الخميس، 14 مارس 2019

قراءة نقدية لنص الشيخ الشاعر احمد الخليلى :بقلم الاديب إحسان الموسوي البصري

قراءة نقدية
لنص الشيخ الشاعر احمد الخليلى :
الاديب إحسان الموسوي البصري
**************************************
ليس الحديث عن الشعر وتحديد معناه أمرا يسيرا في ضوء النظريات النقدية الحديثة من حيث تعدد وجهات النظر المختلفة تبعا لاختلاف مذاهب الشعراء الفكرية والفلسفية.
فمن الشعراء ما كانت قصائده مستوحاة من الطبيعة إيمانا بمقولة أفلاطون الخالدة(إن الفن محاكاة للطبيعة).
ومنهم من ذهب إلى تجسيد واقعه الإجتماعي والسياسي والاقتصادي على القرطاس بانهمار منقطع النظير ، معتقدين بذلك إن هذه الظاهرة ليست نوعا من اللهو بل هي نشاط ذاتي يهدف إلى خلق بيئة أخلاقية واعية ، أو بالأحرى أداة لتحقيق الترابط الإجتماعي من خلال الاندماج مع متطلبات وأحاسيس أبناء المجتمع .
وأعتقد القسم الثالث أن القصيدة تعبير عن رغبات الشاعر المكبوتة وتنفيس عن ذاته السجينة في أكثر الأحوال ، وذهب إلى ذلك "فرويد" وتلاميذه.
إذا فالقصيدة إبداع ونشاط خلاق يُستجلى الجمال من بين سطورها بما تتضمنه من دلالات ومعان جاءت وفق رؤية الشاعر الذاتية المفعمة برهافة الإحساس والقدرة على نقل تلك الأحاسيس إلى ذهن المتلقي بكل سهولة ويسر.
ولعل هذا ماجعلني أقف بإجلال إزاء نص شعري كبير ولم أمر من أمامه مرور الكرام.
فأنا الآن أقف مباشرة أمام قصيدة نثرية لشاعر خصه الله تعالى بإحساس مرهف وانفعال قوي ووجدان عميق.
ولعلي أحيط بجوانب هذا النص الرائع المترامي الأطراف.
حيث انني كلما تغلغلت في بواطنه متلمسا جذوره يخيل إلي انني شاهدته للمرة الأولى ، مع أنني شاهدته مرات ومرات.
ولأجل تسجيل المظاهر الحية والولوج مجددا إلى الصور الحيوية والحقائق الموضوعية في هذا النص دعونا نتلمس عن قرب صدق هذا الشاعر وإخلاصه في التعبير عن مشاعره وعواطفه وآرآئه ، والإعلان عن مهارته الخاصة وذوقه الشخصي .
نص الشاعر:
********************
على شفا حال مستعارة:
*******************
حرمان
يشب حتى الريق
فيخنق صهد الزفير الشهيق
يا بشرة الوقت يا وجهى
أكنتِ دمية أضرب فيها
كل حرمانى ؟ !
أم كنتِ الصديق ؟
أكنتِ فى ظن احتمالاتى قيودى
أم كنتِ الطريق ؟ !
يا نديا جففته
الشمس المارقة
يا حيرة النفس
يا مجهة حارقة
متى يصطفى الأيك
طير العصافير ؟!
متى تنام عين التدابير ؟!
عن صبية يلعبون فى براح الوقت
ينثرون الروح حبا فإذا الثرى
حياة تدب وعطر يفوح
هكذا انفصامى أحبه
وهكذا ألف مليون أنا !! معذبون
ومطروحون وطارحون
صنارات الأمل فى محيطات المنى
ومحيطات المنى باتت
بلا سمك بلا صدف
باتت والملح فيها بلا خبز
وبقايا جماجم
سرقت منها الحياة
هكذا انفصامى أحبه
وهكذا ألف مليون أنا
وحيدون فى وحشة الحياة
نستأذن الإرهاق فى خطانا
لنترك طوق النجاة
فى الورقة رسمت عصر المستحيل
فقط على الورقة
رسمت السلحفاة
أمنة بلا درقة
قطعت الورقة بعد فرحة
رميتها وبهجتى محترقة
هناك فى القاهرة وحيداً
يبحث عنها
وهنا وحيداً أزوره
أجده وحيداً على سريره
وزوجه وحيدة على خدها يدها
رأيت الممشى وحيداً تلهب خده
الشمس
وجدت النخيل وحيداً
يرسل الظل والوجد وحيدا
وجدته على كل الوجوه
فى متحف الخريف
على شاطىء الطمى الزلال
وعلى شفا حال مستعارة
تصرخ الإنارة والعمارة والإمارة
وعلى كل الوجوه ابتسامة
كأنها أخدود حفرته الفؤوس
كأنما أحلى منها العبوس
هكذا انفصامى أحبه
وهكذا ألف مليون أنا
معذبون ولولا عذابنا
يا ألف مليون يا أنا
ما كان للحياة أن تهون
ولو لم تهن الحياة
فما أقسى أن غيرها يهون"
في هذا النص المتخم بالاحتجاج والإشارات والالماحات مجاز ترميزي وشعور عميق بخيبة الأمل حد أن يكون جلد الشاعر وبشرته إطارا للتجربة الزمكانية المعاصرة بكل مافيها من خيبات أمل وشعور بالمرارة والإحباط .
ثم إن النص ملئ بقراءة الذات والماحول الواقعي ،وهو متراص لاتوجد فيه فجوات ايقاعية، ويندر ان نعثر على نثر ايقاعي بهذه السلاسة.
"يانديا جففته الشمس المارقة
ياحيرة النفس
يامهجة حارقة"
مفردات تميزت بالدقة والوضوح ، إذ إن الأسلوب في هذا النص غاية في نفس الشاعر وتعبير عن مكنونات ذاته وكل كلمة فيه أدت غرضها من الناحية المعنوية والبلاغية والموسيقة.
حيث اتخذ من الترميز مجالا واسعا للتعبير عن أفكاره.
"حياة تدب وعطر يفوح
هكذا انفصامي أحبه
وهكذا ألف مليون !!
معذبون
ومطروحون وطارحون "
لقد أسهب الشاعر في تصوير لوعته وظمئه إلى رؤية فجر جديد ،فكان يصعب عليه أن يخفي صوته في مثل هذه الظروف ، وأن يلبي مطالب مجتمعه على الأقل من خلال منبر عاطفي ثوري يهدف إلى استنهاض وبعث العزائم في النفوس ، واستصراخ ضمائر الذين يقتعدون زوايا حجراتهم مكتفين.
"
وجدت النخيل وحيدا
يرسل الظل والوجد وحيدا
وجدته على كل الوجوه
في متحف الخريف
على شاطئ الطمى الزلال
وعلى شفا حال مستعارة
تصرخ الانارة والعمارة والامارة "
إسلوب شعري رفيع المستوى،دائم الحيوية ، من خلال طريقة التعامل مع كتابة النص التي اتقنها الشاعر، فمن خلال الفكرة المتبلورة في خياله اتسعت متطلبات رؤاه لاشباع الرغبات حتى بلغت في الغالب معظم القصيدة ، وكأنها كلمة واحدة لمعان متعددة ترتبط بغاية جزئية خفية في نفسه.
وحتى لاتنفد طاقته الشعرية فينحسر غرض القصيدة في مقدمتها ووسطها تأتي الخاتمة متنامية متعددة التوظيف والترميز.
"
وعلى كل الوجوه ابتسامة
كأنها أخدود حفرته الفؤوس
كأنما أحلى منها العبوس
هكذا انفصامي أحبه
وهكذا ألف مليون أنا
معذبون ولولا عذابنا
ياألف مليون أنا
ماكان للحياة أن تهون
ولو لم تكن الحياة
فما أقسى أن غيرها يهون"
إن هذا الاسلوب كفيل بأن يعبر عما يريده الشاعر من ادراك للمجهول والوصول إلى أعماق اللاوعي والتعبير عن المشاعر الخفية الغامضة ، فكانت النهاية والبداية مبنية على الإيحاء بدلا من الإفصاح ، والتلميح بدلا من العرض .
فقد استطاع من خلال هذا الطرح أن يولد المعاني في ذهن القارئ ، يقول "مالاراميه " عن الشعر (يجب أن يكون وصفيا لاروائيا، بل أيحائيا )
وفي الختام أقول إن هذا الشاعر المجيد وصل بخياله إلى درجة التوقد حينما رسم صورته الشعرية بهذا الشكل االرائع كلوحة ستظل تحتفظ بجمالها عبر مئات السنين لأنه صاحب رؤية حيوية بصيرة على مستوى الذات والموضوع التي أحتشد بها النص من المداخل وحتى الخواتيم.
أتمنى لأخي الشاعر أحمد الخليلي التوفيق والنجاح في مسيرته الأدبية والشعرية الحافلة بالإبداع..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق