوله مع حفنة من قطاع الطرق واللصوص واشباح الليل , وقال لي - : الا تدري ما الذي يدور من حولنا ؟ هل صحيح اننا نغض الطرف عما يفعله الجناة بأهلنا صاغرين على امل ان نقتص منهم يوما ؟ هل هذا صحيح بالله عليك ؟ اين ذهب المال واين اختفى الحلال ؟ ما عدت اطيق للأمر صبرا لا ورب الكعبه , الم يكن من بيننا ابو ذر والمقداد وابن الاشتر ؟ .. تركته يفرغ ما في جعبته من كلام واخبار بعضها يحف به الصدق كله وبعضه الآخر لا ادري كيف يمكنني الوثوق من حقيقته , لكني اتبعت ما يتبعه الحكماء من القوم , في انهم لا يشغلون انفسهم بحواشي الكلام انما يستمعون الى وجيب قلوبهم , اردت أن اقول له لماذا انت خائف عليَ ؟ هل تعرف ما يدور في الجوار ولا تريد البوح به اليّ بالصراحة المفترضة بصديق ان يصارح بها صاحبه ؟
قال لي بصوت لم يخل من نبرة التوجس والحذر من القادم من الايام:
- الا تعلم أن البرابرة قادمون ؟
- هذا شأنهم اليس البرابرة جزء من الحل ؟
لوح ذراعه في الفضاء وتدفقت قريحته بالقول :
- اقول لك البرابرة على الابواب , تحدثني عن الحل ! كيف يكونون حلا لنا ؟
- الرجل الضرير قال هذا ..
- لا يمكن العودة الى البيت ياصاحبي .
- تلك شيمتك تخشى الغرباء في كل حين ..
- انهم يتربصون بالمارة من الناس !!
- كنت اقطع الطريق الى البيت وحدي تلك الساعة التي انقطع فيها تيار النور واصبح من الصعب عليَ رؤية الموجودات من حولي , كانت الصعوبة البالغة بالنسبة لي ليس في كثرة العثرات في الدرب إنما بازدياد عدد الاشباح من حولي مما جعلني أشك في أن خطواتي ما عادت محل ثقة في تنقلاتي , واذا لم يستطع المرء الاعتماد على وجيب قلبه كيف يثق بأقدامه التي قد تسوقه الى المحنة او التهلكه كما يردد صاحبي , وانا لست من تغويه المصائب والخطوب ابدا, إنما أميل الى أن اكون على علم بما يحيط بنا , وكنت اعرف أن الفقراء من اهالينا يزدادون فقرا والاغنياء يغطسون بالدمسق وبالحرير ولا أحد ينقذنا من مستنقع الرذيلة هذا ابدا ؟
توقفتُ هناك في مدخل الحي وعلى مسافة بيّنةً من بيتنا, كم ينبغي عليّ السير حتى اصل ؟ هل انام في العراء ؟هل اتأبط ذراعي واغفو ساعة من الوقت ؟ وكيف احمي نفسي من اللصوص المردة و شذاذي الآفاق , اولئك الذين لم يبقوا لنا من شيء , كان ابي المقعد بعد تقاعده المجحف في السنوات الماضيه , يحذرني من الغفلة او التقاعس عن مرماي مهما كان بعيدا عن متناول يدي ,صحيح لم يكن أبي قد تعلم القراءة والكتابة في مدارس الحكومه لكنه ختم كل آيات الذكر الحكيم عن ظهر غيب ومنها تعلم المزيد من الحكمه والعبرة واخذ دروس الصبر والسلوان على ما يصادفنا في حياتنا اليوميه , لم اكن اخالفه او ارفض له أي طلب الا ساعة عودتي من عملي فهي دائما تكون في الليل وفي ظلامه الدامس , كان يعجب على سكوتي إزاء هذه الفوضى التي تلم بي وبحياتي كلما تأخرت في القدوم الى المنزل بعد انقضاء ساعات عملى في محطة القطار . كنت أنا الذي يلوّح بالمصباح الضوئي للقطار القادم وعلى ضوء ذلك الفانوس كان القطار يزحف بثقة نحو محطته مطمئنا وعلى اتم الوجوه واذ ارحب به اعني بالزائر الجديد يكون الراكبون قد هبطوا مستبشرين بوصولهم الى اهاليهم ومنازلهم واصدقائهم اذا ما عرفوا بوصول القطارالى المحطة الاخيرة , كان هذا ديدني بل قل عملي الذي اتقاضى عنه مرتبي ولا فضل لي على احد ولا من له سابقة عليّ , الجميع هنا في محطة القطار يعرف ماذا ينبغي عليه أن يفعل , وكان حشد من الناس ينادونني يا مرشد القطار واخرون ينادونني بصاحب الفانوس وأنا عارف ان لكل منا تسمياته الخاصة التي جبلت عليها نفسه ولا يجد من غضاضة في تركها او التخلي عنها , وكان من الصعب عليّ التخلي عن عاداتي التي اخذت عليها منذ كنت صبيا غرا او فتىً يافعا , وكنت احب السير في الليل وحيدا حتى لو كان الظلام الكثيف يغطي الكون كله ذلك لا يعني عندي اي شيء ولا يشكل اي خطورة على سلامة تفكيري وما تنتابني من خواطر ملتهبه ,.. ذلك الحي وتلك الشوارع والطرقات والدرابين كلها اعرفها معرفتي ليدي هذه , لا شيء يحول بيني وبينها ليلا ام نهارا , وكان ابي يقول لي : الصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب ان نحسن اقتناصها في اقل من هنيهة بل قل في شاردة عابرة من الزمن لا يمكن لنا أن نلامسها ملامسة اليد ورؤية العين تلك هي ضربة الحظ يا ولدي , وكنت اعجب لكلامه وانبهر لتناسق افكاره وانتظامها في خياله بحيث لا يدع لي فرصة تأمل كلماته بل اغرق في فيضها وتناسقها واسأل نفسي : ـــ اين تعلم هذا كله وهو الرجل الذي لم يصغ الى صوت معلم في مدرسة انما تعلم الحكمة من عمله اليومي ؟
لم يعد امامي من حيص بيص للهرب فقد أحاط بي حشد كبير من الاشباح في ظلام الليل المقفر , والغريب حدث ما كنت اتوقعه في ليل الوحشة ذاك , توقفت قدماي عن السير في الدروب التي اعرفها تماما , وتلفتُ يمنةً ويسرة كانوا يتدفقون من كل زاوية ومنعطف , جاءوا يحملون الهراوات والعصيّ والبلطات , كانوا على مسافة مني , ادركت أني سائر الى حتفي لا مناص , هل اقاتلهم ؟ ولكن كيف وما هي الوسيله التي سأواجههم بها ؟
كان صوت واحد قد ارتفع في الانحاء .. كلب واحد عوى بعده جاء عدد من الكلاب يتراكضون وقد تشمموا الرائحة , رائحة الغنيمة رائحة لا يمكن لمن تملأ انفه الرائحة الا ويتحرك نحوها , كان عدد الكلاب يزداد كلما تراجع عدد الاشباح من الرجال بعصيّهم واسلحتهم اليدويه الجارحة والراضة , تجمع حولي عدد من الكلاب يتشمم ثيابي وبعه يرنو الي , لم اتحرك ولم اطلق لساقي العنان بل تسمرت في مكاني لحين تأذن لي الكلاب بالسير نحو المنزل , كنت قد تبينت بعض الوجوه التي سبق لي أن شاهدتها في النهار عند مدخل السوق وفي احد المقاهي , ولكن لم استطع التيقن بصورة قاطعه من حقيقتهم , ومن اشخاصهم مع اني كدت اجزم انهم هم انفسهم. قد فكرت بهم وانا اتابع تراجعهم المذعور لمّا شاهدوا عن بعد كيف اصطفت الكلاب الى جانبي كأنها تنتظر مني الاشارة بالهجوم على الاشباح , صحت بصوت قوي الشكيمة لما رأيت الكلاب تحيط بي لتحرسني من لفيف القتلة:ـــــ من هناك ؟
جاءني الصوت قويا وساخرا :
- نحن البرابرة قادمون ,الا تعرفنا؟ ام انك تتغاضى عن وجودنا , من اين لك بهذه الحشود من الكلاب ..
حتما ستكون لنا معك جولة قادمه .
كانت الكلاب قد نبحت مرة اخرى , وبعضها زمجر بصوت مخيف فعلا .
تسألت : - الا ترى انك اخطأت الهدف ؟
ــــ قل لي ياهذا , الى متى ستظل تحتمي بكلاب الحراسة ؟
خطوتُ نحو البيت خطوات وئيدة خشية أن تظن بي كلاب الحراسة اني انوي القيام بهجوم ضدها , لم اتبين خطواتي انا وقد تركت امر السير البطيء الى قدميّ تسوقانني على مهل وقد ادركت أني سأصل البيت لا محال مادام حراسي لا ينامون الليل ابدا ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق