الاثنين، 31 يوليو 2017

(الشاعر فرحان سعدون في مزرعة الصمت) بقلم / الاديب كريم القاسم

(الشاعر فرحان سعدون في مزرعة الصمت)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




" أنا في صحارى قاحلاتٍ بُعادِ ... حيران حتى في ربوعِ بلادي
واجدٌ فيها والظلام يحوطني ... أنَّى شأوتُ فما وجدتُ رشادي
ألقَتْ عَليَّ الوارداتُ كلاكِلاً ... ولَكَمْ ظَننتُ بها الدليل الهادي "
ــ هذه الابيات من نظم الشاعر العراقي فرحان سعدون ــ مواليد محافظة ميسان 1944م ، بكلوريوس آداب ، كتب الشعر منذ عام 1962م ــ عندما قرأتُ هذه الابيات عرفت بأنه يعيش غربة الحرف وصمت الذات ، وتذكرتُ كلمات الشاعر محمود البريكان :
" في أقبية المنسيين
لا صوتٌ هناك ، وما في الليلِ سِوى الحزن "
ـــ ثم وضعتُ اصبعي على كلماتٍ أخرى للشاعر فرحان سعدون في ديوانه الذي صدر مؤخراً عام 2016م من ضمن مجموعة (مزرعة الصمت) ، وهي تُلَخِصُ الحال :
" لاتعلنْ عن صَمتِكَ
فالصمت يُخيفُ الجَلّادِ
للصمتِ لسانٌ يخشاهُ الجلادِ
وطني وطني
ألقَوا بالرُعب على أعتابِكَ ياوطني "
ـــ هذه الكلمات ستلقي بظلالِها على ما سيغص به المقال من حروف وكلمات .
ـــ هذا الوطن الكبير المُترَف بالاقلام والعقول التي لو ثُنِيَتْ لها الوسادة ، لأتتْ بما لَم ولَن تستطيع أن تأتي به الامم الاخرى من أدبٍ وعلم . فالعقل مازال عندنا يرتدي القناع الحديدي للملك لويس الرابع عشر ، والقلم مازال وريث الصمت ، ومايُنشَرُ للبعض على قارعات الصحف ، ماهو إلا رذاذ ماءٍ آسن متعفن . أما الراعفون بالحروف الكريمة فهم في زوايا الوطن المرحوم أو خارجه ، تتلاقف حروفهم صفحات الفيس او اقلام الاصدقاء والمقربون .
هذه الرؤية الشخصية قد يطابقني الكثير في صحّتها ، لان بركان الثورة لابد ان يُغَيّر ماحوله من عقول ونفوس قبل المناصب والفؤوس . وعندما تكون هنالك ثورة فكرية متحررة ، لابد أن يشرع العقل بالفرز والافراز ليأتي بما يعين البلاد على التقدم والرقي ، فثقافات الأمم لاتقاس بالمناصب وقناطير الذهب والفضة ، انما تقاس بثقافة اقلامها وتحقيق احلامها .ولولا نعمة (الفيس بوك) لبقيَّ مَنْ بقيَّ من عمالقة الادب تحت ركام ذكرى منفردة تضمحل ذات يوم ، ويكون ذكراها كالرميم لاتُعرَف ولاتُزار.
فكم من كاتبٍ حديث يسألني عن (البريكان) ، وهو لايعلم من هو ، وكم من شاعر شاب قد تسائل عن (الحصيري) عندما نُشِرَ مقال عنه ، ولولا النشر المستمر لهكذا أقلام ملتزمة صادقة مع ذاتها ، لضاع ذكراها كالآخرين الكثر .
ذنب هؤلاء الرواد في الادب انهم لا يمتطون صهوة الكذب والدجل ، فلا حَلَّ لهم إلا الانزواء والاعتكاف مع حروفهم في كهوف (الصمت) ، أوإطلالة على صفحات الفيس قد يغفل عنها الكثير . فلا صحيفة تُعرِّفُ باعمالهم ولا مؤسسة تحتضن نتاجاتهم ولاهم من اصحاب الاقلام المتسلقة والمتزلفة ، فالاعلام مازال مُسَيَساً ويعمل بمدأ النفعية ، وهذا سبب هبوط سمعة صحفنا واعلامنا ، لانها باتت بأيدي من لايمتلك الحرفة والخبرة ولا يعانق الصدق .
ــ الشاعر فرحان سعدون من أؤلئك الذين لايعرفه الا المقرّبون ، يمتلك الحرف الملتزم الرصين ، ويكتب الشعر بكل انواعه وبات كـ (رهين المحبسين) الصمت ومرض القلب الذي يصارعه بقوة وكبرياء رغم كبر سنّه .
زرته ذات يوم في مسكنه في بغداد ، حاورته بذكريات الشعر والادب ، فكانت كلماته مليئة بالحسرة والتحسر ، ومقارنته بين شاعر الامس وشاعر اليوم .
ـــ من جملة الذكريات التي استوقفتني ، يقول :
" كنتُ اقف تحت المطر فترة طويلة ، اتحمل البرد والبَلَل ، لأنظر بدقة وعمق ، وأتلذذ بالصورة التي تتكون من لحظة اصطدام قطرة المطر بسطح ماء النهر لتتشكل هالة قمعية الشكل من ماء متصاعد وقطرات ماء متناثرة . "
أقول : كم هي عظيمة روح الشاعر عندما يقتنص الجمال في كون الله الفسيح ؟؟؟
وكم يتحمل من مشقة فكرية من أجل اقتناص صورة ، كي يحيلها الى قصيدة ؟؟
وهذا مانقصده بالعمق الشعري وصدق الحرف .
ــ أهداني نسخة من ديوانه الذي صدر مؤخراً . طالعتهُ بعمق ، وهو يشكر فيه استاذه (الدكتور مالك المطلبي ) ثم لايلبث ان يضيف عبارة عتب على الصحف والصحافة ويستهزيء بمقولتهم : (انك قلم غير معروف) .
يالسخرية القدر ، ويا لها من لحظة بائسة في ميزان الصحافة . عندها تذكَّرتُ قول الشاعر ابوهلال العسكري :
" ولا خير في قومٍ تُذَلُ كرامهم ... ويُعَظَّمُ فيهمُ نَذلَهُم وَيسودُ "
ولو زرنا صفحته الفيسبوكية لعجبنا منها ، فلا تكاد تصدق انها تخص هذا القلم العتيد ، فمازال ينشر كل ما يخص هموم الوطن كأي قلم عادي ، رغم احتضان قلبه لتلك البطارية المنبهة ، وانك لتعجب لهكذا قلب يأتي بهذا النظم وهذا القريح .
ــ يَستهّل ديوانه (أرج العصمة) من مجموعة (مزرعة الصمت) بابيات يناجي فيها ربه:
" بيني وبينكَ لاسَدٌّ ولاحُجُبُ ... وإنما باحة يَحلو بها اللعِبُ
ولـُعبتي صلواتٌ رِحتُ انشدها ... أنَّى تأذّنَ لي من فُرصةٍ سَببُ
وأيّما عمل ياربُ تشهده ُ .... مِنّي اليكَ بهِ أدنو وأقتربُ "
ولابد لمن يمر بشدة الالم والوجع ، ويصارعه بقوة الايمان أن يأتي بهذا السبك الوجداني الممتع .
ـــ ثم يبدأ ديوانه بقصيدة ميمية رائعة بذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين . ويخاطب فيها العرب :
" غيري برَبْعٍ أو بحانٍ يرتمي .... وأنا بحُبِ العُرْبِ جِدُّ تَهَيُّمي
هذا وليدكِ فترَقَّبي آلاءهُ .... الله مِنكِ قد اصطفاهُ لتكرمي
حتى مَ سيفكِ مُغمَد فإشهَري ... وإلى مَ صبركِ ياعروبةُ دمدمي
معنى الهدى ألّا تخافي ظالماُ .... مُرّي على الأصنام دونكِ حطّمي
عفواً أبا الزهراء لستُ بغافلٍ .... فأنا أداري بالخشوعِ تلعثمي
كيف السبيلُ الى مديحِكَ سيدي .... والله خَصَّكَ بالمديحِ الاعظمِ "
ــ هكذا سبك هو الذي ترفضه صحافتنا ، وهكذا صدق في المعاني والاحاسيس هو الذي لايليق باعلامنا .
نقول : نعم ، انه لايليق بهكذا صحافة هزيلة يرتادها المتطفلون على الادب .
ـــ وكعادة العقول الرصينة ، تنساب الى (عليٍّ بن ابي طالب) كرَّم الله وجهه في كل معظلة او مشقة او طلب حق او استلهام شجاعة فهو كالفيتامين في الدم يُحفّز الحق ليهدم الباطل .
فقرأت له قصيدة جميلة عنوانها (ابو تراب والناس) نقتطف من شذاها هذه الابيات:
" شرفُ النفسِ ان تكونَ هواها .... مثلما أنتَ رُشدُها ومُناها
مَنْ أذلَّ اليهودَ وهيَّ عَصيٌّ .... ومنيعٌ على المُغيرِ حِماها
مَنْ سِواهُ تَتَرَّسَ البابَ حتى ..... وَلَجَ الجيشُ حُصنَها وغَزَاها "
ــ وكان يقول : مِن سنين وددتُ أن أكتبَ في مدح فاطمة الزهراء بنت المصطفى عليهما السلام ، حتى اكرمني الله بعد مخاض طويل بهذه القصيدة .
لو نلاحظ هذا القول للشاعر ، نجد ان ولادة القصيدة ليست بالعمل الهين او السهل ، كالجلوس في مقهى او باص سياحي او ينشر اصابعه على ازرار الحاسبة في دقائق لينشر كلمات عقيمة يعج عليها ذباب لايكات الإعجاب ، انما هو الصدق في النيّة والعزيمة ، وحضور كل متطلبات القصيدة ، مع الاحساس الوجداني الفياض ، فهو رغم امتلاكه الحرفة والمَلَكَة الشعرية ، واحترافه للنظم ، وبمقدوره ان يكتب مايشاء وقت ماشاء ، الا انه لايؤمن بهكذا قصيد .. فالقصيدة ولادة ، كولادة الكائن الحي . لنقتطف جواهر من هذه القصيدة اللامية الرائعة :
" حوريةٌ من جنانِ الخُلدِ في الأزَلِ .... روحٌ مِن الله أهداها الى البطَلِ
في صُلبِ أحمدٍ ألقاها وصَوَّرَها .... كهيئةِ الناسِ في أنقى مِن المُثِلِ
يابنت خيرِ أبٍ يازوج خير فتى .... يا أم خير شبابِ الجنة الفُضُلِ
ذا مستطاعي فهل أدركتُ مُعتصماُ .... بحبكمُ فاشفعي قد حانَ مُرتَحلي "
ـــ كلما قرأت لاصحاب الاقلام الحرة الشريفة الثائرة ، اجد ارواحهم ملاصقة لروح الثائر الهاشمي (الحسين بن علي بن ابي طالب ) الذي جعل الله شهادته هي الفيصل بين الحق والباطل ، وما قرأتُ لمناضل شريف على مستوى العالم كله ، إلا وكان (الحسين) عتاده النضالي ومَثَلَه الاعلى ، والقائمة طويلة جدا لو اردنا الاستطراد بها لجاءت بالمطولات من الاسماء ، فكانت قصيدته نقتطف منها هذه الشَذَرات :
" الناسُ تولَدُ أو تموتُ بداهةً .... ما استحضروا أو أشخَصوا الأمثالا
إلا الحسين فكلّ مَثلٍ دونَه .... هو فوقَ كلِّ الرمزِ شَبَّ جَلالا
هذا عراقكَ قد غَزَتهُ فواجعٌ .... مِن كُلِّ صَوبٍ أرسَلَتْ ضُلّالا "
أقول : يالروعة هذا السبك ، ويالروعة هذا الحضور في اللفظ الفصيح . والجميل انه جاء بكلمة (الرمز) مُعرَّفة بأل التعريف وليس نكرة وهذا من جمال الموافقة والانسجام مع القصد والمقصد ، وذكاء وشهامة خاطر ، وبلاغة معنى .
ـــ وكعادة الشعراء ، لابد أن يكون للحب ركن اساس في القلم الشعري ، فلنقرأ الحب من وجهة نظره ومن نظمه الجميل :
" قالوا أَحَبَ الفتى ، والعشقُ أحوالُ .... حالٌ يُذيقُ الهَنا والبعضُ قَـتّالُ
حالُ يُحَطّمُ قلب المرءِ يَهدمهُ .... رُكناً فَرُكناً كما لو هَدَّ زِلزالُ
وحالُ عِشقٍ لهُ سحرٌ لهُ أَرَجٌ .... لهُ نشيدٌ بعمقِ الروحِ يَختالُ
يغذو القلوبَ رَخيّ العيشِ مِن رَغَدٍ .... عَذِبُ اللقاءِ رقيقُ المَسِّ سِلسالُ "
ـــ وما يمر به العراق من ألم وجرح ، يتحسسه قلم الشاعر فرحان سعدون ، بانامل خبير ، وبحرف لاذع ، فيقول في احدى قصائده :
" لقد قتلوا أمل السُنبله
وللنارِ حَدٌّ لصنعِ الرغيفِ
وآه ، فأحلام أطفالنا مُهمله
وكلّ الأماني دكاكينها مقفله "
ــ كم اعجبني الشطرين الاولين ، ولو تأملنا قوت السبك وفصاحة اللفظ والبلاغة الناصعة في الشطر الثاني عندما يقول (وللنارِ حَدٌّ لصنعِ الرغيفِ) فياله من وصف مبهر، قليل ما نقرأ مثله في هذه الايام . وهذا الذي يبحث عنه الناقد ، وهذا هو الذي يجعل الكلام قصيدة .
ـــ وهذه ابيات شعرية رائدة اقتطِفُها من قصيدة طويلة بعنوان (أوان الفتح) وهي تترجم صولة ابناء العراق في طرد الدواعش وتحرير الارض ، وقد سبكها بأنبل وأجمل نظم ، بل وجاء باللفظ الصريح الفحل الذي يوائم الهدف المرجو من القصيدة ، فلنستمتع بهذه المقتطفات :
" حَشدوا القلوبَ على السلاحِ كأنهم .... في موعدٍ مِمّا أرادَ وَشاءا
مزجوا التشيّعَ والتَسَنُنَ لـُحمَةً .... فهوَ العراق بها يَشِعُّ سَناءا
ياموصل الأحرارِ لا تتذمري .... فالقادمونَ تَعهّدوكِ إخاءا
بوابةُ التاريخِ لا عِشتِ الأذى .... فَلَكِ النجيدُ مِن الجنوبِ تَراءا
هَبّوا الى داعي الجهادِ كَتائباً .... تَترى تُسابقُ في المدى النُظَراءا
يادوحة الانبارِ يادرع الحِمى .... حَيّيتُ فيكِ الفِتيةِ النُجباءا
هذي حِياض الرافدينِ بِرَحمِها .... تَلِدُ الفُحولَ وتَلفِظ ُ الجُبَناءا
سِمَةُ العراقيّ الغيورِ إذا انتَخى .... ثارَ الحياءُ بهِ وَشَبَّ بَلاءا
حَسِبوا سُكون الليثِ وهوَ مُكَبَّلٌ .... بالصبرِ يُذعن للسكوتِ رِضاءا
ها قد أفاقَ الليثُ أضحكَ نابَهُ .... مَنْ ذا سَيصمدُ لو أرادَ لِقاءا
هو ذا العراق فكمْ على أعتابِهِ .... نُكِسَ الغزاةُ واُركِسوا أُ ُسَراءا "
ـــ ولنختم مقالنا هذا بما ختم به ديوانه بقصيدة رائعة يرثي فيها الطقل السوري الغريق أثر غرق سفينة للمهاجرين ، والذي رمته الامواج على الساحل ، فينظم ابياتاً غاية في الروعة ورقيق اللفظ ، سالتقط منها ما أراه وافر المعنى والرقة والجمال :
" ياموجة الشاطيء لا توقظيهِ كي لايفرّ الحلمُ مِن مُقلتيهِ
يانسمات الريحِ مُرّي بهِ ورَبِّتي خَدَّيهِ أو دَغدغيهِ
دَعيهِ وَسْنان بحضنِ الرَدى قد هالَهُ الخَطب فلا تَفزعيهِ
رَقَّ لهُ البحرُ فألقى بهِ للشاطيءِ الرمليِّ يَحنو عليهِ
الشمسُ لاتبصر مَن تَحتَها فربما آذتهُ ، فلا تتركيهِ
هذا صغيرٌ ليسَ في رأسهِ سوى ذراعٍ آمنٍ يَحتويهِ
سوى حليبٍ دافيءٍ يرتويهِ سوى لُقَيماتٍ تَلِذُ بفيهِ
أسرفتموا فليس مِن حولكم إلا قتيل أو خؤون سَفيهِ
أهكذا تُقامُ أمجادكم أم هكذا يصنعُ حُكمٌ نزيهِ "
ــ وبعد هذا المجاز والتشبيه والبلاغة والجمال ، نقول :
الى متى تبقى ارضنا لافظة لابنائها البررة ؟؟
وإلى متى يبقى القلم الرصين في صيام طويل ؟؟
متى يفطر ويهنأ بعيدٍ يترقبهُ أو بهلالٍ بازغٍ لايتوارى ؟؟
فمازال زادهُ قصيدةً عصماء او حرف غيور ، أو وريقات تأنس غربته .
ــ كل المحبة والتقدير لشاعرنا الكبير الاستاذ فرحان سعدون ، ولحروفكَ الخلود والشَمم. دعاؤنا لكم بوافر الصحة وطول العمر ، ويكفيكم فخرأ إن حروفكم تشع صدقاً ووطنية ، وما يشعُّ به الإعلام البائس ، فهو في خانة الذبول والتيبس والاندثار .
﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق