السبت، 17 أغسطس 2019

أغلفة العصيان أغلفة العصيان قراءة في نص( من أرشيف الذاكرة ) للشاعر غازي احمد الموسوي بقلم الروائي الناقد جمال قيسي

أغلفة العصيان 
قراءة في نص
( من أرشيف الذاكرة )
لغازي الموسوي
بقلم أ.الناقدJamal Jamal Kyse
،،،
لمرة اخرى ،،يضعني صديقي الشاعر والناقد الكبير غازي الموسوي ،،في متاهة ،،ليس بسبب الغموض الذي يلف نصوصه،،وهو امر يمكن لقارئ مثلي ان يسبر أغوارها ،،أقول الحق انا أتعذب ،،لعذاباته التي يغلفها ،،بتطرفات قصية ،،حتى تبدو عصية على المتلقي،،هو يكتم سره ،،فالزمن الذي يعيشه لايعطيه رخصة للبوح ،،ينثر رسائل الأوجاع السيزيفية ،،في النصوص،،التي يحملها الشفرات ،،كمن يحفر مسّلة بطلاسم ،،سيفك ألغازها. من أتى بوجع مشابه مع مكنة في اللغة والبلاغة ،،واليوم يطل علينا بمقطع سردي ،،ولكني سابوح ،،وأتكلم ،،ربما هو ارد البوح لكن بلسان. غيره ،،في هذا المرة سأتعامل. مع نص سردي،،بنقد سردي ،،معزز بقراءة متماهية مع النص يحكمها تصوري عن البعد السايكلوجي ،،
بطبيعة الحال غازي الموسوي ،،رجل خجول ،،تعرض لتجربة قاسية زادت من كتمانه ،،وفي عملية تصالح مع الذات ،،اتخذ المسرب الاستشراقي في التصوف،،وهذا واضح بمعظم نصوصه،،لكن التاريخ يابى ان يغادر التجربة الشخصية ،،فهو قبل تعرضعه ،،للتجربة الشخصية المريرة ،،مثقف منفتح على الحركة الثقافية العالمية،،فهو من جيل السبعينات عندما كان شابًا في الجامعة ،وهذا الجيل العراقي هو اكبر ثروة يمكن لبلد ان يحظى بها ،لولا ،،لولا ،،لعنت لولا ،،على قولة مظفر النواب ،،حيث انتقل الصراع القومي الشيوعي الذي كان يقتسم الساحة الاجتماعية العراقية المثقفة الى مستوى الإبادة ،،تحت ظل صعود الحزب الواحد والهيمنة التي افضت الى الدكتاتورية المريرة ،،ومن ثم الانزلاق بحرب ضروس ،،كانت حصيلتها خسارة العراق خيرة شبابها المثقف،،ان لم يكن قد قتل،،فانه وقع بالأسر ،،او حتى من نجا خرج بتعويق نفسي،،وجروح عميقة في الوجدان ،،الحصيلة ماذا ؟ ،،المثقف وجد نفسه في مسرح بيكيت بانتظار غودو ،،او في عوالم اليوت ،،في الارض اليباب ،،كان الامر على هذه الحالة لابأس به،،لكن السوء في زيادة،،اذ حلت دياجين القرون المظلمة ،،بالاسلمة السياسية ،،الاقصائية الدموية،،والتي اتخذت من جلد الذات،،بمحاكمة قاسية للتاريخ ،،في محاولة لفك عقده،،والأغبياء. لايعرفون ان الزمن قد مضى ،، ولاعودة لكل ما مضى،،من يفتقد فن التوقيت ،،فهو خاسر لا محالة،،،
غازي الموسوي،،هذه الروح الكبيرة ،،ما عرفت الراحة ،،تتنقل من زنزانة الى اخرى،،مع انخفاض مناسيب المقاومة بحكم الزمن،،
وعودة على النص،،فنيًّا وعلى قصر المقطع ،،نسمع صوت السارد الموضوعي العليم ،،في التبئير الخارجي،،لينتقل الى سارد ذاتي عليم ،،ليكون التبئير داخلي مع مشاركة لصوت آخر ،،مع اغراق في الوصف الغير مباشر،،اي بمعنى وصف بعمق سايكلوجي ،،على طريقة كافكا ،،في المحاكمة ،،،
والكافكوية ،،ظاهرة متفردة في علم السرد ،،لايمتلك ناصيتها الا القلة ،،حتى عندما تناولها باختين ،،عزل اُسلوب كافكا ،،عن محددات السرد،،واعتبرها ظاهرة خاصة ،،وانا برأي المتواضع هي مزيج بين الوصف والبعد السايكلوجي الذي يكاد يكتمل الا قليلا رغم الاغراق فيه ،،ليترك القارئ في لوعة غير مشخصة تعتيم شديد رغم كثرة الانارة ،،مع مسحة من أندريه بروتون لاحقاً ،،الشاعر السوريالي المهم ،،فأنت تشعر ان هناك شيء مفقود ،،رغم الكثرة التي بين يديك ،،وسأذكر. هنا معلومة قد قرأتها قبل عشرات السنين ،،ربما تنطبق على نص غازي الموسوي،،الكافكوي العراقي،،،تقول المعلومة ان احدى تجارب غسل الدماغ النفسية للجيش الامريكي ،،انهم جاؤوا بفصيل عسكري مثالي القدرات العقلية ،،الى قاعة سينما،،وتم عرض فلم سينمائي لهم وتعمد القائمون على التجربة برفع لقطة واحدة من نهاية كل مشهد ،،حتى لايشعر المشاهد ،،بالقطع،،،وعند انتهاء العرض كانت النتائج مذهلة،،فكل من شاهد الفيلم ،،اما اصبح بحالة هستيرية او من تلبسته الكآبة،،في نص غازي الموسوي كما في نصوص كافكا ،،تجعلك في حالة هستيرية،،اما اذا كنت متمرس فأنت من رهط الكآبة ،،
كان كافكا يهوديًا يعيش في ألمانيا ،،وهو يراقب صعود تيار النازية والمعاداة للسامية ،،ولأنه أديب كبير ومثقف رفيع. استشعر ببصيرته لما ستؤول له الامور،،فترجم حال اليهودي،،في غمرة العالم الذي ينوي سحق اليهودية ،،وكذلك مصرع الانسان العالق رغم عنه في هذا العالم السيء ،،وغازي الموسوي ،،مر بنفس التجربة مع اختلاف المعطيات،،
مع ان بعض الأصدقاء ،،أشار بشكل غير مباشر ،،الى ان النص ربما يجب ان ينسب الى السيرة الذاتية ،،في السرد،،ولكني اختلف معهم ،،الان غازي الموسوي لاتقل معاناته عن زنزانته الاولى،،ربما اتسعت الرقعة المكانية لكن القضبان كثرت،،والاسيجة تعددت ،،و الحرسي. تناسل الى عدد لايحصى ،،المقطع السردي على فخامته أغرقه غازي الموسوي ،،بالبلاغة الشعرية،،ولا عجب فهو شاعر فذ،،ومتمكن من ناصية اللغة،،،
انا قرأته دعوة للعصيان والرفض،،،لكن برشاقة ودماثة عرف بها ،،هذا الانسان الرقيق،،صاحب المشاعر اللطيفة ،،
تحياتي سيدي،،،،
جمال قيسي / بغداد
………………………………………………………………………………………………………………………………
لم يخرجوهم ،
الى ساحة التعداد هذا اليوم..
هو يعلم انها ليست اكثر من فرصة للمطامنة..
ولكنه راضٍ بحثاً عن نوع من التسكين..
فهذا هو الممكن الآن!!،
لذا فقد كان المرجل يتلظى بين أضلاعه،وماعاد قادراً حتى على المناورة..
إذ كان الحصار ضاغطاً بشكل مهول من الخارج، وكانت جمرة الدخيلة لاهبة هي الأخرى بما لايطيقه سوى نوع بالغ الخصوصية من الرجال ..
من هنا امسى كمن ينطوي على عبوة موشكة على الإنفجار!!..
كل ذلك في جانب ولكن وقوفها قبالته الآن كأبهى ماتكون ،وفي اعذب واشهى احوالها ،في جانب آخر..فلم يك قادراً البتة على زحزحة شبحها الملائكي لحظة واحدة ،
من هنا كان مضطراً الى رقصته الملوية المعتادة كنوع من الحل المؤقت..حتى اصابه الدوار فسارع الى الامساك بالقضبان بكلتا يديه ومن شدة حرقته والتياعه راح يهزُّها بقوة كمن يشعر بالإختناق..
كان الحرسيُّ قريباً جداً فبادره قائلاً..
- هل تظن انك قادر على اقتلاع القضبان ?!..
قال ذلك مبتسماً بنوع من السخرية المكتومة،وكان يفهم لغته تماماً،والاجدى ان لايجيبه،فهو يعلم ان الإجابة ستلقي به الى التهلكة،فلماذا يمثل دور البطل من غير طائل..إلا انه تمتم مع نفسه:
-الى متى ايها الشرق الغريب الأطوار?!..
هو يتذكر جيداً كيف ألقَوا به ذات ليل بهيم في الزنزانة الانفرادية الموصودة..
تلك التي تتصل بما لايطيب ذكره..
يكفي القول بان زخم الروائح،كان يمنع استذكاره لنوع السائل المحيط بهيكله العظمي المتبقي من جسده المتهالك.. ولهذا لم ينبس ببنت شفة قط..
بيد ان سؤال الحرسيِّ قد اسهم في إفلات مخيلته من حصار الدخيلة الهاصر،ولكنه في نفس اللحظة القى به في اتون حصار الواقع المقيت،فراح يسأل نفسه..
- ترى اي الحصارين اشدّ عليك ايها ال....
احيانا يحار بماذا يسمي نفسه وهو في هذه الحال،حيث المنفى الذي لاتصل اليه اجنحة الطير..لاخبر..لاصلة بالعالم الخارجي..لاصحيفة..لاتلفاز..كان هناك جهاز راديو تم دفنه بعيداً عن العيون،ولكنّ أحداً ما دلَّ عليه، فأخذوه، مثلما يُنتَزَع
قلب نابض من بين الضلوع..الحقيقة انهم كانوا مستعدين لتقديم انفسهم فداء لشدة اهميته ..فهو خيط الاتصال الوحيد ..بل ودليل الإنتماء الى الأحياء الوحيد أيضاً..
لكن ليسوا كلهم طبعاً،فها هو يتسائل مع نفسه..
- ترى هل أنت مستعداً يا....
م- ماذا قلت...?!
خاطبه صاحب سجنه مندهشاً..
- لاشيئ ياصاحبي..كنت اغني فقط..
- وهل هذا نوع جديد من الغناء?!
- نعم ياعزيزي،انه نوع جديد!!
ضحكا معاً على انغام شرّ البلية،ثم ضربا كفّاً بكفٍّ..
إنها لحظات اكثر غرابة من عجائب الدنيا ..أن يضحكوا وهم في وسط الجحيم!!..
مع ذلك ،توسد كل منهما بطانيته الوحيدة ،واضعاً تحت رأسه كيسه الملئ باللاشئ، الا من بعض علب السجائر الفارغة..
- لا اعرف بالضبط ،لِمَ احتفظُ بهذه العلب الخاوية?!..
ثم كأنه تنبه الى أمر ما..
-هاااا..تذكرت الان..يبدو انني سأصاب بالزهايمر المبكر..
مدّ يده الى كتف صاحبه المغمض العينين على يقظة صامتة،اذ سرعان ما تلفت هذا الصاحب قائلاً:
-ماذا هناك?!...
-منذ متى نفظت جيوبك?!
- ذكرتني والله ،فلقد كانت على بالي ولكنني في قنوط!!..
وقفز كالملدوغ من فراشه الوثير جداً جداً ،خلعا قميصيهما معاً،ثم بدءا بتفتيش الجيوب عن " الفعفع"بحثاً عن ذرات التبغ المنثورة فيها..دفع صاحبنا يده داخل كيسه ،واعني وسادته الناعمة..اخرج احدى علب السجائر الفارغة..قرب كأس ماء غريب اللون والطعم والرائحة..غمس مقطعاً من علبة السجائر في الماء لحظات..قشع باطنها الابيض الرقيق..تركه حتى يجف رويداً.. صار قريبا من شكل لفافة التبغ..جمعا مابينهما من (الفعفع).. وضعاه على نيّة التبغ داخل اللفافة..كوّره بشكل دقيق وحذر بحرص شديد جداً..بلل حافّته من ريقه ..اغلق اللفافة جيداً.. مسّدها بلطف حميم ..ثم قدمها لصاحبه قائلاً:
- انت الاول ياصاحبي..
قالها كمن يقدم له حورية من الفردوس..راحا يتبادلان تقبيلها بشغف عجيب حد انهمار الرضاب الاسود الثقيل ،حتى اوشكت على ان تلفظ انفاسها الاخيرة..عندها وصلت رائحتها الزكية المثيرة لاحد النائمين ،فناداهما بخجل الملهوف..
- هل بقي شئ منها?!
- نعم ..تعال ..خذها..هذا المتبقي كله لك..
ولم يكن غير ذيلٍ من القطران،ولكنه تلقفها شاكراً ممتناً جذلاً،ثم توارى حتى زاوية الزنزانة لكي لايشاركه فطين آخر..
بينا القى صاحبنا
راسه على كيس الثروة الحميم..اغمض عينيه على صورة معشوقته قائلا:
-كلي امل ان اراك ياحبيبتي بعد قليل!!
وضع يمينه تحت خده..بسملَ بصوت خفيض ،
ثم نام
مثل محنط قديم!!...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق