الجمعة، 19 أكتوبر 2018

مواساة بقلم الروائي جمال القيسي

لطالما كرهت المواساة ،،ومراسيم التعزية والفرح،،لأَنِّي كنت احسبها نوع من الرياء الاجتماعي وكلفة تستنفد الجهد،،احسبها دور مسرحي بائس،،اتخذ زاوية اجلس فيها في مجالس التعزية بعيدًا عن الآخرين ،،حتى لا أعيد قراءة سورة الفاتحة ،،او اي من المراسيم ذات الرتابة ،،طبعًا هذه المجالس احضرها مكرهًا بحكم القرابة ،،وأوامر أولياء امري ،،،وتقادمت الايام واذا بي في الصف الاول ،،وبدل ان ينادى علي بكلمة أخي،،أصبحت عمي الحجي ،،وفجأة انا كبير العائلة او من كبار الاقارب ،،حقيقة واحدة تجسدت لدي ،،انني ضعيف بدون الآخرين ،،وعندما استذكر الماضي ،،ينتابني الخجل من كوني كنت غر،،جموح وغير مبالي،،،وفهمت تعاطف الآخرين معي،،،الامر الذي يعطيني القوة والتماسك ،،لتخطي وحدتي ووحشتي المتضخمة كلما تقدم بي السن ،،اكتشفت ان لامعنى للانسان بدون الآخرين وخاصة ممن يكنون المشاعر النبيلة،،،
كم انت كبير سيدي ابو نعمان ،،،اليك ومن خلالك أتقدم بخالص الشكر والتقدير لكل السيدات والسادة ،،ممن تقدم الي بمشاعره النبيلة ،،وشاركني همومي،،متمنيًا للجميع الصحة والعافية وسائلاً المولى عز وجل ان يجنب الجميع اي مكروه،،
شكرًا على لطفك وانسانيتك ونبلكم،،،
صغيركم وخادمكم جمال قيسي




مواساة من افاق
الى افاق القيسي الواسعة..
،،،
فلطالما تغذت هذه الصفحة المنذورة لخدمة المبدع والمتلقي على حد سواء من رحيق ازهاره العاطرة بالمعرفة الواسعة.. من هنا نرفع أصدق مواساتنا الى اخينا وزميلنا وصديقنا العزيز ابي سرى الاستاذ الناقد جمال قيسي بوفاة اخيه الفاضل،تغمده الله بواسع مغفرته وجنة رضوانه،والهم اخاه واهله جميعاً صبره الجميل،وإنا لله وانا اليه راجعون..

البحث عن أوطان / قراءة موازية لنص الشاعرة ريم البياتي بقلم الروائي الناقد جمال قيسي

البحث عن أوطان /
قراءة موازية
لنص الشاعرة ريم البياتي
أ.Jamal Kyse
،،،
تتقافز الكلمات جذلى ،،لعلها تمسك بعاشقة،،او صبية شغوفة بلعبة الأنثى ترامت بعيدًا في الأقاصي الغير مأهولة ،،تخطتها الحياة ،،ذهبت كل الامور باتجاه معاكس لم يكن بالحسبان،،تعتصرنا الآلام ،،عندما تسفح احلى مشاعرنا ،،تجزع أبصارنا حين تتحول الايام الى مسلخ ،،هي هذه الاوطان اللعينة ،،عندما تنتزع منا احلى لحظاتنا قسرًا ،،لحظات الحب ،،مفارقة قاسية حين تكسر قلوبنا ،، او أشياء عزيزة في أعماقنا ،،حين نغرق في اللاجدوى ،،على خارطة صماء ،، شطبت منها الإحداثيات ربما دموعنا ودمائنا عبثت بحبرها ،،لكن لا ،،هي خارطة مزيفة ونحن ادعياء متشبثين لأننا مسكونين بوهم الوفاء أرتضينا ان نغش انفسنا ،، خنوعنا اعمى للدين والعرف ، أوهمونا أهلينا وبدورنا نحاول ان نوهم اولادنا ،،تلك الليالي التي عهدنا،،ياترى من أزاح عنها الأقمار ؟ وكيف تبدل طبع تشرين ؟ حتى الوريقات على الشجر باتت تنكرنا ،،نحتاج الى تصريح من الغرباء حتى نتفيأ بظلالها ،،في هذا النص الذي ينطوي على متاهة مغفلة ،،تستغرق فيها العناوين بأحاجي الضياع،،تقف الشاعرة لتحاكم كل شيء ،،وترتضي دورها بعد شعورها بالخيبات الطوال ،،ريم البياتي من جيل تشرب الصراع والكفاح من اجل الاوطان وقضاياه ،،جيل خاض معركة شرسة ،،بذل فيها كل ما توفر له من إمكانية ، وانتبه أخيرًا ان بعض الاهل والاصدقاء ،،هم من كانوا يكيلون الطعنات في الظهر ،،هم من باعوا القضية ،،حين كشفت ظهرها،،وجدت آثار الغدر لكنها قد قطعت شوطًا بعيدًا ،،لاجدوى من التراجع ،،لم يبقى لها الا أن تتوسل قبرًا لعله لايعترض على الكفن ،،حيث ان جسمها قد تم رفضه مسبقًا ،،لعله يمرق دون ان يعترض الرقيب ،،
سيدتي ابحثي عن شقوق جديدة في القدر،،اودعي على الاقل رسائلك ،،حمليها بكل جرائمهم ،،ارفقي معها أسطوانة. بموسيقى أنين الأرامل واليتامى والمقهورين وهسهسات الارواح الشابة لحظات زهقها
أ.جمال قيسي / بغداد
................
نص الشاعرة:
................
أبحث عن:
................
أبحث عن عاشقة جذلى
كي أهديها حقوق العطر
كي أعطيها فساتيني
ومشابك شعري والأقراط
وعقد الفل
لفرح
يهرب بين شقوق العمر
فلاألقاه..
ولاتنساه شراييني
أبحث عن كون،،،، غير الكون
عن زمن لا يختلف اثنان على ميراث
الله
ويتفقان على موتي
عن أغنية
تعبر فوق شريط الموت
ويغفل سجان النغمات
صدى صوتي
عن قمح
ينبت في كل الأصقاع
لايعرف لونا ،،،،أو طائفة للفقراء
عن مطر يهطل
فوق شعاب العطش
ويخبر جذر النخل
بأن الصوت القادم من أعماق البئر
رجاء
أبحث عن وطن
لايغتال الحب على قارعة
السكين
عن ذاتي...أبحث عن ذاتي
في كومة قش
مازالت
من بدء البدء لتكويني
أبحث عن أرض غير الأرض
وقبر
لا يسأل عن كفني المهزوم
وعن ديني
...أ.ريم البياتي....


بين الحقيقة والاطياف.. اضاءة على نص الشاعر محمد جاسم الشمري ( الى قديسة) بقلم غسان الحجاج

بين الحقيقة والاطياف.. اضاءة على نص:
( الى قديسة)
للشاعر محمد جاسم الشمري..
بقلم  غسان الحجاج
،،،
تبادرت الى ذهني هذه التسمية بمجرد قراءة النص الذي نحن بصدد تسليط الضوء على مكنوناته و في محاولة الدخول بغية المواءمة الشعورية او الوصول الى حالة الرنين التي تحدث بين الأجسام التي تتساوى تردداتها وعلى نفس النسق يتكون الرنين الشعوري عندما يتلذذ القارئ بقراءة نص ما حيث تسافر روحه في عالمٍ من الاندماج اللاإرادي
ولكن ما يثير الدهشة هو تداخل الحقيقة والطيف ليُكوّنا منطقة مأهولة بالحرية الشعرية والبوح الذي يتغلب على حواجز الصمت مثلما صرح الشاعر بذلك..
وعلى غرار السبب والنتيجةوكأنما هو اتباع الإشارات ومقابلتها بردود الأفعال ذلك ان التأثير هو الحب العذري في أبهى صوره وهي قداسته فلابد ان يقابله صدى وهذا الصدى يتأرجح مع قرينه التأثير او المؤثر كالبندول فتتكون المداليل الشعرية المختزلة والمبتكرة والمتجلية ،والتصريح المباشر ان لزم الامر.
ولو دققنا في النص لوجدناه مكوناً من ومضتين ممكن فصلهما او دمجهما حتى انه يمكننا قراءة النص من الأسفل الى اعلى
الومضة الاولى :
"مرغما ان ابوح لك هذا المساء
برغم هيجان الروح
برغم اكتساح المأسي
فهكذا هي الايام
تأخذ اكثر مما تمنح
فلولا تواجدك هنا
بين اوردتي
بين حروفي ونصوصي
لما اختزلت ملكوت النساء"
وهو ما أشرنا اليه في عمليتي السبب والنتيجة كسلم موسيقي تتدحرج عليه النغمات .
الومضة الثانية :
"هكذا انت
تأتين بلا موعد برأسي
كنص قديم اختلط به مداد القدر "
تعبير سلسل معبر يشي بنكهة هذه الآصرة الغرائبية التي يصعب تفسيرها الا بطريقة التماهي أوالتوازي او المماحكة الشعورية .
اذن هذا النص هو مركب إبداعي لانه مجسم مرن روحه تتمثل في موسيقى داخلية متناسقة وصور شعرية مبتكرة فالتوافقات بين اجزاء النص كان مهندسها حضور الوعي والذي لم يكن مقيداً لها بل كون نسيجاً محكماً مع نظيره اللاوعي .
وعودة على الحقيقة والأطياف او (الخيال) فالحقيقة هي قاعدة الانبثاق او الجذر التكويني او المحفز للعملية الإبداعية ومن ثم الانتقال الى الخيال الشعري المتماهي مع الشعور في لحظة ولادة النص بما يشبه انطلاق المكوك من الارض الى الفضاء (في محاولة البحث عن عوالم اخرى ).
خالص تقديري واحترامي
أ.غسان الحجاج
،،،
نص الشاعر:
...............
الى قديسه ) .....
مرغما ان ابوح لك هذا المساء
برغم هيجان الروح
برغم اكتساح المأسي
فهكذا هي الايام
تأخذ اكثر مما تمنح
فلولا تواجدك هنا
بين اوردتي
بين حروفي ونصوصي
لما اختزلت ملكوت النساء
هكذا انت
تأتين بلا موعد برأسي
كنص قديم اختلط به مداد القدر 

أ. محمد الشمري


{معايير ومقومات قصيدة النثر } بقلم الاديب هيثم رفعت



وجهة نظر:
..............
في إطار البحوث السابقة حول " قصيدة النثر"،
،،،
تفضل الاديب المصري أ.هيثم رفعت بالمقال المكثف التالي مع التقدير الكبير:
،،،
{معايير ومقومات قصيدة النثر }
،،،
أصدق وصف للشاعر...
ان نقول عنه :
أنه قادر على ترجمة تجاربه المريرة أو الحالمة بكل تلقائية و عفوية الى عرض سينمائي على الورقة و بشكل مبهر وشيّق وعميق.
وهنا هل قصيدة النثر قادرة على نقل هذه التجارب الشعورية ؟
وهي ما زالت محل خلاف نظراً لِلِزوجة وزئبقية كينونتها و أن لها وسائل شعرية غير معتادة بل وقابلة للتطوير الدائم ، ولهذا سأحاول جاهداً وفق علمي المتواضع أن اضع بعض المقادير أو المعايير الهامة لهذا الكائن الشعوري العجيب و المبهر و الأنيق .
مقادير قصيدة النثر :
...........................
- أولاً من ناحية البناء :
1- الابتكار العام / بداية من فكرة النص وحسن عرضها ومروراً بالمفردة الشعرية وصورها ومشاهدها الحسّية
2- التناغم العام وتماسك النص وانسيابيته وانسجامه
3- سهولة النقلات النصية وتواصلها أو توالدها حتى نهاية المتن عبر ديناميكية الأفعال الحركية.
4- رسم خارطة كتابية للنص بداية من العنوان وحتى آخر حرف فيه
5- موسيقية الاختزال والتكثيف الغير مخل بالمعنى أو الذي لا يمنع التدفق الوجداني الكامل ويتم ذلك الاختزال عبر ( الاقتصاد اللغوي ).
6- ذكاء الصياغة عبر الدهشة الواخزة والربط الرشيق بين المشاهد الشعرية
7- اختيار الزمن النصي المناسب لصناعة المعنى
8- تنوع الجمل الشعرية و الإيقاع النصي
9- اختيار طريقة السرد المناسب لفكرة النص سرد متواصل ، غير متواصل سرد مقطعي ، ومضي أو سياقي ..الخ
10-توافق الرمز مع غاية و مآرب النص المشحون بالطاقات الدلالية
11 -تحقق متعة السرد الطارد للملل
12- شخصية المحبرة وظهور بصمتها الخاصة ( كاريزما الحرف )
و وصول رسالة النص للقارئ
- ثانياً شعرية النص :
1- فن عرض البداية والنهاية والبناء الدرامي
2- قوة اللغة وبلاغتها ومدى ثقافتها بما يناسب أفكار المتن
3- استهداف الثالوث الإبداعي ( اللغة والعاطفة والخيال ) في آن واحد
4- اختراق حاجز اللغة وخلق لغة رمزية جديدة عبر أدوات المجاز تشبيه استعارة انزياح ..الخ
5- جماليات الاسقاط الشعوري والشخصنة و التناص والاستدعاء و شمولية النص ..الخ
6- جماليات المقابلات الشعرية والتضّاد وخلق بيئة نصية متوترة في ظاهرها الاختلاف وفي باطنها التوافق ( وحدة البناء ).
7- كريستالية الصورة الشعرية و قابليتها لتعدد التأويل وكذلك فكرة النص العامة
8- استغراق ومعايشة الصورة الشعرية لعمق فكرة النص و انطلاقها من خلالها.
و تظل مقومات أو جماليات النثر غير قابلة للحصر لأنه كما قلت عنه كائن عجيب
و قابل للتطور الدائم
و حتى يرث الصمت الورقة ومن عليها .
وبالله التوفيق &
- طريقـة للـكتابة


( الاقتباس في نظم الشاعرغسان الحجاج ) دراسة نقدية بقلم الاديب الناقد كريم القاسم

( الاقتباس في نظم الشاعرغسان الحجاج )
دراسة نقدية
.....................................................
عند تصفحي للنشر الادبي بفنيه الشعر والنثر في الآونة الأخيرة ، لفتت انتباهي ظاهرة تضمين النصوص الأدبية لجمل وعبارات مقتبسة من القرآن الكريم ، وقد اوغل البعض في ذلك حتى بات يُركِّب ويرصف كلماته بين الفاظ القرآن ، او يمازج توليفهُ مع آية قرآنية ظانّاً بأن هذا الفعل سيضفي جلالاً ومنزلة ومتانة لنظمه او نثره ، حتى أخذ البعض يقلد مايقرأ وما يجد ، وهو يظن بأن هذا الفعل فيه نوع من الذكاء والبراعة والفطنة ، بينما هو جهل وطيش . لان العلوم والفنون لا تؤخذ بالتقليد الاعمى ، انما وضعَ اهل الصنعة لكلِّ فَـنٍّ وعِلمِ اُسس واصول واركان ، فلا ينبغي أن نخوض في ما لانعلم كي لانقع بما لانعلم .
وقد انتشرت كذلك ظاهرة الاقتباس لمفردات أو عبارات منسوبة الى رموز أدبية او سياسية او مشاهير وتضمينها في قصائد او نصوص نثرية وإحاطتها باقواس التنصيص لفرزها عن كلام المؤلف مع إيجاد هامش للتعريف بها . وهذا امر لابأس به بل ومعمول به حتى عند الأوائل ، لكن الذي يجعلنا نقف في حالة استنفار كنقّادٍ وادباء هو خطورة الاقتباس القرآني الذي بدأتْ بوادره تملأ مساحات كثيرة من تآليف الادباء دون رعاية لما يُقتبَس ودون دراية في التوظيف ، وفي وسط هذا المخاض تذكرتُ قصيدة يمكن ان نقف عندها كمثالٍ لما تقدم ، ووجدتها خير معين لهكذا مقصد وهكذا دراسة ، فهي ذات عيار ابداعي جميل ذكي ، وابداع متمرد على تملق بعض الأقلام الغير رصينة ، وهذا الابداع هو الذي يرسم للقلم بصمة الالتزام والرصانة والعنفوان .
ــ الشاعر العراقي المهندس (غسان الحجاج) قلم يكتب لكل مايتأثر به ، وهو سريع الاستجابة . يتفاعل مع النص بعقل وثقافة مهندس ، فيُهَيء الفكرة ثم يرسم ويخطط ، وبعدها يُنفّـذ التأليف بعناية مستغلاً كل مساحة وزاوية مهما صغرت لجعلها قطعة فنية رائقة تتحرك بفاعلية وسلاسة .
ما أن قرأتُ عنوان قصيدته (طربٌ على وتَـرِ المآسي) ، حتى بادرتُ الى قرائتها كلها والتطلع إلى خلجاتها ، ولقد وجدتُ الجماليات والروائع فيها ، فأنا أحبُكُ المقال النقدي واضع ديباجته معتمدا على القراءة الأولى حيث اضع احداثيات المقال كلها ، اما الثانية والثالثة فهي للاستمتاع بجمال السبك ولمعان الفكرة وجمال الطرح ورشاقة الالفاظ وقوة وذكاء الاقتباس ، بعدها اقتنص ماشرد عن بالي وخاطري .
القصيدة
ـــــــــــــــ
(طربٌ على وترِ المآسي)
الشاعر غسان الحجاج
...................................
طربٌ على وترِ المآسي .. وترنّمٌ مــــن ابــــتئاسِ
واسيتُ نفســـي شاعراً .. فنديميَ الشعر المواسي
انا بانتــــشاءٍ دائــــــمٍ ... عندي كؤوس ابي نوآسِ
أنبيذُ صاحبــةِ اللــمى!... كأسٌ طبــاقيُّ جناسي
متغــــزّلٌ كهـــــلٌ غوى ... هو مغرمٌ صبٌّ يقاسي
فالنبض قطـــعان الظبا ... والهمُّ ذئبُ الافــــتراسِ
******
وطــــنٌ وحــــــبٌّ شاحبٌ .. عطشٌ أيروى من يباسِ؟
ما قد سقتــــني غصّةً .. أسطورة العام الدراسي
ففســــادنا لا ينــــــــتهي .. متيمـــــمٌ بالارتـــــماسِ
رجعت عجول السامري .. لكن بزيٍّ دبلومـــــاسي
جلدي تزوّج ســــوطهُ .. والســـامريُّ بلا مساسِ
نجمُ الظــلامِ حكايـــــةٌ .. ابعادها ثقبٌ ســـداسي
******
خسرتْ سماسرة الردى .. وتجارتي موتٌ حماسي
نزفتْ موارد ناقتـــــي .. والضرْعُ مال الاختلاسِ
واخافُ ينبـــعثُ الشقيْ .. وحشاً بأقْنعــــــــة الاناسِ
كم من بلايــــينٍ ذوتْ .. وبناؤنا صفرّ قيـــاسي
******
الشــعبُ ردّد صادحا ... ليعيش (آمون)السياسي
تحيــا أباطــــرة العُلا .. نفدي الأريكة والكراسي
بكمٌ وعــــميٌ انــــــنا .. حتى الحواس بلا حواسِ
أننــامُ في كهف السدى؟ ..هل نـــحن آلهة النعاسِ
أم ان قدوتـــــنا غدا ... في ذلك النوم الرئاسي
هي باختــصارٍ أمــــةٌ ... موءودةٌ فـــي الانتكاسِ
خرقتْ سفينةَ موطــني ... دوّامةُ الغـــرق السياسي
عرّافتي كتــبتْ هنـــــا ... ما بين اقواس اقتـــباسِ
(ان النجومَ عقيمةٌ) ... فتشبّــثوا بالانعكاسِ!!
.........................................................
ــ عندما نتطلع الى كلام قد سُبِكَ بعناية فإنه يجعل العصب الساكن متحركا ، وها أنا اكتب واعيش ذات الوقت ألَم الحال الممزوج بالانتشاء في هذه الديباجة الشعرية الرائعة وهذا النظم الباهر.
ــ كان بودي ان يستنبط الشاعر عنوان القصيدة من فحوى النص ، لكنه ثائر النفس والوجدان فجعل العنوان هو الشطر الاول من البيت الشعري الأول (طربٌ على وترِ المآسي .. وترنّمٌ مــــن ابــــتئاسِ ) والشاعر هو حر في اختيار العنوان ، فأما ان يقتطع كلمة او عبارة من النص لتكون عنوانا ، او يستنبط مفردة او عبارة يراها مناسبة لشد ذهن المتلقي وجذبه ، وهذا لا إشكال فيه .
ـــ القصيدة التي امامنا ذات الـ (25) بيتاً قد وظَّفها الشاعر بعناية مدروسة ، لتعكس حال البلاد والشعب والأمة كلها التي مازالت تعيش تحت وطأة التآمر الخارجي والفساد الإداري الداخلي ، ليتعاضد الأمران على اضعاف الوطن ، ومحاولة صد إرادته نحو التقدم والنماء .
ــ كعادته الشاعر (غسان الحجاج) فإنه يولي عناية ورعاية لمطالع قصائده وخواتيمها . فمطلع قصيدته يدل منذ البداية على ان هنالك استعراضا دفينا وذكيا سيظهر للعيان ، حيث زاوج الشاعر بين المتضادات ، فزاوج بين الحزن والطرب ، لكن الطرب والغناء هذه المرة جاء مرافقاً لعزف وتر المآسي والحزن والأسى والشجى ، وهذا من النظم الحسن ، فالمتلقي المتأمل لمطلع القصيدة يجد الشاعر يعيش في غيبوبة السكر الوجداني المرافق للانتشاء ، لكبر اللوعة ، وعظم الخطر ، وهذا يُنذِر بقدوم فيض هائل من الصور الشعرية والبديع اللغوي ، وقد افصح الشاعر عنها فقال :
" واسيتُ نفســـي شاعراً .. فنديميَ الشعر المواسي
أنبيذُ صاحبــةِ اللــمى! ... كأسٌ طبــاقيُّ جناسي
انا بانتــــشاءٍ دائــــــمٍ ... عندي كؤوس ابي نوآسِ "
ــ وشاعرنا يميل بفطرته الى الغزل والتغزل في نظمه ، فهو لايترك النص الا ويزرع به شتلة تفوح بتلك النكهة الغزلية ، فأوردَ البيت الشعري في مقدمته (أنبيذُ صاحبــةِ اللــمى! ... كأسٌ طبــاقيُّ جناسي ) ونلاحظ هنا كيف احسن نسج الالفاظ وتقديمها بصورة شعرية رائعة جدا ودالة ايضاً ، وقد استعمل مفردة ( اللمى) وهي شفة الفتاة التي تحوي شيئاً من السمرة ، والتي يستحسنها اهل العلم بمواطن الجمال في المرأة ، ثم يأتي بتعبير مجازي اجمل واروع حينما يصف كأسه بانه مملوء بالجناس والطباق وهما من المحسنات البديعية البلاغية . وهذا دليل على ان الشاعر سيغدق على قصيدته بهذين الامرين ضمن طباق وجناس خفي زاد القصيدة ابداعاً آخر . ورغم ان القصيدة يمكن ان يُستخرج منها اكثر من مقال نقدي لوجود اكثر من فائدة نقدية ، لكننا سنفترق عن ذلك كله كي نتوجه الى مرادنا وهو (الاقتباس) ، حيث ان هكذا سبك جميل يحوي مقدمة مترابطة المعاني تجعلنا لابد ان نسترسل معها دون توقف للحصول على عِلّة هذا الانتشاء الممزوج بالحزن والكَمَد ضمن دراسة الاقتباس .
ــ عند تطلعي في هذه القصيدة وجدتها تحتضن نوعين من الاقتباس :
أ‌- اقتباس تاريخي
ب- اقتباس قرآني.
الاقتباس التاريخي /
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
القصيدة تحمل بصمة الاقتباس المتناثرة في جميع ارجائها ، وقد استنفر الشاعر طاقته التأليفية ممزوجة بالابداع ليلتقط مفردات والفاظاً من ذاكرة التاريخ ، وبما يناسب الفكرة والهدف ، ليرسم صوراً شعرية بالغة الدقة والجمال . هذه الاقتباسات التاريخية (كؤوس ابي نوآسِ ـ ثقبٌ ســـداسي ـ آمون ـ آلهة النعاسِ) سنتناولها تباعاً لتسليط الضوء على الجهد المبذول في سبك العبارات وحسن رعاية معانيها كما في الآتي :
ــ منذ الوهلة الأولى وشاعرنا بدأ بنشاطه الاقتباسي ، ففي البيت الشعري الثالث من مقدمة القصيدة :
" انا بانتــــشاءٍ دائــــــمٍ ... عندي كؤوس أبي نوآسِ "
وصفَ الشاعر حالهُ بأنه في نشوة مستمرة دائمة ، وأعطى دليلا لهذا الدوام بـ (كؤوس ابي نوآسِ) والكأس والشراب صفة لاصقت الشاعر أبي نؤاس واصبح كالمثل الذي يُضرب به لكثرة السكر والانتشاء ، وهذا الاقتباس وظّـفَهُ الشاعر منذ البداية لانه سيأتي بكلام ووصف لايصدّهُ حَد ولا يوقفه نَـد ــ أي يتصف بالجرأة ــ فالثمل يطلق لسانه بما يأتي على الخاطر دون خوف او وجَل . وهو توظيف جميل وصورة مجازية جميلة أيضا .
ــ بعد عرض واستعراض لصورٍ شعرية ومعان كثيرة تصف حال الامة والشعب ، يأتي الشاعر ببيت شعري يؤشر فيه على سبب الجرح والالم والظلام ، فيقول :
" نجمُ الظــلامِ حكايـــــةٌ .. ابعادها ثقبٌ ســـداسي "
في هذا البيت الشعري نجد الشاعر قد حدَّدَ مصدر الظلام الذي يلفّ جسد الامة وهو الورم الصهيوني الخبيث ، وهذا ما بدا جليا في إقتباسه للمفردات (نجم ــ ثقب سداسي) والثقب السداسي إشارة الى نجمة داود السداسية والتي اتخذها الصهاينة اليهود شعارا لهم .
ـــ ثم يستمر الشاعر بسرد الصور الشعرية الرائعة ليقتبس رمزا تاريخيا آخر وهو (آمون) ليجعله تعريفا للسياسي ، وليصف حالة التردي للشعب المنهوب والمتهالك الذي مازال يصفق ويهلل للقادة الفاسدين الذين هم اصل البلاء الذي أوصل الامة الى هذا الحال ، كما في البيت الشعري التالي :
" الشــعبُ ردّد صادحا ... ليعيش (آمون) السياسي "
وآمون هو أحد الآلهة في الاساطير الفرعونية والذي كان يتمتع بقدسية كبيرة .
ــ اقتباس تاريخي جديد وهو (آلهة النعاس) ويسمى هذا الإله في الاساطير الاغريقية بـ (هيبنوس) الذي سخره الشاعر لرسم صورة عالية النقاء لوصف حال الشعب الساكن الخامل الذي بدا وكأنه خالد في النوم ، ويتوسد غفوة لاصحوة بعدها كما في الاستفهامين التاليين :
" أننــامُ في كهف السدى؟ ..هل نـــحن آلهة النعاسِ ؟ "
ــ هذه المسميات والاقتباسات جعلها الشاعر دلالات لوصف دقيق ثاقب لصورٍ
أراد بها توضيح حجم الغفلة والمعاناة ، والمتأمل لها يجدها قد اضافت بريقاً للسبك فظهر النظم بعافية تأليفية ونشاط دافق .
الاقتباس القرآني /
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ في هذا النوع من الاقتباس وجدتُ الشاعر قد قدّم نموذجا اقتباسيا رزنا رصينا يدل على احكام صنعته وحسن درايته ومتابعته لما يجوز ولما لايجوز . وسنقدم تحليلا نقديا لكل نوع من هذه الاقتباسات في الآتي من العرض والتحليل .
ــ إن الاقتباس القرآني يحتاج الى فطنة ودراية لايُستهان بها ، وعلى الناثر او الناظم أن يكون حذرا في هذا الفعل اذا كان الاقتباس من القرآن الكريم ، كونه كلام الله المقدس الذي لايمكن ان يُرافق كلام البشر ضمن معادلة لغوية واحدة . وقد تجرأ البعض القليل والنادر جداً في فترة تاريخية قديمة على ان يوظفوا هذا الاقتباس في شعرهم ، حيث انكر أصحاب الصنعة عليهم ذلك ، وبقي الحال طويلا هكذا دون المساس او التقرب من اللفظ المقدس إلّا في الشعر الحالي والذي سمي بـ (الحداثوي) . ولسِعَةِ الفضاء النسجي في هذا الفن نجد ان البعض اقتبس ــ جهلا وحمقاً ــ بعض عبارات القرآن بنصِّها ليتضمنها نصّهُ الادبي ، وهذا يدل على عدم الدراية وعدم الاحترام لحدود التأليف ، حيث كتبَ اهل اللغة قديما في هذا الشأن واشبعوه ، ولو اتعب الشاعر او الناثر نفسه في الاطلاع على هذه الشروط والبحوث والدراسات لكفَّ نفسه عن الخوض فيما لايجب . وهذا هو السبب الذي استوقفني لكتابة هذا المقال .
ولغرض القاء الضوء ولو بصورة مكثفة لا تخلو من الفائدة الجلية نتطرق الى مايلي :
ــ ان المؤلف عندما يحتاج الى ضخ الفاظ ومفردات في نظمه وشعره مقتبسة من القرآن الكريم فهو امام خيارين :
1- اقتباس جمل أو تراكيب لغوية .
2- اقتباس إشارات و دلالات قصصية .
ففي الخيار الأول قد يقع المؤلف بالخلاف الشرعي ويزج نفسه في باب التحريف القرآني ، وهذا ــ للأسف ــ قد وقع في فخه الكثير من الادباء لتوقعهم بأن الكلام المؤلَف سيكون اكثر قوة ومتانة وبلاغة . لكن أصحاب الصنعة يعتبرون هذا الاقتباس فيه إهانة واستهتار بمعايير اللغة القرآنية وبلاغتها . إلا اذا كان الاقتباس بمفردة او مفردتين تخدمان معنىً موازياً لا إسفاف فيه ، وسنبين بعض الأمثلة التي توضح ذلك في هذه القصيدة .
اما الخيار الثاني وهو الإشارة والدلالة ، فلا بأس في ذلك إذا ما تَقيَّـدَ المؤلف في توظيف مفردة ما او لفظة تشير الى قصة قرآنية تجعل القاريء يفهم القصد ، على شرط ان لايخالف الدلالة أوالاشارة التي جاءت في القرآن . فلايمكن اقتباس مفردة ذم من القرآن الكريم لتوظيفها في المدح أو غير ذلك من الاستعمالات الغير موفقة . علما ان تاريخ الشعر العربي برمته لم يشهد اقتباساً قرآنيا زاد على الحد . وقد ازدحم اهل الشرع واهل الرأي في مناقشة هذا الامر ، لكن الأس المشترك هو وجوب الاحترام وعدم الاقتباس دون فهم وعلم ودراية . لأن اختلاط النص القرآني بأي لفظة دخيلة يُعَدُ تحريفا .
والآن سنبحر في هذا الإقتباس الغني ، ونقف عند محطاته الإبداعية ، لتتوضح الصورة وتشرق الفائدة :
ــ مقطع القصيدة جاء محملا باقتباسات قرآنية رائعة ، استطاع الشاعر ان يدمجها مع حال المجتمع (عجول السامري ـ لا مساسِ ـ ناقتـــــي ــ ينبـــعثُ الشقيْ ـ بُكمٌ عميٌّ ـ خرقتْ سفينةَ ـ موءودةٌ ) وسأتوقف عند هذه المحطات قليلاً لأبعث الفائدة النقدية التي لابد من الإيفاء بحقها لخطورتها في فضاء التأليف .
ــ لقد استطاع الشاعر ان يُنظِم بيتاً شعريا باذخا يخبرنا بعودة السياسيين المغلفين بالدبلوماسية ، وقد شبههم بـ (العجل السامري) الذي يخدع ماحوله ، وهو تعبير مجازي رائع ، كون عجل السامري قد خدع امة بكاملها وهو عجل واحد فكيف اذا جاء جمعا :
" رجعت عجول السامري .. لكن بزيٍّ دبلومـــــاسي "
وهنا نجد الشاعر قد اقتبس مفردتين (عجل ـ السامري) من الآيتين الكريمتين :
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } طه 85
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } طه 88
ــ ان نباهة الشاعر جعلت هاتين المفردتين مرافقتين لوصف رجال السياسة الفاسدين ، وهو توظيف حسن لاغبار عليه ، وهذا ما عضده نظمه للبيت الذي يليه :
" جلدي تزوّج ســــوطهُ .. والســـامريُّ بلا مساسِ "
ــ وقد اعجبني جدا التصوير في هذا البيت الشعري ، فقد جاء الشطر الأول بمفردات ثلاث تفضح سياسة العجل لكنها رُكِّبَت بعناية فائقة لتنتج هذه الصورة الكبيرة التي تجسد معنى الألم الكبير (جلدي تزوج سوطه) واستخدام لفظة (تزوج) تعني العقد بين الطرفين ، فالشاعر يصور علاقة السوط بالجلد التي أصبحت حالة اقتران ، بل وكأنها امر شرعي ، اما (السامري ) وهو السياسي ، فمازال بحالة (لامساس) واقتبس الشاعر هذه المفردة من الآية الكريمة :
{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } طه 97
وهذا الاقتباس القرآني يعني ان السامري لايمس احدا ولا يُمَس طول الحياة ــ وهي عقوبة غير اعتيادية ولايمكن تحمّلها ضمن معايشة المجتمع والناس ــ لكن الشاعر وظفها في ان السياسي لايمسه أحد بشيء وهو لايمس الآخرين كناية عن اعتزاله وابتعاده عن الناس ، وهو أمر لايصب في صالح السياسي الذي يريد ان يخدم شعبه ، فهو كالمعاقب بـ (لامِساس) ، وطرح الشاعر استفهاماً ، إذا كان السياسي لايمس الاخرين فكيف يجعل من سوطه زوجاً ولصيقاً لجسدي ؟
أليس في هذا الاقتباس ابداع يُحسَب للشاعر ؟؟
فهو لم يخرج عن أدب الاقتباس ، ولم يوظّف مفردة او لفظاً الا بعد التقليب والتنقيب لمعرفة وجهتها ومرتبة معناها ومغزى هدفها .
ــ ثم يأتي اقتباس قرآني آخر عندما يستخدم الشاعر الالفاظ ( الناقة ـ ينبعث ـ الشقي) إشارة الى (ناقة صالح) و(الشقي) هي صفة الرجل الذي عقر الناقة كما في ألايتين الكريمتين :
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } هود 64
{ إِذِ انْبَعَثَ أشقاها} الشمس 12
إن هكذا اقتباس وهكذا توظيف في صور شعرية مزهرة لابد ان تجعل الناقد او المتلقي المتذوق يهيم بها ويقف عندها متنزها وهو يتأمل هذا النظم الدقيق وكيفية مزج الاقتباس بالفضاء السياسي .
" نزفَتْ موارد ناقتـــــي .. والضرْعُ مال الاختلاسِ
واخافُ ينبـــعثُ الشقيْ .. وحشاً بأقْنعــــــــة الاناسِ "
وهنا يصف الشاعر وطنه الغني بـ (الناقة الحلوب) التي سُرِقَ خيرها ، ويخاف ان يقود هذا الفساد الى استنزاف الخيرات وقتل البلاد وتركها يبابا ، والسارق هو الذي تنطبق عليه لفظة (الشقي) . وعندما جاءت هذه اللفظة أعطتْ دلالة اقتباسية قرآنية لـ (ناقة صالح) التي كانت تدر لبنا لكل فرد ، لكنهم مالبثوا أن عقروها وقتلوها على يد اشقى الاشقياء ، فسلَّط الله عليهم العذاب نتيجة فعلتهم هذه .
وهذا اقتباس ونظم ذكي جدا. فالشاعر لم يقتبس سوى مفردة واحدة (الناقة) في البيت الأول ومفردتين (ينبعث ـ الشقي) في البيت الذي يليه ، والأهم من ذلك إنه وظَّف هذا الاقتباس بما لا يتنافى او يتعارض مع هدف الصورة القرآنية للقصة ، فالناقة مصدر خير والشقي مصدر شر .
ــ اقتباس قرآني آخر ينجح الشاعر في توظيفه ليصور حال الامة بإستعمال لفظتي ( بُكمٌ ـ عميٌّ ) من الآية القرآنية الكريمة :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} البقرة 18 .
وترجم الشاعرهذا الاقتباس لإنشاء صورة شعرية جميلة :
" بكمٌ وعــــميٌ انــــــنا .. حتى الحواس بلا حواسِ"
وكم جميل عندما عطف على (البكم والعمى) بـ ( الحواس ) التي أصبحت هي الأخرى بلا حواس .
والفائدة النقدية من هذه هو ان الشاعر قد اقتبس مفردتين (بُكمٌ ـ عُميٌّ) وعوض عن (صُمٌ) بالشطر الثاني (حتى الحواس بلا حواسِ) حيث شمل العدم كل الحواس ، وحتى لا يقع في (التحريف) وهو نسج واستعمال ذكي ايضاً .
ــ إن لفظة (الموؤدة) وردت في الآيتين الكريمتين :
{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } التكوير 8 ـ 9 .
استطاع الشاعر ان يقتبس هذه المفردة ليضمّها الى توليفة ذكية أخرى في بيت شعري حينما جعلها اختصارا لوصف الحال الذي تعيشه امتنا العربية ، وهذا الاختصار جاء في نهاية النص بعد ان اشبع النص بالصور الشعرية التي تصف الحال المنتكس المزري . ولكي يضع اشارته الذكية نراه قد جاء بهذه المفردة التي وصَفَتْ بأدق صورة وهو (الوأد) ولاشيء غيره يناسب هكذا حال :
" هي باختــصارٍ أمــــةٌ ... موؤودةٌ فـــي الانتكاسِ "
والجميل في التوليف انه جاء بمفردة (انتكاس) بعد (الوأد) وهذا توليف دقيق جداً لإظهار صفة الامة المُحبَطة ، فـ (الوأد) لايحدث الا للجسد الحي ، وقد يصرخ او يصدر صوتا عاليا ويولول ولكن لافائدة .وصورة (موؤدة في الانتكاس ) تعتبر نكبة نفسية بالغة تصور فداحة الضعف الذاتي ، ثم ان الانتكاس هو عكس التقدم لذا فقد جاء التصوير عنيفا جدا ليصور هذا التدهور الذاتي للامه ، فعندما يكون القبر هو الانتكاس فمن المؤكّد لا أمل في بعثها وقيامها وتقدمها من جديد .
وفائدة نقدية أخرى هنا ... ان الشاعر عندما اقتبس لفظة (موؤودة) ليحعلها صفة للأمة ، كأنه أراد بذلك ان يقول : (بأي ذنبٍ قُتلَت هذه الامة) لان القاريء لابد ان يردف هذا المعنى لمفردة (موؤودة) من خلال فهمنا وحفظنا للسياق القرآني .
والحقيقة ان الشاعر غسان الحجاج قد قدَّم انموذجاً رائعا بديعا لوصف دقيق .
ــ اقتباس قرآني جديد للمفردتين (خرق ـ السفينة) من الاية الكريمة :
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرً } الكهف 71 .
وهي قصة معروفة تروي لقاء الخضر بنبي الله موسى ـ عليهما السلام ـ لكن الشاعر استطاع ان يجعل من هذا الاقتباس صورة شعرية رائعة أخرى كما في البيت الشعري التالي :
" خرَقتْ سفينةَ موطــني ... دوّامةُ الغـــرق السياسي "
فشبه الشاعر موطنه بالسفينة المخروقة من قبل السياسي ، والجميل انه جعل سبب الغرق السياسي هو (الدوامة) وهي أمواج الماء التي تدور بعنف لابتلاع أي جسم من الأعلى . وعندما نصفُ نظم القصيدة هذه بالنظم الدقيق فإننا نعنيه تماما ، وهذه علامة فوز تحتسب للشاعر ، حيث وظَّف المفردة المناسبة (الدوامة) لمفردتي (السفينة ـ الغرق ) ولو جاء بغيرها لاصبح المعنى مشوشاً فيه نوع من الاضطراب . وهذا النظم هو الذي يوصي به أصحاب الصنعة الأوائل كي تظهر البلاغة ناصعة هادفة مفهومة من خلال اختيار الالفاظ المناسبة لمعانيها .
ــ مما تقدم يتبادر الى ذهن المتلقي تساؤل مشروع :
ما الدليل على ان وجود بعض المفردات في القصيدة تعتبر اقتباس قرآني ؟
الجواب :
أن اللفظ القرآني واضح جدا ، فهو حَبْكٌ وسَبْكٌ إلهي ، وقد نزل ليكون إعجازا لغويا بلاغيا امام امة الشعر والنثر والخطابة ، فحينما تَرِد لفظة قرآنية في أي نصٍّ أدبي لابدَّ أن تحجز لها مكانا ومرتبة عليا لايمكن للشاعر او الناثر ان يأتي بمثلها ، ولكن قد تاتي مفردات مثل ( كهف) كالتي وردت في البيت الشعري :
" أننــامُ في كهف السدى؟ ..هل نـــحن آلهة النعاسِ "
هنا لايمكن ان نعتبر هذه المفردة اقتباس قرآني من سورة الكهف ، لان الشاعر لم يأت بأشارة دلالية على ان هذا الكهف يشير الى قصة أصحاب الكهف . ولكن عندما جاء بلفظة (الناقة) في البيت الشعري :
" نزفتْ موارد ناقتـــــي .. والضرْعُ مال الاختلاسِ "
اردفها ببيت شعري آخر ذكر فيه مفردة (الشقي) كما في البيت التالي :
" واخافُ ينبـــعثُ الشقيْ .. وحشاً بأقْنعــــــــة الاناسِ "
هنا اعطى الشاعر دلالة واشارة قوية الى ان الناقة المقصودة هي (ناقة صالح) الوارد ذكرها في القرآن الكريم ، وهكذا في الموارد المشابهة الأخرى .
ــ ثم ورود مفردتي (بكمٌ ، عميٌ) في احد الابيات الشعرية أو(عجل السامري) نجدها لاتحتاج الى إشارة او دلالة ، فالمفردات وطبيعة رصفها واضحة قد نطق بها القرآن قبل البشر من حيث الحبكة والنسج والصياغة ، فأول ولوجها للسمع ندرك انها نسج قرآني .
إذاً مفردات والفاظ ودلالات القرآن واضحة جدا لايمكن اخفائها أو التمويه عليها ، فهي عندما تُرصَف مع كلام البشر نجد بريقها يخطف الابصار قبل الاسماع .
ــ الختام جاء مناسبا جدا لجودة المطلع والمقطع كما في البيتين الرائعين :
"عرّافتي كتــبتْ هنـــــا ... ما بين اقواس اقتـــباسِ
(ان النجومَ عقيمةٌ) ... فتشبّــثوا بالانعكاسِ "
المتأمل لهذا المسك الختامي النبيه سيجد أن الشاعر يقصد مايفعل ، فقد جعل مفردتي ( اقواس ـ اقتباس ) دلالة قوية على بصمة القصيدة ونوع النول الذي نُسجَتْ به ، والاجمل هو كيفية جعل هاتين المفردين في صورة شعرية باذخة الخيال ، وخاصة عندما جعل مصير الامة وكأنه مرهون بنبوءة عرّافة ، وكأنما ترك الاختيار للقاريء ، فالنبوءة تقول ان مَن تحسبونهم نجوماً قد عُقِموا عن انجاب الضوء ، وخيرٌ لكم ان تتشبثوا على الأقل بانعكاس الأضواء ، وهذا خيار لاخير فيه ، فإنعدام مصدر النور هو انعدام الحياة . وهو دعوة مكبوتة الى ثورة الذات ، وقد جاء بفعل الامر (تشبثوا) للسخرية والتهكم ، حيث لا انعكاس عند انعدام الضوء . وهكذا هو ديدن الشاعر (غسان الحجاج) في سبك خواتيمه الشعرية الرصينة .
ــ بعد استعراض هذه الاقتباسات وبيان جوازها وحسن توظيفها ، لابد ان نضع تقييما لهذا النظم :
• استطاع الشاعر ان يجسد الفكرة بابيات شعرية مترابطة ، وهذا مايؤكد عليه العرب القدماء ممن تفحصوا الشعر وانغمسوا فيه ، فهم يرون جودة النظم يتمثل بارتباط الافكار بعضها برقاب بعض كي لايأتي النص وكأنه نسج مشوه .
• احتوى النص على جماليات لاذعة ساخرة ، يتطلبها الحال والوجدان ، كي يجعل الشاعر قصيدته عبارة عن فوهة بركان يهمس بالدخان الذي يليه الانفجار . وقد شدني هذا البيت لقوة السبك ولبديع الصنع وقوة الخيال :
" جلدي تزوّج ســــوطهُ .. والســـامريُّ بلا مساسِ "
فياله من خيال خصب وإيماءة هائلة .
• استطاع الشاعر (غسان الحجاج) ان يقتبس من القرآن الكريم الفاظا ومفردات تليق بالمرتبة النظمية التي انشأها ، ولم يوظفها لمعنى مخالف لما كانت تحمله هذه الالفاظ من معان واهداف في القرآن الكريم . وهذا هو الذي نوصي به وننشده .
• هذا النص من النوع المتفاعل مع الذات والوجدان ، ومن النصوص الجاذبة لذائقة المتلقي ، رغم همسها الدفين ، فهي زفرات نفس ، وعبرات وخلجات ذات ، قد رسمها الشاعر بمهارة ، وحاكها بخبرة ، فانتج قُماشة تسر الناظر ، وتلهب الخاطر ...
الشاعر غسان الحجاج ... لقلمك العز والنماء .
تقديري الكبير 

...

حسنا فلنخالف القاعدة ..قراءة نقدية بقلم الاديبة دنيا حبيب لنص الشاعر الموسوي (خاطر حي)

حسنا، 
فلنخالف القاعدة،
أ.دنيا حبيب
،،،
لنعيد قراءة النص من "النهاية للبداية" .. ولعل صاحب النص أول من سيدرك سبب طلبي. لأنه يعرف جيدا، أن كشفه؛ وعلى الرغم من أنه كشف غير صعب، وعلى الرغم من أن "خاطره" أخذنا نحو الشعور "السهل الممتنع" .. والذي به تغنى ونثر وتفلسف الشعراء والكتاب والمفكرون، ولازلنا نبحث إلى الآن عن معنى وتعريف له، كشف الكانب هو ببساطة "الحب" .. لكن حذار من هذا الشعور، لأنه كما وصفناه هو "السهل الممتنع" .. ولا يغرنكم هذا الإفصاح عنه في نهاية النص؛ لأن لهذا الشعور خفايا في كل سطر، لا يدركها حق الإدراك إلا صاحبها، وطبعا لنا أن نخمن كقراء.
قلت أننا سنقرأ النص من النهاية للبداية وهذا ما سأفعله، وبعدها لنتساءل سويا لم؟ ولم لم يكتب كاتبنا نصه من النهاية للبداية؟
"الحب.. به يتصير العالم كبيراً، جميلاً.. لولاه لضاق التنفس..هو القادر على الإحياء..لا تستوعبه اللغات..هو الحقيقة الأكثر شخوصا"..
والآن لنعيد القراءة مرة أخرى لكن من البداية للنهاية..
سنجد أن الفارق الوحيد هو أننا في المرة الأولى قلنا "الحب" ثم استرسلنا.. أما في الثانية..استرسلنا ثم تساءلنا..ثم استغرقنا في التفكير..ثم تمنينا أن نحصل على هذا الشيء.. ثم أخيرا وجدناه..وجدنا "الحب".. الكاتب الذكي، الذي حرّكَنا باتجاه مكاشفته، بطريقة "الترغيب"..تلك الطريقة التي تثير في نفس القارئ الفضول..
بداية من عنوانه "خاطر حي" ذلك الاختيار الذي يختلج الأنفس، ويرغبها في الاطلاع على هذا الخاطر والذي اتصف بأسمى الصفات، ألا وهي صفة "الحياة" ... وبعدها يزيد في رحلة التشويق ويكمل ما بدأه في العنوان
"يكتبني أرقا طويلا" .. ثم يزيد .. ثم يزيد... ولم يتخل أبدا عن تصعيد عملية الترغيب..إلى أن يلقي ما ضج في صدره وهو صابر طوال هذا الوقت.. ولعل ذات الكاتب نفسه، عاشت هذه اللحظات حقيقة، عاشت مرحلة التساؤل، والقلق.. والمعاناة للبحث عن الحقيقة.. عن "السر" .. إلى أن اهتدت نفسه وتجلت الرؤى نحو ما أراح به أسئلة الأولين والمعاصرين، بل والقادمين في المستقبل! .. -الحب!-
أكثر ما شدني، هو ذلك التبجيل، والتعظيم الذي يكتظ في روح الشاعر اتجاه شعور الحب. ولا بد من إشارة مهمة أن الحب الذي قصده وعناه واعتنى به، ليس مجرد الشعور بين الحبيب والحبيبة؛ لا أبدا. بل هو حب أشمل وأعم وأكثر ا تساعا، ولعلني في نهاية الأمر قد اتضح لي أن الحب المقصود هنا هو "الحب الإلهي الاعمق" لذا، حدث ولا حرج، لذا قل ثم زد ثم أفض..!!
من ينظر في أعماق النص، والذي هو مرآة لأعماق الكاتب، سيجد أن في دخيلته صرخة.. وأنة.. صرخة العارف وأنة العارف، ولو كان الأمر بيده لصرخ بوجه الناس جميعا، لكن الأمر بقلبه -لا بيده- فيأبى إلا رهافة الشعور، وجمال الحكمة حتى يصل بالناس لمراده السامي النبيل..
لغته وشاعريته التي أصفه وأصفها (بأنهم يسيرون على الماء جميعا) لديه لغة روحية رشيقة تسير على الماء، ورهافة شعور من رقتها، لا تسبب وزنا على الماء، فتطفو كبتلات الورد.. لكن هذا لا يعني أنه فارغ من الحكمة ورصانة المنطق، لا ابدا.. فهو يرى الحاضر بعين حاضرة.. مثلا في وصفه "جديدنا المبرقع بالألوان" .. "الحقيقة الاكثر شخوصا 
في هذا الهزيع البارد" .. فهنا من خلال هذي الرؤى، هو يقول ويدلي بنظرته ودواخله نحو الحياة والكون..
سأكتفي بهذه الزاوية البسيطة.. لكن هذا لا يعني أن الحديث انتهى.. وللكاتب الأستاذ العراقي الموسوي جزيل سلامي
أ.دنيا حبيب
،،،
نص الكاتب:
،،،
خاطر حي:
،،،
كان يكتبُني 
أرقاً طويلاً
ويفتحُ لي 
في كلّ شهقةٍ
باباً من القلقِ..
اعلمُ أننا ما فتئنا 
نلوكُ اسئلةَ الغابرينَ
حتى جديدُنا المبرقعُ بالالوانِ
ليس الا مناورةْ
الحقيقةُ 
الاكثرُ شخوصاً 
في هذا الهزيعِ الباردِ
ليستْ سوى هذهِ اللغةِ 
فالارضُ لغةٌ
والانسان لغةٌ
والزمكانُ لغةٌ
كلُّ العناقيدِ 
التي بينها لغةٌ ايضا
شئٌ واحدٌ 
خارجُ السياقِ الرتيبِ
وحدَهُ 
ما يمنحُنا 
الشعورَ بالجدوى..
إنّما لا تستوعبُه 
كلُّ لغاتِ العالمِ 
ولو اجتمعتْ!!
بينا يستوعبُها جميعاً 
حتى لتكادُ تنحلُّ فيهِ..
هو القديمُ ذاتَهُ 
القديمُ المُتجدّدُ أبدا
الجديدُ الحيُّ
الحيُّ القادرُ على الإحياءِ
وبثِّ الحياةِ في المواتِ..
ولولاهُ
لولا مداهُ الرحيبُ 
لضاقَ علينا التنفسُ 
هذا العالمُ الغريبُ
اصغرُ بكثيرٍ 
مِنْ أنْ يُقنِعَنا
لكنَّهُ بالحبِّ وحدَه 
يستحقُّ انْ نعيشَ فيهِ
فبهِ دونَ غيرِهِ 
يتصيّرُ جميلا
وكبيرا...

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

فائدة نقدية ــ 35 ــ لــغــةُ الــنــا قــــــد بقلم الاديب كريم القاسم

فائدة نقدية ــ 35 ــلــغــةُ الــنــا قــــــد
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثير من القرّاء والمتلقين يعيبون على اللغة النقدية الشائعة في كثير من المقالات ، كونها تحمل الفاظا ومفردات عسيرة على الفهم ، ومعظمها تصبها مغارف الترجمة غير الرصينة في صحون الادب ، او تقليد اعمى لتجاربٍ لاتفقه ، فتتركب الجملة بمفردات مرصوفة لايُفهَم معناها ، حتى يضيع المتلقي في عالمٍ لغوي فوضوي .
أتذكر قول شيخ النقاد الدكتور (محمد مصطفى هدارة) حيث يلزم الكاتب أن يكتب ما يُـقـرَأ و يُـفـهَم ، وحتى الدكتور (طه حسين) ينتقد هذه الظاهرة ويعتبر ان البعض (يرطن ولايفصح) ، حتى اصبح الكثير يقلد هذا المنوال وكأنه هو لغة النقد لاغير .
فمثلاً عندما تقع بين أيدينا هذه العبارة لناقد ما :
" ان الجملة هنا يتيسر قياسها على وقف عنيف خارج التقدير والتسريب للتجربة الغير منضبطة "
ــ هل نفهم شيئاً من هذا القول ؟ وماهو الحاصل من معنى هذه العبارة ؟
ثم يتفضل علينا آخر بعبارات متزحلقة تجلب الغثيان فيقول :
" ان تكرار الحرف ( ا ) في كلمة (هيااااااامي بها) هو تعبير استنفاري قافز فوق إحساس رؤيوي قد خلق حافزا اسلوبيا دلاليا مجرداً "
ــ مالذي يُفَهم مِن هذا الغثيان ؟؟ وكيف يتذوق فن النقد ويستلذ بطعمه مَن طلبَ الفائدة والدرس ؟؟؟
ــ إن من أولويات لغة الناقد ان تكون فاعلة ومتفاعلة مع الفهم والادراك للقاريء . وأن تكون الشروحات والتفاسير تتسم بالعقلانية لا الرمزية الطلسمية ، وهذه وصية ــ اساتذتنا رحمهم الله ــ حيث لاينبغى أن تنقدَ قولاً بقولٍ لايُفهَم فتنفي الفائدة وتبطل الحجة .
تقديري الكبير ....
.
.......................

مقطع ..من رواية يوميات اسماعيل للروائي جمال قيسي



مقطع ..
من رواية يوميات اسماعيل للاستاذ Jamal Kyseمع التقدير...
،،،
كيف لك ان تحتمل ؟! كل هذا اللغط - لتغذ الخطى ليس عليك ان تتمهل ، قط ،،ليس هناك غير ان تلذعك الحياة بمشاهدها القاسية - لا تبالغ اسماعيل مناسيب الكآبة المرتفعة لن تجني منها شيء مجرد إشارة لنفاد الصلاحية عندها عليك ان تبحث عن اقرب مكب. نفايات
عليك ان تواصل محاججتك للإله جراء هذا الاخصاء او ان تبحث عن وسيلة للتخلص من هذا الوعي المريض
يجب ان يعاد النظر بمجمل الاتفاقية ، لانها لم ترقى للمعاهدة ،،ببساطة فيها تكمن الخديعة ،،الطرفان او على الاقل احدهم لم يكن. بنية حسنة ، بالتاكيد الطرف القوي. يقع على عاتقه انهيار الاتفاق مع انه. قد تم تحذيره من الملائكة قالوا له بصريح العبارة " أتجعل. فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " - لا اعرف كيف يراد منا ان نعمر الارض وقد تقطعت بِنَا الأسباب ،،أسبابنا الداخلية،،عندما تعطب الروح لن يبقى منا الا كتلة عضوية عطنة ربما حتى دود الارض يأنف ان يضعها ضمن مفردات قائمة طعامه لاحقًا ،،
كان النور ينهمر بشكل عجائبي يُضيء الزقاق الذي لانهاية له وأبنيته تبدو متصلة في أعلاها لدرجة ان لا سماء هناك ويرتفع الزقاق الى ما لانهاية في وسطه سلم لايتذكر هل انه في بدايته ام انه قد تخطى قبل موقفه السلالم الغير منتهية،،النباتات المتدلية من الشرفات على الطراز الفكتوري تضفي لونًا ساحرًا على الطابوق المكون. للجدران ،،هو واقف بدون حراك لكنه يشعر كأنما في حالة صعود،،الشرفات تضج بالحركة وأصوات ضحكات نسائية بصدى و كلام غير مفهوم لغة اخرى لكنها تبدو مألوفة ،،يحاول ان يرتقي السلم لكن رجله متسمرة لاتطيع إرادته
كان هذا حلمه. في الليلة الفائتة ليس سيئًا وبنفس الوقت لايعد سعيدًا ،،( انه اللاشيء - لحظة ، لحظة ! - انه شبيه بال ،،، )
تذكر احدى الوقائع
في احدى رحلاته الإلزامية الكريهة إبان. ،،سنوات الحرب
صدر امر نقله الى الجبهة الشمالية. لايعرف اي تسلسل لهذا الامر،،ربما الخامس او السادس،،بمطلق الاحوال جبهة كردستان افضل من جبهة الجنوب في تلك الايام اللعينة ، والوطن اللئيم حين تتهافت فيه الآمال
كان الصعود الى الربيّة ،،يتطلب مهارة خاصة ليست متعلقة بالإمكانية او بالجهد البدني ، تصلبت عضلاته بعد اقل من شهر لالتحاقه إنما ما يحتاجه امر مختلف،،عليه ان يحتفظ بذاكرة تصويرية لطبيعة الميسم المتعرج بين الربيّة والوادي عليه ان يحفظ صورة كل الأشياء في ذاكرته. اليومية عند النزول الى الوادي ويقارنها عند الصعود اي تغير يطرأ هو لحظة حاسمة بين الحياة والموت او فقدان احد. الأطراف ان لم يكن كليهما ويزداد الامر تعقيدًا استغراقه بالانتشاء خلال الساعتين التي يقضيها في أسفل الوادي الضيق الذي يتوسطه نهر صغير بخرير هادر ،عرض الوادي لايتجاوز العشرين. متر مع كل هذا ينطوي على حياة بسعة مدينة ليس بالعدة والعدد وإنما بطبيعة النشاط طبعًا على رأسها عنفوان الذباب والدبابير والطيور ، وربما استغراقه في هذا الوادي المقدس يوحي له بما يوحي ، المقهى البسيطة في كل شيء تكمن في قلب الوادي هناك عارضتان جبليتان بارتفاع صغير ربما تحسبها هكذا وانت بالوادي لان البقعة بالأساس. هي قائمة على مرتفع عالٍ ، والحقيقة إنهما في غاية الارتفاع ، وسفحا الجبلين ينحدران بتداخل حيث يشكل احداهما منحنى لدرجة يبدو انه يحتضن الاخر والمساطب المدرجة التي صنعها المزارعون على السفحين اشبه بالجنائن المعلقة لكنها الى الداخل ، زرعت بأنواع مختلفة من الأشجار اغلبها من الجوز واللوز ،،والعرائش الغير منتظمة ،،باستثناء العريشة التي تسقف المقهى والمطعم بصفقة واحدة ،،عندما كان يجلس لتناول الفطور والشاي ،،يشعر ان عشرات العيون تراقبه من كلا السفحين ،،وسامته كانت محط جذب فضول الفتيات على الاقل هو. وسيم مقارنة برفاقه من الجنود ، رغم زيه العسكري البغيض ،،يسمع اللغط والهمسات التي يضخمها الوادي باللغة الكردية التي لم يفقه منها الا بعض كلمات ،،يتباطأ بتناول فطوره،،قبل رحلة الصعود الى الربيّة محملاً هو وبعض زملائه بالمؤن والبريد ،،ضوء الشمس لايزاور. مركز الوادي الا بعد منتصف النهار ، ليس اكثر من ساعة ( لو كان هناك اصحاب الكهف لفضلوا الرقود آبد الدهر ) ومع هذه الزيارة التي. على استحياء للشمس الا أن الضوء يملأ المكان بتناغم مع الوان الأشجار وملابس الفتيات ذات الألوان. الصارخة والواضحة المكان أشبه بالكبسولة الكبيرة ، كون منفرد لا علاقة له بالعالم الخارجي ،،ومع حذره الشديد بالتفاعل مع سكان القرية لانه بمطلق الاحوال يعتبر من قبل القرويين فرداً من قوة محتلة،مع ذلك لم يستطع مقاومة كل هذ الجمال البري للفتيات الممشوقات الجسم انخرط بعلاقة لا تتجاوز تبادل الإشارات. والابتسامات مع إحداهن لم تكن لغة الاتصال بينهما الا الجذب الهرموني متخطيًا كل التعليمات التي زودوا بها في مقر الفوج والتي مؤداها ان اي علاقة مع القرويين ممكن ان تؤدي الى كمين ،،لكن شغف الشباب لغة تتخطى كل الاوهام والحواجز ،،
مع كل هذا لاتحسب ان الصورة مكتملة فالجبل بعد ان يحل الظلام يولد شعورًا بالكآبة شديد الوطأة ،،والليل هناك بكل الاحوال طويل عدا أن القرويين يقومون بزرع الألغام. الصغيرة في المياسم. بين الربايا والوادي يزيد عن كل هذا الفوانيس النفطية بضوئها وسخامها المقرف ورائحة النفط التي تملأ الربيّة والخروج لاستنشاق الهواء يتطلب عناء كبير اذ عليه ان يردد كلمة السر الليلية عند الانتقال من موضع الى أخر ،،اما اسوء ما في الامر كان التدخين،، فدخان النفط بالربية لايسمح بمشاركة دخان السيجارة والتدخين خارج الربيّة يتطلب مراسيم في غاية الحذر ببساطة جمرة السيكارة تشكل هدف للقنص ليلًا والأكراد لديهم مهارة عالية في هذا الامر وهم الخصم الأقرب. من الآخر الذي يتمترس خلف الحدود المسافة. نوعًا ما بعيدة ،،هكذا تهرب المسرّات الصباحية عند غروب الشمس ،لكن اجمل الأوقات كانت عندما يكون واجبه خلال النهار او العصر حيث ينشغل بالناظور العسكري القوي والذي يدير وجهته بمراقبة البيوت في القرية وينشغل بالحركات العفوية للنساء ، بعد عدة واجبات اتخذ من احد البيوت هدفًا للمراقبة البيت في منتصف الجبل على جانبه الخارجي للوادي ومنعزل فيه ثلاث فتيات ورجل عجوز يخرج للرعي من الصباح الباكر وامرأة كبيرة ويلصق عينيه بالناظور ويتنفس كل الحركات وبما ان المكان منعزل كانت الفتيات في غاية الحرية لدرجة انه ينسج قصة لكل واحدة منهن معه في سريرته،،هكذا تتسع آفاقه بالمطلق مع محدودية المعطيات،،وتجمح الرغبة لديه لتتمطى في الأحلام فتارة يتخذ من الصغرى زوجة او الثانية او الاخرى ،،وأحياناً عشيقات متخيلًا نفسه ( كراكولا،،) الوقت المتثاقل يسمح بكل هذا القوس العاطفي والاخلاقي المتذبذب ، الامر كله مرتبط بموقف القرويين في الليلة السابقة ، اذ لم يحدث ان يرموهم بقذائف الهاون بعد العصر او لم يزرعوا الألغام ستكون رغبته اخلاقية ،،هكذا يتخذ موقعه في التمني بعلاقته مع الفتيات ، كان تواجده في هذا الرواق المعزول نتيجة لعقوبة عسكرية من قبل أمر الفوج ليس لسبب محدد فقط لانه لم يرق له
( ياللبؤس اسماعيل ما معنى كل ما مررت به ؟ - كيف سمحت لتلك اللحظات بأن تسفح ريعان شبابك ؟ - ببساطة كان يمكن ان تدير ظهرك لكل هذا الهراء المسمى وطن ،،فقط فقط كنت بحاجة الى ان ترسل نظرك ابعد من موقع قدميك بالتأكيد كنت ستنظر الى كل الأشياء بضوء مختلف - لا فائدة الآن من هذا اللوم )
توقف لشرب الشاي وحرق سيكارة عند اهم اطلال الحيدر خانة ،،عند بوابة مقهى حسن عجمي لايتجرأ. الدخول ، يشعر بأنها ستنهار باي لحظة مع ان هذه اللحظة عالقة بالانتظار منذ عقود طويلة ،،بناية يهودية تعود لبدايات القرن العشرين او ربما لزمن يوشع بن نُون انتبه لسجال بين شخصين تخطا الخمسين عمرًا ،،قال الاول - ان موعد اذان العصر هو الساعة الثانية و٢٢ دقيقة فيما اجاب الآخر بتعسف - انت مخطئ إنما و ٢٣ دقيقة ،،
وحدث نوع من المشاجرة والتعنت بينهما فتدخل قائلاً بتهكم - اجعلوا الامر مناصفة " واحفظوا لمكة هيبتها " فنظرا اليه شزرًا مما جعله ينسحب مسرعًا وهو يدمدم ( ياللعبط - احدنا بالمكان الخطأ على الأرجح انا او هؤلاء ،،ولم لايكون الرب ؟ ! التموضع سعد يا اسماعيل - ليشرأب عنقك حتى يكون لذة للسكين وأطفاءً لرغبة " ابراهيم " - مجرد حلم اراد ان يجعل منه جريمة - اراد ؟!! بل فعل ،، مجرد تشريع دور الأُضحية جريمة- والآن انت اسماعيل أخر - ياترى كم هو تسلسك بهذا الهدر الاسماعيلي )
مقطع من رواية ( حنبصة ) ،،يوميات اسماعيل
رقم الإيداع القانوني: المحلي والدولي المخطوطة في دار الكتب والوثائق ببغداد : ( ٢٠٥٥) لعام ٢٠١٧ في ٢٢ /٦/٢٠١٧
جمال قيسي / بغداد


الصورة الشعرية في نسج الشاعرة ريم البياتي دراسة نقدية في قصيدة (قيظ الجحيم) بقلم / الاديب كريم القاسم

الصورة الشعرية في نسج الشاعرة ريم البياتي
دراسة نقدية في قصيدة (قيظ الجحيم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مازال الحرف العربي هو الاتجاه المشترك الأكبر في بوصلة العرب الخَرِبة ، ولولاه لكان العرب كقهقهةٍ بين كؤوس الشراب ، أو فقاعة صابون لا تلبث ان تختفي فوق صحون مطاعم الغرب ، ولكان الليل طويلا ، والظلام كجحر ضبع ، والأدب مغيضا ، ، ولكان الفضاء يغصُّ بأسرابِ الجهل والظلالة والحَمَق ، لكنه الحرف العربي الذي يحتضن روحاً شفافة طاهرة ، حتى صار كالجسد المفتول الساعد لايقوى على فَـتّهِ كاسر ولا يقوى على إذلاله ناسِر .
ــ (ريم البياتي) اديبة عربية سورية ، وقلم ملتزم راعف ، سريعة التأثر بالموقف والحدث ، وتلتقط الثيمة العابرة لتحيلها الى قطعة نثرية زاهية ، أو نصٍّ شعري يفيض جمالا .
الجميل في نسجها هو الهمّ العربي المشترك الذي مازال يلفُّ جسد الامة ، فما من جرح نازف هنا او هناك إلا وكان لها صوتا مدوٍ لتضمّده بنصٍ ادبي يصرخ بكمٍّ كبيرٍ من الآهات والّلاءات الرافضة للخنوع والاستسلام .
ــ (ريم البياتي) تختزن كمَّاً وفيراً من اللفظ الفصيح والمعاني البليغة الرائعة . وهي تعرف كيف تنسج وتسبك جملتها الأدبية ، فلا تنسج الا رشيق اللفظ ، ولا تسبك الا خميل المعاني .
ــ بين أيدينا هذا النص الشعري الذي يمثل آصرة تلاحمية فاعلة في الجسد العربي ، والذي جاء صارخاً لحال مدينة (البصرة) العراقية ذات الاوردة المائية المتعانقة ، والغدران الاروائية المتفرعة ، لكنها تنتفض ظمأ ً وعطشا .
ــ الذي شدَّني الى هذا النص هو مقدرة الشاعرة على الاتيان بصور شعرية غاية في الرخاء والثراء. حيث افتتحت نصّها بأبتداء يحمل روح الوطنية الوهّاجة ، وهي تشارك الألم الممتد الى عمق العراق ، ولها وجدان يتشرب عمقاً ومحبة للعراق وشعبه ، وهذا من نبل الخاطر وكرامة المُحتَـد ليبقى الشعور العربي قلادة لاتقبل الانفراط رغم الانزياح الجغرافي البائس .
ــ لذا ابتدأتْ الشاعرة قصيدتها بسطرٍ جميل يحمل نداء للعراق :
" وربَّ دمي من بعض مائك ياعراق "
فهي قد إشارت الى (الماء) منذ الوهلة الأولى ، وسيكون هو مرتكز النص وحوله تدور الصور الشعرية الباذخة .
ــ الشاعرة لها بصمة واضحة وجليّة في نتاجاتها الأدبية ، وهي مقدرتها الكبيرة على رسم الصورة الشعرية بأتقان وحرفية ، مستخدمة سيلاً من الالفاظ والمفردات الفصيحة الموائمة للمعاني الجميلة المختارة .
(الصورة الشعرية) من المصطلحات التي يهتم النقاد بها ، حيث تربعت في نصوص الشعر القديم رغم اختلافها عما عليه الآن ، حتى اعتبرها (الجاحظ و الجرجاني) دلالة حسن التعبير وحسن الصياغة ، ولايقوم الشعر ألّا بها .
إن الصورة الشعرية تكشف عن اصالة تجربة الشاعر ، ومدى عمق رؤيته في صياغة نصوصه الأدبية . والنص الشعري الذي يكون عاريا من هذه الصور لايمكن ان يرتقي الى عتبات الابداع . فهي مخازن استعارة وتشبيه وكناية وعناصر بلاغية كثيرة وكبيرة. وتتولد هذه الصور من رحم خيال الكاتب او المؤلف ، والتي تترجم احاسيسه ليطلقها بصورٍ جاذبة لم تخطر على البال ، مما تولد لدى المتلقي حب المتابعة والاسترسال مع النص .
ــ استطاعت الشاعرة ان توظف هذه الصور الشعرية في هذا النص الادبي من خلال حركة إبداعية تناغمية ، لتناغي أحاسيس الشاعر العراقي الكبير (بدر شاكر السياب) رحمه الله تعالى ـ في شعرهِ ، وتعمل معه حواراً خطابياً رائعاً يكون محوره الماء من خلال سياحة أدبية فارهة بين متون قصيدة السياب (انشودة المطر ) وإطلالتها على قصيدة (النهر والموت) والتي سنعرض جانباً منهما وبما يخص تلك السياحة والمناغاة .
بعضُ اسطرٍ من (انشودة المطر)
للشاعر الكبير / بدر شاكر السياب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر"
" ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ "
" ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ... "
" تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ ."
" أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر "
"وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
" مطر ..
مطر ..
مطر .. "
...................................................
بعض اسطرٍ من (النهر والموت)
للشاعر الكبير / بدر شاكر السياب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" أجراس برجٍ ضاع في قرارة البحر
الماء في الجرارِ و الغروب في الشجر
و تنضح الجرار أجراسا من المطر"
" يا نهري الحزين كالمطر
أود لو عدوت في الظلام "
" لألمح القمر
يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
و يملأ السّلال
بالماء و الأسماك و الزهر"
" أودُّ لو غرقتُ في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
و أبعث الحياة إن موتى انتصار "
..............................................
وامامنا الان نص الشاعرة ريم البياتي والذي يحمل عنوان
( القيظ والجحيم)
ـــــــــــــــــــــــــــ
وربَّ دمي من بعض مائك ياعراق .
قيظ الجحيم ...
شاخت عيون النخل ،
وارتعش اليباس يحزُّ أوردة الشجرْ .
يابدر قم .
أين المطرْ ؟؟؟
عطشَ الفرات وضفتيه جرار ملحٍ
تحتسي ظمأ النخيل ،
وغضبة القيعان في حدق القمرْ .
سقط المطرْ ....
لكنّه في غفلة الفقراءِ
خالفَ دربهم ،
وهمى على ثغرِ الجرارِ هناك حيث يخزِّنونْ ،
حتى العُذيب هناك خالف طبعهُ ..
وكأنمّا دمع العطاشى .... لم يخالط سمعهُ .
ياربّ ....
حتى الماء في وطني تعلّم أن يخونْ ،
ويبيع قلباً للمجونْ ؟؟؟؟
من أين نرتشف الندى ،
وشفاه أهلي مذ أتانا السيل
غادرها الندى ؟؟؟
ياغربة الفقراء في وطن المياه ،
وأهله يتجرّعون سُعارهم* ،
وينازعونْ .
**********
ياعاشقاً ....
منذ اخضرار الأرض
و(الرعناء)* تزرعُ ضحكةً في وجنتيكْ ،
فتميل تلثم ثغرها المغناجِ .
تغسل ساقها الفضّي .
تغزل من أقاصيص الهوى لضفيرةٍ في الليل
تفرد جانحيها العاشقين
على لواعج راحتيكْ .
فمَن الذي أغراك أن تدع الهوى ،
ويغور شريان الحياة بمقلتيكْ ؟؟؟
*********
للبصرة الفيحاء من قيظِ الجحيم ،
كما بلادي ....
عطشٌ ....
فيا (أرض السواد) ..
بكلّ عصرٍ
يوصِدُ النمرود أبواب الحياة ،
فيفتح الأبواب أضعف خلقه .
ويموتُ صادي * .
عجزَ الزمان ومالَ يا ابن معرَّتي ،
وتغيّرت حُجُبَ الطريق ،
وأحجمتْ سفن الرشاد ،
فلْتَعْقَمِ السحب الهتون إذا تحجّر دمعها ،
واستعصمتْ تلقيه احمالاً ..
على تلك الوهادِ .
............................................................
* سعارهم : شدة عطشهم
*الرعناء : احد اسماء البصرة
* صاد : ساتر ومانع
ــ كعادتي أتقدم بعرض النصوص قبل الولوج في نقدها وتفحّص محطات الجودة فيها ، كي يستطيع المتلقي من الاطلالة والتعرف على ما سنتناوله في هذا المقال .
ــ اختارت الشاعرة قصيدة (إنشودة المطر) وهي من القصائد الفخمة للشاعر الكبير (بدر شاكر السياب) ثم عطفت على بعض جوانب قصيدة (الموت والنهر) فملأت مسقاتها عناصرا من هذا النص وذاك لتجعلها ركائز انطلاق في التأليف ، وانتخبت مفردات مثل ( بدر ـ المطر ـ عيناك ـ القمرـ الجرارـ النخيل ـ السحاب ... وغيرها) لتجعل من هذه العناصر مُـتَّكأ ً تنشيء عليه هيكلاً بالغ الروعة مزخرفاً بأجمل الصور الشعرية . ولم تطرّز قصيدتها بصور شعرية مُستقاة من نصوص شاعرنا السياب ، بل احسنت النسج والتصوير المستقل حين جعلت النص كتلة كبيرة من النداء المُكرَر والذي ابتدأته بـ (يا بدرُ قُـمْ) لتُـريهِ ما وصل اليه حال الماء و(المطر) ، والحال المزري للجرار التي كانت متخومة بالماء ، وكيف ان النخيل المعانق للشطآن بات أعجاز نخل خاوية . وهذا التناغم الندائي بمراميه المتعددة قد اعطى للنص قيمته الإبداعية والبلاغية البارزة والظاهرة امام الذوق السليم .
ـــ هكذا نص يعكس دراية الشاعرة وسعة إطلاعها على تجارب الشعراء الكبار الرواد في الوطن الكبير ، ويعكس كذلك نوعا من الابداع في هيكلة هذا النص . فالشاعرة ارادت ان تخاطب عطش البصرة وجفاف أنهارها ، فوضعت امامها رمزاً بصرياً وهو الشاعر الكبير (بدر شاكر السيّاب) لتنطلق من خلاله الى ما تصبو اليه .
والسؤال : لماذا السيّاب دون غيره من ادباء البصرة ؟
الجواب : لان السياب هو ابن البصرة ، وابن مدينة (ابي الخصيب) المدينة الخضراء ، ذات الشبكة الكبيرة من الأنهار والسواقي . ثم ان السياب هو أكثر مَن خصص قصائداً قد نَطقَـتْ بحروفٍ كُـتِـبَـتْ بماءِ هذه الانهار ، بل وخاطب حتى المطر ، وهذا الاختيار الذكي يُحتسَب للشاعرة ، وهو عنصر جودة وابداع في كنانتها ، ودلالة حُسن اطلاع على قصائد وأدب الكبار.
ــ منذ الوهلة الأولى أسَّسَت الشاعرة ركناً انتمائياً روحياً وجدانياً ، فنسجَتْ سطرها الأول :
" وربّ دمي من بعض مائك ياعراق . "
ثم مالبثت ان أردفته بصورٍ جميلة أخرى توضح فيها طعم الجفاف المر الذي حلَّ بالرافدين :
" قيظ الجحيم
شاخت عيون النخل
وارتعش اليباس يحزُّ أوردة الشجرْ "
هذه الصورة الشعرية النبيهة قد أجادت في وصف عمق الجفاف ، وامتداده من الأعلى حتى الأسفل ضمن فضاء تخيلي رائع ، وهذا يبدو واضحاً في موت الثمر في عذوق النخل (شاخت عيون النخل) وجفاف عمق الأرض لتموت جذور الشجر (وارتعش اليباس يحزُّ أوردة الشجرْ)
ــ وبعد هذا المطلع والابتداء المكثف الجميل جاءت الشاعرة بنداء مباشر الى شاعرنا الكبير (السياب) لتبدأ بسرد الحال الآني ، وتُخبرهُ بأن ما وصَفْـتهُ في قصائدكَ وكل الامنيات قد تلاشت . لذا فقد استخدمَت الشاعرة فعل الامر (قُـمْ) وكأنها تريد أن توقضه من مضجعه لتشرح له الحال ، ولولا هذا السطر لاصبح نسجها لاقيمة له ، فالخطاب لايسمعه الموتى ، انما بهذا السطر قد هيأت عتبة الدخول الى القصد والمرام والهدف واستجمعت ندائاتها (السبع) .... فقالت في اول نداء :
" يا بدرُ قُـمْ "
وهكذا افتتاح لمقطع النص هو من ابلغ الابتداءات وأرزنها ، فهي تبلّغ المتلقي بأن ماسيندرج تحت هذا النداء هو مستوحى من احاسيس هذا الشاعر الكبير لكنه جاء بلغَةِ اليوم وعنوان القادم .
ـــ إن شاعرنا السياب يتغنى بالمطر في قصيدته الرائعة (إنشودة المطر) ويكرر مفردة المطر عدة مرار ، فيقول :
" مطر ...
مطر ...
مطر ... "
حتى انه يضع ثلاث نقاط بعد كل مفردة (مطر ... ) للدلالة على اتساع فضاء المعنى للمطر ودلالية غزارته . لذا فقد وضعتْ الشاعرة احاسيس هذه القصيدة نصب عينيها لتستوحي منها مايقدح المَلَكَة .
من هذا الفيض الجمالي الوافر بالاحاسيس والبيان الساحر في نسج (السياب) تلقي الشاعرة ريم البياتي تساؤلاً :
" أين المطرْ ؟؟؟ "
ــ والسياب يصف فيض الماء وغزارة المطر باجمل وصف عندما يقول :
" الماء في الجرارِ و الغروب في الشجر
و تنضحُ الجرارُ أجراسا من المطر"
فتتوغل الشاعرة في نسج السياب لتناغمه وتبعث حسراتها وألمها وتخاطبه بأجمل خطاب :
" عطشَ الفرات وضفتيه جرار ملحٍ
تحتسي ظمأ النخيل ،
وغضبة القيعان في حدق القمرْ "
ــ ثم ترنو الشاعرة الى قول السياب وهو يراقص بألفاظه قطرات المطر :
" ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ... "
ــ فتجيبه الشاعرة بنسج جميل والفاظ بهية قد لَـفَّـتْها غصة كبيرة فتقول
" سقطَ المطرْ ....
لكنّه في غفلة الفقراءِ
خالفَ دربهم ،
وهَمى على ثغرِ الجرارِ هناك حيث يخزِّنونْ "
ــ هنا تبعث الشاعرة خاطبها الى السياب وتصف له الحال بأن المطر قد نزل لكنه لم يملأ جرار الفقراء هذه المرة ، وصوته لم يدغدغ صمت العصافير على الأشجار ، فلقد نزل ليملأ اودية وجرار الأغنياء ــ والمطر هنا جاء رمزاً للخير والمال ــ حتى سال من خزائن السرّاق لكثرته تاركاً الفقراء يلهثون . هنا استخدمت الشاعرة إشارة قوية لتصوير تغيّر النبض السياسي واستهتار المسؤولين بمقدرات البلاد ، ونهب خيراته . وقد نسجتْ الشاعرة قُماشتها بالفاظ رشيقة مدروسة . مثلا في استخدام لفظة (هَمى) بمعنى (سالَ) وهو استعمال مناسب جدا لصورة امتلاء الجرار ، حيث يفيد التدفق والانسكاب .
ــ يصف السياب هذا النهر المتدفق بالمياه والخير والبركات ، فيأتي بكل لفظ جميل بليغ يعبر عن نشوة هذا النهر وازدهاره في تلك الفاصلة الزمانية فيقول :
" لألمح القمر
يخوض بين ضفتيكَ يزرع الظلال
و يملأ السّلال
بالماء و الأسماك و الزهر "
ــ فيأتي حوار الشاعرة بأسطر معطوفة على ماسبق لتكمل الوصف وكأنما تقول للسياب :
ليتك تدري بحال الأنهار هنا ، حتى (العُذيب) ـ وهو رافد قرب مدينة قادسية العراق ـ قد غيَّر جريانه ، وتوقف لنضوب مائه .... فتقول :
" حتى العُذيب هناك خالف طبعهُ ..
وكأنمّا دمع العطاشى .... لم يخالط سمعهُ . "
ــ لنتأمل هذا الوصف في السطرين أعلاه ، فما اجمل المجاز في وصف جفاف النهر عندما تقول (حتى العذيب هناك خالف طبعهُ) ثم تنسج تشبيها بلاغيا رائعا لتزيد الوصف بغصّة أخرى وهي تصف توقف هذا النهر عن الجريان ، وكأنه لم يسمع صراخ العطاشى ، لكن المُلفِت للنظر أن الشاعرة لم تستعمل لفظة (صراخ) او (بكاء) بل جاءت بلفظة (دمع العطاشى) فهل يُسمَع الدمع ؟
نعم ... هذا ما نوصي به في التعبير واستخدام المجازات لتفعيل البلاغة ، فالشاعرة استخدمت مفردتي (دمع ـ يخالط ) في تركيب هذا السطر ( وكأنمّا دمع العطاشى .... لم يخالط سمعهُ) والدمع أحيانا يكون ابلغ في إيصال وتصوير الألم للمتلقي ، وهذا من أروع الاقتباسات والاستعارات في التعبير ، وهو الذي صبغ هذه الصورة الشعرية بهذا الفضاء البلاغي المهيب ، فالدمع عنوان البكاء ، والسمع لاينفرد في التحسس للبكاء فقط بل تخالطه الكثير من الأصوات والاستغاثات الأخرى ، فمفردة (خالط) جاءت في محلها وهذا نسج ذكي .
ــ الآن أضع العدسة على مقطع كبير بصورته الشعرية وبليغ في اشارته ، وكم توقفت عنده للتبضع من جماله وروعته :
" ياربّ
حتى الماء في وطني تعلّم أن يخونْ
ويبيع قلباً للمجونْ ؟؟؟؟ "
ــ هذا التصوير يحتوي على كمٍّ كبير من الحس ، وهو يحمل استعارة كبيرة رغم بساطة الالفاظ وابتعادها عن التعقيد والفخامة ، إلا انها رُصِفَت بيد نسّاج ماهر، فحبكت الشاعرة خيوطها بمتانة ، وأتت بنداء استغاثة ابتدأته بـ (يارب) ، ولشدة تأثر الشاعرة من خيانة الكثير لاوطانهم بل وبيعها بأبخس الاثمان نراها ترسم هذه الصورة المعبرة المبهرة ، وتستغيث بالخالق من أن حتى الماء في الوطن تعلم ان يخون ، ويبيع ضميره وجوهره ليصبّه عنوانا للعبث واللهو والمجون ، وهذا ما لايناسب مقام الماء الذي هو رمز الحياة ، لكن استفحال الخيانة وتراكم الفساد الإداري هو الذي صنع هذا الجفاف ، وجعل الكل يتعلم هذه السمة الخؤونة وكأنها صارت خلقا جديدا .
أليس هذا التصوير يستحق الثناء ؟؟
ــ الشاعر الكبير (بدر شاكر السياب) وكأنه يقرأ المستقبل فيصور الحال ويقول ، رغم وفرة خيرات بلادي ، وزهوّ أنهارها ، وتراكم سحبها ، وغزارة امطارها ، وتزاحم ازهارها التي ترَبَّتْ وتغذَّتْ على ماء الفرات ، إلا ان رحيقها مازال ممنوعا على ذائقة الفقراء ، لوجود الف افعى والف سارق وناهب وفاسد قد إستحوَذَ على ما لا يستحق ... فيقول :
"وفي العراقِ ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى ."
ــ بعد هذا السيل الادبي الجارف ، نلاحظ الشاعرة تشاطر السياب هذا الاستنتاج والاستقراء الذكي فتشاركه الخطاب بأن (حتى الندى قد غادرنا منذ ان أتاها السيل ) وهذه صورة شعرية أخرى بليغة ، والسيل هو الماء المتدفق الجارف لكثرة الامطار وغزارتها ، لكن كيف لهذا الكم المائي الوفير أن يُخفي الندى ؟؟
فالسيل المعنيُّ هنا هو مجاز للسيل السياسي الذي كنا نتوقعه خيراً فجاء محملاً بالخيانة ، وجارفاً لكل خير . ثم تردفه بنداء تعجبي وكأنها تقول (يالغربة الفقراء في وطنهم الذي عنوانه الماء لكثرة انهاره وغدرانه ، فحتى الندى الذي وصفه السياب قد غادر ازهاره ، ولشدة العطش باتوا يتجرعون النزع الأخير) فتُصوِر الشاعرة هذا الحال في اجمل خطاب :
" من أين نرتشف الندى ،
وشفاه أهلي مذ أتانا السيل
غادرها الندى ؟؟؟
ياغربة الفقراء في وطن المياه ،
وأهله يتجرّعون سُعارهم ،
وينازعونْ . "
ـــ تخاطب الشاعرة شاعرنا السياب ، والذي تغزَّل بحبيبته التي يعشقها وافتتح قصيدته متغزلاً بعينيها :
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ "
ــ لقد استخدم (السياب) في وصفه لحبيبته كل مفاصل الجمال الطبيعي في البصرة و العراق ، حتى ان بعض النقّاد جعلها في مرتبة القصائد السياسية لشدة عمقها الوصفي لمفاصل الطبيعة .
ــ لا تلبث الشاعرة ان تأتي بنداء آخر للسياب وتناديه بـ (العاشق ) وتذكّره بجمال مدينة البصرة وفضلِها على الجميع لكثرة خيراتها . حيث استخدمت لفظة (الرعناء) في تسمية (البصرة) وهي تسمية يعتبرها البعض انها مشتقة من (رعن الجبل) أي مقدمته ، لكن (الجاحظ) يميل الى ان سبب التسمية يعود الى تغير طقسها على مدار اليوم ــ وأنا أميل الى هذا التعليل ــ كون البصرة منخفضة السطح لايتطابق وصفها بـ (رعن الجبل) وهي متقلبة الطقس في اليوم الواحد فعلا لتنوع مايحيط بها من عوامل بحرية ، وكثافة نبات ، ومسطحات مائية (أهوار) وصحراء وغيرها من المؤثرات .
فتلوم الشاعرة السياب لتركه العشق ، وتتسائل مَن الذي اغراك يا أيها السياب العاشق لتترك العشق ، وقد اشارت هنا الى فراقه للحياة ، وهي بهذا تتمنى ان يكون (السياب) حيّاً عاشقاً خالدا ليخلد معه ماء ومطر البصرة في قصائده .
ــ ثم تقول الشاعرة ان ما وصفه السياب من خير وجمال في طبيعة البصرة والعراق قد غار ونضب . ولذكائها جعلت غور الماء في (مقلتي) السياب ، كي تأتي باجمل نشيد وصفي :
" ياعاشقاً ....
منذ اخضرار الأرض
و(الرعناء) تزرعُ ضحكةً في وجنتيكْ ،
فتميل تلثم ثغرها المغناجِ .
تغسل ساقها الفضّي .
تغزل من أقاصيص الهوى لضفيرةٍ في الليل
تفرد جانحيها العاشقين
على لواعج راحتيكْ .
فمَن الذي أغراك أن تدع الهوى ،
ويغور شريان الحياة بمقلتيكْ ؟؟؟ "
ــ ثم تميل الشاعرة بكفتها الشعرية المدهشة لتربط الوترين معا ، كونهما يعزفان ذات اللحن وذات الألم ، فتخاطب (سوريا) وتقول بأن حال البصرة العطشى وحزنها كحال بلادي ، وتضع ندائها (فيا ارض السواد) ــ وكان جنوب العراق يسمى بأرض السواد لتزاحم نخيله واشجارة ولكثافة زرعه ــ ثم تعطي استذكارا رائعاً بأن الحال على مرِّ العصور عندما يأتي الطغاة كالنمرود فإنهم يوصدون أبواب الحياة امام شعوبهم وامام الفقراء ، لكن الله سيعطف عليهم ، ويجنّد اضعف خلقه كـ (البعوضة) حين أرسلها للنمرود لتطيح بكبريائه وجبروته ــ وهنا جاءت بالبعوضة رمزاً للفقراء ــ وقد جاء هذا النسج بصيغته المكثفة الدالّة على حكاية تاريخية ، حيث استطاعت الشاعرة ان تقدمها بذكاء ، وخاصة عندما ختمت المقطع بـ (ويموت صادي) أي مَنْ غلَّق أبواب الحياة امامي :
" للبصرة الفيحاء من قيظِ الجحيم ،
كما بلادي ....
عطشٌ ....
فيا (أرض السواد) ..
بكلّ عصرٍ
يوصِدُ النمرود أبواب الحياة ،
فيفتح الأبواب أضعف خلقه .
ويموتُ صادي . "
ــ هكذا نص ابداعي لابد للشاعرة ان تختمه بمقطعٍ لذيذٍ يبقى طعمه غافياً على لسان متذوقيه ، فتضع ندائها السابع لأبن (معرَّتها) فتقول :
" عجزَ الزمان ومالَ يا ابن معرَّتي ،
وتغيّرت حُجُبَ الطريق ،
وأحجمتْ سفن الرشاد ،
فلْتَعْقَمِ السحب الهَتون إذا تحجّر دمعها ،
واستعصمتْ تلقيه احمالاً ..
على تلك الوهادِ ."
ــ والمعرَّة تعني الأرض القليلة النبات ، وهذه الكنية ذكية التعبير والاشارة ، ثم توضح كيف تغير الحال ، مستخدمةً الفاظاً غاية في الروعة وفي تناسب وتناسق تام مع المعنى .
فمثلاً (تغيرت حجب الطريق) أي الحواجز والتفرعات ، وكذلك استخدامها لهذه المفردات في العبارة المجازية الكبيرة (أحجمت سفن الرشاد) أي توقفت وامتنعت العقول الراشدة السويّة عن الإبحار . ثم تأتي بلفظة (هَتون) في عبارة (فلْتَعْقَمِ السحب الهَتون إذا تحجّر دمعها ) والهتون على وزن (فَعول) من صيغ المبالغة وتعني السحب الغزيرة المطر ، والعبارة برمَّتها هي تصويرٍ مجازيٍ هائل ، وتصوّر التفجّر لأحاسيسِ الشاعرة (ريم البياتي) وصرختها المدوية ، حيث وصفتْ الحال بأن هذه السحب الثقال المحملة بالمطر الغزير إذا امتنعت عن المطر فوق سهولنا وأوديتنا ولن ترمي بأثقالها لتروي الظمأ فلتكن عقيمة خيراً لها ولتفارق عنوان المطر.
وياله من ختامٍ بارعٍ ..... فلنتأمل هذا الختام :
" فلْتَعْقَم السحب الهَتون إذا تحجّر دمعها
واستعصمتْ تلقيه احمالاً
على تلك الوهادِ "
• المتأمل في هذه الصور الشعرية يجدها هي قلب بل وجوهر النص ، فلا معنى للنص دون ان يبعث فينا شيئاً من التأمّل والمفاجأة والدهشة ، لان الصورة الشعرية مرآة المجاز ، ودقة فَن النسج ، وبلاغة الخطاب . وهكذا إشارات وصور مجازية ايمائية هي التي تُدهِش الخاطر ، وتكشف للناقد قوة ونوع قلم هذا الشاعر أو ذاك . وهذا النهج يحتاج الى قوة خاطر ، وخزين معرفي لايستهان به ، وتجربة ودراية فاعلة . ولن يتأتى هذا إلّا من خلال الاطلاع على تجارب الكبار من الادباء وفحولهم ، ومتابعة النقَّاد لمعرفة مكامن الجودة ، ومحطات البلاغة والابداع في النسج والنظم . فلربما تأتي الصور الشعرية بمدلولات مغايرة للهدف والمرام من غير معرفة وادراك فتقلب النص راساً على عقب .
• ظاهرة تكرار النداء في ثنايا النص بـ (سبع مرات) هو ظاهرة صحية وتوكيدية ، فالنص بُنيَّ كله على مخاطبة عناصر قد ثبتتها الشاعرة امام بوصلتها التوليفية وهذا النداء اعطى مسحة بلاغية هادفة للنص .
• النص من النسج الرائع والرصف المتين ، ويحمل سمات الجودة والذكاء والابداع .
• استطاعت الشاعرة (ريم البياتي) أن تناغي وتناغم روح الشعر في قصيدتي شاعرنا الكبير(بدر شاكر السياب) دون المساس بالهدف والفكرة ، بل نجحت في عرض استقلالية بصمتها الأدبية من خلال توليفة ذكية مكتنزة بالمعرفة والنباهة.
• استعملت الشاعرة في نسجها لقصيدتها أسلوب التصوير المدهش من خلال ربط عناصر مادية بأخرى معنوية مع استثمار صورٍ متناقضة لتضفي على النص سمة الدهشة والجذب مستخدمة الأسلوب الطلبي وهذا ماظهرَ من خلال توافر الأمر والنداء والتعجب والاستفهام والتكرار وغيرها .
• من الجميل والابداع أن يعمل شعرائنا هكذا اسقاطات وسياحات أدبية في حقول وبساتين أدب الكبار لغرس شتلات ازهار جميلة عبقة تنشر ضوعها بين الارجاء متمثلة بصور شعرية بليغة متينة السبك والنسج بشرط الحفاظ على الثوابت وأدب النفس والدرس .
تقديري الكبير ....

.