تجربة أربعة عقود مع الشعر
وثلاث سنوات مع النشر الألكتروني بالفيس
يضع خلاصتها بين أيدينا
،؛؛؛؛؛؛؛؛،***،؛؛؛؛؛؛؛؛،***،؛؛؛؛؛؛؛؛،***،؛؛؛؛؛؛؛؛،
وثلاث سنوات مع النشر الألكتروني بالفيس
يضع خلاصتها بين أيدينا
،؛؛؛؛؛؛؛؛،***،؛؛؛؛؛؛؛؛،***،؛؛؛؛؛؛؛؛،***،؛؛؛؛؛؛؛؛،
...
الإخوة معشر الشعراء والشواعر الكرام ، إحتفالاً بمناسبة صدور مجلدي أعماله الشعرية الكاملة ، وللقيمة النقدية والمعرفية الهامة في الإفادة من آراء وخبرة هذا الرجل العملاق ، الغني عن التعريف ، أحببت أن أجمع لي ولكم في منشورٍ واحد ، يسهل الوصول إليه ؛ أهم المقالات والخواطر عن الشعر والشعراء وقضاياهم ، وقضايا النشر الألكتروني للشعر بمواقع التواصل ، التي قام بكتابتها ، ونشرها على يومياته-مشكوراً-الوالد الشاعر الفلسطيني الكبير/
محمود حسن مفلح
أمدَ الله لنا في عمره وعطائه ، واضعاً بذلك بين أيدينا خلاصة تجرتبته الغنية و الطويلة ، الممتدة لأكثر من نحو أربعةِ عقود مع الشعر ، وثلاثة أعوام مع النشر الألكتروني بالفيس بوك ، الصادر له خلالها أكثر من عشرين ديواناً ، وفيما يلي هذه المقالات ، أوردُ كلاً منها كما كتبها بالنص و العنوان :
" إذا كان لكل شاعر طقسه في الكتابة ؛ فإنني أكتب عند الفجر ، وبالقلم الرصاص ، وقربي الممحاة ، وأُسَوِّدُ النص ثلاث مرات على الأقل ، هذا جزء من المعاناة مع القصيدة ، التي يقرأها القارئ في خمس دقائق "
1 - إعتراف :
أخشى أن يظن أحد - وأنا أتحدث عن نفسي قليلاً- أنني مصاب بالغرور ، أو أنني أبحث عن شهرة ، وأنا أزعم -و دون إدعاء فارغ-أن الله نزع من نفسي هذا الداء ، أما الطموح فكلنا يسعى إليه ، أقول : أنني بدأت بنشر قصائدي في مطلع سبعينيات القرن الماضي في الكثير من المجلات ، وكنت عندها حريصاً على جمع كل ما أكتب ، ثم طباعتها في دواوين حتى بلغت عشرين ديواناً ، وقد آن الأوان لإن تخرج هذه القصائد في أعمال كاملة...في جزءين، وقد هيأ الله لي من الإصدقاء من تكفل بذلك ، وسوف تصدر الأعمال الكاملة قريباً بإذن الله ، بصفحاتها الألف تقريباً ، وكان عليَّ أن أراجع القصائد لتصويب الأخطاء ، وإبداء الرأي ، وعندما رجعت لي تلك القصائد التي كتبتها منذ أكثر من 40 عاماً ؛ شعرت بشيءٍ من الكآبة والحزن لأنها لم تكن بالمستوى الذي أرضى عنه الآن ، رغم أنها لقيت في حينها قبول الكثيرين وإعجابهم ومنها ما أصبح نشيداً ، ووجدت أن تجربتي الشعرية مرت بمراحل معقدة غيرت طعمها وخط سيرها ، وكثيراً من مضامينها ، وكأن قصائدي الأولى ليست لي !! ، إذ غلب عليها نزق الشباب والمباشرة ، وحب الوصول إلى الناس و فقر الأدوات الفنية ، وضيق الأُفق أحياناً ، فماذا كان عليَّ أن أفعل..؟! ، هل أستبعد هذا الكم الكبير من القصائد..مكتفياً بما أقتنع به..؟! أم أضع تجربتي بعجرها و بجرها بين أَيدي القراء و النقاد معاً..؟! ، و إن كان لي من نصيحة -لأبنائي من الشعراء الشباب- فهي إستبعاد النطيحة والمتردية والموقوذة وما أكل السبع من قصائدهم ، عندما يُقدِمون على طبع ديوان ؛ حتى يبقى الأجود والأجمل ، والقادر على عبور الزمان والمكان ، وقد أعجبتني عبارة قرأتها حديثاً هي :
" أن الشعر هو فن الحذف أكثر منه فن الإضافة ".
2- الشاعر و التجديد :
ليس من المعقول أن يتطور كل شيء في هذا العالم إلا الشعر..!! ، وليس من المعقول أن يُتاح لنا ركوب الطائرة ونفضل ركوب الناقة...! ، وليس من المعقول أن يظل الشاعر يقاتل بأسلحة بدائية كالسيف والرمح ، وأن تظل المرأة ظبياً ووردة وعود بان وقصفة ر يحان...الخ ، ليس هذا معقولاً ، ثم أن أوزان الخليل ليست مقدسة وأن تظل سجناً للشعراء ، وكل من يتمرد عليها يكون مارقاً...!! مئات الشعراء كتبوا عن قضية فلسطين ولم تخرج قصائدهم عن التنديد بالإحتلال والبكاء على الديار والحلم بالعودة وعنتريات أخرى وصلت حد المهزلة...!! ، ألا نستطيع أن نعالج قضية فلسطين من زوايا أخرى أكثر إثارة ودهشة ، وأقل صخباً وضجيجاً ؟! ، وأن نمد جسوراً إلى كل من يتعاطف مع قضيتنا في هذا العالم - غير الجسور التي مددناها..!؟ ، إذن كيف يكون التجديد..!؟ هل يكون بالبناء اللغوي المختلف...؟! والسعي في تعديل تركيب الجملة العربية مع المحافظة على الأصول...أم بإختيار موضوعات غابت عن الأقدمين؟! ، والحياة تعج بالموضوعات ، هل للتجديد معجم لغوي مختلف كما يزعم الحداثيون..!؟، وهل يمكن أن يتطور الشاعر دون أن يتطور القارئ حساً وثقافة ورؤية فنية حتى يصبح قابلاً لإحتضان هذا الجديد.؟!
وهل التجديد الذي قام به بعض الشعراء مثل أدونيس، الماغوط، محمد عفيفي، مطر ، قاسم حداد -جماعةإضاءة77 ، الذين وجدوا ترحيباً من كثير من النقاد المهمين ، ثم محمد أبو دومة وحسن طلب ومحمد بتيس وسواهم...وسواهم ؛ هو التجديد الذي نصبو إليه..!؟ وهل يستطيع الشاعر أن يدير ظهره لما يجري حوله..!؟
وينشغل فقط بتجديد نصه شكلاً ومضموناً ...؟! ، وما موقف الشاعر إذا رفض الجمهور تجديده ، وقالوا هذا نص لايمت إلى هويتنا ولا إلى ثقافتنا ولا إلى وجودنا الحضاري بصلة...!؟ ، وهل التجديد الذي طرأ على القصيدة الاوروبية يصلح أن يكون أساساً للبناء عليه..!؟ ، أسئلة كثيرة أرقتني ؛ كما أرقت غيري من الشعراء ، وهي بحاجة إلى إجابات شافية ومقنعة.
3- الشعراءُ و الندم :
كثيراً ما يندم الشعراء على قصائد كتبوها وأسرعوا في نشرها لأسباب عدة...منها أنها كانت من البواكير التي لم تنضج بعد،ومنها أنهم أرادوا تغطية مناسبات آنية قبل فواتها لإثبات الوجود ، و لكنها كانت ضعيفة وساذجة لاترقى إلى مستوى الشعر المنشود....! ، ومنها أنهم وقعوا في تناقض صارخ فكرياً و عاطفياً ، و تأرجحوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين..!! ؛ فندموا وكان للقصيدة إغراء لم يستطيعوا مقاومته ، وعندما أستقرت تجربتهم فكرياً وفنياً ندموا ولات ساعة مندم...!
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى،فهذا -محمود درويش- تبرأ من أعماله الأولى (عاشق من فلسطين)،(حبيبتي تنهض باكراً)،(العصافير تموت في الجليل) و سواها ، وكان يتضايق جداً عندما يطلب منه الجمهور قراءة "سجل أنا عربي " لأنه يعتبرها ساذجة ومن المراهقات الشعرية التي لا يُعتدُّ بها...! ، ولكنه لم يستطع التخلص من ضغط الجمهور ؛ فيستجيب لطلبهم على مضض...! ، وكذلك الشاعر الجواهري؛ شعر بعذاب الضمير عندما استعرض مسيرتهُ الشعرية وبعض قصائده إذ وقع في تناقض صارخ عندما مدح الأضداد...تقريباً...رؤساء إشتراكيين وملوكاً تقليديين ، مدحَ الملك فيصل الثاني في العراق ، ثم مدحَ قائد الإنقلاب العسكري عليه...عبد الكريم قاسم ، مدحَ حافظ الأسد ، ثم مدحَ الملكين المغربي..والأردني...!!، والجواهري يفخر أنه إشتراكي، وفيه لوثة شيوعية ، وأمضى ردحاً طويلاً من حياته في منفاه في براغ...تشيكوسلوفاكيا ؛ عندما كانت شيوعية، والأمثلة كما قلت كثيرة، إذن ماذا يفعل الشاعر..!؟ ، هل يقاوم إغراء القصيدة التي يتوقع أنه سوف يندم على كتابتها ، وما أصعب ذلك على الشاعر..! ، هل يخنق هذا الوليد ويتريث حتى تنضج ظروف حمله..!؟ ، لماذا نبادر إلى نشر كل ما نكتب فوراً..؟! ، قبل أن يجف حبر النص...؟! ، وبعد سنوات سوف نبتسم ساخرين مما كتبنا لأن هذا الذي أسرعنا في نشره ليس شعراً قابلاً للخلود...!! ، أيها الشعراء : وأنا منكم لا تعجلوا في قطف الثمار ، فالعنب دائماً قبل الزبيب ، قاوموا إغراء القصيدة ، ورغبتها في الظهور على الورق ، لا تنشروا إلا ما تعتقدون إنه صالح للحياة حاضراً ومستقبلاً ، وأنه شعر حقيقي طافح بالشعرية ، حتى ولو قدمتم في العمر كله عملاً واحداً...! ، هذا ما أملته علي تجربتي المتواضعة ، وأن كثيراً من الشعراء الكبار ليس لهم سوى عملٌ واحد :
بغاثُ الطيرِ أَكثرُها فِراخاً
و أُمُّ النسر مِقلاةٌ نزورُ
أي أن النسر قليل الإنجاب ، ففي كل عام نسر واحد...!!
4- اللغةُ الشاعرة :
تشيع في كتب النقد الحديث عبارة اللغة الشاعرة ، و أنا أسأل : هل هناك لغة شاعرة و لغة غير شاعرة...؟! ، وما خصائص اللغة الشاعرة...؟! ، هل هي جموح الخيال وكثرة الصور البيانية...؟ وهل يستطيع الشاعر أن يجعل من لغة غير شاعرة...لغة شاعرة..؟! ، كما يُشكل الفنان من الصلصال العادي أروع الأشكال الفنية..؟ ، وهل صحيح أن الإبرة التي تخيط الكفن هي نفسها التي تخيط ثوب العرس...؟، وهل القصائد المكتنزة بالصور الغريبة الصادمة البعيدة هي دائماً الأجمل والأرقى...؟ ، أليس هناك نصوص شعرية تخلو تماماً من الصورة الفنية كُتِبَ لها الخلود و الأمثلة كثيرة...؟
وما سر خلود هذه القصائد رغم غياب الصورة عنها...؟ ، هل هناك عناصر أخرى غير الصورة الفنية وراء جمال النص ورونقه...؟..ربما كانت أهم من الصورة نفسها...؟ ، وهل الشعراء هذه الأيام على صواب عندما يلهثون وراء الصور الغريبة المستهجنة...بحجة التفرد والإبداع...؟ ومن الذي أغرى شعراءنا بمقولة تفجير اللغة و غسلها من الماضي تماماً و كسر كل المعايير..؟..حتى بدأنا نقرأ نصوصاً لا تمت إلى أرواحنا و أذواقنا بصلة ، و ليس فيها أي ملمح من ملامح تراثنا الذي أرجو ألَّا يكون فقيراً..كما قال بعضهم ؛ حيث قال بالنص : " التراث ليس مركزاً لنا و ليس نبعاً و لا دائرة تحيط بنا ، و الشاعر لا يمتلك لغته إلا بمقدار ما يغسلها من آثار الأقدمين ، و يُفرغها تماماً من ملك الذين امتلكوها في الماضي " .
5- الشاعر و التفسير :
في منتصف سبعينات القرن الماضي كنا في قاعة تصحيح أوراق الثانوية العامة لمادة اللغة العربية بدمشق...و اختلفنا على شرح بيت من النص المطلوب شرحه وارتفعت الأصوات وكثر اللغط..! ، مما دعا رئيس القاعة إلى الإتصال بصاحب النص الشاعر سليمان العيسى ، و كان يومها موجهاً أولاً في وزارة التربية بدمشق...يسأله عن شرح البيت الشعري المختلف حوله ، و كان جواب الشاعر الكبير مفاجأة لنا جميعاً عندما قال : " و الله أنا نفسي لا أعرف المعنى تماماً...إتفقوا على معنى مناسب يتفق مع روح النص...المهم أن يحوم الطالب في إجابته حول المعنى العام و أن يتنفس هواء القصيدة "...!!
وكانت هذه الإجابة بطبيعة الحال من مصلحة الطلاب ، لأنهم جميعاً كانوا يحومون حول المعنى العام و يتنفسون هواء النص..!! ، و قد طرحت إجابة الشاعر الكبير قضية هامة...هل يحق لنا أن نطالب الشاعر بتفسير ما يكتب..!؟ ، و هل هو مُلزم بالإجابة عن إستفساراتنا..؟! ، هل نعتبر كل تفسير للنص صحيحاً و مقبولاً ما دام النص قد أصبح ملكاً للقارىء بعد أن غادر أوراق منشئه..!؟ ، و ليس من حق الشاعر أن يعترض على أي تفسير لنصه صدر من القراء فضلاً عنِ النقاد..!؟ ، هل يُصمم الشاعر فكرته و يُبلورها في ذهنه قبل أن يصبَّها على الورقة.!؟ ، وهل تكون في ذهنه واضحة كل الوضوح..؟..أم أَنه أحياناً لا يعي ما يكتب ؟ ، هل تولد الفكرة مع الكلمة الاولى للقصيدة و تبدأ بالنمو شيئاً فشيئاً كما ينمو الجنين تماماً في الرحم حتى يكتمل الحمل مع آخر كلمة في النص..؟! ، كيف تولد الفكرة التي تفرض على الشاعر إسقاطها على الورق..؟ أسئلة كثيرة تنتظر إجابات شافية و مُقنعة من أصحاب الشأن من القراء و النقاد و المبدعين و سواهم .
6- الشعراءُ الكبار و ممتلكاتهم الشعرية :
يُقال أن الشعراء الكبار يصلون إلى مرحلة أن أحدهم يكتشف أرضاً جديدة يحرثها و يُعشبها و يضع فيها بذوره الإبداعية ، ثم يقوم بتسييجها حتى يمنع لصوص الشعر من السطو عليها...!! ، و هذه الأرض خاصة به ، و ليس من حق أحد من الشعراء أن يقتحمها ؛ ففيها طقسه الشعري و طريقته في الكتابة و أدواته الفنية ، و منجزه الإبداعي كله ، و كذلك تقنياته التي رسخها بعد معاناة طويلة و رحلة شاقة مع الإبداع
على الشاعر المبتدىء أن يغسل مفرداته و قاموسه الشعري و صوره الفنية من كل ما علق بها من آثار الآخرين...!! ، و أن لا يُفكر بالإقتراب من ممتلكات غيره..!! لا أدري أن كان هذا التوصيف منطقياً و مقبولاً ، أم إنه ضرب من الوهم و الخيال غايته حث الشعراء على مزيد من التجاوز و الإبداع طالما أن لكل شاعر كبير أرضاً تجاور أرض شاعر كبير آخر ، و لا تتداخل معها و أن كانت مجاورة و منافسة لها...؟!
أم أن ما يختزنه الشاعر في ذاكرته هو ملك له يتصرف به كيف يشاء و متى يشاء بشرط..أَلَّا يتكلف و لا يقلد و لا يتطاول على مقتنيات الآخرين .
7- وظيفةُ الشعر :
إذا صمت الشاعر إزاء ما يدور حوله من أحداث لبعض الوقت أُتهم بالسلبية و النرجسية...! ، وإذا نهض بتسجيل ما يجري حوله..جاء النص فجاً و فقيراً
و عجولاً ، و من الصعب على أي شاعر أن يظل لاهثاً وراء الأحداث،راصداً و مسجلاً
، إذن ماذا يفعل الشاعر؟، هل ينتظر أسابيعَ وأشهراً...يلتقط فيها أنفاسه ليكتب نصاً مكتملاً مقنعاً..مستوحى مما أستقر في ذاكرته عن هذا الحدث أو ذاك..؟
أم يشحذ أدواته الفنية و يستنهض همته الشعرية لئلا يفلت منه هذا الحدث و أَلا يكثر حوله اللغط..؟ ، وهل وظيفة الشعر هي تسجيل الأحداث وتوثيقها و ملاحقتها..!؟، أم أن له وظيفة أخرى تقوم على الإكتشاف وتعميق الرؤية ، وخلق واقع فني جديد..!؟ ، بعيداً عن الإنفعال الطارىء و العاطفة الآنية التي تقوم على الفعل ورد الفعل...!؟ ،متسلحاً برؤية كونية شاملة وعميقة تبلورت من خلال قراءات متواصلة و ممارسات مضنية...؟! ، هذا هاجس لا أتوقع أن أحداً من الشعراء الحقيقيين ينجو من ضغطه ، و علينا ألا نتسرع في إصدار الأحكام على الشعراء إذا ما صمت بعضهم إزاء ما يجري من أحداث على الساحة فنتهمهم بالخيانة أو العمالة ، و إذا كنا أقل قسوة فبالأنانية والإنسلاخ عن المجتمع...!
8- الشعرُ و الزخارف :
أقرأ بين الحين والآخر نصوصاً لشعراء معروفين ، وأكثرهم من الشباب...أراهم فيها يُولون الجانب الشكلي الاهتمام الأكبر..يوظفون كل ثقافتهم عن البيان والبديع في كتابة النص..! ويتفننون في ذلك ، ويبدعون في رسم الصورة الشعرية المدهشة والغريبة أحياناً،والقائمة على توظيف كل جماليات البناء اللغوي والمحسنات اللفظية، وأنا أتابع هذه النصوص مأخوذاً بجمال الصورة وجدتها وغرابتها أحياناً ، ولكنني في نهاية القراءة لا أشعر بالتعاطف الحقيقي مع هذا النمط من الشعر ، ولا بالإنفعال العميق..! وبصراحة فأنني لا أجد لهذه النصوص أثراً في نفسي بعد أيام ! ، لأن الأُوكسجين الشعري فيها لم يحترق كله! ، وأن اللوعة التي أبحث عنها وراء الكلمات كانت غائبة، وبلغة النقاد القدماء فإن العاطفة كانت باردة ، إن لم تكن غائبة تماماً ، والنص لا يبوح بمعاناة حقيقية للشاعر ، ولا يكشف عن تجربة عميقة له ..! ، هؤلاء الشعراء بلا قضايا حقيقية ، بلا أوجاع ولا هموم.! الحياة من حولهم تفور وتمور ، وهم مشغولون بزخارفهم ، لا ينصهرون ولا يُلامسون أوجاع الناس وهمومهم ، يكتبون نصوصاً تدهش العين ، ولكنهم لا يكتبون النصوص التي تحرك المشاعر وتهز الإحساس ، هذا رأيي المتواضع..أقول إلى متى سوف تستمر هذه الموجة..؟! وإلى متى سوف نظل مأخوذين بالشكل الفني دون النظر إلى اللباب ، و دون الغوص عميقاً...لعلنا نصطاد لآلئ أكثر قيمة..؟! لأن الطلاء في كل بناء سوف يزول ، ويتبقى من البناء أركانه ودعائمه.
9- الشعراءُ و الإنتشار :
أسئلة بريئة...ولكنها مشروعة ، ما السر وراء إنتشار بعض الشعراءِ وإنحسار بعضهم؟ ، هل هناك عوامل أُخرى غير الطاقة الفنية وحجم الإبداع لإنتشار هذا وإنحسار ذاك؟، وحتى أكون أكثر وضوحاً...
لماذا إذا ذكر العراق -مثلاً- يقف إسم السياب والبياتي وبلند الحيدري على أنهم الأشهر؟! وقد أنجزت فيهم عشرات الرسائل الجامعية ، وما زالوا حاضرين بقوة في المشهد الشعري العربي!
ألم يكن في العراق غيرهم في حجم الموهبة وقوة الأداء..!؟ ، رغم أن أحداً لا يعترض على أنهم شعراء كبار ، ولماذا إذا ذكرت مصر تقفز فوراً أسماء صلاح عبد الصبور و عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ، وكلهم شعراء كبار أيضاً ، ولكن ألم يكن في مصر إِلا هؤلاء يستحقون الذكر والإنتشار..!؟ ، ولماذا إذا ذكرت فلسطين تقفز أسماء -وبشكل آلي- كمحمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد و فدوى طوقان ، و كلهم شعراء راسخون ، ولكن...هل هم الأفضل فعلاً على الساحة الفلسطينية..؟! ، أم أن القضية الفلسطينية -وهي مقدسة عند الجميع-كانت رافعة إضافية لهذا الإنتشار ، و ربما كانت تسبقهم إلى الجمهور الذي كان يبادر بالتصفيق..!؟
وحتى أوسع الدائرة أكثر...هل جاءت شهرة ناظم حكمت و رسول حمزاتوف و بابلو نيرودا -مثلاً-من حجم الإبداع الحقيقي؟! ، أم أن هناك عوامل أخرى من خارج دائرة الفن أَثرت في هذا الذيوع..!؟
بإختصار أقول : هل هناك عوامل خارجة عن دائرة الإبداع تلعب دوراً في إِنتشار هذا وطمس ذاك؟! ، وهل هناك شعراء حقيقيون عاشوا وماتوا ولم يسمع بهم أحد؟! ، أسئلة بريئة...ولكنها مشروعة ، وقد تثير شهوة القارىء ليضيف إِليها ما يريد في إطار الموضوعية والإنصاف.
10- الأصلُ و الصورة :
كلما قرأت نصاً شعرياً على الفيس لأحد الشعراء الشباب ؛ سمعت صرير قلم شاعر كبير على الورق ، وقفزت من بين السطور صورة ذلك الشاعر الرمز واضحةً جلية.
إن هناك شعراءً كباراً تركوا بصماتهم على قصائد الكثير من الشعراء الشباب ، وأثروا فيهم تأثيراً يُخَيَّل للقارىء أنهم لا يستطيعون التخلص منه..!! و للتفصيل أكثر...أقول : -وأرجو أن أكون مخطئاً- أن أكثر الشعراء اليمنيين من الشباب-مثلاً-متأثرون إلى حد التقليد بالشاعر الرمز البردوني ، وكذلك شعراء الشام ، ونزار وشعراء فلسطين والدرويش ، وشعراء مصر وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور، وهناك إستثناءات لا أُنكرها وإن كانت قليلة، ورغم أن هؤلاء الشباب قطعوا شوطاً في التجربة الشعرية ؛ إلا أنهم ما زالوا أسارى هؤلاء الكبار يدورون في فلكهم ، وينسجون على منوالهم ، والذي يُدرك كل ذلك هو القارىء المثقف ، والناقد الحصيف ، وكل ما أخشاه هو أن لا ينتبه الشعراء الشباب إلى هذا ، وأن يطمئنوا إلى نتاجهم ، ويظنوا أنهم ناجون من هذا التأثر الذي يصل إلى حد التقليد كما أسلفت ، وهذا يذكرني بما قاله توفيق الحكيم في هذا الصدد : " ما أصعب الجهود التي ينبغي أن تبذلها النجوم لتضيء في حضرة الشموس..!! " ، وقوله : " عندما ينفك الشاعر من أسار مثاله الشعري وسطوته وجاذبيته ؛ عندها فقط نسمع دوياً أدبياً هائلاً..فنسارع إلى القول الآن فقط ولد شاعر حقيقي جديد..له لغته وصوته ومداره أيضاً ، وكذلك بصمته الخاصة به ، ومن حوله سوف تدور كواكب شعرية جديدة..! " ، أمَّا كيف يتم ذلك..؟! ؛ فإن الأمر متروك إلى الشعراء الشباب وإقتناعهم بهذا ، وحرصهم على الأخذ به .
11- غزل ... غزل :
لا أعتقد أن أحداً معافى في بدنه ، سليماً في ذوقه..يرفض شعر الغزل جملةً وتفصيلا..! ، بل على العكس فإنه الموضوع الأكثر قبولاً و رواجاً ، ولكننا نعترض على هذا النوع الرائج على شبكات التواصل الإجتماعي ، فإلى متى سوف يظل شعراؤنا يُرهِقونَ النرجس ، وهم يُشبهون به العيون..؟! ، والكرز وهو ينبت على الشفاه..؟! ، والخدود والورود وأعواد الزان والقدود والعنق العاجي والليل والشعر الطويل..؟!...إلى آخر ما هنالك من هذه الأوصاف الرائجة منذ مئات السنين..؟! أليست هناك طريقة أخرى لتناول هذا الموضوع ؟ ، رؤية مختلفة؟ ، طقس غزلي غير هذا المكرور و المطروق..؟! ، غزل يثير الدهشة و المتابعة معاً...ولا أدل على سذاجة بعض الشعراء من أنهم يعرضون تحت قصائدهم الضعيفة صوراً لفتياتٍ جميلاتٍ مكحولاتٍ ممشوقاتٍ..إلخ ، لعل هذه الصور ترفع من القيمة الفنية للنص..! ولو رجعنا إلى تراثنا الأدبي لوجدنا فيه من أنواع الغزل ما يهز القلوب ، ويُنعِش الأرواح:
يموتُ الهوى مني إذا ما لقيتُها
ويُضرى إذا فارقتها فيزيدُ
وذلك الشاعر الذي كانت أصابعه تُندَى وتُورِق إذا ما مَسَّ أصابع محبوبته ، وقد نسيت البيت ، وقول الآخر :
واللهِ ما طلعت شمسٌ و لا غربت
إلا و حُبُّكِ مقرونٌ بأنفاسي
ولا خلوتُ إلى قومٍ أُحَدِّثَهُم
إلا وأنتِ حديثي بينَ جُلَّاسي
ولا هَمَمتُ بشربِ الماءِ من عطشٍ
إلا رأيتُ خيالاً منكِ بالكاسِ
هذا شعرٌ عابرٌ للقرون ؛ لأنه يحملُ عناصر بقائهِ وحيويته ، ودائرة الحب والغزل أوسع بكثير مما ذكرت ، و مجالها كذلك أرحب ، ولكننا نحتاج إلى الإقتناع بأن قاموس الغزل الرائج قدِ استُهلِك ، وأن الشاعر الحق يستطيع أن يجترحَ برؤية نافذة وثقافة عميقة..أُسلوباً آخر للغزل ، أم أن للجسدِ الأنثوي عند كثيرٍ من الشعراء جاذبية يصعب الإنفلات منها..!؟
12- النخبة و الجمهور :
من عادتي حضور ندوة أدبية أسبوعية ، في صالون أدبي عريق عمره أكثر من نصف قرن..! ، وعلى ذمة من أخبرني ؛ فقد كان يتردد على هذا المكان كبار أدباء مصر (إبراهيم ناجي-علي محمود طه-علي الجارم-السحرتي -أحمد زكي أبو شادي- وغيرهم) ، ولكن الأمر الذي أثار دهشتي أن عدد الحضور في أحسن الحالات ما كان يزيد عن20 شخصاً !! ، وعندما تجرأت وسألت من يدير الجلسة-و هو شاعر معروف- قال لي : " نحن يا أخ محمود لا نلتفت إلى العدد ، وأنا منذ 30 عاماً أُدير هذه الندوة ؛ لا أذكر أن العدد قد زاد عما تراه ؛ لأن الشعر فن النخبة ، وليس فن العامة" ..!! ، فقلت في نفسي : ما دام الشعر فن النخبة؛ فلماذا إذن يُعاب على الشاعر أنه لا يمس بهموم الناس ، ولا يُتقِن التواصل معهم..!؟، وأنه متقوقع في برجه العاجي ، وأنه أناني أيضاً ، ولماذا أذن تقام للشعراء المنابر..عليها يتزاحمون...!؟ ليس هذا فحسب ، وإنما يتفاخرون بعدد الحضور ما دام الشعر نخبوياً..!! ، كيف نستطيع -إذن-حل المعادلة..أن يكون الشعر نخبوياً وشعبياً في آنٍ واحد..؟! بمعنى آخر...كيف يستطيع الشاعر أن يحقق ذاته دون أن ينفصل عن جمهوره..!! ولماذا قال محمود درويش : " أنا على إستعداد لأن أضحي بنصف جمهوري إذا كان عائقاً لمسيرتي الإبداعية..! " ، تلك أسئلة راودتني وأنا أستمع إلى إجابة الشاعر الكبير ، ولا أظن أن كثيراً من الشعراء قد استطاع أن يحقق هذه المعادلة الصعبة..أن يحافظ على خصوصية التجربة الإبداعية، ويقنع الناس أنه جزء من همومهم وأوجاعهم..! ، أن يكون شاعراً نخبوياً وشعبياً في الوقت نفسه..!
13- كيف...؟ كيف...؟ :
قضية تقلقني ، وتقلق بالتأكيد غيري من الشعراء..كيف نستطيع أن نطور أدواتنا الفنية ، وأن نكتب نصاً مختلفاً عن كل ما كتبناه سابقاً ..؟ ، كيف نستطيع تحقيق منعطف حاد وجذري في مسيرتنا الشعرية..؟ ، كيف نستطيع أن نقلع إقلاعاً إستثنائياً ولافتاً..؟! ، يؤسفني القول -وأنا أُتابع ما يكتبه أكثر الشعراء ، وما أُبريءُ نفسي-أننا نكرر أنفسنا...! ، وأن قصائدنا الأخيرة تشبه قصائدنا الأولى مع فارق طفيف ، كانها توائم..!! ، وأن المتابع الجاد والصريح يدرك ذلك...الطاقة...هي الطاقة ، والتوجه هو التوجه ، والأدوات هي الأدوات..، الموت الحقيقي للشاعر أن يصل إلى مرحلة الإستنقاع الشعري ، وأن تأسن ينابيعه...! ، وهو يظن أنه على خير..! ، ما دام القراء يصفقون ، ويهللون، ويمطرونه بكلماتٍ مثل..مدهش..رائع...عملاق...سيد الكلمات...إلخ ، هذه النغمة التي دارت حتى بارت...! ، كيف أقنع نفسي أولاً أنني ما زلت قادراً على تقديم المختلف والمثير..؟! ، وأن نصي الجديد لاينتمي إلى زمرة الدم نفسها لنصوصي السابقة ، وأنني تخلصت-فعلاً-من ضغط الزفة وضجيجها..؟! ، كيف ومتى أستطيع تحقيق التوازن النفسي والمعادلة الصعبة ، وهي أنني مازلت أتنفس هواءً جديداً ، وأخطو على أرضٍ لم يطأها الكثير من الشعراء..!؟ ، وقد تابعت سيرة بعض الكبار من الشعراء..فوجدت نصوصهم الأخيرة تختلف إختلافاً جذرياً عن قصائدهم السابقة..! ، كيف أطمئن على أنني لم أمت شعرياً على الأقل..!؟ ، حتى أُمزق الشرنقة ، ويقول القراء : هذه بصمة فلان..!! ، كيف..كيف..؟!
14- الشعراءُ و الإطراء :
أكثر الشعراء الذين ينشرون على الفيس هم شعراء من الطبقة الاولى...!! ، ولا أدل على ذلك من كثرة المتزاحمين على صفحاتهم وكثرة المعجبين ونوعية تعليقاتهم أيضاً..!! ، كل هؤلاء الشعراء متفوقون..بارعون..مبدعون..و...و...هكذا يعلق الأحباب...!! ، ولم أقرأ لأحد من المعلقين عبارة تتحفظ على بعض الأبيات مثلاً ، أو بعض العبارات أو بعض الصور،ولم يجرؤ أحد أن يقول: " هذا بيت لم يعجبني لكذا وكذا...وهذه الصورة باهتة...وهذه المعالجة الفنية للفكرة تقليدية وشاحبة، أو هنا خطأ نحوي أو خلل في الوزن...الخ" وهو موجود في كثير مما ينشر...لم أقرأ كذلك لهؤلاء الشعراء شيئاً من التواضع أو الإعتراف بأن أحبابهم يبالغون ، وأنهم يؤذونهم بهذه المبالغة ، وهذا أقرب إلى الذبح منه إلى المدح...!! ، كما قال-محمود درويش- ذات يوم لمن بالغ في الثناءِ عليه:" إرحمونا من هذا الحب القاسي...!!؟ "، ومنذ أيام قليلة فقط ، قرأت لشاعرة تجاوزاً...كلاماً يخلو من الوزن ، ويعج بالأخطاء النحوية والإملائية، ولا يمت إلى العربية بصلة ، أو قربى...ومع ذلك كان المعجبون والمطيبون والمبخرون والدجالون والمزيفون بالمئات!! ، والأغرب أنني أقرأ على الفيس أيضاً لرموز ثقافية معتبرة ، وأكثرهم أكاديميون راسخون...ومع ذلك لا أرى على صفحاتهم أكثر من عشرة معلقين ، لست ضد التشجيع لأن التشجيع نصف النجاح وكان شاعر فرنسا الكبير- هوغو - كلما كتب نصاً ؛ أسرع إلى خادمته يقرأه لها وهو يعلم أنها شبه أمية...فتقول من قبيل المجاملة : " برافو...فكتور " ...!! ، فيشعر بالفرح ، لست ضد التشجيع ولكنني ضد التسليع...!! ، لست ضد التوصيف ولكنني ضد التجريف الثقافي...وكذلك ضد التزييف الأرعن ، هذه ثقافة الكثير من رواد هذا الجهاز...وهي بطبيعة الحال تعكس مرحلة تاريخية بائسة تمر فيها أمتنا..مع الإعتذار الشديد إلى أدباء حقيقيين، وقراء حقيقيين ، يعرفون قيمة ما يكتبون ، ويعتبرون الكلمة أمانة ثقيلة سوف يحاسبون عليها عاجلاً أم آجلاً...!!
15- لغتنا اليتيمة :
لا أدري إن كانت هناك على امتداد الوطن العربي جامعة تُدَرِّس جميع المواد-حتى الطب والهندسة- باللغة العربية ؛ غير جامعة دمشق..!! ، وحجة هؤلاء أن لغتنا لغة أدب ، وليست لغة علم ، وهي عاجزة عن استيعاب مفردات الحضارة الحديثة ومخرجاتها...! ، والأفضل أن نُدَرِّسَ أبناءنا بلغة أجنبية ، وقدِ انطلت هذه الفرية على كثير من المثقفين ، وروجوا لها رواجاً كبيراً ، وأنا أعلم أن آلافاً مؤلفة من الشباب المسلمين -غير العرب- يتشوقون إلى تعلم لغتنا والنطق بها ، بل ويعتبرونها مفتاح الحضارة الحقيقية ، ومما يثير السخرية..أنني أقمت في بلد عربي مُدَرِّسَاً مُعاراً لتدريس اللغة العربية ، وفوجئت أن هذا البلد يُدَرِّسُ جميع المواد -حتى التربية البدنية-بلغةٍ أجنبية ، وذلك في المرحلة الثانوية أيضاً ، وعندما طُلِبَ إِليَّ أن أَملأ بيانات للحصول على إقامة رسمية ؛ هالني أنها كتبت بلغةٍ أجنبية ، ولا أثر للعربية فيها..!! ، وعندما سألتُ مُندَهِشَاً ؛ قيل لي : " هذا شأننا..!! " ، وقدِ التقيت بكثيرٍ من شباب هذا البلد ؛ فرأيتهم يتحرجون من الحديث بالعربية ، وإذا تحدثوا خلطوها بلكنةٍ أجنبية ، وسؤالي : هل كلمة" ميرسي" أجمل من كلمة " شكراً "..!؟ ، إن هذه السياسة خرجت أجيالاً من الشباب لا هم أتقنوا اللغة الأجنبية ، ولا هم ألموا بلغتهم الأم...!! ، وإنني -وانا اقرأ على الفيس لشعراء وغير شعراء- أشعر بالإستغراب من كثرة الأخطاء النحوية والإملائية ، حتى من الذي تخرج من قسم اللغة العربية في جامعته..! ، ولا أدري ماسبب ذلك..؟! ، هل هو مظهر من مظاهر إنهيار الأمة ، لأن اللغة تتبع أهلها قوة وضعفاً..!! ، أم هي ظاهرة صحية ، وأنا لم أُدرك ذلك..!؟، هل هي سحابة صيفٍ وتمر..؟! ، لا أدري...لا أدري..!!.
16- الشعرُ و المضمون :
رأيت أن أكثر المعلقين على قصائد الفيس يهتمون بأفكار النص وأخلاقياته أكثر من إهتمامهم بالصياغة الفنية والبناء الجمالي الذي يتضمن صورة جديدة ، أو تركيب لافت أو خيال مركب ، صحيح..أنهم أُعجبوا بالنص ؛ ولكن أكثرهم لم يستطع تفسير هذا الإعجاب ، وكشف عناصر التأثير فيه ، وأن التركيز على الجانب القيمي في النص يمارس ضغطاً نفسياً على الشاعر ؛ فيضطر إلى سلق نصوص تعنى بالفكرة فقط ، مُضَحِيَاً بما هو أهم من الفكرة في رأيي ، جماليات هذا النص ، وآليات الإبداع فيه ، وبهذا يكون النص تقريرياً خطابياً ضعيفاً ، ولكنه يلامس هوى القارئ ومزاجه..!! ، إلا أن بعض الشعراء-وأعني الحقيقيين منهم- لا يلتفت إلى رغبة القارئ ومزاجه ، ولا يستجيب لضغطه النفسي ، حتى ولو إنفضَّ عنهم القراء جميعاً ؛ لأنهم لا يصغون إلا لصوت الإبداع في أعماقهم ، ذلك الصوت الذي لا سلطة عليه ؛ إلا سلطة النص وحده ، وقد لمست أن كثيراً من القراء لا يتفاعلون مع هذا النمط من الشعر ، الذي تغيب فيه الفكرة ، وتذوب ، أو تتوارى ، حتى يكون الإمساك بها صعباً ؛ لأنها ملفوفة بغلالة من الصور المركبة ، والأخيلة البعيدة والرموز ، وكل أنواع البديع المطلوب لإنجاز نص جميل ومقنع ، ومن خلال تجربتي مع الفيس ؛ فقد نشرت قصائد أعتبرها من أفضل ماكتبت فنياً ، وكان الإقبال عليها ضعيفاً ، على حين نشرت قصائد أُخرى لم أكن راضياً عن مستواها كل الرضى نالت إهتماماً كبيراً ، فهل يستمر الشاعر في إرضاء القارئ ؛ فيضحي بالجانب الجمالي الفني..على حساب الفكرة الواضحة المباشرة ؛ فيثير زهد القارئ بما يكتب ، أمِ العكس..!؟ ، وإن كان النقد قد حسم هذه المسألة منذ قُدامة بن جعفر وحتى يومنا هذا ، إلا أن كثيراً من شعراء اليوم ما زالوا يستجدون تصفيق قرائهم ، ويحبون أن يقولوا شعراً يدغدغ مشاعرهم ، وينال رضاهم ، وبعض هؤلاء الشعراء يعرف متى يصفق الجمهور..!! ؛ فيتوقف قليلاً ، ويأخذ نفساً عميقاً ، ويغير نبرة صوته في إنتظار حرارة التصفيق..!! ، ولكن عندما يعرض هذا النوع من الشعر على ناقد حقيقي موضوعي ؛ فإنه يضعه في خانة الشعر الباهت الفقير..!!.
17- شاعرٌ تحت الطلب :
آمل أن لا أزعج أحداً بهذه الكلمات ، ولكنه رأيٌّ متواضعٌ ظل حبيساً في نفسي ، و أحببت إعلانه ، عجبت لبعض الشعراء-عندما توجه إليهم دعوات للمساجلة-كيف يسارعون -وخلال وقت ٍ قصير- إلى تلبية الطلب ، فيكتبون على المقاس الذي يطلب منهم وزناً و قافية و فكرة ، و أنا أعلم أن أصعب ما يكون على الشاعر أن تطلب منه مثل ذلك..! ، فالشاعر الحقيقي ليس نجاراً أو حداداً نطلب منه تفصيل أبواب و نوافذ على المقاس الذي نريد..!! ، صحيح أن القصائد تأتي ملبية شروط الطالب وزناً و قافية و فكرة ، و صحيح أن البناء الفني فيها مرصوص مرصوف مثل حجارة القلعة، و صحيح أنها تملأ العين ، و لكنها على الأغلب تفتقر إلى روح الشعر ، و عطره ، و دهشته ؛ فلا تثير إحساساً ، و لا تعكر مزاجاً ..!! ، لأن طبيعة الشعر المتمردة العصية لا تنسجم مع طلبات الزبون ، وقد يظل الشاعر أياماً و شهوراً دون أن يكتب حرفاً واحداً ؛ رغم إستجدائه للقصيدة و طلب ودها ، وفجاة..تقع عينه على منظرٍ ، أو تسمع أُذنه كلمة ، أو تلمع في ذهنه فكرة ؛ عندها ينفجر الشعر ذاتياً..متدفقاً..عفوياً..متمرداً على الحدود و السدود ، و كم كان المتنبي يجد عنتاً في العثور على البيت الأول حتى إذا ما لمع كالبرق ؛ راح يخوض في بحر من الكلمات ، فلا يدري الشاعر الحقيقي متى تكون ولادة القصيدة؟! و أين؟! ، في السوق ، أم في المقهى ، أم تحت سقوط المطر ، أم مع رشفات قهوة الصباح على شرفة بيته..؟! ، إنها طبيعة الشعر التي تقوم على الإلهام والعفوية ، والمراوغة والإندفاع ، وهذا كله يتنافى مع طبيعة الطلبات الخارجية ، إن أكثر القصائد التي تكتب حسب الطلب ؛ هي ورودٌ من البلاستيك ليس فيها عطر الشعر ولوعته ، وهي إلى النظم أقرب ، وكم يفرح المتسابقون عندما توزع عليهم الألقاب ، والبطاقات الذهبية والفضية ، و تملأ هذه البطاقات صفحات التواصل الإجتماعي ، هذا ما خلصت إليه ، وأنا أتابع ما أتابع ، ومرة أخري..أقول : أرجو أن لا أكون مخطئاً ، وأن لا أُغضِبَ أحداً من الإعزاء ، كما أرجو أن تستجيب لي القصيدة عندما يطلبها مني أحد على المقاس الذي يريد!!.
18- بطاقات...! بطاقات...! :
ظاهرة غريبة ولافتة، وهي كثرة إنتشار البطاقات الذهبية والفضية والبرونزية، وبطاقات الشرف وبطاقات العضوية للشعراء وسواها ، ورأيت أن الشعراء يفرحون بهذه البطاقات الممنوحة..فرح الطفل بلعبة العيد..!! ، ويسارعون في نشرها على صفحاتهم ، وصفحات أصدقائهم ...!! ، وفي هذه البطاقات عبارات ساطعة مثل : "الشاعر المتميز " و " الشاعر الكبير ".." الشاعر الرمز ".."الشاعر الفذ "...إلخ..!! ، وعندما أعود إلى قصائد بعض هؤلاء الشعراء ؛ أخجل من نفسي وأنا أقرأ نصوصاً لشعراء ما زالوا في الدرجات الأولى من سلم الشعر ، وبعضهم لم يتخلص من الأخطاء الإملائية ، والنحوية..فضلاً عن الإيقاع..!! ، وعندما أعود كذلك إلى سيرة المانحين ، والذين يذيلون هذه البطاقات بتوقيعاتهم وأسمائهم ؛ لا أجدهم شيئاً مذكوراً في المشهد الشعري العربي ، إِلا القليل...القليل حتى لا أظلم أحداً ، و بالتالي أقول : هل هذه البطاقات هي ذر الرماد في العيون..؟! ليتوهم السذج من رواد الفيس أنهم أمام شعراء راسخين..! ، هل هي ترويج لبضاعة كاسدة..شأنها شأن كل شيئ في حياتنا اليوم..؟! ، هل هي دليل على فساد الذوق العام ، و غياب الضمير الأدبي..؟! ، هل هي حالة من حالات الإنتكاس في كل شيئ؟!
لست أدري..! ، لست أدري..! أتمنى أن يقنعني أحد أنني على خطأ ، وأنني كتتبت ما كتبت بدافع الغيرة ، لأنني لم أرتفع إلى مستوى هذه البطاقات التي تمنح ، وتمهر بالتوقيعات الساطعة ، و الأسماء اللامعة اللهمَّ لا شماته ، و الله من وراء القصد.
19- زحمة السوق :
في زحمة السوق الشعرية ، وإلتصاق الكتف بالكتف ، والقدم بالقدم ، وتشابه الأصوات إلى الحد الذي لا يستطيع القارئ فيه أن يميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الشعر ، فكأنك وأنت تقرأ لشاعر تقرأ للشعراء جميعاً ، مع بعض الإستثناءات طبعاً ، الأسلوب..هو الأسلوب والملامح..هي الملامح ، وبصمات الكبار ما زالت تطبع أكثر هذا الشعر ، حتى الموضوعات..لاتكاد تخرج عن دائرة الغرام والهيام والتغزل بالبدر التمام.....إلخ ،وقلما وجدتُ شاعراً من هؤلاء يحمل هم الامة على كتفيه ، وينزف قلمه وجعاً على ما حل بها فكأنه ليس إبن بيئته ، ولا يمت إليها بصلة..؟! ، وأكثرهم ما زال يسبح في بحر نزار ، ولم يعالج موضوعات جادة من زوايا مختلفة..! ، ولهذا وأنا أقرأ الكثير من شعر الشباب لا أكاد أجد صوتاً متفرداً يدور في فلكه المستقل..! ، لا أعرف من الأسطر الأولى أن هذا النص لفلان..إذن كيف ينفلت الشاعر من هذا الزحام ، ويبتعد عن الجوقة ، ويعزف منفرداً ، ويُقنِعُ الناقد والقارئ معاً بأنه مختلف ، وأن له صوته الخاص وعزفه المتميز..؟! ودعك من كثرة الاصدقاء الذين يُوهِمون الشاعر بأنه يتبوأُ ذروة الشعر..بمطرهم الرخيص من الإطراء والثناء ، وقد ينسى الشاعر أن هؤلاء يسيئون إليه ، وقد أسهموا في بقائه-مكانك سر- لأنه أطمأن إلى أن ما يكتبه رائع ، وقنع بما لديه ، أقول : هذا الثناء المجاني هو الذي منع الشاعر من تحقيق إختراق نوعي في مسيرته الشعرية، أو تجاوز ماضيه ، إنني دائماً أبحث عن الصوت المتفرد ، عن الطائر الذي يغرد خارج السرب ، عن القصيدة التي تحقق الفن والدهشة معاً ، حتى ولو لم يكن على صفحة هذا الشاعر صديق واحد..!! ، عندها سوف أعض عليه بالنواجذ ، وحتى لا أكون متشائماً ؛ فان المبدعين موجودون ، ولكن ندرتهم تبعث على القلق.
20- أتمنى أن أكون مُخطِئَاً :
منذ أكثر من عامين وأنا أتابع ما ينشر من شعر على صفحات التواصل الإجتماعي ، وأعيد قراءة الأسماء التي تتكرر فيها ، وحتى أكون صادقاً مع نفسي على الأقل أقول وأجري على الله : إن أكثر من 90% مما ينشر ليس شعراً متميزاً مقنعاً يحتوى على عناصر الإبداع الحقيقي ، والدهشة المطلوبة ، وقد أضطر إلى نبش كومة من القش للعثور على حبات من القمح ، أو السير طويلاً على الشوك لأقطف وردة أو وردتين ، ومما يزيد الطين بلة ؛ أن الطبالين والزمارين والمبخرين يلم بعضهم بعضاً ، ويكيلون المدائح لبعض بلا حساب " شاعر مبدع - راية من رايات الشعر المعاصر" حتى أن الأمر وصل بأحدهم أن قال للآخر : " منذ المتنبي وحتى الآن لم تنجب أُمتنا أفضل منك..!! " ، ولم يدروا أن هذا هو الذبح وليس المدح ، وأن رجلاً مثلي أمضى أكثر من 40 عاماً في قراءة الشعر ودراسته وتدريسه يستطيع أن يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود من الشعر ، ولكن أكثر شبابنا لا يملكون هذه التجربة ، ولهذا فإنهم يقعون ضحية هذا الغثاء الشعري ، وهذا الركام الذي يجثم على صدورهم صباح مساء ، ومما يبعث على الضحك ؛ أن أصحاب هذه المواقع يمنحون بطاقات ذهبية وبرونزية وفضية لشعراء مازالوا في خطواتهم الأولى ، وهم يمنحونهم أرفع الألقاب والأوسمة و...و.... ، وهؤلاء المساكين يصدقون وينشرون كل هذا على الصفحات المختلفة ، ومن عجب أنني تابعت الكثير من هذه الصفحات ولم أجد قصيدة واحدة لشاعر كبير مرموق ، وكلنا يعرف الأسماء الكبيرة في سماء الشعر العربي ، والعجيب أيضاً أنني عندما رجعت إلى صفحات هؤلاء الشعراء الحقيقيين لم أر فيها إلا القليل..القليل من الشعر ، فإلى متى سوف نظل نخوض في هذه البرك المعكورة..؟! ، ونظل نخدع أنفسنا ، ونخدع الآخرين ونروج لبضاعة كاسدة..!؟ ، ومتى يجرؤ الواحد منا أن يقول لصديقه نصك ضعيف للأسباب التالية ، أو يقول له ليتك تعيد النظر في البيت الفلاني ، أو الجملة الفلانية ، دون تملق ، أو حرج ، ويتقبل الآخر النقد البناء الهادف بدل هذا النفاق الأدبي الذي طغى وبغى ، وتكبر وتجبر.
21- سوقُ الشعر :
كتب أحدهم يقول : " زرت معرض الكتاب وفوجئت أن ركن الشعر فيه كان حزيناً يتيماً لا يقترب منه أحد..!! ، على حين أن الأيدي كلها تمتد إلى الرواية والقصة القصيرة ، والسيرة الذاتية والنقد ، وغير ذلك ، فهل نحن في زمن الروايةحقاً ؟! ، وهل تخلى الشعر عن مكانته للرواية وغيرها..!؟ " ؛ فقلت في نفسي : لو كان في هذا الركن شعراء من طراز نزار قباني ومحمود درويش والبردوني وعبدالرزاق عبد الواحد و أحمد مطر بهجومه اللاذع على الواقع العربي حتى ضاقت به الأنظمة العربية ، ولم يجد غير لندن ملاذاً ، وهو الآن يعاني الغربة والمرض ، والتشرد بعيداً عن الفراتين ونخيل العراق ، شفاه الله ؛ لتغير واقع الشعر ، وكنت قرأت في إحدى الصحف العربية قبل ربع قرن تقريباً خبراً يقول : أن أكثر كتاب مبيعاً في معرض الكتاب في الكويت كان ديوان لافتات لأحمد مطر..!! ، وتجربتي الشخصية تؤكد ما أقول ، فقد طبعت قبل عشرين عاماً 12 عملاً أدبياً بين شعر وقصة قصيرة على نفقة دور النشر ، وكانت ترحب وبكل تواضع بما أرسله ، وتطبع أحياناً من العمل 5000 نسخة ، وتخبرني بعد عامين تقريباً أنها تود إصدار طبعة ثانية من الديوان ولكن ، ومنذ 5 سنوات تقريباً لم أجد دار نشر واحدة تطبع لي على نفقتها ، مما أضطرني إلى طباعة 4 دواوين على نفقتي الخاصة ، وأحياناً لم أطبع إلا 200 نسخة ، وهذا شأن كثير من الشعراء الذين أعرفهم في عاصمة العرب..!! ، ولا أريد أن أذكر أسماء كثير من الشعراء الذين تحولوا إلى الرواية ، وحققوا فيها إنجازات هامة ، وحصد بعضهم جوائز مرموقة ، إذن ما العمل ..!؟ ، هل نحن فعلاً في زمن الرواية؟! هل تعاني الساحة الأدبية فقراً في الشعراء الرموز؟! ، كيف نستطيع أن نلقي في بركة الشعر صخرة كبيرة ليتحرك ماؤها ، ويعود الشعر إلى أيام مجده ديواناً للعرب.؟! ، هل الإعلام الرسمي يتحمل قسطاً من ضمور الشعر ، وغياب رواده ، وهو يفرد مساحات واسعة لكل شيئ؟! أسئلة كثيرة أربكتني..!! ، وأحببت أن أطرحها فلعل هناك إجابة شافية عند الإحبة من المنشغلين ، والمشتغلين مثلي بهذا الأمر.
22- قلقُ الشعراء :
لا أبالغ إن قلت إن هَمَّ الشاعر -أي شاعر-أن يكون متفرداً ومتميزاً ، وذا بصمة خاصة وهذا من حقه طبعاً ، ولكن هناك مقولة تقض على الشعراء مضاجعهم ؛ وهي مقولة نقدية قديمة جديدة تؤكد أن الشاعر ليس هو الذي يكتب النص ، مهما ادعى من فرادة ، ولكن الذي يكتبه هم مئات الشعراء الذين قرأهم الشاعر وهضمهم ، تأثر بهم ، وليس للشاعر من أي دور إلا إعادة صياغة النص من جديد بطريقة أو بأخرى، قد يغير بعض الألفاظ ، أو يضيف بعض الصور ، أو يلبس النص الأصلي ثوباً جديداً ، ولكن جوهر القصيدة كتبها غيره من الذين سبقوه ، والناقد الحصيف الخبير يستطيع إعادة القصائد إلى أمهاتها الشرعيات ، وإذا كان الناقد أكثر خبرة وإطلاعاً ؛ فإنه يستطيع إعادة كل بيت إلى أصله ، وهذه المقولة بطبيعة الحال تقلق الشعراء ، وتحبطهم وتسكب على حماسهم كثيراً من الماء البارد!! ، وهذا ما جعل شعراء الحداثة ينادون بهجرة الماضي ، وقطع الجسور معه، والحرث في أرض بكر حسب زعمهم لم يحرثها أحد قبلهم ، وكسر المعايير الرائجة ، وإنتهاك حرمات اللغة ، والأخلاق أحياناً ، وأنتشرت مصطلحات راقت للكثير مثل : التجاوز ، تفجير اللغة ، شعراء ، بل آباء ، للوصول إلى مبتغاهم ، وهو تحقيق الفرادة والدهشة والإبهار..ألخ ، غير ذلك من هذه المصطلحات التي تعج بها كتب النقد الحديث ، ولهذا أنتشرت أنماط من الشعر غريبة عجيبة ، لا يمكن أن تستجيب لقارئ ، وهنا أذكر مثالاً لأحدهم قال فيه : " إن قصيدتي كالمرأة الممنعة المستعصية ، أما قصائد الآخرين ؛ فإنها نساء مبتذلات..!! ، ولا تعجب إن قلت لك إن وراء هؤلاء الشعراء كتبية من النقاد الذين يشتغلون ليل نهار لتأصيل هذا التوجه ، وترسيخة في الشعر المعاصر ، وأن هناك مجلات حملت راية هذا الشعر بعد مجلة شعر ، ومنها من ترعاها مؤسسات رسمية ، وما زال أدونيس والماغوط وأُنسي الحاج وتوفيق صائغ ونذير العظمة وسواهم ؛ يعتبرون آباء روحيين لكثير من شعرائنا أعود إلى قضيتي الأولى ؛ لماذا إذن أكتب شعراً ما دمت أجتر الآخرين ، ولن أستطيع أن أسجل شيئاً بإسمي..!؟ ، ولماذا أكِدُّ ذهني في إجتراح ما أتوهم أنها صور جديدة !؟ ، هل أقتنع بهذه المقولة فأكف عن الكتابة..؟ ، أم أظل أسبح في النهر الكبير الواسع دون أن أشغل بالي بما يقوله النقد !؟ ، هذا ما يقلق كثيراً من الشعراء وينتظرون الإجابة المقنعة عنه ، وما صحة هذه المقولة النقدية..؟! ، وأين نقف من شعراء الحداثة فيما ذهبوا إليه..؟!.
23- التحكيمُ و الشعر :
نحن لا نشك في نزاهة أية لجنة لتحكيم الشعر ، ولا في رغبتها في الإجتهاد والتسديد ، ولكن هذا لا يمنع من وجود الخلل بشكل من الأشكال..!! ، فأعضاء أية لجنة ينتمون إلى بيئات ثقافية مختلفة ، وثقافات متباينة ، وقناعات فكرية قد لا تلتقي ، وهم متسلحون بنظريات نقدية ، تعبوا في دراستها وهضمها ، وجاهدوا في تطبيقها ، وترسيخها في كتبهم ومقالاتهم المنتشرة ، وحتى أكون أكثر صراحة أقول : إن ناقداً لا يمارس الشعائر الدينية-مثلاً - ولا يقيم لها وزناً ؛ لا يمكن أن يختار نصاً ذا مضمون ديني ، مهما كان حجم الإبداع فيه ، وأن ناقداً حداثياً أمضى حياته في الترويج لقصيدة النثر والدفاع عنها ؛ لا يمكن أن يختار قصيدة يرضى عنها الخليل ابن أحمد - مهما كانت ذات وهج إبداعي أيضا..!! ، وبالمقابل وحتى أكون منصفاً أقول : أن ناقداً تراثياً بكل معنى الكلمة لا يؤمن بالحداثة الشعربة وبمقولاتها ، ولا يعترف بنماذجها ، لا يمكن أن يرشح قصيدة نثر أو قريبة منها ، مهما حاول أن يكون منصفاً ؛ لإن صوت النقد في داخله لابد أن يكون له تأثير في القرار الأخير ، وأن الذوق الأدبي وحده ؛ لا يصلح أن يكون حكماً موثوقاً ، لإن الأذواق متباينة ومختلفة ، وهي تخضع لإعتبارات كثيرة ، ما هو الحل إذن حتى لا يكون النص ضحية هذه الأمزجة والإتجاهات والقناعات والثقافات..؟! ، حتى ولو طليت التعليقات الأخيرة بطلاء المجاملات الواضحة غير المقنعة ، والتي لا تعدو أن تكون قشرة وراءها ما وراءها ، ما العمل إذن..؟! ، كيف نستطيع أن ننصف الشعراء ونقنع الجمهور أننا نملك مفاتيح هذا الإقناع..؟! ، هذا ما أحببت أن أطرحه على الأعزاء من القراء ؛ فلعل عندهم الجواب الشافي.
24- الشعرُ و الإمارة :
قد يغري لقب ( الأمير ) كثيراً من الشعراء ، بل ويطمح كلٌ منهم أن يفوز به ، وفي رأيي المتواضع أن طبيعة الشعر تأبى هذه التسمية ، فكل شاعر أمير على رعيته و قصائده ، و يبدو أن هذا اللقب لا يغري إلا أبناء أمتنا ، على عكس الأمم الأخرى ، ومن الصعب أن تقنع أحداً أنك أفضل منه إلا إذا هو رضي بذلك ، وكثير من النقاد ما زالوا يتندرون على إمارة شوقي حتى سَمَّاهُ بعضهم صنم الألاعيب ، وقيل أن د .طه حسين منح العقاد لقب أمير الشعر لتسلم له إمارة النثر حتى إنه قال في الإهداء لكتابه دعاء الكروان : " هذا عش لكروانك ..إلخ " و هذا حديث يطول ، أما ما أريد أن أدخل فيه مباشرة ؛ فهو أن إحدى الصفحات على الفيس أعلنت عن رغبتها في إختيار أمير لشعرائها بالإقتراع ، وبدأ الغليان المحموم ، والمجاملات التي بلغت حدَّ القرف..!! ، وأن نظرة سريعة إلى هذا السباق تظهر بجلاء أن العصبية القبلية ما زالت تتحكم في مزاجنا ، وإن كل شاعر راح يرشح إبن قبيلته أو وطنه مع الإستثناء النادر ، وأنا على يقين أن بعض الذين يمدون أعناقهم إلى إمارة الشعر ما زالوا يخطئون في الإملاء والنحو ولا تستقيم لهم الأوزان أحياناً ، فإذا كانت النخبة المثقفة الواعية بهذا المستوى فما قولك للذين لا يقرأون ولا يكتبون ، أنا على يقين أن الحوار بينهم يومئذ سيكون بالخناجر وليس بالحناجر..!! ، ودائماً أقول : أرجو أن أكون مخطئاً ، وأن لا يكون في كلامي هذا شيئ من المغالاة.
25- شاعر ٌ منتشر :
ليس لي أي موقف من أشكال الشعر ، وليس عندي عقدة من التسميات (قصيدة النثر-النثيرة-الشعر الحر-الكلاسيكي) فالذي يهمني هو الشعر -فيما أقرأ-و الشعر وحده ، ولقد صبرت على قصائد تعج بالألغاز والطلاسم حتى لا أُتهم بالتخلف والجهل ، ولكن هذا لايمنع من طرح أسئلة موضوعية ، تحتاج إلى إجاباتٍ مقنعة ، لماذا ينتشر بعض الشعراء ويخبو بعضهم..؟! ، وحتى أكون واضحاً أكثر ؛ فإنني أستشهد بشاعر واسع الإنتشار ، تتسابق دور النشر على طباعة أعماله ، وحتى أكون أميناً فإنني أقتبس شيئاً من سيرته الذاتية كما جاءت في أحد دواوينه :
- شارك في عدد من المؤتمرات والندوات الشعرية والثقافية العربيةوالعالمية.
-كتبت عن تجربته الشعرية عدد من الأُطروحات في الجامعات العربية والأجنبية.
-ترجمت أشعاره إلى عددٍ من اللغات الأجنبية.
- ترجمت مختارات أساسية من أعماله الشعرية من الجامعة الأمريكية.
-حصل على عدة جوائز عربية وعالمية.
وحتى لا أسترسل أكثر ؛ أنقل لكم إحدى قصائد له -لا على التعيين-من أحد دواوينه بعنوان (شمس بطيئة) :
كنا نحزمُ المدينة بالبحر
بالبريدِ الأزرق في الأفئدة
كلما عبرنا ردهة الدار
انبثقت تنهدات النساء
الوقورات في الليل
كلما طرقناباباً إنفتح الأفق
في قلوب مشغوفة بوداع الفقد
صقلنا الدروب المتربة
بخطوات عجولة
كانت البلدة عريشة
مفتوحة على البحر كله
فتلجأ لأعراس السفن
بشراعها الرشيق ، وصواريها الحانية
نشارك في تجهيز الخشب للماء
عربة البريد مهصورة في أحضاننا
لئلا يتأخر المسافرون في الغيم
والمدينة باب لشمس بطيئة
أقول: هل هذا هو الشعر الذي نطمح إليه ، والذي يمثل روح الأمة وثقافتها وهويتها؟! أترك الإجابة للقارئ الكريم ، وأنا أعلم أن بينهم أكاديميين ، ونقاداً وشعراء ومتذوقين..! ، المهم..الإنصاف ، والإنصاف وحده.
26- تجربتي مع الفيس ( أ ) :
أحدهم..كان يدافع عن شاعرٍ دفاعاً مستميتاً ، ويعتبره قمة الإبداع في الشعر العربي المعاصر ! ، ولَمَّا بينت له أن وراء هذا الشاعر آلة إعلامية ضخمة ، وأنا أعرف ذلك من تلفاز وإذاعة وصحافة ورقية ، وحسبه أن أكبر الصحف العربية تفرد لرائعته صفحة كل أسبوع ، ومع ذلك لم يقنع ، وقد عجبت وقد كتب ثلاثة أسطر فقط أنه وقع في أربعة أخطاءٍ نحوية وإملائية..!! ، فقلت له دون مواربة : " يا أخي تخطئ في ثلاثة أسطر أربعة أخطاء ، وتريد أن تصنف الشعراء ، وتحكم عليهم..؟! " ؛ فتوقف عن الكتابة ، ولم أعد أراه ..!!. بعض الشعراء الشباب يرسلون إِليَّ نصوصهم من باب حسن الظن لإبداء الرأي ، ومن عادتي أن أسأل الأخ عن مستواه التعليمي ، وكم أُفاجأ عندما يقول لي أنه تخرج في قسم اللغة العربية في جامعة كذا ، و نصه يعجُّ بالأخطاء الإملائية والنحوية ، وأنا أعرف شعراء حقيقيين -أطباء و مهندسين وصيادلة- تجاوزوا هذه المرحلة من الأخطاء من زمنٍ بعيد ، وقد رأيت أن أكثر أخطاء الشباب في الآتي :
- إضافة ألف بعد حرف العلة (الواو) ظناً منهم أنها (واو الجماعة) : يصفو..ينمو..يغفو..إلخ.
- لا يحذفون حرف العلة بعد الجزم ، : " ولا تمشِ في الأرض مرحا "... " ولا تقفُ ما ليس لك به علم " ..إلخ.
- لا ينصبون إسم ( إن ) التي يأتي بعدها ظرف ، بل يرفعونه ظناً منهم أنها خبر( إن ) : " إن لدينا أنكالاً وجحيما " ..."إن وراءهم ملكاً يأخذ كل سفينة غصبا "...إلخ.
- لا يحذفون (ياء المنقوص) إذا تجرد من (أل) ، أو (الاضافة) : قاض..ناد..شاد..قاضي التحقيق ...إلخ.
وهناك قضية هامة مطروحة للنقاش وهي : أن مأساة حلب إستحوذت على إقلام الشعراء ، وهذا حقهم ، بل الواجب عليهم ، ولكني رأيت أن أكثر ما يكتب تحت هذا العنوان..واقع تحت ضغط الفعل ، ورد الفعل ، وأنه أقرب إلى التسطيح والصراخ والتقريرية والإنشاء بعيداً عن جوهر الفن ، وقد سميت هذا رغوة شعرية سوف تزول بمرور الهدف ؛ لأنها لا تحمل من مقومات الإبداع ما يكفل لها التأثير والخلود ، وهنا أسأل : هل القضية المقدسةتشفع لقصيدة متهافتة فنياً ، وتمنحها تأشيرة دخول إلى عالم الشعر ، ولو قرأنا -محمود درويش- وهو إبن القضية ، وقدِ انغمس فيها إنغماساً ما وجدنا في كل ما كتب ذكراً لفلسطين ، أو القدس ، أو أي عنوان صارخ من عناوين القضية إِلا لِمامَاً ؛ لأنه ذوب القضية في ماء الفن والإبداع ، وليس العكس ، وهذا شأن أكثر الشعراء الكبار الذين قرأتهم...سامي مهدي ، على جعفر العلاق ، محمد علي شمس الدين ، عصام ترشحاني ، عبد العزيز المقالح ، وغيرهم ، وغيرهم.
27- تجربتي مع الفيس( ب ) :
نشرت على صفحتي قبل فترة قصيدة رثاء لأخي الشاعر/أحمد مفلح ، قلت في بعض أبياتها :
أرثيكَ...أم أنتَ الذي ترثيني
أم فاضَ من عينيكَ دمعُ عيوني
أرثيكَ -أحمدُ- والكلامُ مُبَعثَرٌ
ماذا أقولُ ودمعتي تكويني؟!
ما كان أشهى أن يكون فطورنا
زيتاً ، و حبات من الزيتونِ..!
وتقولُ -أمي-والحنانُ بوجهها
صبراً.. فأن الخبز في الطابونِ
إلى أن قلت :
لو أنصفوكَ لكنتَ في أحداقِهِم
و لأَبحروا في دُرِّكَ المكنونِ
و القصيدة طويلة...وكان تجاوب الأصدقاء ساراً ، إِلا أن معظم تعليقاتهم أقتصر على عبارة " رحمه الله " ، وهذا طيب ، وأشكرهم على ذلك ، ولكن الأولى أن يتعرض القراء للجانب الفني من النص..ما الذي أعجبهم فيه..؟! ، الطريقة التي لجأ إليها الشاعر في معالجة موضوعه..! ، وما سر تأثرهم فيها مثلاً..؟! ، إِلى آخر هذه الملحوظات النقدية الضرورية التي تفيد الشاعر ، والقارئ معاً ، وعلى ذكر الرثاء فقد توقفت عند قصائد الشاعر/ محمد البياسي في رثاء زوجه- بشرى- رحمها الله ، و للشاعر محبون و متابعون بالمئات ، وهو أهل لذلك ، ولكن معظم التعليقات كانت تنصب أيضاً على عبارة " رحمها الله " ، نعم... رحمها الله رحمة واسعة ، ولكن المسئولية الأدبية تتطلب غير هذا ؛ لأن الشاعر يكتب النص وهو بحاجة إلى إِضاءته ، والتعرف على أسرار جماله ، وإستبطان كلماته ، والكشف عن أسرار الدهشة فيه ، و قراء ة النص الحقيقي الذي يختفي وراء الكلمات الظاهرة ، فالشعر ليس في الكلمات ؛ وإنما في ظلالها ، وإمتداداتها في النفس ، وليس في المعنى ، وإنما في كيفية إنتاج المعنى ، ولو تعرض عشرة بالمائة فقط من القراء إلى نقد موضوعي هادف و مستنير -وبعضهم قادر على ذلك- لأفاد الشاعر والقارئ كثيراً ، هل خرج -محمد البياسي-عن النسق الشعر ي الجاهز في الرثاء العربي..؟! ، والذي يقوم على التوجع ، والتفجع والمغالاة في ذكر محاسن المتوفى..؟! ، هل كتب بحبر الدهشة والاحتراق.؟! ، هل ابتعد عن الغنائية الشائعة في الشعر العربي ، وانحاز إلى التكثيف والتوتر..؟! ، لماذا كانت قصائده في رثاء زوجه مؤثرة حتى الدمعة ، و عميقة حتى اللوعة..؟! ، ما هي الآلية التي إعتمدها لتوليد المعنى المطلوب.؟! ، قاموسه الشعري بسيط ، ولكنه عميق ، سهل ولكنه مُشِع..!! ، لم يعد مطلوباً من الشعر أن يقدم معنى ؛ بلِ الأهم أن يثير إنفعالاً ، وأن يفجر طاقات كامنه ، هل نجح الشاعر محمد البياسي في ذلك..؟! ، أروع الجرار ما يصنع من الطين العادي ، و أروع الأشعار ما كان من الكلمات البسيطة ، ودون مجاملة أقول : أن قصائد الرثاء عند محمد البياسي تستحق دراسة نقدية مستفيضة من ناقدٍ متخصص وموضوعي ، يملك مصطلحاً نقدياً واضحاً لأنها -وبكل صدق-إضافة نوعية إلى فن الرثاء في الشعر العربي ، ولو بذلنا قليلاً من الجهد في هذا الإتجاه ، وتخلينا عن عبارات الإطراء والثناء ، والمبالغة التي عَمَّت حتى خَمَّت ، ودارت حتى بارت ؛ لكان لنا أجران..أجر الصدق وأجر الإجتهاد ، آمل أن تترك هذه الكلمات أثراً في التعامل مع النصوص مستقبلاً .
28- تجربتي مع الفيس( ج ) :
في أول عهدي بهذا الجهاز قبل عامين تقريباً ، وكنت قادماً من مقولات آمنت بها مثل:
" الصراحة في مرارتها خير من النفاق في حلاوته"
وقول عمر أبي ريشة :
شهدَ اللهُ ما انتقدتُكَ إلا
طمعاً أن أراكَ فوق انتقادي
وقع بصري على نص لإحدى الفتيات تُصَدِّرُ إسمها بكلمة "شاعرة" ، وعندما قرأت النص لم أجد فيه أثراً للشعر بكل المعايير الفنية ، وكتبت في التعليق : " هذا نص نثري جميل ولكنه ليس شعراً " عندها ثارت ثائرتها وأمطرتني بوابلٍ من الإنتقادات لم أسمع بمثلها من قبل مثل: " من أنت حتى تنتقدني..!؟ ما مؤهلاتك الأدبية؟! من يسمع بك أصلاً ، أنت أقل من أن تنتقد نصوصي" ..إلخ ، ولَمَّا حاولت بكل برودة أعصاب أن أشرح موقفي ، وأُفصِّلَ في القول ؛ أبت إلا عناداً وإصراراً ، والغريب أنني رأيت جيشاً من المصفقين والمؤيدين لها ، وكلهم يجمعون على أن ما تكتبه هو قمة الإبداع ، ومنتهى الجمال ، وهو من عيون الشعر ، يتخندقون خلفها بشكل عجيب..!! ، ومن يومها لم أعد أقرأ لها شيئا لأنها شطبت إسمي من قائمة الأصدقاء ، والموقف الثاني مع شاعر واسع الإنتشار ، غزير الإنتاج ، قمت بلفت نظره بكل أدب إلى بعض الأخطاء في الوزن والنحو ؛ فرد عليَّ : " يا أستاذ محمود يبدو أنك لا تعرف أصول الحوار والنقد على الفيس ، والأولى أن تنبهني على الخاص " ، وأنا يومها كنت لا أفرق بين العام والخاص..!! ، وبعدها بيومين كتب إِليَّ على الخاص أنني على خطأ ، وهو على صواب ، ثم بعد ثلاثة أيام أعاد الكتابة إليَّ معتذراً ، وأنني أنا الذي كنت مصيباً ، رغم كل ذلك ؛ فإنني لم أعد أقرأ له شيئاً لأنه ببساطة شطب إسمي أيضاً من قائمة الأصدقاء ، أما الموقف الثالث فقد كان مع شاعر يبحث عن أدواته الفنية ، ويكتب كثيراً ، ولما نبهته على الخاص-هذه المرة- إلى بعض الأخطاء عجبت من رحابة صدره ، ولطفه وترحيبه بهذه الملاحظات ، وما زال يلحُّ عليَّ في تسجيل ملاحظاتي حول شعره كلما وجدت إلى ذلك سبيلا ، أما الموقف الرابع فقد كان معي شخصيا عندما أستخدمت كلمة " ثعبان " مؤنثة في أحد أبياتي ، وأنا أعلم أنها مذكرة -ولكنه إغراء الصورة الشعرية ، وضغط الوزن والعناد أحياناً- فنبهني إلى ذلك أحد الشعراء الفضلاء المرموقين بإسلوبٍ لا أرقى ولا ألطف..!! ، ولكن الحق أحق أن يُتَّبَع ؛ فقمت على الفور بالتصويب رغم أنني خسرت الصورة الفنية ، ولكنني ربحت الصواب ، أما موضوع اللغة المتداولةعلى الفيس ، ما حدود الصراحة فيها دونما نسبة المجاملات؟! فإنني حتى الآن لا أعرف-صدقوني-هذه الحدود..! ، ولا أتقن هذه اللغة..! ، لأن وابل المجاملات و الملاطفات قد أغرق الفيس وأهله ، خاصة إذا كان النص لشاعرة!! ، وأكثر خصوصية أن كان لديها مسحة من الجمال ، أو كما يقول أهل الشام : " في وجهها ضوء..!! "، والله المستعان.
29- تجربتي مع الفيس( د ) :
حين يكون الشعار أعلى من الشعر ؛ ليس من المعقول أن يرى الشاعر كل هذه الإنفجارات ، والإنهيارات على امتداد الوطن الكبير ، ولا ينبض له عرق ، أو يرف له جفن ، والشاعر ضمير الأمة ، ولسانها المعبر ، أو على الأقل هكذا ينبغي أن يكون ما دام اختار أن يكون شاعراً ، فلا بد له من تناول هذه الجراحات شعرياً ، لا خطابياً ، وأن لا يتخلى عن طبيعة الشعر التي تقوم على الصورة الجديدة ، والعبارة الموحية والرمز الشفيف...ألخ ، وإلا لما كان هناك فرق بين الشاعر والخطيب إلا في الوزن والقافية ، وهما عنصران لا يعتد بهما كثيراً في منظور النقد الحديث ، ومن خلال ما أتابع من قصائد في هذا الجهاز-وأكثرها يتناول الأحداث الجسام-أرى أن الجهارة والمباشرة والعمومية هي سيدة القصيدة ، وقد تخلى أكثر الشعراء عن جمالية الشعر ، وغابت عنه الطاقة الإبداعية التصويرية ، التي تعطي القصيدة قيمتها ؛ لتحل محلها الخطابية والمباشرة ، والوضوح الساذج ، والصخب الذي يقرع الأذن ، ولا ينفذ إلى القلب ، هل هي غواية الموضوع..؟! ، وسخونة الأحداث..؟! ؛ حتى يكون الشعار أعلى من الشعر..!؟ ، كما لاحظت في كثير من القصائد طاقة مخيفة من القنوط واليأس والتفجع ، وجلد الذات غير المسوغ ، وهناك تجاوز لحدود الشعر ومنطقه ، حين يخوض الشاعر في الإدانات الصريحة الفجة ، والشتائم السوقية ؛ التي تثقل كاهل النص ، وتخرجه من دائرة الشعر ، والتخفيف دائماً من غلو القافية وضجيجها أمر يحفظ للقصيدة نصاعتها وحيوتها ، ولا أجمل من الدخول إلى القلب من الخبرة الإنسانية ، والإنفتاح على ذرات الوجود الإنساني ، صحيح..أن الأحداث الكبيرة هي وقود القصيدة ، ولكن تذويب هذه الأحداث في ماء الشعر وعطره هي الأولى ، والإهتمام بجماليات النص ياتي دائماً في المقام الأول.
تمت ، وفي الختام - والكلام الآن لي- أتقدم بجزيل الشكر و التقدير لكل من مرَّ على هذه الخواطر النقدية لشاعرنا الكبير بالقراءة المتمعنة هنا في هذا المنشور الطويل ، أو كان تابعها على يومياته ، و أثراها بالتعقيب والنقاش هناك في التعليقات ، والوالد الشاعر محمود مفلح بالرغم من ما هو فيه من الرسوخ و الإنتشار والذيوع منذ أربعة عقود ، بنتاجه الشعري المتميز الأصيل والغزير ، الذي شهد له بعلو قامته فيه الكثير من النقاد وتناولته بالبحث والدراسة حتى الآت عشر رسائل أكاديمية ما بين ماجستير ودكتوراه وليسانس ؛ نجده بكل تواضع يقول لنا بمناسبة صدور مجلدي أعماله الشعرية الكاملة عن أكاديمية الإبداع المنبثقة من مؤسسة إحياء التراث وتنمية الإبداع :
" من القلب شكراً أيها الأحبة ، لولا محبتكم وتشجيعكم ؛ ماكان لهذه الأعمال أن تري النور "
فنتعلم منه أبلغ درس في التواضع ، وعدم الإكتفاء عن معية تشجيع الغير ، وخواطره هذه كنت أتابعها بشغف ، لأني وجدت فيها الإجابة عن كثير من تساؤلاتي المحيرة ، والتوجيه الذي كنت أحتاجه ، وبإعتقادي أن لو أحداً منا -معشرالشعراء الشباب-طلب منه النصيحة ، فأوعز إليه بقراءتها لكانت كافية له ، ووجبة دسمة مقدمة على طبق من ذهب ، و أعتقد أيضاً أن من أراد دراسة شعره وحياته الأدبية عليه ان يطلع عليها أيضاً..لما سيجد من أنها تعكس توجاهاته ورؤاه وأفكاره الأدبية ، المستقاة من تجربته ومسيرته الغنية والطويلة ، وهذه الخواطر التي يقول عنها شاعرنا :
" لا أدعي أنها مقالات في النقد المنهجي ، ولكنها خواطر نقدية أستوحيتها مما أقرأ على الفيس، و أرجو أن تجد قبولاً عند القراء "
تستحق أن تجد طريقها إلى النشر الألكتروني والورقي بطباعتها في كتيب صغير ، و ليت الله يقيض من يقوم بذلك ، فكم نحب أن يطلع عليها كل الإخوة الشعراء والشواعر الشباب بتمعن ؛ لما فيها من الفوائد التي قد تنير لنا ولهم الدروب.
جمع وتقديم الأستاذ/
صالح عبده إسماعيل الآنسي
محمود حسن مفلح
أمدَ الله لنا في عمره وعطائه ، واضعاً بذلك بين أيدينا خلاصة تجرتبته الغنية و الطويلة ، الممتدة لأكثر من نحو أربعةِ عقود مع الشعر ، وثلاثة أعوام مع النشر الألكتروني بالفيس بوك ، الصادر له خلالها أكثر من عشرين ديواناً ، وفيما يلي هذه المقالات ، أوردُ كلاً منها كما كتبها بالنص و العنوان :
" إذا كان لكل شاعر طقسه في الكتابة ؛ فإنني أكتب عند الفجر ، وبالقلم الرصاص ، وقربي الممحاة ، وأُسَوِّدُ النص ثلاث مرات على الأقل ، هذا جزء من المعاناة مع القصيدة ، التي يقرأها القارئ في خمس دقائق "
1 - إعتراف :
أخشى أن يظن أحد - وأنا أتحدث عن نفسي قليلاً- أنني مصاب بالغرور ، أو أنني أبحث عن شهرة ، وأنا أزعم -و دون إدعاء فارغ-أن الله نزع من نفسي هذا الداء ، أما الطموح فكلنا يسعى إليه ، أقول : أنني بدأت بنشر قصائدي في مطلع سبعينيات القرن الماضي في الكثير من المجلات ، وكنت عندها حريصاً على جمع كل ما أكتب ، ثم طباعتها في دواوين حتى بلغت عشرين ديواناً ، وقد آن الأوان لإن تخرج هذه القصائد في أعمال كاملة...في جزءين، وقد هيأ الله لي من الإصدقاء من تكفل بذلك ، وسوف تصدر الأعمال الكاملة قريباً بإذن الله ، بصفحاتها الألف تقريباً ، وكان عليَّ أن أراجع القصائد لتصويب الأخطاء ، وإبداء الرأي ، وعندما رجعت لي تلك القصائد التي كتبتها منذ أكثر من 40 عاماً ؛ شعرت بشيءٍ من الكآبة والحزن لأنها لم تكن بالمستوى الذي أرضى عنه الآن ، رغم أنها لقيت في حينها قبول الكثيرين وإعجابهم ومنها ما أصبح نشيداً ، ووجدت أن تجربتي الشعرية مرت بمراحل معقدة غيرت طعمها وخط سيرها ، وكثيراً من مضامينها ، وكأن قصائدي الأولى ليست لي !! ، إذ غلب عليها نزق الشباب والمباشرة ، وحب الوصول إلى الناس و فقر الأدوات الفنية ، وضيق الأُفق أحياناً ، فماذا كان عليَّ أن أفعل..؟! ، هل أستبعد هذا الكم الكبير من القصائد..مكتفياً بما أقتنع به..؟! أم أضع تجربتي بعجرها و بجرها بين أَيدي القراء و النقاد معاً..؟! ، و إن كان لي من نصيحة -لأبنائي من الشعراء الشباب- فهي إستبعاد النطيحة والمتردية والموقوذة وما أكل السبع من قصائدهم ، عندما يُقدِمون على طبع ديوان ؛ حتى يبقى الأجود والأجمل ، والقادر على عبور الزمان والمكان ، وقد أعجبتني عبارة قرأتها حديثاً هي :
" أن الشعر هو فن الحذف أكثر منه فن الإضافة ".
2- الشاعر و التجديد :
ليس من المعقول أن يتطور كل شيء في هذا العالم إلا الشعر..!! ، وليس من المعقول أن يُتاح لنا ركوب الطائرة ونفضل ركوب الناقة...! ، وليس من المعقول أن يظل الشاعر يقاتل بأسلحة بدائية كالسيف والرمح ، وأن تظل المرأة ظبياً ووردة وعود بان وقصفة ر يحان...الخ ، ليس هذا معقولاً ، ثم أن أوزان الخليل ليست مقدسة وأن تظل سجناً للشعراء ، وكل من يتمرد عليها يكون مارقاً...!! مئات الشعراء كتبوا عن قضية فلسطين ولم تخرج قصائدهم عن التنديد بالإحتلال والبكاء على الديار والحلم بالعودة وعنتريات أخرى وصلت حد المهزلة...!! ، ألا نستطيع أن نعالج قضية فلسطين من زوايا أخرى أكثر إثارة ودهشة ، وأقل صخباً وضجيجاً ؟! ، وأن نمد جسوراً إلى كل من يتعاطف مع قضيتنا في هذا العالم - غير الجسور التي مددناها..!؟ ، إذن كيف يكون التجديد..!؟ هل يكون بالبناء اللغوي المختلف...؟! والسعي في تعديل تركيب الجملة العربية مع المحافظة على الأصول...أم بإختيار موضوعات غابت عن الأقدمين؟! ، والحياة تعج بالموضوعات ، هل للتجديد معجم لغوي مختلف كما يزعم الحداثيون..!؟، وهل يمكن أن يتطور الشاعر دون أن يتطور القارئ حساً وثقافة ورؤية فنية حتى يصبح قابلاً لإحتضان هذا الجديد.؟!
وهل التجديد الذي قام به بعض الشعراء مثل أدونيس، الماغوط، محمد عفيفي، مطر ، قاسم حداد -جماعةإضاءة77 ، الذين وجدوا ترحيباً من كثير من النقاد المهمين ، ثم محمد أبو دومة وحسن طلب ومحمد بتيس وسواهم...وسواهم ؛ هو التجديد الذي نصبو إليه..!؟ وهل يستطيع الشاعر أن يدير ظهره لما يجري حوله..!؟
وينشغل فقط بتجديد نصه شكلاً ومضموناً ...؟! ، وما موقف الشاعر إذا رفض الجمهور تجديده ، وقالوا هذا نص لايمت إلى هويتنا ولا إلى ثقافتنا ولا إلى وجودنا الحضاري بصلة...!؟ ، وهل التجديد الذي طرأ على القصيدة الاوروبية يصلح أن يكون أساساً للبناء عليه..!؟ ، أسئلة كثيرة أرقتني ؛ كما أرقت غيري من الشعراء ، وهي بحاجة إلى إجابات شافية ومقنعة.
3- الشعراءُ و الندم :
كثيراً ما يندم الشعراء على قصائد كتبوها وأسرعوا في نشرها لأسباب عدة...منها أنها كانت من البواكير التي لم تنضج بعد،ومنها أنهم أرادوا تغطية مناسبات آنية قبل فواتها لإثبات الوجود ، و لكنها كانت ضعيفة وساذجة لاترقى إلى مستوى الشعر المنشود....! ، ومنها أنهم وقعوا في تناقض صارخ فكرياً و عاطفياً ، و تأرجحوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين..!! ؛ فندموا وكان للقصيدة إغراء لم يستطيعوا مقاومته ، وعندما أستقرت تجربتهم فكرياً وفنياً ندموا ولات ساعة مندم...!
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى،فهذا -محمود درويش- تبرأ من أعماله الأولى (عاشق من فلسطين)،(حبيبتي تنهض باكراً)،(العصافير تموت في الجليل) و سواها ، وكان يتضايق جداً عندما يطلب منه الجمهور قراءة "سجل أنا عربي " لأنه يعتبرها ساذجة ومن المراهقات الشعرية التي لا يُعتدُّ بها...! ، ولكنه لم يستطع التخلص من ضغط الجمهور ؛ فيستجيب لطلبهم على مضض...! ، وكذلك الشاعر الجواهري؛ شعر بعذاب الضمير عندما استعرض مسيرتهُ الشعرية وبعض قصائده إذ وقع في تناقض صارخ عندما مدح الأضداد...تقريباً...رؤساء إشتراكيين وملوكاً تقليديين ، مدحَ الملك فيصل الثاني في العراق ، ثم مدحَ قائد الإنقلاب العسكري عليه...عبد الكريم قاسم ، مدحَ حافظ الأسد ، ثم مدحَ الملكين المغربي..والأردني...!!، والجواهري يفخر أنه إشتراكي، وفيه لوثة شيوعية ، وأمضى ردحاً طويلاً من حياته في منفاه في براغ...تشيكوسلوفاكيا ؛ عندما كانت شيوعية، والأمثلة كما قلت كثيرة، إذن ماذا يفعل الشاعر..!؟ ، هل يقاوم إغراء القصيدة التي يتوقع أنه سوف يندم على كتابتها ، وما أصعب ذلك على الشاعر..! ، هل يخنق هذا الوليد ويتريث حتى تنضج ظروف حمله..!؟ ، لماذا نبادر إلى نشر كل ما نكتب فوراً..؟! ، قبل أن يجف حبر النص...؟! ، وبعد سنوات سوف نبتسم ساخرين مما كتبنا لأن هذا الذي أسرعنا في نشره ليس شعراً قابلاً للخلود...!! ، أيها الشعراء : وأنا منكم لا تعجلوا في قطف الثمار ، فالعنب دائماً قبل الزبيب ، قاوموا إغراء القصيدة ، ورغبتها في الظهور على الورق ، لا تنشروا إلا ما تعتقدون إنه صالح للحياة حاضراً ومستقبلاً ، وأنه شعر حقيقي طافح بالشعرية ، حتى ولو قدمتم في العمر كله عملاً واحداً...! ، هذا ما أملته علي تجربتي المتواضعة ، وأن كثيراً من الشعراء الكبار ليس لهم سوى عملٌ واحد :
بغاثُ الطيرِ أَكثرُها فِراخاً
و أُمُّ النسر مِقلاةٌ نزورُ
أي أن النسر قليل الإنجاب ، ففي كل عام نسر واحد...!!
4- اللغةُ الشاعرة :
تشيع في كتب النقد الحديث عبارة اللغة الشاعرة ، و أنا أسأل : هل هناك لغة شاعرة و لغة غير شاعرة...؟! ، وما خصائص اللغة الشاعرة...؟! ، هل هي جموح الخيال وكثرة الصور البيانية...؟ وهل يستطيع الشاعر أن يجعل من لغة غير شاعرة...لغة شاعرة..؟! ، كما يُشكل الفنان من الصلصال العادي أروع الأشكال الفنية..؟ ، وهل صحيح أن الإبرة التي تخيط الكفن هي نفسها التي تخيط ثوب العرس...؟، وهل القصائد المكتنزة بالصور الغريبة الصادمة البعيدة هي دائماً الأجمل والأرقى...؟ ، أليس هناك نصوص شعرية تخلو تماماً من الصورة الفنية كُتِبَ لها الخلود و الأمثلة كثيرة...؟
وما سر خلود هذه القصائد رغم غياب الصورة عنها...؟ ، هل هناك عناصر أخرى غير الصورة الفنية وراء جمال النص ورونقه...؟..ربما كانت أهم من الصورة نفسها...؟ ، وهل الشعراء هذه الأيام على صواب عندما يلهثون وراء الصور الغريبة المستهجنة...بحجة التفرد والإبداع...؟ ومن الذي أغرى شعراءنا بمقولة تفجير اللغة و غسلها من الماضي تماماً و كسر كل المعايير..؟..حتى بدأنا نقرأ نصوصاً لا تمت إلى أرواحنا و أذواقنا بصلة ، و ليس فيها أي ملمح من ملامح تراثنا الذي أرجو ألَّا يكون فقيراً..كما قال بعضهم ؛ حيث قال بالنص : " التراث ليس مركزاً لنا و ليس نبعاً و لا دائرة تحيط بنا ، و الشاعر لا يمتلك لغته إلا بمقدار ما يغسلها من آثار الأقدمين ، و يُفرغها تماماً من ملك الذين امتلكوها في الماضي " .
5- الشاعر و التفسير :
في منتصف سبعينات القرن الماضي كنا في قاعة تصحيح أوراق الثانوية العامة لمادة اللغة العربية بدمشق...و اختلفنا على شرح بيت من النص المطلوب شرحه وارتفعت الأصوات وكثر اللغط..! ، مما دعا رئيس القاعة إلى الإتصال بصاحب النص الشاعر سليمان العيسى ، و كان يومها موجهاً أولاً في وزارة التربية بدمشق...يسأله عن شرح البيت الشعري المختلف حوله ، و كان جواب الشاعر الكبير مفاجأة لنا جميعاً عندما قال : " و الله أنا نفسي لا أعرف المعنى تماماً...إتفقوا على معنى مناسب يتفق مع روح النص...المهم أن يحوم الطالب في إجابته حول المعنى العام و أن يتنفس هواء القصيدة "...!!
وكانت هذه الإجابة بطبيعة الحال من مصلحة الطلاب ، لأنهم جميعاً كانوا يحومون حول المعنى العام و يتنفسون هواء النص..!! ، و قد طرحت إجابة الشاعر الكبير قضية هامة...هل يحق لنا أن نطالب الشاعر بتفسير ما يكتب..!؟ ، و هل هو مُلزم بالإجابة عن إستفساراتنا..؟! ، هل نعتبر كل تفسير للنص صحيحاً و مقبولاً ما دام النص قد أصبح ملكاً للقارىء بعد أن غادر أوراق منشئه..!؟ ، و ليس من حق الشاعر أن يعترض على أي تفسير لنصه صدر من القراء فضلاً عنِ النقاد..!؟ ، هل يُصمم الشاعر فكرته و يُبلورها في ذهنه قبل أن يصبَّها على الورقة.!؟ ، وهل تكون في ذهنه واضحة كل الوضوح..؟..أم أَنه أحياناً لا يعي ما يكتب ؟ ، هل تولد الفكرة مع الكلمة الاولى للقصيدة و تبدأ بالنمو شيئاً فشيئاً كما ينمو الجنين تماماً في الرحم حتى يكتمل الحمل مع آخر كلمة في النص..؟! ، كيف تولد الفكرة التي تفرض على الشاعر إسقاطها على الورق..؟ أسئلة كثيرة تنتظر إجابات شافية و مُقنعة من أصحاب الشأن من القراء و النقاد و المبدعين و سواهم .
6- الشعراءُ الكبار و ممتلكاتهم الشعرية :
يُقال أن الشعراء الكبار يصلون إلى مرحلة أن أحدهم يكتشف أرضاً جديدة يحرثها و يُعشبها و يضع فيها بذوره الإبداعية ، ثم يقوم بتسييجها حتى يمنع لصوص الشعر من السطو عليها...!! ، و هذه الأرض خاصة به ، و ليس من حق أحد من الشعراء أن يقتحمها ؛ ففيها طقسه الشعري و طريقته في الكتابة و أدواته الفنية ، و منجزه الإبداعي كله ، و كذلك تقنياته التي رسخها بعد معاناة طويلة و رحلة شاقة مع الإبداع
على الشاعر المبتدىء أن يغسل مفرداته و قاموسه الشعري و صوره الفنية من كل ما علق بها من آثار الآخرين...!! ، و أن لا يُفكر بالإقتراب من ممتلكات غيره..!! لا أدري أن كان هذا التوصيف منطقياً و مقبولاً ، أم إنه ضرب من الوهم و الخيال غايته حث الشعراء على مزيد من التجاوز و الإبداع طالما أن لكل شاعر كبير أرضاً تجاور أرض شاعر كبير آخر ، و لا تتداخل معها و أن كانت مجاورة و منافسة لها...؟!
أم أن ما يختزنه الشاعر في ذاكرته هو ملك له يتصرف به كيف يشاء و متى يشاء بشرط..أَلَّا يتكلف و لا يقلد و لا يتطاول على مقتنيات الآخرين .
7- وظيفةُ الشعر :
إذا صمت الشاعر إزاء ما يدور حوله من أحداث لبعض الوقت أُتهم بالسلبية و النرجسية...! ، وإذا نهض بتسجيل ما يجري حوله..جاء النص فجاً و فقيراً
و عجولاً ، و من الصعب على أي شاعر أن يظل لاهثاً وراء الأحداث،راصداً و مسجلاً
، إذن ماذا يفعل الشاعر؟، هل ينتظر أسابيعَ وأشهراً...يلتقط فيها أنفاسه ليكتب نصاً مكتملاً مقنعاً..مستوحى مما أستقر في ذاكرته عن هذا الحدث أو ذاك..؟
أم يشحذ أدواته الفنية و يستنهض همته الشعرية لئلا يفلت منه هذا الحدث و أَلا يكثر حوله اللغط..؟ ، وهل وظيفة الشعر هي تسجيل الأحداث وتوثيقها و ملاحقتها..!؟، أم أن له وظيفة أخرى تقوم على الإكتشاف وتعميق الرؤية ، وخلق واقع فني جديد..!؟ ، بعيداً عن الإنفعال الطارىء و العاطفة الآنية التي تقوم على الفعل ورد الفعل...!؟ ،متسلحاً برؤية كونية شاملة وعميقة تبلورت من خلال قراءات متواصلة و ممارسات مضنية...؟! ، هذا هاجس لا أتوقع أن أحداً من الشعراء الحقيقيين ينجو من ضغطه ، و علينا ألا نتسرع في إصدار الأحكام على الشعراء إذا ما صمت بعضهم إزاء ما يجري من أحداث على الساحة فنتهمهم بالخيانة أو العمالة ، و إذا كنا أقل قسوة فبالأنانية والإنسلاخ عن المجتمع...!
8- الشعرُ و الزخارف :
أقرأ بين الحين والآخر نصوصاً لشعراء معروفين ، وأكثرهم من الشباب...أراهم فيها يُولون الجانب الشكلي الاهتمام الأكبر..يوظفون كل ثقافتهم عن البيان والبديع في كتابة النص..! ويتفننون في ذلك ، ويبدعون في رسم الصورة الشعرية المدهشة والغريبة أحياناً،والقائمة على توظيف كل جماليات البناء اللغوي والمحسنات اللفظية، وأنا أتابع هذه النصوص مأخوذاً بجمال الصورة وجدتها وغرابتها أحياناً ، ولكنني في نهاية القراءة لا أشعر بالتعاطف الحقيقي مع هذا النمط من الشعر ، ولا بالإنفعال العميق..! وبصراحة فأنني لا أجد لهذه النصوص أثراً في نفسي بعد أيام ! ، لأن الأُوكسجين الشعري فيها لم يحترق كله! ، وأن اللوعة التي أبحث عنها وراء الكلمات كانت غائبة، وبلغة النقاد القدماء فإن العاطفة كانت باردة ، إن لم تكن غائبة تماماً ، والنص لا يبوح بمعاناة حقيقية للشاعر ، ولا يكشف عن تجربة عميقة له ..! ، هؤلاء الشعراء بلا قضايا حقيقية ، بلا أوجاع ولا هموم.! الحياة من حولهم تفور وتمور ، وهم مشغولون بزخارفهم ، لا ينصهرون ولا يُلامسون أوجاع الناس وهمومهم ، يكتبون نصوصاً تدهش العين ، ولكنهم لا يكتبون النصوص التي تحرك المشاعر وتهز الإحساس ، هذا رأيي المتواضع..أقول إلى متى سوف تستمر هذه الموجة..؟! وإلى متى سوف نظل مأخوذين بالشكل الفني دون النظر إلى اللباب ، و دون الغوص عميقاً...لعلنا نصطاد لآلئ أكثر قيمة..؟! لأن الطلاء في كل بناء سوف يزول ، ويتبقى من البناء أركانه ودعائمه.
9- الشعراءُ و الإنتشار :
أسئلة بريئة...ولكنها مشروعة ، ما السر وراء إنتشار بعض الشعراءِ وإنحسار بعضهم؟ ، هل هناك عوامل أُخرى غير الطاقة الفنية وحجم الإبداع لإنتشار هذا وإنحسار ذاك؟، وحتى أكون أكثر وضوحاً...
لماذا إذا ذكر العراق -مثلاً- يقف إسم السياب والبياتي وبلند الحيدري على أنهم الأشهر؟! وقد أنجزت فيهم عشرات الرسائل الجامعية ، وما زالوا حاضرين بقوة في المشهد الشعري العربي!
ألم يكن في العراق غيرهم في حجم الموهبة وقوة الأداء..!؟ ، رغم أن أحداً لا يعترض على أنهم شعراء كبار ، ولماذا إذا ذكرت مصر تقفز فوراً أسماء صلاح عبد الصبور و عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ، وكلهم شعراء كبار أيضاً ، ولكن ألم يكن في مصر إِلا هؤلاء يستحقون الذكر والإنتشار..!؟ ، ولماذا إذا ذكرت فلسطين تقفز أسماء -وبشكل آلي- كمحمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد و فدوى طوقان ، و كلهم شعراء راسخون ، ولكن...هل هم الأفضل فعلاً على الساحة الفلسطينية..؟! ، أم أن القضية الفلسطينية -وهي مقدسة عند الجميع-كانت رافعة إضافية لهذا الإنتشار ، و ربما كانت تسبقهم إلى الجمهور الذي كان يبادر بالتصفيق..!؟
وحتى أوسع الدائرة أكثر...هل جاءت شهرة ناظم حكمت و رسول حمزاتوف و بابلو نيرودا -مثلاً-من حجم الإبداع الحقيقي؟! ، أم أن هناك عوامل أخرى من خارج دائرة الفن أَثرت في هذا الذيوع..!؟
بإختصار أقول : هل هناك عوامل خارجة عن دائرة الإبداع تلعب دوراً في إِنتشار هذا وطمس ذاك؟! ، وهل هناك شعراء حقيقيون عاشوا وماتوا ولم يسمع بهم أحد؟! ، أسئلة بريئة...ولكنها مشروعة ، وقد تثير شهوة القارىء ليضيف إِليها ما يريد في إطار الموضوعية والإنصاف.
10- الأصلُ و الصورة :
كلما قرأت نصاً شعرياً على الفيس لأحد الشعراء الشباب ؛ سمعت صرير قلم شاعر كبير على الورق ، وقفزت من بين السطور صورة ذلك الشاعر الرمز واضحةً جلية.
إن هناك شعراءً كباراً تركوا بصماتهم على قصائد الكثير من الشعراء الشباب ، وأثروا فيهم تأثيراً يُخَيَّل للقارىء أنهم لا يستطيعون التخلص منه..!! و للتفصيل أكثر...أقول : -وأرجو أن أكون مخطئاً- أن أكثر الشعراء اليمنيين من الشباب-مثلاً-متأثرون إلى حد التقليد بالشاعر الرمز البردوني ، وكذلك شعراء الشام ، ونزار وشعراء فلسطين والدرويش ، وشعراء مصر وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور، وهناك إستثناءات لا أُنكرها وإن كانت قليلة، ورغم أن هؤلاء الشباب قطعوا شوطاً في التجربة الشعرية ؛ إلا أنهم ما زالوا أسارى هؤلاء الكبار يدورون في فلكهم ، وينسجون على منوالهم ، والذي يُدرك كل ذلك هو القارىء المثقف ، والناقد الحصيف ، وكل ما أخشاه هو أن لا ينتبه الشعراء الشباب إلى هذا ، وأن يطمئنوا إلى نتاجهم ، ويظنوا أنهم ناجون من هذا التأثر الذي يصل إلى حد التقليد كما أسلفت ، وهذا يذكرني بما قاله توفيق الحكيم في هذا الصدد : " ما أصعب الجهود التي ينبغي أن تبذلها النجوم لتضيء في حضرة الشموس..!! " ، وقوله : " عندما ينفك الشاعر من أسار مثاله الشعري وسطوته وجاذبيته ؛ عندها فقط نسمع دوياً أدبياً هائلاً..فنسارع إلى القول الآن فقط ولد شاعر حقيقي جديد..له لغته وصوته ومداره أيضاً ، وكذلك بصمته الخاصة به ، ومن حوله سوف تدور كواكب شعرية جديدة..! " ، أمَّا كيف يتم ذلك..؟! ؛ فإن الأمر متروك إلى الشعراء الشباب وإقتناعهم بهذا ، وحرصهم على الأخذ به .
11- غزل ... غزل :
لا أعتقد أن أحداً معافى في بدنه ، سليماً في ذوقه..يرفض شعر الغزل جملةً وتفصيلا..! ، بل على العكس فإنه الموضوع الأكثر قبولاً و رواجاً ، ولكننا نعترض على هذا النوع الرائج على شبكات التواصل الإجتماعي ، فإلى متى سوف يظل شعراؤنا يُرهِقونَ النرجس ، وهم يُشبهون به العيون..؟! ، والكرز وهو ينبت على الشفاه..؟! ، والخدود والورود وأعواد الزان والقدود والعنق العاجي والليل والشعر الطويل..؟!...إلى آخر ما هنالك من هذه الأوصاف الرائجة منذ مئات السنين..؟! أليست هناك طريقة أخرى لتناول هذا الموضوع ؟ ، رؤية مختلفة؟ ، طقس غزلي غير هذا المكرور و المطروق..؟! ، غزل يثير الدهشة و المتابعة معاً...ولا أدل على سذاجة بعض الشعراء من أنهم يعرضون تحت قصائدهم الضعيفة صوراً لفتياتٍ جميلاتٍ مكحولاتٍ ممشوقاتٍ..إلخ ، لعل هذه الصور ترفع من القيمة الفنية للنص..! ولو رجعنا إلى تراثنا الأدبي لوجدنا فيه من أنواع الغزل ما يهز القلوب ، ويُنعِش الأرواح:
يموتُ الهوى مني إذا ما لقيتُها
ويُضرى إذا فارقتها فيزيدُ
وذلك الشاعر الذي كانت أصابعه تُندَى وتُورِق إذا ما مَسَّ أصابع محبوبته ، وقد نسيت البيت ، وقول الآخر :
واللهِ ما طلعت شمسٌ و لا غربت
إلا و حُبُّكِ مقرونٌ بأنفاسي
ولا خلوتُ إلى قومٍ أُحَدِّثَهُم
إلا وأنتِ حديثي بينَ جُلَّاسي
ولا هَمَمتُ بشربِ الماءِ من عطشٍ
إلا رأيتُ خيالاً منكِ بالكاسِ
هذا شعرٌ عابرٌ للقرون ؛ لأنه يحملُ عناصر بقائهِ وحيويته ، ودائرة الحب والغزل أوسع بكثير مما ذكرت ، و مجالها كذلك أرحب ، ولكننا نحتاج إلى الإقتناع بأن قاموس الغزل الرائج قدِ استُهلِك ، وأن الشاعر الحق يستطيع أن يجترحَ برؤية نافذة وثقافة عميقة..أُسلوباً آخر للغزل ، أم أن للجسدِ الأنثوي عند كثيرٍ من الشعراء جاذبية يصعب الإنفلات منها..!؟
12- النخبة و الجمهور :
من عادتي حضور ندوة أدبية أسبوعية ، في صالون أدبي عريق عمره أكثر من نصف قرن..! ، وعلى ذمة من أخبرني ؛ فقد كان يتردد على هذا المكان كبار أدباء مصر (إبراهيم ناجي-علي محمود طه-علي الجارم-السحرتي -أحمد زكي أبو شادي- وغيرهم) ، ولكن الأمر الذي أثار دهشتي أن عدد الحضور في أحسن الحالات ما كان يزيد عن20 شخصاً !! ، وعندما تجرأت وسألت من يدير الجلسة-و هو شاعر معروف- قال لي : " نحن يا أخ محمود لا نلتفت إلى العدد ، وأنا منذ 30 عاماً أُدير هذه الندوة ؛ لا أذكر أن العدد قد زاد عما تراه ؛ لأن الشعر فن النخبة ، وليس فن العامة" ..!! ، فقلت في نفسي : ما دام الشعر فن النخبة؛ فلماذا إذن يُعاب على الشاعر أنه لا يمس بهموم الناس ، ولا يُتقِن التواصل معهم..!؟، وأنه متقوقع في برجه العاجي ، وأنه أناني أيضاً ، ولماذا أذن تقام للشعراء المنابر..عليها يتزاحمون...!؟ ليس هذا فحسب ، وإنما يتفاخرون بعدد الحضور ما دام الشعر نخبوياً..!! ، كيف نستطيع -إذن-حل المعادلة..أن يكون الشعر نخبوياً وشعبياً في آنٍ واحد..؟! بمعنى آخر...كيف يستطيع الشاعر أن يحقق ذاته دون أن ينفصل عن جمهوره..!! ولماذا قال محمود درويش : " أنا على إستعداد لأن أضحي بنصف جمهوري إذا كان عائقاً لمسيرتي الإبداعية..! " ، تلك أسئلة راودتني وأنا أستمع إلى إجابة الشاعر الكبير ، ولا أظن أن كثيراً من الشعراء قد استطاع أن يحقق هذه المعادلة الصعبة..أن يحافظ على خصوصية التجربة الإبداعية، ويقنع الناس أنه جزء من همومهم وأوجاعهم..! ، أن يكون شاعراً نخبوياً وشعبياً في الوقت نفسه..!
13- كيف...؟ كيف...؟ :
قضية تقلقني ، وتقلق بالتأكيد غيري من الشعراء..كيف نستطيع أن نطور أدواتنا الفنية ، وأن نكتب نصاً مختلفاً عن كل ما كتبناه سابقاً ..؟ ، كيف نستطيع تحقيق منعطف حاد وجذري في مسيرتنا الشعرية..؟ ، كيف نستطيع أن نقلع إقلاعاً إستثنائياً ولافتاً..؟! ، يؤسفني القول -وأنا أُتابع ما يكتبه أكثر الشعراء ، وما أُبريءُ نفسي-أننا نكرر أنفسنا...! ، وأن قصائدنا الأخيرة تشبه قصائدنا الأولى مع فارق طفيف ، كانها توائم..!! ، وأن المتابع الجاد والصريح يدرك ذلك...الطاقة...هي الطاقة ، والتوجه هو التوجه ، والأدوات هي الأدوات..، الموت الحقيقي للشاعر أن يصل إلى مرحلة الإستنقاع الشعري ، وأن تأسن ينابيعه...! ، وهو يظن أنه على خير..! ، ما دام القراء يصفقون ، ويهللون، ويمطرونه بكلماتٍ مثل..مدهش..رائع...عملاق...سيد الكلمات...إلخ ، هذه النغمة التي دارت حتى بارت...! ، كيف أقنع نفسي أولاً أنني ما زلت قادراً على تقديم المختلف والمثير..؟! ، وأن نصي الجديد لاينتمي إلى زمرة الدم نفسها لنصوصي السابقة ، وأنني تخلصت-فعلاً-من ضغط الزفة وضجيجها..؟! ، كيف ومتى أستطيع تحقيق التوازن النفسي والمعادلة الصعبة ، وهي أنني مازلت أتنفس هواءً جديداً ، وأخطو على أرضٍ لم يطأها الكثير من الشعراء..!؟ ، وقد تابعت سيرة بعض الكبار من الشعراء..فوجدت نصوصهم الأخيرة تختلف إختلافاً جذرياً عن قصائدهم السابقة..! ، كيف أطمئن على أنني لم أمت شعرياً على الأقل..!؟ ، حتى أُمزق الشرنقة ، ويقول القراء : هذه بصمة فلان..!! ، كيف..كيف..؟!
14- الشعراءُ و الإطراء :
أكثر الشعراء الذين ينشرون على الفيس هم شعراء من الطبقة الاولى...!! ، ولا أدل على ذلك من كثرة المتزاحمين على صفحاتهم وكثرة المعجبين ونوعية تعليقاتهم أيضاً..!! ، كل هؤلاء الشعراء متفوقون..بارعون..مبدعون..و...و...هكذا يعلق الأحباب...!! ، ولم أقرأ لأحد من المعلقين عبارة تتحفظ على بعض الأبيات مثلاً ، أو بعض العبارات أو بعض الصور،ولم يجرؤ أحد أن يقول: " هذا بيت لم يعجبني لكذا وكذا...وهذه الصورة باهتة...وهذه المعالجة الفنية للفكرة تقليدية وشاحبة، أو هنا خطأ نحوي أو خلل في الوزن...الخ" وهو موجود في كثير مما ينشر...لم أقرأ كذلك لهؤلاء الشعراء شيئاً من التواضع أو الإعتراف بأن أحبابهم يبالغون ، وأنهم يؤذونهم بهذه المبالغة ، وهذا أقرب إلى الذبح منه إلى المدح...!! ، كما قال-محمود درويش- ذات يوم لمن بالغ في الثناءِ عليه:" إرحمونا من هذا الحب القاسي...!!؟ "، ومنذ أيام قليلة فقط ، قرأت لشاعرة تجاوزاً...كلاماً يخلو من الوزن ، ويعج بالأخطاء النحوية والإملائية، ولا يمت إلى العربية بصلة ، أو قربى...ومع ذلك كان المعجبون والمطيبون والمبخرون والدجالون والمزيفون بالمئات!! ، والأغرب أنني أقرأ على الفيس أيضاً لرموز ثقافية معتبرة ، وأكثرهم أكاديميون راسخون...ومع ذلك لا أرى على صفحاتهم أكثر من عشرة معلقين ، لست ضد التشجيع لأن التشجيع نصف النجاح وكان شاعر فرنسا الكبير- هوغو - كلما كتب نصاً ؛ أسرع إلى خادمته يقرأه لها وهو يعلم أنها شبه أمية...فتقول من قبيل المجاملة : " برافو...فكتور " ...!! ، فيشعر بالفرح ، لست ضد التشجيع ولكنني ضد التسليع...!! ، لست ضد التوصيف ولكنني ضد التجريف الثقافي...وكذلك ضد التزييف الأرعن ، هذه ثقافة الكثير من رواد هذا الجهاز...وهي بطبيعة الحال تعكس مرحلة تاريخية بائسة تمر فيها أمتنا..مع الإعتذار الشديد إلى أدباء حقيقيين، وقراء حقيقيين ، يعرفون قيمة ما يكتبون ، ويعتبرون الكلمة أمانة ثقيلة سوف يحاسبون عليها عاجلاً أم آجلاً...!!
15- لغتنا اليتيمة :
لا أدري إن كانت هناك على امتداد الوطن العربي جامعة تُدَرِّس جميع المواد-حتى الطب والهندسة- باللغة العربية ؛ غير جامعة دمشق..!! ، وحجة هؤلاء أن لغتنا لغة أدب ، وليست لغة علم ، وهي عاجزة عن استيعاب مفردات الحضارة الحديثة ومخرجاتها...! ، والأفضل أن نُدَرِّسَ أبناءنا بلغة أجنبية ، وقدِ انطلت هذه الفرية على كثير من المثقفين ، وروجوا لها رواجاً كبيراً ، وأنا أعلم أن آلافاً مؤلفة من الشباب المسلمين -غير العرب- يتشوقون إلى تعلم لغتنا والنطق بها ، بل ويعتبرونها مفتاح الحضارة الحقيقية ، ومما يثير السخرية..أنني أقمت في بلد عربي مُدَرِّسَاً مُعاراً لتدريس اللغة العربية ، وفوجئت أن هذا البلد يُدَرِّسُ جميع المواد -حتى التربية البدنية-بلغةٍ أجنبية ، وذلك في المرحلة الثانوية أيضاً ، وعندما طُلِبَ إِليَّ أن أَملأ بيانات للحصول على إقامة رسمية ؛ هالني أنها كتبت بلغةٍ أجنبية ، ولا أثر للعربية فيها..!! ، وعندما سألتُ مُندَهِشَاً ؛ قيل لي : " هذا شأننا..!! " ، وقدِ التقيت بكثيرٍ من شباب هذا البلد ؛ فرأيتهم يتحرجون من الحديث بالعربية ، وإذا تحدثوا خلطوها بلكنةٍ أجنبية ، وسؤالي : هل كلمة" ميرسي" أجمل من كلمة " شكراً "..!؟ ، إن هذه السياسة خرجت أجيالاً من الشباب لا هم أتقنوا اللغة الأجنبية ، ولا هم ألموا بلغتهم الأم...!! ، وإنني -وانا اقرأ على الفيس لشعراء وغير شعراء- أشعر بالإستغراب من كثرة الأخطاء النحوية والإملائية ، حتى من الذي تخرج من قسم اللغة العربية في جامعته..! ، ولا أدري ماسبب ذلك..؟! ، هل هو مظهر من مظاهر إنهيار الأمة ، لأن اللغة تتبع أهلها قوة وضعفاً..!! ، أم هي ظاهرة صحية ، وأنا لم أُدرك ذلك..!؟، هل هي سحابة صيفٍ وتمر..؟! ، لا أدري...لا أدري..!!.
16- الشعرُ و المضمون :
رأيت أن أكثر المعلقين على قصائد الفيس يهتمون بأفكار النص وأخلاقياته أكثر من إهتمامهم بالصياغة الفنية والبناء الجمالي الذي يتضمن صورة جديدة ، أو تركيب لافت أو خيال مركب ، صحيح..أنهم أُعجبوا بالنص ؛ ولكن أكثرهم لم يستطع تفسير هذا الإعجاب ، وكشف عناصر التأثير فيه ، وأن التركيز على الجانب القيمي في النص يمارس ضغطاً نفسياً على الشاعر ؛ فيضطر إلى سلق نصوص تعنى بالفكرة فقط ، مُضَحِيَاً بما هو أهم من الفكرة في رأيي ، جماليات هذا النص ، وآليات الإبداع فيه ، وبهذا يكون النص تقريرياً خطابياً ضعيفاً ، ولكنه يلامس هوى القارئ ومزاجه..!! ، إلا أن بعض الشعراء-وأعني الحقيقيين منهم- لا يلتفت إلى رغبة القارئ ومزاجه ، ولا يستجيب لضغطه النفسي ، حتى ولو إنفضَّ عنهم القراء جميعاً ؛ لأنهم لا يصغون إلا لصوت الإبداع في أعماقهم ، ذلك الصوت الذي لا سلطة عليه ؛ إلا سلطة النص وحده ، وقد لمست أن كثيراً من القراء لا يتفاعلون مع هذا النمط من الشعر ، الذي تغيب فيه الفكرة ، وتذوب ، أو تتوارى ، حتى يكون الإمساك بها صعباً ؛ لأنها ملفوفة بغلالة من الصور المركبة ، والأخيلة البعيدة والرموز ، وكل أنواع البديع المطلوب لإنجاز نص جميل ومقنع ، ومن خلال تجربتي مع الفيس ؛ فقد نشرت قصائد أعتبرها من أفضل ماكتبت فنياً ، وكان الإقبال عليها ضعيفاً ، على حين نشرت قصائد أُخرى لم أكن راضياً عن مستواها كل الرضى نالت إهتماماً كبيراً ، فهل يستمر الشاعر في إرضاء القارئ ؛ فيضحي بالجانب الجمالي الفني..على حساب الفكرة الواضحة المباشرة ؛ فيثير زهد القارئ بما يكتب ، أمِ العكس..!؟ ، وإن كان النقد قد حسم هذه المسألة منذ قُدامة بن جعفر وحتى يومنا هذا ، إلا أن كثيراً من شعراء اليوم ما زالوا يستجدون تصفيق قرائهم ، ويحبون أن يقولوا شعراً يدغدغ مشاعرهم ، وينال رضاهم ، وبعض هؤلاء الشعراء يعرف متى يصفق الجمهور..!! ؛ فيتوقف قليلاً ، ويأخذ نفساً عميقاً ، ويغير نبرة صوته في إنتظار حرارة التصفيق..!! ، ولكن عندما يعرض هذا النوع من الشعر على ناقد حقيقي موضوعي ؛ فإنه يضعه في خانة الشعر الباهت الفقير..!!.
17- شاعرٌ تحت الطلب :
آمل أن لا أزعج أحداً بهذه الكلمات ، ولكنه رأيٌّ متواضعٌ ظل حبيساً في نفسي ، و أحببت إعلانه ، عجبت لبعض الشعراء-عندما توجه إليهم دعوات للمساجلة-كيف يسارعون -وخلال وقت ٍ قصير- إلى تلبية الطلب ، فيكتبون على المقاس الذي يطلب منهم وزناً و قافية و فكرة ، و أنا أعلم أن أصعب ما يكون على الشاعر أن تطلب منه مثل ذلك..! ، فالشاعر الحقيقي ليس نجاراً أو حداداً نطلب منه تفصيل أبواب و نوافذ على المقاس الذي نريد..!! ، صحيح أن القصائد تأتي ملبية شروط الطالب وزناً و قافية و فكرة ، و صحيح أن البناء الفني فيها مرصوص مرصوف مثل حجارة القلعة، و صحيح أنها تملأ العين ، و لكنها على الأغلب تفتقر إلى روح الشعر ، و عطره ، و دهشته ؛ فلا تثير إحساساً ، و لا تعكر مزاجاً ..!! ، لأن طبيعة الشعر المتمردة العصية لا تنسجم مع طلبات الزبون ، وقد يظل الشاعر أياماً و شهوراً دون أن يكتب حرفاً واحداً ؛ رغم إستجدائه للقصيدة و طلب ودها ، وفجاة..تقع عينه على منظرٍ ، أو تسمع أُذنه كلمة ، أو تلمع في ذهنه فكرة ؛ عندها ينفجر الشعر ذاتياً..متدفقاً..عفوياً..متمرداً على الحدود و السدود ، و كم كان المتنبي يجد عنتاً في العثور على البيت الأول حتى إذا ما لمع كالبرق ؛ راح يخوض في بحر من الكلمات ، فلا يدري الشاعر الحقيقي متى تكون ولادة القصيدة؟! و أين؟! ، في السوق ، أم في المقهى ، أم تحت سقوط المطر ، أم مع رشفات قهوة الصباح على شرفة بيته..؟! ، إنها طبيعة الشعر التي تقوم على الإلهام والعفوية ، والمراوغة والإندفاع ، وهذا كله يتنافى مع طبيعة الطلبات الخارجية ، إن أكثر القصائد التي تكتب حسب الطلب ؛ هي ورودٌ من البلاستيك ليس فيها عطر الشعر ولوعته ، وهي إلى النظم أقرب ، وكم يفرح المتسابقون عندما توزع عليهم الألقاب ، والبطاقات الذهبية والفضية ، و تملأ هذه البطاقات صفحات التواصل الإجتماعي ، هذا ما خلصت إليه ، وأنا أتابع ما أتابع ، ومرة أخري..أقول : أرجو أن لا أكون مخطئاً ، وأن لا أُغضِبَ أحداً من الإعزاء ، كما أرجو أن تستجيب لي القصيدة عندما يطلبها مني أحد على المقاس الذي يريد!!.
18- بطاقات...! بطاقات...! :
ظاهرة غريبة ولافتة، وهي كثرة إنتشار البطاقات الذهبية والفضية والبرونزية، وبطاقات الشرف وبطاقات العضوية للشعراء وسواها ، ورأيت أن الشعراء يفرحون بهذه البطاقات الممنوحة..فرح الطفل بلعبة العيد..!! ، ويسارعون في نشرها على صفحاتهم ، وصفحات أصدقائهم ...!! ، وفي هذه البطاقات عبارات ساطعة مثل : "الشاعر المتميز " و " الشاعر الكبير ".." الشاعر الرمز ".."الشاعر الفذ "...إلخ..!! ، وعندما أعود إلى قصائد بعض هؤلاء الشعراء ؛ أخجل من نفسي وأنا أقرأ نصوصاً لشعراء ما زالوا في الدرجات الأولى من سلم الشعر ، وبعضهم لم يتخلص من الأخطاء الإملائية ، والنحوية..فضلاً عن الإيقاع..!! ، وعندما أعود كذلك إلى سيرة المانحين ، والذين يذيلون هذه البطاقات بتوقيعاتهم وأسمائهم ؛ لا أجدهم شيئاً مذكوراً في المشهد الشعري العربي ، إِلا القليل...القليل حتى لا أظلم أحداً ، و بالتالي أقول : هل هذه البطاقات هي ذر الرماد في العيون..؟! ليتوهم السذج من رواد الفيس أنهم أمام شعراء راسخين..! ، هل هي ترويج لبضاعة كاسدة..شأنها شأن كل شيئ في حياتنا اليوم..؟! ، هل هي دليل على فساد الذوق العام ، و غياب الضمير الأدبي..؟! ، هل هي حالة من حالات الإنتكاس في كل شيئ؟!
لست أدري..! ، لست أدري..! أتمنى أن يقنعني أحد أنني على خطأ ، وأنني كتتبت ما كتبت بدافع الغيرة ، لأنني لم أرتفع إلى مستوى هذه البطاقات التي تمنح ، وتمهر بالتوقيعات الساطعة ، و الأسماء اللامعة اللهمَّ لا شماته ، و الله من وراء القصد.
19- زحمة السوق :
في زحمة السوق الشعرية ، وإلتصاق الكتف بالكتف ، والقدم بالقدم ، وتشابه الأصوات إلى الحد الذي لا يستطيع القارئ فيه أن يميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الشعر ، فكأنك وأنت تقرأ لشاعر تقرأ للشعراء جميعاً ، مع بعض الإستثناءات طبعاً ، الأسلوب..هو الأسلوب والملامح..هي الملامح ، وبصمات الكبار ما زالت تطبع أكثر هذا الشعر ، حتى الموضوعات..لاتكاد تخرج عن دائرة الغرام والهيام والتغزل بالبدر التمام.....إلخ ،وقلما وجدتُ شاعراً من هؤلاء يحمل هم الامة على كتفيه ، وينزف قلمه وجعاً على ما حل بها فكأنه ليس إبن بيئته ، ولا يمت إليها بصلة..؟! ، وأكثرهم ما زال يسبح في بحر نزار ، ولم يعالج موضوعات جادة من زوايا مختلفة..! ، ولهذا وأنا أقرأ الكثير من شعر الشباب لا أكاد أجد صوتاً متفرداً يدور في فلكه المستقل..! ، لا أعرف من الأسطر الأولى أن هذا النص لفلان..إذن كيف ينفلت الشاعر من هذا الزحام ، ويبتعد عن الجوقة ، ويعزف منفرداً ، ويُقنِعُ الناقد والقارئ معاً بأنه مختلف ، وأن له صوته الخاص وعزفه المتميز..؟! ودعك من كثرة الاصدقاء الذين يُوهِمون الشاعر بأنه يتبوأُ ذروة الشعر..بمطرهم الرخيص من الإطراء والثناء ، وقد ينسى الشاعر أن هؤلاء يسيئون إليه ، وقد أسهموا في بقائه-مكانك سر- لأنه أطمأن إلى أن ما يكتبه رائع ، وقنع بما لديه ، أقول : هذا الثناء المجاني هو الذي منع الشاعر من تحقيق إختراق نوعي في مسيرته الشعرية، أو تجاوز ماضيه ، إنني دائماً أبحث عن الصوت المتفرد ، عن الطائر الذي يغرد خارج السرب ، عن القصيدة التي تحقق الفن والدهشة معاً ، حتى ولو لم يكن على صفحة هذا الشاعر صديق واحد..!! ، عندها سوف أعض عليه بالنواجذ ، وحتى لا أكون متشائماً ؛ فان المبدعين موجودون ، ولكن ندرتهم تبعث على القلق.
20- أتمنى أن أكون مُخطِئَاً :
منذ أكثر من عامين وأنا أتابع ما ينشر من شعر على صفحات التواصل الإجتماعي ، وأعيد قراءة الأسماء التي تتكرر فيها ، وحتى أكون صادقاً مع نفسي على الأقل أقول وأجري على الله : إن أكثر من 90% مما ينشر ليس شعراً متميزاً مقنعاً يحتوى على عناصر الإبداع الحقيقي ، والدهشة المطلوبة ، وقد أضطر إلى نبش كومة من القش للعثور على حبات من القمح ، أو السير طويلاً على الشوك لأقطف وردة أو وردتين ، ومما يزيد الطين بلة ؛ أن الطبالين والزمارين والمبخرين يلم بعضهم بعضاً ، ويكيلون المدائح لبعض بلا حساب " شاعر مبدع - راية من رايات الشعر المعاصر" حتى أن الأمر وصل بأحدهم أن قال للآخر : " منذ المتنبي وحتى الآن لم تنجب أُمتنا أفضل منك..!! " ، ولم يدروا أن هذا هو الذبح وليس المدح ، وأن رجلاً مثلي أمضى أكثر من 40 عاماً في قراءة الشعر ودراسته وتدريسه يستطيع أن يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود من الشعر ، ولكن أكثر شبابنا لا يملكون هذه التجربة ، ولهذا فإنهم يقعون ضحية هذا الغثاء الشعري ، وهذا الركام الذي يجثم على صدورهم صباح مساء ، ومما يبعث على الضحك ؛ أن أصحاب هذه المواقع يمنحون بطاقات ذهبية وبرونزية وفضية لشعراء مازالوا في خطواتهم الأولى ، وهم يمنحونهم أرفع الألقاب والأوسمة و...و.... ، وهؤلاء المساكين يصدقون وينشرون كل هذا على الصفحات المختلفة ، ومن عجب أنني تابعت الكثير من هذه الصفحات ولم أجد قصيدة واحدة لشاعر كبير مرموق ، وكلنا يعرف الأسماء الكبيرة في سماء الشعر العربي ، والعجيب أيضاً أنني عندما رجعت إلى صفحات هؤلاء الشعراء الحقيقيين لم أر فيها إلا القليل..القليل من الشعر ، فإلى متى سوف نظل نخوض في هذه البرك المعكورة..؟! ، ونظل نخدع أنفسنا ، ونخدع الآخرين ونروج لبضاعة كاسدة..!؟ ، ومتى يجرؤ الواحد منا أن يقول لصديقه نصك ضعيف للأسباب التالية ، أو يقول له ليتك تعيد النظر في البيت الفلاني ، أو الجملة الفلانية ، دون تملق ، أو حرج ، ويتقبل الآخر النقد البناء الهادف بدل هذا النفاق الأدبي الذي طغى وبغى ، وتكبر وتجبر.
21- سوقُ الشعر :
كتب أحدهم يقول : " زرت معرض الكتاب وفوجئت أن ركن الشعر فيه كان حزيناً يتيماً لا يقترب منه أحد..!! ، على حين أن الأيدي كلها تمتد إلى الرواية والقصة القصيرة ، والسيرة الذاتية والنقد ، وغير ذلك ، فهل نحن في زمن الروايةحقاً ؟! ، وهل تخلى الشعر عن مكانته للرواية وغيرها..!؟ " ؛ فقلت في نفسي : لو كان في هذا الركن شعراء من طراز نزار قباني ومحمود درويش والبردوني وعبدالرزاق عبد الواحد و أحمد مطر بهجومه اللاذع على الواقع العربي حتى ضاقت به الأنظمة العربية ، ولم يجد غير لندن ملاذاً ، وهو الآن يعاني الغربة والمرض ، والتشرد بعيداً عن الفراتين ونخيل العراق ، شفاه الله ؛ لتغير واقع الشعر ، وكنت قرأت في إحدى الصحف العربية قبل ربع قرن تقريباً خبراً يقول : أن أكثر كتاب مبيعاً في معرض الكتاب في الكويت كان ديوان لافتات لأحمد مطر..!! ، وتجربتي الشخصية تؤكد ما أقول ، فقد طبعت قبل عشرين عاماً 12 عملاً أدبياً بين شعر وقصة قصيرة على نفقة دور النشر ، وكانت ترحب وبكل تواضع بما أرسله ، وتطبع أحياناً من العمل 5000 نسخة ، وتخبرني بعد عامين تقريباً أنها تود إصدار طبعة ثانية من الديوان ولكن ، ومنذ 5 سنوات تقريباً لم أجد دار نشر واحدة تطبع لي على نفقتها ، مما أضطرني إلى طباعة 4 دواوين على نفقتي الخاصة ، وأحياناً لم أطبع إلا 200 نسخة ، وهذا شأن كثير من الشعراء الذين أعرفهم في عاصمة العرب..!! ، ولا أريد أن أذكر أسماء كثير من الشعراء الذين تحولوا إلى الرواية ، وحققوا فيها إنجازات هامة ، وحصد بعضهم جوائز مرموقة ، إذن ما العمل ..!؟ ، هل نحن فعلاً في زمن الرواية؟! هل تعاني الساحة الأدبية فقراً في الشعراء الرموز؟! ، كيف نستطيع أن نلقي في بركة الشعر صخرة كبيرة ليتحرك ماؤها ، ويعود الشعر إلى أيام مجده ديواناً للعرب.؟! ، هل الإعلام الرسمي يتحمل قسطاً من ضمور الشعر ، وغياب رواده ، وهو يفرد مساحات واسعة لكل شيئ؟! أسئلة كثيرة أربكتني..!! ، وأحببت أن أطرحها فلعل هناك إجابة شافية عند الإحبة من المنشغلين ، والمشتغلين مثلي بهذا الأمر.
22- قلقُ الشعراء :
لا أبالغ إن قلت إن هَمَّ الشاعر -أي شاعر-أن يكون متفرداً ومتميزاً ، وذا بصمة خاصة وهذا من حقه طبعاً ، ولكن هناك مقولة تقض على الشعراء مضاجعهم ؛ وهي مقولة نقدية قديمة جديدة تؤكد أن الشاعر ليس هو الذي يكتب النص ، مهما ادعى من فرادة ، ولكن الذي يكتبه هم مئات الشعراء الذين قرأهم الشاعر وهضمهم ، تأثر بهم ، وليس للشاعر من أي دور إلا إعادة صياغة النص من جديد بطريقة أو بأخرى، قد يغير بعض الألفاظ ، أو يضيف بعض الصور ، أو يلبس النص الأصلي ثوباً جديداً ، ولكن جوهر القصيدة كتبها غيره من الذين سبقوه ، والناقد الحصيف الخبير يستطيع إعادة القصائد إلى أمهاتها الشرعيات ، وإذا كان الناقد أكثر خبرة وإطلاعاً ؛ فإنه يستطيع إعادة كل بيت إلى أصله ، وهذه المقولة بطبيعة الحال تقلق الشعراء ، وتحبطهم وتسكب على حماسهم كثيراً من الماء البارد!! ، وهذا ما جعل شعراء الحداثة ينادون بهجرة الماضي ، وقطع الجسور معه، والحرث في أرض بكر حسب زعمهم لم يحرثها أحد قبلهم ، وكسر المعايير الرائجة ، وإنتهاك حرمات اللغة ، والأخلاق أحياناً ، وأنتشرت مصطلحات راقت للكثير مثل : التجاوز ، تفجير اللغة ، شعراء ، بل آباء ، للوصول إلى مبتغاهم ، وهو تحقيق الفرادة والدهشة والإبهار..ألخ ، غير ذلك من هذه المصطلحات التي تعج بها كتب النقد الحديث ، ولهذا أنتشرت أنماط من الشعر غريبة عجيبة ، لا يمكن أن تستجيب لقارئ ، وهنا أذكر مثالاً لأحدهم قال فيه : " إن قصيدتي كالمرأة الممنعة المستعصية ، أما قصائد الآخرين ؛ فإنها نساء مبتذلات..!! ، ولا تعجب إن قلت لك إن وراء هؤلاء الشعراء كتبية من النقاد الذين يشتغلون ليل نهار لتأصيل هذا التوجه ، وترسيخة في الشعر المعاصر ، وأن هناك مجلات حملت راية هذا الشعر بعد مجلة شعر ، ومنها من ترعاها مؤسسات رسمية ، وما زال أدونيس والماغوط وأُنسي الحاج وتوفيق صائغ ونذير العظمة وسواهم ؛ يعتبرون آباء روحيين لكثير من شعرائنا أعود إلى قضيتي الأولى ؛ لماذا إذن أكتب شعراً ما دمت أجتر الآخرين ، ولن أستطيع أن أسجل شيئاً بإسمي..!؟ ، ولماذا أكِدُّ ذهني في إجتراح ما أتوهم أنها صور جديدة !؟ ، هل أقتنع بهذه المقولة فأكف عن الكتابة..؟ ، أم أظل أسبح في النهر الكبير الواسع دون أن أشغل بالي بما يقوله النقد !؟ ، هذا ما يقلق كثيراً من الشعراء وينتظرون الإجابة المقنعة عنه ، وما صحة هذه المقولة النقدية..؟! ، وأين نقف من شعراء الحداثة فيما ذهبوا إليه..؟!.
23- التحكيمُ و الشعر :
نحن لا نشك في نزاهة أية لجنة لتحكيم الشعر ، ولا في رغبتها في الإجتهاد والتسديد ، ولكن هذا لا يمنع من وجود الخلل بشكل من الأشكال..!! ، فأعضاء أية لجنة ينتمون إلى بيئات ثقافية مختلفة ، وثقافات متباينة ، وقناعات فكرية قد لا تلتقي ، وهم متسلحون بنظريات نقدية ، تعبوا في دراستها وهضمها ، وجاهدوا في تطبيقها ، وترسيخها في كتبهم ومقالاتهم المنتشرة ، وحتى أكون أكثر صراحة أقول : إن ناقداً لا يمارس الشعائر الدينية-مثلاً - ولا يقيم لها وزناً ؛ لا يمكن أن يختار نصاً ذا مضمون ديني ، مهما كان حجم الإبداع فيه ، وأن ناقداً حداثياً أمضى حياته في الترويج لقصيدة النثر والدفاع عنها ؛ لا يمكن أن يختار قصيدة يرضى عنها الخليل ابن أحمد - مهما كانت ذات وهج إبداعي أيضا..!! ، وبالمقابل وحتى أكون منصفاً أقول : أن ناقداً تراثياً بكل معنى الكلمة لا يؤمن بالحداثة الشعربة وبمقولاتها ، ولا يعترف بنماذجها ، لا يمكن أن يرشح قصيدة نثر أو قريبة منها ، مهما حاول أن يكون منصفاً ؛ لإن صوت النقد في داخله لابد أن يكون له تأثير في القرار الأخير ، وأن الذوق الأدبي وحده ؛ لا يصلح أن يكون حكماً موثوقاً ، لإن الأذواق متباينة ومختلفة ، وهي تخضع لإعتبارات كثيرة ، ما هو الحل إذن حتى لا يكون النص ضحية هذه الأمزجة والإتجاهات والقناعات والثقافات..؟! ، حتى ولو طليت التعليقات الأخيرة بطلاء المجاملات الواضحة غير المقنعة ، والتي لا تعدو أن تكون قشرة وراءها ما وراءها ، ما العمل إذن..؟! ، كيف نستطيع أن ننصف الشعراء ونقنع الجمهور أننا نملك مفاتيح هذا الإقناع..؟! ، هذا ما أحببت أن أطرحه على الأعزاء من القراء ؛ فلعل عندهم الجواب الشافي.
24- الشعرُ و الإمارة :
قد يغري لقب ( الأمير ) كثيراً من الشعراء ، بل ويطمح كلٌ منهم أن يفوز به ، وفي رأيي المتواضع أن طبيعة الشعر تأبى هذه التسمية ، فكل شاعر أمير على رعيته و قصائده ، و يبدو أن هذا اللقب لا يغري إلا أبناء أمتنا ، على عكس الأمم الأخرى ، ومن الصعب أن تقنع أحداً أنك أفضل منه إلا إذا هو رضي بذلك ، وكثير من النقاد ما زالوا يتندرون على إمارة شوقي حتى سَمَّاهُ بعضهم صنم الألاعيب ، وقيل أن د .طه حسين منح العقاد لقب أمير الشعر لتسلم له إمارة النثر حتى إنه قال في الإهداء لكتابه دعاء الكروان : " هذا عش لكروانك ..إلخ " و هذا حديث يطول ، أما ما أريد أن أدخل فيه مباشرة ؛ فهو أن إحدى الصفحات على الفيس أعلنت عن رغبتها في إختيار أمير لشعرائها بالإقتراع ، وبدأ الغليان المحموم ، والمجاملات التي بلغت حدَّ القرف..!! ، وأن نظرة سريعة إلى هذا السباق تظهر بجلاء أن العصبية القبلية ما زالت تتحكم في مزاجنا ، وإن كل شاعر راح يرشح إبن قبيلته أو وطنه مع الإستثناء النادر ، وأنا على يقين أن بعض الذين يمدون أعناقهم إلى إمارة الشعر ما زالوا يخطئون في الإملاء والنحو ولا تستقيم لهم الأوزان أحياناً ، فإذا كانت النخبة المثقفة الواعية بهذا المستوى فما قولك للذين لا يقرأون ولا يكتبون ، أنا على يقين أن الحوار بينهم يومئذ سيكون بالخناجر وليس بالحناجر..!! ، ودائماً أقول : أرجو أن أكون مخطئاً ، وأن لا يكون في كلامي هذا شيئ من المغالاة.
25- شاعر ٌ منتشر :
ليس لي أي موقف من أشكال الشعر ، وليس عندي عقدة من التسميات (قصيدة النثر-النثيرة-الشعر الحر-الكلاسيكي) فالذي يهمني هو الشعر -فيما أقرأ-و الشعر وحده ، ولقد صبرت على قصائد تعج بالألغاز والطلاسم حتى لا أُتهم بالتخلف والجهل ، ولكن هذا لايمنع من طرح أسئلة موضوعية ، تحتاج إلى إجاباتٍ مقنعة ، لماذا ينتشر بعض الشعراء ويخبو بعضهم..؟! ، وحتى أكون واضحاً أكثر ؛ فإنني أستشهد بشاعر واسع الإنتشار ، تتسابق دور النشر على طباعة أعماله ، وحتى أكون أميناً فإنني أقتبس شيئاً من سيرته الذاتية كما جاءت في أحد دواوينه :
- شارك في عدد من المؤتمرات والندوات الشعرية والثقافية العربيةوالعالمية.
-كتبت عن تجربته الشعرية عدد من الأُطروحات في الجامعات العربية والأجنبية.
-ترجمت أشعاره إلى عددٍ من اللغات الأجنبية.
- ترجمت مختارات أساسية من أعماله الشعرية من الجامعة الأمريكية.
-حصل على عدة جوائز عربية وعالمية.
وحتى لا أسترسل أكثر ؛ أنقل لكم إحدى قصائد له -لا على التعيين-من أحد دواوينه بعنوان (شمس بطيئة) :
كنا نحزمُ المدينة بالبحر
بالبريدِ الأزرق في الأفئدة
كلما عبرنا ردهة الدار
انبثقت تنهدات النساء
الوقورات في الليل
كلما طرقناباباً إنفتح الأفق
في قلوب مشغوفة بوداع الفقد
صقلنا الدروب المتربة
بخطوات عجولة
كانت البلدة عريشة
مفتوحة على البحر كله
فتلجأ لأعراس السفن
بشراعها الرشيق ، وصواريها الحانية
نشارك في تجهيز الخشب للماء
عربة البريد مهصورة في أحضاننا
لئلا يتأخر المسافرون في الغيم
والمدينة باب لشمس بطيئة
أقول: هل هذا هو الشعر الذي نطمح إليه ، والذي يمثل روح الأمة وثقافتها وهويتها؟! أترك الإجابة للقارئ الكريم ، وأنا أعلم أن بينهم أكاديميين ، ونقاداً وشعراء ومتذوقين..! ، المهم..الإنصاف ، والإنصاف وحده.
26- تجربتي مع الفيس ( أ ) :
أحدهم..كان يدافع عن شاعرٍ دفاعاً مستميتاً ، ويعتبره قمة الإبداع في الشعر العربي المعاصر ! ، ولَمَّا بينت له أن وراء هذا الشاعر آلة إعلامية ضخمة ، وأنا أعرف ذلك من تلفاز وإذاعة وصحافة ورقية ، وحسبه أن أكبر الصحف العربية تفرد لرائعته صفحة كل أسبوع ، ومع ذلك لم يقنع ، وقد عجبت وقد كتب ثلاثة أسطر فقط أنه وقع في أربعة أخطاءٍ نحوية وإملائية..!! ، فقلت له دون مواربة : " يا أخي تخطئ في ثلاثة أسطر أربعة أخطاء ، وتريد أن تصنف الشعراء ، وتحكم عليهم..؟! " ؛ فتوقف عن الكتابة ، ولم أعد أراه ..!!. بعض الشعراء الشباب يرسلون إِليَّ نصوصهم من باب حسن الظن لإبداء الرأي ، ومن عادتي أن أسأل الأخ عن مستواه التعليمي ، وكم أُفاجأ عندما يقول لي أنه تخرج في قسم اللغة العربية في جامعة كذا ، و نصه يعجُّ بالأخطاء الإملائية والنحوية ، وأنا أعرف شعراء حقيقيين -أطباء و مهندسين وصيادلة- تجاوزوا هذه المرحلة من الأخطاء من زمنٍ بعيد ، وقد رأيت أن أكثر أخطاء الشباب في الآتي :
- إضافة ألف بعد حرف العلة (الواو) ظناً منهم أنها (واو الجماعة) : يصفو..ينمو..يغفو..إلخ.
- لا يحذفون حرف العلة بعد الجزم ، : " ولا تمشِ في الأرض مرحا "... " ولا تقفُ ما ليس لك به علم " ..إلخ.
- لا ينصبون إسم ( إن ) التي يأتي بعدها ظرف ، بل يرفعونه ظناً منهم أنها خبر( إن ) : " إن لدينا أنكالاً وجحيما " ..."إن وراءهم ملكاً يأخذ كل سفينة غصبا "...إلخ.
- لا يحذفون (ياء المنقوص) إذا تجرد من (أل) ، أو (الاضافة) : قاض..ناد..شاد..قاضي التحقيق ...إلخ.
وهناك قضية هامة مطروحة للنقاش وهي : أن مأساة حلب إستحوذت على إقلام الشعراء ، وهذا حقهم ، بل الواجب عليهم ، ولكني رأيت أن أكثر ما يكتب تحت هذا العنوان..واقع تحت ضغط الفعل ، ورد الفعل ، وأنه أقرب إلى التسطيح والصراخ والتقريرية والإنشاء بعيداً عن جوهر الفن ، وقد سميت هذا رغوة شعرية سوف تزول بمرور الهدف ؛ لأنها لا تحمل من مقومات الإبداع ما يكفل لها التأثير والخلود ، وهنا أسأل : هل القضية المقدسةتشفع لقصيدة متهافتة فنياً ، وتمنحها تأشيرة دخول إلى عالم الشعر ، ولو قرأنا -محمود درويش- وهو إبن القضية ، وقدِ انغمس فيها إنغماساً ما وجدنا في كل ما كتب ذكراً لفلسطين ، أو القدس ، أو أي عنوان صارخ من عناوين القضية إِلا لِمامَاً ؛ لأنه ذوب القضية في ماء الفن والإبداع ، وليس العكس ، وهذا شأن أكثر الشعراء الكبار الذين قرأتهم...سامي مهدي ، على جعفر العلاق ، محمد علي شمس الدين ، عصام ترشحاني ، عبد العزيز المقالح ، وغيرهم ، وغيرهم.
27- تجربتي مع الفيس( ب ) :
نشرت على صفحتي قبل فترة قصيدة رثاء لأخي الشاعر/أحمد مفلح ، قلت في بعض أبياتها :
أرثيكَ...أم أنتَ الذي ترثيني
أم فاضَ من عينيكَ دمعُ عيوني
أرثيكَ -أحمدُ- والكلامُ مُبَعثَرٌ
ماذا أقولُ ودمعتي تكويني؟!
ما كان أشهى أن يكون فطورنا
زيتاً ، و حبات من الزيتونِ..!
وتقولُ -أمي-والحنانُ بوجهها
صبراً.. فأن الخبز في الطابونِ
إلى أن قلت :
لو أنصفوكَ لكنتَ في أحداقِهِم
و لأَبحروا في دُرِّكَ المكنونِ
و القصيدة طويلة...وكان تجاوب الأصدقاء ساراً ، إِلا أن معظم تعليقاتهم أقتصر على عبارة " رحمه الله " ، وهذا طيب ، وأشكرهم على ذلك ، ولكن الأولى أن يتعرض القراء للجانب الفني من النص..ما الذي أعجبهم فيه..؟! ، الطريقة التي لجأ إليها الشاعر في معالجة موضوعه..! ، وما سر تأثرهم فيها مثلاً..؟! ، إِلى آخر هذه الملحوظات النقدية الضرورية التي تفيد الشاعر ، والقارئ معاً ، وعلى ذكر الرثاء فقد توقفت عند قصائد الشاعر/ محمد البياسي في رثاء زوجه- بشرى- رحمها الله ، و للشاعر محبون و متابعون بالمئات ، وهو أهل لذلك ، ولكن معظم التعليقات كانت تنصب أيضاً على عبارة " رحمها الله " ، نعم... رحمها الله رحمة واسعة ، ولكن المسئولية الأدبية تتطلب غير هذا ؛ لأن الشاعر يكتب النص وهو بحاجة إلى إِضاءته ، والتعرف على أسرار جماله ، وإستبطان كلماته ، والكشف عن أسرار الدهشة فيه ، و قراء ة النص الحقيقي الذي يختفي وراء الكلمات الظاهرة ، فالشعر ليس في الكلمات ؛ وإنما في ظلالها ، وإمتداداتها في النفس ، وليس في المعنى ، وإنما في كيفية إنتاج المعنى ، ولو تعرض عشرة بالمائة فقط من القراء إلى نقد موضوعي هادف و مستنير -وبعضهم قادر على ذلك- لأفاد الشاعر والقارئ كثيراً ، هل خرج -محمد البياسي-عن النسق الشعر ي الجاهز في الرثاء العربي..؟! ، والذي يقوم على التوجع ، والتفجع والمغالاة في ذكر محاسن المتوفى..؟! ، هل كتب بحبر الدهشة والاحتراق.؟! ، هل ابتعد عن الغنائية الشائعة في الشعر العربي ، وانحاز إلى التكثيف والتوتر..؟! ، لماذا كانت قصائده في رثاء زوجه مؤثرة حتى الدمعة ، و عميقة حتى اللوعة..؟! ، ما هي الآلية التي إعتمدها لتوليد المعنى المطلوب.؟! ، قاموسه الشعري بسيط ، ولكنه عميق ، سهل ولكنه مُشِع..!! ، لم يعد مطلوباً من الشعر أن يقدم معنى ؛ بلِ الأهم أن يثير إنفعالاً ، وأن يفجر طاقات كامنه ، هل نجح الشاعر محمد البياسي في ذلك..؟! ، أروع الجرار ما يصنع من الطين العادي ، و أروع الأشعار ما كان من الكلمات البسيطة ، ودون مجاملة أقول : أن قصائد الرثاء عند محمد البياسي تستحق دراسة نقدية مستفيضة من ناقدٍ متخصص وموضوعي ، يملك مصطلحاً نقدياً واضحاً لأنها -وبكل صدق-إضافة نوعية إلى فن الرثاء في الشعر العربي ، ولو بذلنا قليلاً من الجهد في هذا الإتجاه ، وتخلينا عن عبارات الإطراء والثناء ، والمبالغة التي عَمَّت حتى خَمَّت ، ودارت حتى بارت ؛ لكان لنا أجران..أجر الصدق وأجر الإجتهاد ، آمل أن تترك هذه الكلمات أثراً في التعامل مع النصوص مستقبلاً .
28- تجربتي مع الفيس( ج ) :
في أول عهدي بهذا الجهاز قبل عامين تقريباً ، وكنت قادماً من مقولات آمنت بها مثل:
" الصراحة في مرارتها خير من النفاق في حلاوته"
وقول عمر أبي ريشة :
شهدَ اللهُ ما انتقدتُكَ إلا
طمعاً أن أراكَ فوق انتقادي
وقع بصري على نص لإحدى الفتيات تُصَدِّرُ إسمها بكلمة "شاعرة" ، وعندما قرأت النص لم أجد فيه أثراً للشعر بكل المعايير الفنية ، وكتبت في التعليق : " هذا نص نثري جميل ولكنه ليس شعراً " عندها ثارت ثائرتها وأمطرتني بوابلٍ من الإنتقادات لم أسمع بمثلها من قبل مثل: " من أنت حتى تنتقدني..!؟ ما مؤهلاتك الأدبية؟! من يسمع بك أصلاً ، أنت أقل من أن تنتقد نصوصي" ..إلخ ، ولَمَّا حاولت بكل برودة أعصاب أن أشرح موقفي ، وأُفصِّلَ في القول ؛ أبت إلا عناداً وإصراراً ، والغريب أنني رأيت جيشاً من المصفقين والمؤيدين لها ، وكلهم يجمعون على أن ما تكتبه هو قمة الإبداع ، ومنتهى الجمال ، وهو من عيون الشعر ، يتخندقون خلفها بشكل عجيب..!! ، ومن يومها لم أعد أقرأ لها شيئا لأنها شطبت إسمي من قائمة الأصدقاء ، والموقف الثاني مع شاعر واسع الإنتشار ، غزير الإنتاج ، قمت بلفت نظره بكل أدب إلى بعض الأخطاء في الوزن والنحو ؛ فرد عليَّ : " يا أستاذ محمود يبدو أنك لا تعرف أصول الحوار والنقد على الفيس ، والأولى أن تنبهني على الخاص " ، وأنا يومها كنت لا أفرق بين العام والخاص..!! ، وبعدها بيومين كتب إِليَّ على الخاص أنني على خطأ ، وهو على صواب ، ثم بعد ثلاثة أيام أعاد الكتابة إليَّ معتذراً ، وأنني أنا الذي كنت مصيباً ، رغم كل ذلك ؛ فإنني لم أعد أقرأ له شيئاً لأنه ببساطة شطب إسمي أيضاً من قائمة الأصدقاء ، أما الموقف الثالث فقد كان مع شاعر يبحث عن أدواته الفنية ، ويكتب كثيراً ، ولما نبهته على الخاص-هذه المرة- إلى بعض الأخطاء عجبت من رحابة صدره ، ولطفه وترحيبه بهذه الملاحظات ، وما زال يلحُّ عليَّ في تسجيل ملاحظاتي حول شعره كلما وجدت إلى ذلك سبيلا ، أما الموقف الرابع فقد كان معي شخصيا عندما أستخدمت كلمة " ثعبان " مؤنثة في أحد أبياتي ، وأنا أعلم أنها مذكرة -ولكنه إغراء الصورة الشعرية ، وضغط الوزن والعناد أحياناً- فنبهني إلى ذلك أحد الشعراء الفضلاء المرموقين بإسلوبٍ لا أرقى ولا ألطف..!! ، ولكن الحق أحق أن يُتَّبَع ؛ فقمت على الفور بالتصويب رغم أنني خسرت الصورة الفنية ، ولكنني ربحت الصواب ، أما موضوع اللغة المتداولةعلى الفيس ، ما حدود الصراحة فيها دونما نسبة المجاملات؟! فإنني حتى الآن لا أعرف-صدقوني-هذه الحدود..! ، ولا أتقن هذه اللغة..! ، لأن وابل المجاملات و الملاطفات قد أغرق الفيس وأهله ، خاصة إذا كان النص لشاعرة!! ، وأكثر خصوصية أن كان لديها مسحة من الجمال ، أو كما يقول أهل الشام : " في وجهها ضوء..!! "، والله المستعان.
29- تجربتي مع الفيس( د ) :
حين يكون الشعار أعلى من الشعر ؛ ليس من المعقول أن يرى الشاعر كل هذه الإنفجارات ، والإنهيارات على امتداد الوطن الكبير ، ولا ينبض له عرق ، أو يرف له جفن ، والشاعر ضمير الأمة ، ولسانها المعبر ، أو على الأقل هكذا ينبغي أن يكون ما دام اختار أن يكون شاعراً ، فلا بد له من تناول هذه الجراحات شعرياً ، لا خطابياً ، وأن لا يتخلى عن طبيعة الشعر التي تقوم على الصورة الجديدة ، والعبارة الموحية والرمز الشفيف...ألخ ، وإلا لما كان هناك فرق بين الشاعر والخطيب إلا في الوزن والقافية ، وهما عنصران لا يعتد بهما كثيراً في منظور النقد الحديث ، ومن خلال ما أتابع من قصائد في هذا الجهاز-وأكثرها يتناول الأحداث الجسام-أرى أن الجهارة والمباشرة والعمومية هي سيدة القصيدة ، وقد تخلى أكثر الشعراء عن جمالية الشعر ، وغابت عنه الطاقة الإبداعية التصويرية ، التي تعطي القصيدة قيمتها ؛ لتحل محلها الخطابية والمباشرة ، والوضوح الساذج ، والصخب الذي يقرع الأذن ، ولا ينفذ إلى القلب ، هل هي غواية الموضوع..؟! ، وسخونة الأحداث..؟! ؛ حتى يكون الشعار أعلى من الشعر..!؟ ، كما لاحظت في كثير من القصائد طاقة مخيفة من القنوط واليأس والتفجع ، وجلد الذات غير المسوغ ، وهناك تجاوز لحدود الشعر ومنطقه ، حين يخوض الشاعر في الإدانات الصريحة الفجة ، والشتائم السوقية ؛ التي تثقل كاهل النص ، وتخرجه من دائرة الشعر ، والتخفيف دائماً من غلو القافية وضجيجها أمر يحفظ للقصيدة نصاعتها وحيوتها ، ولا أجمل من الدخول إلى القلب من الخبرة الإنسانية ، والإنفتاح على ذرات الوجود الإنساني ، صحيح..أن الأحداث الكبيرة هي وقود القصيدة ، ولكن تذويب هذه الأحداث في ماء الشعر وعطره هي الأولى ، والإهتمام بجماليات النص ياتي دائماً في المقام الأول.
تمت ، وفي الختام - والكلام الآن لي- أتقدم بجزيل الشكر و التقدير لكل من مرَّ على هذه الخواطر النقدية لشاعرنا الكبير بالقراءة المتمعنة هنا في هذا المنشور الطويل ، أو كان تابعها على يومياته ، و أثراها بالتعقيب والنقاش هناك في التعليقات ، والوالد الشاعر محمود مفلح بالرغم من ما هو فيه من الرسوخ و الإنتشار والذيوع منذ أربعة عقود ، بنتاجه الشعري المتميز الأصيل والغزير ، الذي شهد له بعلو قامته فيه الكثير من النقاد وتناولته بالبحث والدراسة حتى الآت عشر رسائل أكاديمية ما بين ماجستير ودكتوراه وليسانس ؛ نجده بكل تواضع يقول لنا بمناسبة صدور مجلدي أعماله الشعرية الكاملة عن أكاديمية الإبداع المنبثقة من مؤسسة إحياء التراث وتنمية الإبداع :
" من القلب شكراً أيها الأحبة ، لولا محبتكم وتشجيعكم ؛ ماكان لهذه الأعمال أن تري النور "
فنتعلم منه أبلغ درس في التواضع ، وعدم الإكتفاء عن معية تشجيع الغير ، وخواطره هذه كنت أتابعها بشغف ، لأني وجدت فيها الإجابة عن كثير من تساؤلاتي المحيرة ، والتوجيه الذي كنت أحتاجه ، وبإعتقادي أن لو أحداً منا -معشرالشعراء الشباب-طلب منه النصيحة ، فأوعز إليه بقراءتها لكانت كافية له ، ووجبة دسمة مقدمة على طبق من ذهب ، و أعتقد أيضاً أن من أراد دراسة شعره وحياته الأدبية عليه ان يطلع عليها أيضاً..لما سيجد من أنها تعكس توجاهاته ورؤاه وأفكاره الأدبية ، المستقاة من تجربته ومسيرته الغنية والطويلة ، وهذه الخواطر التي يقول عنها شاعرنا :
" لا أدعي أنها مقالات في النقد المنهجي ، ولكنها خواطر نقدية أستوحيتها مما أقرأ على الفيس، و أرجو أن تجد قبولاً عند القراء "
تستحق أن تجد طريقها إلى النشر الألكتروني والورقي بطباعتها في كتيب صغير ، و ليت الله يقيض من يقوم بذلك ، فكم نحب أن يطلع عليها كل الإخوة الشعراء والشواعر الشباب بتمعن ؛ لما فيها من الفوائد التي قد تنير لنا ولهم الدروب.
جمع وتقديم الأستاذ/
صالح عبده إسماعيل الآنسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق