السبت، 17 مارس 2018

أديب كمال الدين من بلاد الرافدين إلى أستراليا.. بقلم الدكتور/ شاكر حسن راضي

إنّ الكتابة عن شعر أديب كمال الدين ليست بالمهمة السهلة سيّما وإني لم أره منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، أنتج فيها دواوين جديدة حافلة بالتجدد والجده في المواضيع والصوروالأبعاد الفلسفية إلا أن قراءة قصائده الأخيرة التي احتوتها مجموعته الجديدة: ثمّة خطأ Something Wrong الصادرة حديثاً باللغة الإنكليزية في أستراليا عن دار Salmat ، تذكّرني بحقيقة أني أتعامل مع شاعر مستمر في التقدم نحو تحقيق وإنجاز وظيفة الشعر، آخذين في الاعتبار خلفيته الرافدينية التي تثري لغتة وصوره واختياره لمفرداته وخطابه الشعري.
ورغم أنّ أديب كمال الدين يستلهم تجربته من تراث شعري عريق أغنى مسيرته، إلا أنه يبقى متفرّداً في الإفادة من الموروث الشعري والفلسفي في كتابة قصائده، وهذا هو المصدر الذي يحرّك الحياة فيه وفينا كقرّاء. ولأنّ المادة التي نعتمد عليها في كتابة القصائد هي ذات المادة التي تدخل في لغة كتابة الوصايا، وشهادات الوفاة والدساتير وإعلانات الحب الأبدي بين بشر حقيقيين إلا أنّ "خرق الأحكام التي تنظم اللغة غير الشعرية وإعادة كتابتها يعد أكثر من مجرد انغماس أو متعة" كما يقول الناقد ريتشارد برادفورد في كتابه: Poetry, The Ultimate Guide (2010، ص41).
وبذلك يوفر الشعر وسيلة من وسائل التعبير التي يبدو التفرّد فيها ممكن التحقيق. ويتم ذلك من خلال "توفير عامل مساعد على التفاعل بين شبكات مستقلة من التقاليد التي تشمل التقاليد الشعرية الذاتية وتلك التي يشترك فيها الشعر مع اللغة غير الشعرية" (المصدر نفسه).
ولو طبقنا هذه المفاهيم على تجربة أديب كمال الدين الشعرية، سنكتشف أنه نجح في استخدام لغة بسيطة ولكنها رمزية في نقل رسالة تجربته العميقة التي تستند إلى ثقافة بابلية قديمة (ملاحظة: لا ننسى أن أديب كمال الدين من مواليد مدينة بابل) تسللتْ إلى الكتب المقدسة وشكّلتْ معتقدات مقدسة في تاريخ وضمير البشرية. لكن قارئ ديوانه "ثمّة خطأ" يجد أن الشاعر جسّد نظرية جاكوبسن في الوظيفة الشعرية التي يقول فيها إنّ هذه الوظيفة "تعكس مبدأ التكافؤ من محور الانتقاء انتقالاً إلى محور الدمج" (مقتبس في كتاب برادفورد، ص 42)، وذلك عن طريق إغلاق الفجوة بين اللغة والواقع. فالشاعر ينتقي الكلمات ليس وفقاً لإحساس بالواجب تجاه إطار مرجعي خارجي، بل إن الشاعر يصبح مولعاً ومهووساً باللامنطق الذي يكشف عن نفسه في كل قصائده تقريباً حيث تلغي العلاقة بين الصور والأفكار أيّ مسؤولية عن مفاهيم النظام أو العقل التي تسود خارج عالم القصيدة:
...
ثمّة خطأ في السرير
وفي الطائرِ
الذي حلّقَ فوق السرير
وفي القصيدةِ
التي كُتِبَتْ
لتصفَ مباهج السرير
وفي المفاجأةِ
التي تنتظرُ السرير
في آخر المطاف!!
...
هناك خطأ في كل شيء من حولنا وفينا، ومع ذلك نواصل الحياة بكل دروبها ومساراتها وكأننا لا نرى ذلك الخطأ الصريح والجلي. هذه رؤية شاعر خبر الحروب عبر التاريخ وليس حرب السنوات الثمان بين إيران والعراق أو الحرب الأمريكية على العراق. فهو يعيدنا دائماً إلى الحالة الإنسانية وذلك الإحساس بالاغتراب والخوف في قصيدته "جاء نوح ومضى":
...
لم تعدْ أيها البسيط
مثلي
والضائع مثلي
والساذج مثلي،
تتحمل وحشةَ هذه الرحلة التي لم نُهيئْ لها
أيَّ شيء
ولم يخبرنا أحد
عن مصائبها التي لا تنتهي.
انتظرنا – أنا وأنتَ – طويلاً سفينةَ نوح.
جاء نوح ومضى!
...
ويعكس بذلك الإحساس بالمنفى والمأزق الوجودي الذي شكّل حياتنا وحياة أسلافنا من السومريين، يمثلهم في ذلك بحث جلجامش عن الخلود ومعاناته في مواجهة كارثة الضياع وغموض الموت والمصير. تلك هي صرخة "النجدة" التي ينهي بها أديب القصيدة دون أن يفقد الأمل!
هذه مواضيع كونية يتعامل معها الشاعر سواء أكان عراقياً أم أسترالياً، ومثله مثل أي شاعر كوني آخر، يغوص أديب كمال الدين في أعماق الوضع البشري ليخبرنا عن صدى المد والجزر الذي سمعه الشاعر الإنجليزي ماثيو أرنولد في قصيدته الشهيرة "شاطئ دوفر"، وربما يكون شاعر يوناني قديم قد سمع قبله بآلاف السنين تلك الأصوات التي توحي بالوحشة والغربة ذاتها. ويتكرر هذا الموضوع أو الثيمة الأزلية في كل بيت تقريباً من أبيات قصائده، حتى أن ولعه وافتتانه "بالحروف" قد تحوّل إلى حالة من "الهوس" أو الرغبة المتجددة التي لا بد من إشباعها ولكن دون جدوى:
...
حين يجلسُ الحرفُ
قبالتك
لا تتكلمْ
قبل أن يبدأ الكلام.
اصغِ إليه حين ينطق
وابك حين يئنّ
وقبّلْهُ
في جبينهِ المضيء ...
وحين يشتعلُ الحرفُ ...
ضعْ إصبعكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ
فوق الماء:
"وصيّة حروفيّة"
...
هنا تكمن قدسية التجربة الصوفية التي قد تكشف عن شيء لا يستطيع الآخرون تمييزه. ويميز الشاعر في ترحاله الأزلي وغربته المتواصلة، مثل بقية المتصوفة، الحقيقية بأن الإنسان مخلوق كتب عليه أن يواجه المصير المحتوم:
...
الشراعُ وسط السفينة.
السفينةُ وسط البحر.
البحرُ وسط قلبي،
قلبي الذي يغرق
شيئاً فشيئاً
في حلمهِ الهادئ العنيف.
السفينة تمضي بجسدينا
أنا وأنت ...
والبحرُ يمضي بنا
عاريين...
إلى أين؟!
أصرخ:
-يا إلهي، إلى أين؟
(إلى أين).......
...
ما قد يستوقف القارئ هنا ليس حالة الهلع التي تنتاب الشاعر والإنسان من السفر إلى المجهول بل وجود الآخر معه ("أنا وأنت") التي تذكّرنا بذات الضميرين "أنا وأنت" اللذين استخدمهما ت. س. اليوت في قصيدته "أغنية حب جيه الفريد بروفروك". فضمير المخاطب هنا "أنت" قد يكون كونياً يشملنا جميعاً نحن الذين نتقاسم ذات التجربة ولو في بيئات مختلفة، في بابل أو "بلاد الكنغر" حيث يعيش الشاعر الآن. إننا نواجه "ثمّة خطأ" أو نتذوق "قطرات الحب" أو يبهرنا "الساحر" بطريقة أو بأخرى.
وقد يجد القارئ الغربي أو الناطق بلغة أخرى غرابة في صور وتعابير أديب كمال الدين وذلك أمر صحيح لأنّ الشاعر ينطلق في مشاعره وصوره وكلماته من ثقافة أخرى وعالم آخر خضعت فيه الحياة والإنسان لإرادة المستبد، الذي يرى نفسه إلهاً يقرر مصير الناس. وقد يرى البعض أنّ الشعراء العرب قد يبالغون عندما يتحدثون في شعرهم عن صلاحيات وسلطات ضباط الشرطة الذين يصادرون كلماتنا وقصائدنا ورواياتنا وحتى أحلامنا. يكشف أديب عن الشرطي "الخفي" الذي يكمن في داخل كل واحد منا في قصيدته "قصيدتي الجديدة":
...
- ماذا في يدك؟
قلتُ:
-قصيدة جديدة.
-فماذا تقولُ فيها؟
قلتُ: أقرأْها لتتعرّف إلى سرّها ومعناها.
.....
لكنّ القصيدة تأبى أن تكشف عن سرها، السر الأزلي للشعراء.
وفي "أعماق" يؤكد أديب كمال الدين على التوجه الصوفي الذي يميّز شعره، معتمداً على ذات البنية التي تقوم على تكرار يشكل لازمة القصيدة:
...
نهر ==< قلب == قصيدة == حرف == نقطة ==< صوفيّ == الله، الذي ينظر إلى "طائره الذبيح" بعيون دامعة. وفي "القليل من التراب" يلخص الشاعر الوضع البشري في صورة التراب، لا شيء سيبقى سوى قليل من التراب، أو "حفنة من تراب" كما استخدمها اليوت ليظهر الخوف من النهاية المأساوية
"سأريك الخوف في حفنة من تراب".
إنها عبثية الوجود التي حدثتنا عنها الكتب والأساطير والحكايات والمسرحيات. وحتى صرخات عشاق كرة القدم ومصارعة الثيران ستنتهي إلى تراب وكذلك الذكريات والقصائد ودموع اللاجئين والمراكب الصدئة. نعم كل شيء إلى تراب، "ومن التراب وإليه". هذه هي خلاصة المصير البشري التي ترعب الشاعر كما أرعبت الذين من قبله.
إلا أنّ أديب كمال الدين ينقلنا من حالة التشاؤم إلى ما يمكن تسميته "بالتشاؤم المرح" من خلال استخدام حوار يقوم على هذا التجاور الغريب في قصيدة: "ممتع، غريب، مدهش". وهي قصيدة مدهشة بحد ذاتها، تكشف عن لون البحر كما يراه الشاعر "سفن ونساء" وعن لون الحرية "خبز وملح" وعن سر كتابة الشعر، الذي يتطلب بكاءً وتأملاً وحلماً وهلوسةً ورقصاً واحتضاراً.
هذا هو منهج كل الشعراء الصوفيين الذين يذوون في عالم الكلمات والجمال الأخّاذ للخالق والمخلوق، يشربون من نبيذ الطبيعة ويتحدون مع الكون ومبدعه: الله، "لأن الله في قلبي شمس تتكلم" وهذا هو جوهر الشعر والإيمان.
وبذلك ينقل أديب كمال الدين رسالة أبدية مفادها أن الشاعر كالسمكة، لا يستطيع العيش خارج الماء، نبع الوجود. وهذا أمر غريب ومدهش.
في هذا الديوان يقدمنا كمال الدين إلى عالم يجمع فيه بين الثيمات الوجودية والصوفية، ويعرّفنا بذلك "الموت اللذيذ"، تجاور غريب قد يجده بعض القراء قديماً ومهجوراً بسبب طغيان ثورة تقنية المعلومات والاتصالات التي حرمتنا من متعة طقوس قراءة الشعر والإصغاء إليه. هذا الإحساس بالانتماء إلى عائلة كونية هو الذي يدفع شاعر مثل أديب كمال الدين إلى السعي في الوصول إلى القرّاء في كل الدنيا من أجل العمل على إصلاح كوكبنا الآيل إلى الدمار والمبتلى بالحروب والكوارث والمخاوف النووية والنزعة الاستهلاكية المادية والاغتراب. ولكن شجرة الحروف، كما يقول أديب، ستبقى، رغم كل الكوارث والمآسي، مضاءة بالنور والفرح...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق