الأربعاء، 15 مايو 2019

قراءة في كتاب مقترح د. جنان محمد



يحدثنا (أدونيس) عن الشعر قائلا :
(( .. والشعر تأسيس، باللغة والرؤيا: تأسيس عالم واتجاه لاعهد لنا بهما، من قبل. لهذا كان الشعر تخطياً يدفع إلى التخطي. وهو إذن ، طاقة لاتغيّر الحياة وحسب، وانما تزيد، إلى ذلك، في نموّها وغناها وفي دفعها إلى الأمام وإلى فوق))
_______________________________
و في هذا العمل يأخذنا الأديب الرائي "غازي الموسوي" والذي لقب ب"العراف" (إشارة الى تملك المعرفة ) في رحلة ممتعة ، لنقرأ قصيدة إشكالية و أدباً إنسانياً رقيقاً يتسلل إلى أعماق نفوسنا؛ ليزيد من شغفنا بمتعة التذوق والمعرفة وهو يقول :
" غداً سأطلق 
أزمة الكلمِ الجيادِ
هكذا… 
وبعد غد
سأُرخي
أعنةَ الهيام الأخضرِ "
فللموسوي إنتاج أدبي وفير، متعدد الأنواع والأغراض، ذو ظلال بعيدة المدى في دنيا الأدب، غني بالمواضيع الكثيرة التي يموج بها العصر .. و يعد لغناه الفكري وعطائه الأدبي، أحد أبرز أدباء العرب المعاصرين في الكتابة نقدا وشعرا و نثرا ، وقد قدم للأدب العربي أعمالاً أدبية قيّمة، في المجالات الشعرية و النقدية"..
يمتاز الموسوي بشكل عام بأجوائه المتفردة التي تنتزعك من نفسك لتأخذك معه في أسفاره الجميلة والعميقة في آن .. وليس سهلاً أن نتقن مزج كل ذلك في النص الواحد ..
ويمتاز نصه هذا بشكل خاص بالنزعة الرومانتيكية، وصفاً ومضموناً ومزاجاً، فقد مجد مفهوما ساميا للحب ، وتغنى به، وناجى الجمال، وهام به :
"ومن فلكِ النورِ
ومحفلِ الحبورِ
ساغني بحريةٍ 
لم يعهدها رهقُ الخليقةِ
حريةٍ كاملةِ البهجةِ
حدّ االنشوةِ
حد الغشوةِ
وحدّ الانعتاقِ البهي… "
...............................
كان للحوار المعتمل بشاعرية بالغة دفة يدفعها شاعرنا ببراعة تارة اتجاه نفسه وتارة صوب المحبوبة التي شغف بها _حتى أنه صنف عشقه الأزلي نوويا _ حلق بنا من الواقع إلى عالم من الفلسفة والخيال بعيدا عن الأعراف المقيتة وضاربا إلى جذور الحب والخير المتأصلة في الإنسان والقوى الخفية التي تديرها ..حقيقة نحدسها ..نعرفها ..و لا نستطيع التعبير عنها، إلا أنه بلغته التي تمتلك نواحي السهل الممتنع، يمتع العقل والروح بتلك المعاني، وبتلك العبارات التي تختزن فلسفة عميقة يعبّر عنها بما قلّ ودلّ من الكلمات :
"إنّ السلوك اليكِ
مرهونٌ
بنوع جديدٍ من الحبِّ
محفوزٌ بسياقٍ جديدٍ
من التمرّدِ المخمورِ
السكر الحلال الذي
لا يخضعُ لأعرافِ القبيلةِ
او جليدِ الكهنوتِ..
........................
" مرة 
سألتُ نفسي 
-كيف سيكون 
هذا العشق النووي
بعد الف ونيّفٍ؟!
وكان عليَّ 
أنْ أُحسِنَ الإصغاءَ
إلى صوتِكِ العميقِ "
...........................
الحب عند الموسوي قدسية مطلقة.. وحي وإلهام وقوى خارجية تساعد على الخلق والإبداع ..
يروّض مع ذاته ألحان الشجن حيناً... ويتغنى بالحبيبة الأعجوبة _سيدة البحار السبعة والآفاق السبعة _ حيناً آخر...
"يا سيدةَ البحارِ السبعةِ
والآفاقِ السبعةِ
تعلمين جيداً
انّ الحبَّ روحُ الجمالِ
ولاجمالَ بلا حبّ " 
................................
ينشط خياله ويتزود من مخزون الأساطير فيتلقفه ذهنه ليحكم الرباط على خيالات وصور تكون بالانتظار أبداً وتستعيد حروفه دور الأوتار فتلهم الأنامل بسر اللحن القديم ..
تتلاحم المفردات... تتظافر مع الخيال الشاعري ، 
لتصير باللحن، مع العبارات المرهفة نسيجاً واحداً يتزود النسيج الشعري من دبيب الأنامل .. و من انطلاقة اللحن، 
ليكوّنا معاً، نشيداً شجياً لذيذاً :
" لستُ معنياً بالهزيعِ الباردِ 
من حولي 
أفترعُ كلَّ ما يُحيطُني 
من ركامِ الصدأِ الطامي
أشهقُ برأسي 
محلّقاً بأحلامي
إلى حيثُ السدرةِ العتيقةِ"
....................................
نغمات الموسوي الآتية من وراء الزمان تتقاطر سطوراً... تطرب النفس وتثري الذهن ... وتُجَيّش في الوجدان المعاني الإنسانية... تحلّق بالقارئ بعيداً تعبر به الأماكن و الأزمنة لتستقرّ به في أرض رياحها ألحان تعزفها نفسه... تعزفها روحه لَحْنَيْن؛ لحنُ الصوتُ، ولحنُ النسيج يأخذانه بعيداً... فينبثق من المقلة أحدهما، ويولد في القلب آخر :
" يا أيتها الجميلةُ المفردةُ
والمفردةُ الجميلةُ!!
لا نهايةَ لهذا الرعافِ المجيدِ
ولو اطلقتُ عنانَ الرياحِ 
لما توقف الغمامُ الثّقالُ
عن المطرِ
ولما توقّفتْ اعشابُ الصفحاتِ
عن الاخضرار...."
...........................................
خيال رائع ..تصوير فني متقن .. أبجدية متناهية الدقة تشعرك أنك رفيق حاضر في هذه الرحلة..
عندما قلت أن النص يدخل المتلقي في أجواء "العراف" كنت أعني ما أقول ..كمتلقية.. واحتجت زمنا للعودة من أجوائه لأستطيع الكتابة عنها ..
مايميزه هي قدرته العجيبة على خلق نص فلسفي متقن وتفاصيل رمزية كثيفة وطويلة دون أن تشعرنا بالملل لأن النص مكتنز بالشاعرية في نفس الوقت ..عالمه غريب وممتد، كأني أقرأ في قلب الأفق المفتوح .. 
و هذه القدرة الفائقة للموسوي تجعله مميزاً جداً في تحربته عن أدباء عصره..
كل شيء يتداعى وينهض من جديد بطريقة مبتكرة ..
تنقلنا بسحر إلى ما يريد ..
يحضرني قول (أدونيس) : "لابد لهذا العالم، إذن، من الرفض الذي يهزه، لابد له من قصيدة النثر كتمرد أعلى في نطاق الشكل الشعري"
أخيراً أقول : إن هذا العمل موضوع البحث ، فضلاً عن أهميته في إثراء الحركة الأدبية 
فهو يقوّمها نفسها، حين ينصف أساساً من أسس بنيانها المتكامل المتمثل في قصيدة النثر ..
يقول (أنسي الحاج) : 
_______________________________
"إن أهميتها-قصيدة النثر- لا بالقياس الى الانظمة المحافظة في الشعر وحسب، بل بالقياس إلى أخواتها من الانتفاضات الشعرية كالوزن الحر. إنها أرحب ما توصل اليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في آن واحد )) ..
……… 
نص الشاعر:
……………….
في محفل الحبور
….………………….. 
غداً ساطلق 
ازمة الكلمِ الجيادِ
هكذا… 
وبعد غد
سأُرخي
اعنّةَ الهيام الاخضرِ
اعلمُ
إنّ السلوك اليكِ
مرهونٌ
بنوع جديدٍ من الحبِّ
محفوزٌ بسياقٍ جديدٍ
من التمرّدِ المخمورِ
السكر الحلال الذي
لا يخضعُ لأعرافِ القبيلةِ
او جليدِ الكهنوتِ
هذا طيفُكِ 
يسكنُ اضلاعَ التكوينِ
روحاً طالما أدهشني
فكانَ وجهَ المرآة الوحيدِ
مع تنوع المرايا
لن ارمي حجراً
ولن اكسرَ وجهاً
فلستُ جميلاً وحدي ابداً
وما انا 
سوى باحثٍ عن قريني
غير عابئٍ بسنيني
او ظنوني
اعرف أنكِ 
في سرادق الحقيقةِ
صنوي… 
وكلُّ الاماني الكبار
إذْ لا يقدر على طاقتي
ولا يُطيقُ موجتي
سواكِ
مرةً
سالتُ نفسي 
-كيف سيكون 
هذا العشق النووي
بعد الف ونيّفٍ؟!
وكان عليَّ 
أنْ أُحسِنَ الإصغاءَ
إلى صوتِكِ العميقِ
-ايها المشبوبُ الازليُّ
سيزيد نبضُكَ فرفرةً لاهبةً
وسيكبرُ حبُّكَ 
على قدرِ مساحةِ هذا العالم !!
وهاهي نبوءتُكِ
تنمو وئيداً 
كيف كان ادمُ يتحقّقُ رويداً
انا هو الان..
فردوسيٌّ 
بكامل قلقهِ المتنبّي
لستُ معنياً بالهزيعِ الباردِ 
من حولي 
أفترعُ كلَّ ما يُحيطُني 
من ركامِ الصدأِ الطامي
اشهقُ برأسي 
محلّقاً بأحلامي
الى حيثُ السدرةِ العتيقةِ
ومن فلكِ النورِ
ومحفلِ الحبورِ
ساغني بحريةٍ 
لم يعهدها رهقُ الخليقةِ
حريةٍ كاملةِ البهجةِ
حدّ االنشوةِ
حد الغشوةِ
وحدّ الانعتاقِ البهي…
وهل من طائر 
سيطيرُ معي 
غيركِ ياحبيبة الرؤى
ويا جذوة الشغفِ المُعتّقِ
في دِنانِ الدخيلةِ؟!
لا تُجيبي
انا من سيجيبُ
-كلا والف كلا!!
فلا تُقصقصي
قوادمَ الصقرِ النبيلِ
لا تنتشي
خوافيَهُ السادرةَ هياماً
لا يحقُّ لكِ ذلكَ
واعلمي
انّ الغيابَ 
يسبّبُ الإرتيابَ
والارتيابُ يسبّبُ الخيبةَ
والخيبةُ تسبّبُ الفشلَ ..
يا سيدةَ البحارِ السبعةِ
والآفاقِ السبعةِ
تعلمين جيداً
انّ الحبَّ روحُ الجمالِ
ولاجمالَ بلا حبّ
ألا ..
يا ايتها الجميلةُ المفردةُ
والمفردةُ الجميلةُ!!
لا نهايةَ لهذا الرعافِ المجيدِ
ولو اطلقتُ عنانَ الرياحِ
لما توقف الغمامُ الثّقالُ
عن المطرِ
ولما توقّفتْ اعشابُ الصفحاتِ
عن الاخضرار....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق