الاثنين، 18 سبتمبر 2017

(التهذيب ) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة العاشرة والأخيرة) بقلم / الاديب الناقد كريم القاسم

(التهذيب ) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة العاشرة والأخيرة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




 في المعجم الوسيط :
تهذيب العبارة : تنسيقها وجعلها سليمة من العيب والخطأ .
ــ التهذيب هو ركنٌ أساسي في صنعة الكتابة ، وللاسف يغفل عنه الكثير ، طلباً لسرعة النشر. وهذا من دواعي تداعي النص شعراً كان ام نثراً . فكل كاتب لابد ان يمر بمراحل إرهاصات وتلاقح افكار كثيرة عند التأليف ، فتشذّ فكرة و تغيب أخرى ، أو يغفل عن لفظةٍ ، أو يختار ما لايناسب من القوافي وغير ذلك مما يصيب حال اي مؤلِف كان . لذا فمراعاة هذه المرحلة هي من سلوك الكاتب الرصين والقلم المتين الذي يعتني بما يَطرح من نتاجٍ ادبي راق ، لأن مايكتبه القلم هو لسان صاحبه ، وكل مايُسطَّر ويُرصَف من كلام على الورق ، هو خلاصة فكره وعقله ، وهذا مادرجَ عليه كل الاساتذة الكبار وأرباب الخبرة وأهل الصنعة سابقاً ولاحقاً .
• ويكفينا قول فارس وقائد الفصاحة والبلاغة والذي شهد له الاعداء قبل الاصدقاء بذلك ، وهو الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) حيث يقول :
" الخط لسان اليد ، وعقول العقلاء في أطراف اقلامها "
وهنا يصف المسؤولية الكبيرة التي تقع على المؤلف فيما ينتج ، ثم يقول بأوضح وافصح عبارة وأجلى معنى :
" وتَصَفّحْ ما كتبتهُ وكرّرْ النظر فيما حَبَرتَهُ ، ليظهر لك رأيُكَ قبل أن يخرُجَ عنكَ كتابكَ "
يالها من نصيحة نقف عندها ولاقول بعدها ، الا فيما يتعلق بالتوضيح والسند .
• فقد كان الشاعر زهير بن ابي سُلمى مشتهراً بتنقيح قصائده ، فكان يؤلف القصيدة في شهر ، وينقّحها ويهذّبها في أحد عشر شهراً ، حتى سميَّ شعره بالحولي المحكك (الحَولُ يعني السنة الواحدة) ، وقيل : إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر ويهذبها وينقحها في أربعة أشهر ويعرضها على علماء قبيلته أربعة أشهر، ولذلك تأتي قصائده خالية من الشوائب والفَلتات ، وتنظر اليها كأنها سبيكة واحدة متينة القوام زاهية المنظر. وأمامنا هنا بيان ناصع من نظمه المتين :
وما الحربُ إلاّ ما عَلِمتم وذقتمُ .... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمُ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً .... وضرَ أذا ضَـرّيتموها فتضرِمُ
• وكان الحُطَيئة يعمل القصيدة في شهرين وينقحها في شهرين إقتداء بزهير ، فإنه كان راويته . ولنقرأ الان شيئاً من شعره المهذّب الرصين :
و لستُ أرى السّعادةَ جمع مالٍ ... ولكنّ التقيّ هو السّعيدُ
و تقوى الله خيرُ الزّادِ ذخراً ... و عند الله للأتقى مزيدُ
• وكان الشاعر العراقي الكبير حيدر بن سليمان الحِلّي لايثبت قصيدته ولاينسبها لنفسه إلا بعد الإطمئنان اليها تماماً ، فكانت قصائده في آل البيت تسمى بالحوليات ، وكان لا يذيع القصيدة في الأندية إلا بعد مرور عام كامل عليها ، فكان يطيل النظر الى نظمه ويقرأ قصيدته مرة بعد مرة ، ثم يقرأها على فحول الشعراء للنقد والمناقشة والتهذيب ، وبعد ذلك يوافق على انتسابها له ، ولشدة اهتمامه بتهذيب قصائده ، قلّما نجد له شعراً غير رصين ولامتين ، فحتى أمير الشعراء أحمد شوقي كان يحفظ له ويعجب به أيَّما إعجاب .
ولنتأمل بعض سبكه المهذّب الرصين في الافتخار والاعتداد بالنفس :
وأﻧـﺎ اﻟـذي ﻟـم ﻳﺳﺦُ ﺑـﻲ أﺣــــدٌ .... إﻻ ﻏـدا وﻧدﻳﻣﻪُ النـدمُ
وإذا إﻫﺗـززتُ ﻟﻣدحِ ذي ﻛَـَـرمٍ .... فأنا لسانٌ والزمانُ ﻓَـمُ
لاأعتقد بأن الذوق السليم لايقف مندهشاً امام هذا السبك المهذب الراقي .
ولذلك يُشار الى قصائد هؤلاء الشعراء في سوح الادب وفي كل زمان ومكان ، فنصوصهم لم يَشُبها الزَبَد والرَين والخَبَث لشدة تهذيبها وتشذيبها وتنقيحها . لأن التهذيب ليس باباً او ركناً واضحاً محدداً بذاته ، إنما هو وصف يشمل كل كلام مهذب مشذب مُحَرَر ومُنقّح .
ولربما يتسائل الكاتب :
كيف تتم هذه العملية (التهذيب) والحلقة الاخيرة في التأليف ، كي يخرج النص الادبي بأروع وأبدع نَسج ، وأزهى رداء ؟
نقول :
لقد وضع أرباب الصنعة نصائح كثيرة بهذا الشأن ، وهي خلاصة خبرة اجيال وعصير تجارب خاضها مَنْ لايُشق لهم غبار في سوح الادب ، نقتطف منها ما حفظناه وما كنزناه من شذرات في قراطيس الذاكرة ، فهي كثيرة جدأ ، لكني سأختار من الاسس اهمها وألطفها :
ــ الحضور النفسي والتهيئة الذهنية للمؤلف وقوة الارادة في الشروع بعملية التهذيب ، وأن يضع نصب عينيه كل ماقرأ من اقوال النقاد ، ويستذكر مافي خزينه من عتاد ادبي ودروس يقتضي حضورها ، لرفع كل مايُعكّر صفاء النص ، ويتهيأ ذاتياً لهذه المهمة .
ــ على المؤلف ان يختار الاوقات المناسبة لتهذيب نصوصه ، وافضلها واصلحها للحال هي أوقات انتصاف الليل ومابعده ، حيث تهدأ الاصوات وتسكن الحركات ، ويبقى البال صافياً خالياً من شوائب الافكار ، وخاصة عندما تأخذ النفس قسطاً من الراحة ، فيتوقد الذهن وينشرح الصدر ، ولهذا كان ابوتمام يوصي بالتهذيب في هذه الساعات والاوقات . بينما ينصح ارباب الصنعة ان يكون التأليف في ساعات الفجر والسحر ، لأن التهذيب شيء والتأليف شيء آخر . ولم تأتِ هذه الاوقات اعتباطاً ، انما أتت وهي تحمل عصارة تجارب كثيرة جداً ارتادها اصحاب الخبرة ، وفحول الادب .
• وقد جاء كتاب الله تعالى باجمل المعاني واوضح البيان وبأوجز لفظٍ وجزلٍ في ذلك :
( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ) المزمّل آية (6)
• وقد اشار الى ذلك الشاعر أبوتمام :
خذها ابنة الفكر المُهذّب في الدجى ....... والليل أسوَد رقعة الجلبابِ
ــ على الناثر والناظم ان يُميّز في فكره محط نصّه ومَصَب قصيدته قبل المباشرة بالتغيير واجراء التهذيب والتشذيب ، فإن ذلك يعينه بحظور الخاطر ، واستعداد الهِمّة ، وقدح الذات .
ــ إن عارض المؤلف الضجر وعدم الراحة فلا يَلّحّ في التهذيب ، انما عليه الابتعاد والركون الى هدوء الخاطر ودِعَة النفس . ولايهذب الا وهو يشتهي كما في النظم والنثر، فلا تهذيب او كتابة أو تأليف الا بشهية ، فهي خير معين على قدح الملكة وشروق الذات .
ــ عند التهذيب ، على المؤلف ان لايٌكره خاطره أو يجبره على الاتيان بقافية معينة او فكرةٍ ما ، أو التمسك برصف عبارة ما ، فعليه بالرفق والترفق في التعامل مع العبارات والالفاظ والمعاني ، حتى ينسجها على قدر بعضها . والخاطر الصافي قد يأتي بما لايتوقعه المؤلف نفسه .
• وقد وصف اهل الصنعة ذلك فقالوا : والخواطر ينابيع ، إذا رُفِقَ بها كثرت وإذا عُنِفَ عليها نَزحتْ .
• وكان الفرزدق يقول : يصعب عليَّ حياناً الاتيان بالبيت الشعري الواحد ، ولقلع ضرس من اضراسي أهون علىّ من أن اقول بيتاً واحداً . فدعه يأتي اليك طوعاً .
ــ على الكاتب ان يكرر ترداد النظر فيما كتبَ وألفَ من شعرٍ او نثر ، فينقح كل مايحتاج الى تنقيح ، فيبدأ بتغيير ما يجب تغييره ، وحذف مايجب حذفه ، وابدال مايجب ابداله ، ثم ينتبه الى الاعراب وفصاحة اللفظ وقوة السبك وتوازن المعنى وحتى الاملاء ، حتى يتكامل النص بهجة وقوة واشراق ، بحيث يطمئن المؤلف كل الاطمئنان لما كَتب .
ــ على المؤلف ان يسجل كل ملاحظاته مهما بلغتْ من الدقة والصغر قبل تهذيب النص ، ويُدوِّن كل فائدة تزيد النص تماسكاً والالفاظ رشاقة والسبك متانة ، فلربما مَحى شيئاً فلا يستطيع اعادته ، لأن إفرازات الخواطر ونتائج الافكار تأتي كلمعان البرق سرعان ماتختفي ، فإن لم تُقيَّد نَفرتْ وهَربتْ ، وان لم تُكرر انصرفتْ وصَدَّتْ .
ــ على الشاعر دون الناثر ، ان لايهتم بترتيب الابيات الشعرية المؤلفة قبل التهذيب ، بل عليه ان يجعلها متفرقة كما وردت على البديهة ، وحسب مايجود به الخاطر . وعند وقف رعاف المَلَكة التأليفية والاتيان على آخر بيت شعري ، عليه أن يبدأ بالأهتمام بجمع الابيات ، والنظر في معانيها ، ثم ترتيبها ، بحيث يجعل رقابها آخذة برقاب بعض ، وليحذر الشاعر ان يعرضها وينشرها كما رصفها اول مرة ، بل عليه ان يعيد النظر فيها مرات ومرات حتى يُحسِن نسقها وترتيبها بما يوافق الفكرة .
ــ انتباه المؤلف في مرحلة التهذيب الى اختيار الالفاظ التي تناسب المقام وتناسب الحال . فإذا كان المقام والحال يحتاج الى رِقة ولفظ شفاف ، فعليه ان يشذب نصه من كل جزل ولفظ وعر وخشن لايناسب الفكرة .
• وقد أوصى احد الشعراء في هكذا تأليف وتهذيب بالابيات التالية :
" إنتخبْ للقريضِ لفظاً رقيقاً ... كنسيمِ الرياضِ في الأسحارِ
فإذا اللفظ رَقَّ ، شفَّ عن الـ ... معنى فأبدأهُ مثل ضوء النهارِ
مثلما شَفَّت الزجاجةُ جسماً ... فاختفى لونها بلون العقارِ "
ــ ان ينظر المؤلف في هذه المرحلة الى كل المعاني المعقدة والالفاظ المقعرة او الجوفاء ، وعليه ان يزيلها من النص ، ويستبدلها بالفاظ ومعاني توافق الطبع والسمع والكلام المتداول بين الناس ، فالعبرة ليس بالفاظ تحتاج الى قاموس وتفسير ، انما العبرة بالإتيان بالفاظ هي نفسها التي بين ايدي الناس . والابداع هو في كيفية رصفها وسبكها بما يلائم معانيها ، وهنا تظهر مقدرة ومهارة وحذاقة الكاتب .
ــ على المؤلف ان يتفحص ماكتب من كلام ، فلايجعله كله شريفاً عالياً ، ولا كله وضيعاً نازلاً ، بل عليه ان ينسجه ويسبكه كالقلادة ، فاذا ماكانت كلها نقشاً واحداً واحتوت لآليءً ذات نفس الحجم والمقاس ، ضاع حسن اجزائها ، واختفى رونق اوسطها ، بل عليه ان يظهر جمال كل طبقة ، وشرف كل كلام ، وجمال ما أراد ان يكون للّؤلؤة الكبير المتلألئة وكأنها القصد والمرام في النص . وقد يكون بيتا شعريا واحداً ينوب عن قصيدة باكملها وهذا ما ندعوه ببيت القصيد ، فالكلام اذا ما تنوع ، افتتن به الناس ، وعشقه النقاد ، واهتدى اليه الطالبون والمتذوقون ، وفارقه الملل ، ونَفرتْ عنه العلل .
ــ على الناثر الساجع أن ينظر في سجعه ، فما جاء تكلّفاً كان غثاً ، وماجاء عفواً موافق الكلام من غير قصد كان اجود وانصع ، فليشذِّب نصه ، ولايستقر الا على ماوافق الحال ، كي يبدو النص اكثر اشراقاً . فقد كان ارباب الصنعة لايقصدون السجعه مطلقاً إلا ما أتت به الفصاحة من غير قصد ووافق كلامهم ، وكان هذا نهج الامام علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجهه) وطريقته في الخطابة والكلام ، حتى اقتفى أثره في ذلك الكثير من فرسان الكلام كسهل بن هارون والجاحظ وابن المقفع وغيرهم من ارباب الفصاحة والبلاغة والكلام .
ــ عند النظر ومراجعة النص (شعراً أم نثراً) يجب الاهتمام بركن الابتداء والمقدمة والعناية بمتانة المقطع ، والدقة في تكثيف المعنى في الخاتمة ، فلا ينبغي التطويل والاستطراد فيما لاينبغي ، الا لتوضيح حال ، فان ذلك يولد الثقل والملل للمتلقي ، ولا الاختصار فيما لاينبغي الا لاكتناز المعنى وقوة الاشارة او لمدعاة الضرورة ، بحيث لاتمس بهيبة النص ، مع اجتناب التزويق بافكار عارضة لاخير فيها ، فالبلاغة لمحة دالّة ، وهذه المرحلة من اصعب مراحل التهذيب ، فليجتهد الكاتب فيها ، ويُجَوّدُ مايلزم منها ، ففيها تظهرة مقدرة المؤلف المبدع الخبير .
ــ في مرحلة التهذيب ينبغي للكاتب ان يتدارك المعنى والمقصد في النص ، فما جاء منضويا ًتحت مقصد واحد كان ابلغ في ايصال المعنى ، فاذا تعددت المقاصد تعددت المعاني ، واذا تعددت المعاني تعددت الالفاظ ، واذا تعددت الالفاظ احتاج الكاتب الى كثرة الافهام وتوسعة البيان . وقد يبتعد الكاتب عن مقصده ومرامه المنشود ، ويتشتت ذهن المتلقي بين كثرة المقاصد ، فيبدو النص قلقاً غير مستقراً ، وإن كان صاحبه خبيراً قد اهتم بنثره وسجعه او بنظمه ومتانة سبكه . فحقيقة البلاغة هي الإيجاز بلا إطنابٍ مُمِلّ ولا إيجازٍ مُخِلّ .
ــ ان يكرر المؤلف ترداده النظر لمراجعة النص لأكثر من مرة ، وفي اوقات وايام مختلفة ، فسيجد تهذيباً لعبارةٍ ما لربما لم يكن بالمستوى المطلوب ، ولربما إكتشف عبارة تحتاج الى تهذيب لم يكن قد هَذَّبها في المرة السابقة .
ــ عليه أن يمتحن نفسه عندما ينظر الى معاني الالفاظ ، كي يستطيع الوصول الى المخترعات الجديدة من الافكار والرصف والسبك ، وهذا ماندعوه بالابداع .
ــ على المؤلف ان لايترك التمرين وتكرار المحاولات في تهذيب نصوصه ، وأن لايكون قصير الهِمَّة ، فإنه بذلك يُعَـوِّدُ ملكته الادبية على الفتور والابتعاد عن الخبرة والمران ، وتصاب قريحته بالضعف والهوان مما تجعل نصوصه ركيكة باهتة لاتصمد امام النقّاد . فالاتكال على سرعة الخاطر او الاتكال على اعجاب من ليس لديه خبرة ودراية ، يجعل من نصوص المؤلف تدور كدورة الرَحَى ، ثقيلة لاتغادر مقامها ، ولرب رأي خبيرٍ خير من رأي مئات لايفقهون .
ــ تتولد الخبرة في التهذيب بكثرة المحاولات والتجارب ، حتى تتولد لدى المؤلف القدرة الذاتية على اكتشاف الهزيل من الالفاظ والمعاني وسرعة اكتشاف مواطن الخلل والرداءة في اجزاء النص الادبي ، حتى يعمل من نفسه ناقداً لنصوصه قدر المستطاع . وسيشعر المؤلف بلذّة غامرة تتولد لدية عند اكتشافه لمواطن الركاكة والرداءة ومواطن الضعف ، ومعالجتها بالشكل الصحيح في نصه الادبي .
ــ لينظر الكاتب فيما يكتب ، فإن كان هواه وبداهته للنظم اقرب من النثر ، فلايعارض ما يخالف بداهته ، فقلّما يتساويان (الناظم والناثر) فمن قوي نثره ضعف نظمه والعكس صحيح ، وليكتب الشاعر في المنوعات من الافكار ، لكن عليه ان يركّز على ماتأتي به قريحته وتجود به نفسه ، كي يُشار الى نصه وقوة سبكه في ما يجيد ، فكل شاعر يبرز في مقصد من المقاصد دون غيرها أو معنى من المعاني ، وهذا من دواعي القوة في الاسلوب ، وسيوّلد الخبرة والابتكار والابداع في الاختصاص ، فهو ليس منقصة للشاعر .
• ولذلك قال العرب ان اشعر الناس زهير اذا رغب وامرؤالقيس اذا ركب وعنترة اذا كلب والنابغة اذا رهب والاعشى إذا طرب .
وما التصقتْ هذه العنواوين والبصمات إلا بعد طول الخبرة والمران في الكتابة والتهذيب واختيار حسن الافكار ، كي يسمو الكاتب على غيره في مَنْ كتب بنفس المعاني والمقاصد ، فليجعل كل كاتب نصب عينه ما تميل اليه النفس من هوى في التأليف .
ــ سيخرج النص من عملية التهذيب وهو يحمل المقدار العلمي والحصيلة الدراسية للمؤلف في النحو والصرف والاعراب والبلاغة والفصاحة والبيان ، وتختلف درجات التهذيب حسب ما تحتويه خزينة المؤلف من هذه العلوم الادبية . لذلك ستزداد الخبرة بزيادة التعلم والدرس .
ــ ولنعرض مثالا في فن التهذيب للنصوص الادبية ، كي تتوضح وتتجلّى اهمية هذا الركن للقاريء والمؤلف :
• فحين خاطب سيف الدولة بن حمدان أخاه ناصر الدولة ، قال :
وما كان لي عنها نكولٌ وإنما ...... تجاوزتُ عن حقي ليغدو لكَ الحقُ
فسيف الدولة كان قد نظم الشطر الاول كالآتي (وما كان عنها لي نكول ) ثم انتبه وفطن الى ان هذا السبك ثقيل على المتلقي لقرب الحروف المتقاربة المخارج من بعضها ، وإذا قدَّمَ لفظة (لي) على لفظة (عنها) سهل التركيب والرصف ، عندها حصلَ التهذيب . وإن مسألة تقارب مخارج الحروف قد يغفل عنها الكثير مما يجعل السبك ثقيلاً على السامع والقاريء .
ـــ وختاماً ، إذاً نحن امام ركن اساسي لايستهان به ، يمد شرايينه في كل فنٍّ ادبي ، لِما لَهُ من أهمية بالغة في صقل النص وإزالة شوائبه . والأديب الماهر والحاذق هو الذي يهتم بهذا الامر لمعرفته بتمام الصنعة وبحيثياتها ، حيث انه لابد ان يكون ملهماً ويمتلك فطرة سليمة وذكاءً متوقداً وبديهية سريعة وبصيرة واضحة وقوة حافظة وهمة عالية وفطنة لامعة ، وأن يكون مُلِمّاً بالعلوم الادبية أو على الاقل ان لايبتعد عن الدرس والإطلاع والفائدة وأن لايتقوقع على ماهو عليه من فهمٍ قصير ودراية لاتنمو ، وإذا امتلك الكاتب هذه الاساسيات سما بصنعته وتمكن منها ، وليجعل من كتاب الله معينا له في استنباط الفصاحة والبلاغة وليكثر من قراءة وحفظ الاشعار الرصينة والنثر المتين ، وليكثر من تنويع معارفه في شتى المجالات ، ففي تنوع العلم تنقدح الافكار وتزدحم الالفاظ لديه ، ويكثر خزينه وعتاده الادبي .
وإعلم أخي الكاتب الكريم بأنك اذا تمكنتَ من هذه المعارف وتلك الوصايا ، تمكنتَ من ان تكون كاتباً رصيناً ، قد خَبرتَ وعَرفتَ اسرار الصنعة ، وتنسج نصوصاً ادبية فارهة يشار اليها ، بل وتجذب المتلقي سامعاً وقارئاً ، ويكون نتاجك رائجاً في سوق النقّاد .
(وبهذا تنتهي هذه الحلقات العشر المتواضعة التي حاولت فيها الاختصار والتكثيف والتبسيط ، كي تكون سهلة الاستدراك والفهم ، وتكون قدحة إشراق لذاكرة اصحاب الاختصاص والخبرة.)
• تمنياتي بالموفقية للجميع ... مع بالغ احترامي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق