الثلاثاء، 27 مارس 2018

تأملات في قصيدة (آناء الليل )... للشاعر الشيخ ستار الزهيري.. بقلم الناقد/ شاكر الخياط



ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏زهرة‏ و‏نبات‏‏‏









الموسيقى كما يعرف المتابعون انها اساس الشعر قديما وحديثا، ولا مفر منها اطلاقا.. ومن يظن ان الكتابة بدون موسيقى ستنتسب الى الشعر وباي من انواعه فهذا وهم، لانه يجانب او يخالف الحقيقة التي اعتدنا عليها والتي لم يستطع الشعراء والمبدعون الافلات منها او التحرر لاي سبب كان، ومن هنا تأتي عظمة الشعر وتقبله من رفضه، فالمتلقي الذي يستسيغ قصيدة ما او مقطعا معينا من قصيدة او حتى من كلام لايقاعه وحسن جرسه فهو يقينا افرز له جانبا من ذائقته عن الكلام العام الذي نتحدث به ويفهمه الناس، ما يجعلني هنا اؤكد على ناحية مهمة في هذه الوقفة التي جعلتني اعيد قراءة هذه القصيدة بتمعن عال، ودقة في التفحص، ليس لان مفرداتها صعبة الفهم، وليس لكونها تحمل بين طياتها خللا لغويا او خروجا عن العروض او فقدانا للموسيقى – لا سمح الله – انما الذي شدني اليها هو الجانب الايقاعي الموسيقي العالي جدا والذي ينم عن اذن صافية وعن موهبة عالية عدا عن الالمام بالعربية كلغة واتقان اشتراطاتها وقواعدها صرفا ونحوا بالنسبة للشاعر، بحيث تجد نفسك كمتلق متابع حصيف انك امام صانع محترف في فهمه للغته التي يتحدث بها وهذا شأنه واهتمامه، عدا عن حيازته لقوة انتقالات تستند على حفظ معمق لعلم العروض، والاوزان و القافية وجوازات الشعر، وكأنه معلم لايقبل لنفسه الخطأ في التعليم، هكذا اجد هذا النص الجميل الذي ركب البحر الكامل زورقا يتمايل ومويجات الفرات وشاطئه الكريم، وقافية اختار لها ان تكون مرفوعة واي رفع هذا الذي ينتهج (رفعين) في ان واحد، هنا عندما نؤكد على الجرس، ونشدد على ان الشعر وبوجود العروض السليم والقافية الجميلة وكل اشتراطات كمال البيت الشعري، لكنه يحتاج بعض الاحيان الى ان ينتبه الشاعر الى الجرس وخصوصا في (الضروب ) فلا يكفي انني التزم مايلزم فقط لكي تكون القصيدة مقبولة وخالية من الخلل، انما هناك شيء ( نقص بسيط ليته اكتمل) مخفي تحت الصحيح الظاهر، وهو الالتزام بجرس القصيدة منذ بدايتها الى الختام، وهذا ماوجدته هنا في هذه الرائعة، ولكي يعرف المتابعون عما نتكلم وما هو الذي نعنيه، التزم الشاعر ما اكده الخليل بكل حيثياته، وهو الاجمل بطبيعة الحال لو ذكرنا تعريف الخليل للقافية :
(القافية من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه - رجوعا - مع الحركة التي قبل الساكن.)
وهذا التعريف الاصطلاحي للقافية يعتبر أجمع الحدود لها؛ لأنه ينتظم جميع العوارض في القافية من حروف وحركات تراعى أحكامها، ومتى اختل شيء مما اقره فسدت القافية. ولا اريد ان اخوض هنا في تفصيلات القافية او شروحات العروض، لكنني اجد لزاما علي ومن باب التذكير ان هذه الموسيقى التي ( رايتها) لاحظ لم اقل سمعتها، لانني كنت اقرا ( نوطة) امتازت بها الابيات منذ المصرع حتى الختام وما شدني اكثر هو حكم (الكامل) هنا الذي اخضع تلك الاذن النغمية ان تلتزم كذلك ألف التأسيس في الروي، وهذا جمال اضاف للقصيدة لمعانا بارقا، والتاسيس كما يعرف العارفون والعالمون بفنون الشعر والقوافي هو أن يلتزم الشاعر ألفا بينها وبين الروي حرف صحيح، وللتوضيح للاخوة القراء الاعزة نقول: قارن بين كلمتي (محمد وباسم) لو وقعتا في القوافي، سوف نرى أن الأولى خالية من التأسيس، والثانية رويها الميم، والألف تأسيس، وبين الروي والألف حرف صحيح، هو السين. هذه من عوامل سلامة الجرس، وبعد ان يسلم الجرس سيكون الايقاع نظيفا، وبعد سلامة الجرس ونظافة الايقاع ستكون لدينا قصيدة مميزة فنيا على صعيد الشعر.. 
في جانب القواعد كانت القصيدة كائنا بدنا معافى التفاصيل، بديع الخلق جميل المواصفات، ومما يحسب للسيد الشاعر ابتداؤه باسم مبتدا صريح واضح، ونحن نعرف ان الابتداء ممكن ان يكون في الاسم او الفعل او الحرف لكن لكل منهم صفته التي تثقل القصيدة فتكون ذات وزن مرتفع، او تخفف من القصيدة فتكون خفيفة في وقعها اذ يعتمد ذلك على البدء وشكله، وهذا لايعني ان الابتداء بغير الاسم هو خطا، ابدا، لكن لكل حدث مايستحقه من حديث، وانا على يقين ان الشاعر مدرك تمام الادراك والوعي للابتداء بالاسم، وماذا يعنيه، لتجده ينطلق مباشرة الى التوازن بين استخدامه للاسم في الابتداء وتلك الانتقالة المفتعلة والمصطنعة والمقصودة في توالي الافعال مباشرة (فَاُمْرُرْ، وَآقْرَأ، نَظَمَتْهُ، وآهزز، تَأْتِيكَ) يالجمال هذه الالتفاتة، ويالبعد الملكة فيما تختزن من عاليات التذوق والذي ينام على ارضية واسس واعية بالشعر وفنونه... في كل بيت من ابيات هذه القصيدة مساحة تختلف عن مساحة البيت الذي يليه، ولهذا استطيع ان اجزم بان الحديث عن هذه القصيدة لن يتوقف اذا شئت، ولهذا ساختصر لكيلا يتهادى الملل الى النفوس ويجبرها على ترك القراءة والاستمتاع بواحدة من جميلات القصائد التي اطلعت عليها شخصيا، لذلك ساترك للقاري ان يتلذذ بهذه الموسيقى الرائعة اضافة الى الموضوعة الاروع ولا استغرب اذا كان الشاعر يلقي بالتحية على ابي القاسم الشابي، في حوارياته مع النفس ومع الذات التي يظنها اقتربت من الشيخوخة بوصولها او عبورها الستين من العمر، وهنا ايضا تحد اخر على صعيد الموضوع، هو الاشارة بالتضمين الى ان الشاعر لازال قويا عوده، شابا فنه، وقد احسن وابدع وكاني به يتماهى مع ( ساعيش رغم الداء والاعداء..) لكنه بمنظور آخر...
ارجو ان اكون قد وفقت في تناول جزء من القصيدة، ونحن هنا في افاق ننتظر من شاعرنا الموقر كل جديد...
النص...
==
اللَّيْلُ أَنبَأنِي بِأَنَّكَ ساهِرُ
فَاُمْرُرْ عَلَى حلْمِي فطَيْفُكَ شاعِرُ
وَآقْرَأ عَلَى جفنٍ السِّنِينَ تَوَجُّعِي
نَظَمَتْهُ شعرَاً فِي الدُّمُوعِ مَحَاجِرُ
وآهززْ جُذُوعاً مِنْ قَصِيدِ مَحَبَّتِي
تَأْتِيكَ مِنْ رُطَبِ المَحَالِ مَشَاعِرُ
أَني آلتماعٌ مِنْ بَوَاطِن مِحْنَتِي
وَعَلَيَّ منْ عُتَمِ السُّرُورِ ظَواهِرُ
ظِلِّي يُشَيِّعُنِي وَيَبْكِي وَحدَتَي
وَأَنَا بَقَايَا مِنْ سِنِينَ تُكَابِر
قَدَماي تَحدُو بَعْضَهاوَتَقُولُ مَهْ
ياحاديَ السِّتينَ حَدْوُكَ جائِرُ
أَسْمُو فَتَجْتَمِعُ الجِهاتُ بِراحَتِي
وَتَجُرُّنِي نَحوَ الشَّتَاتِ عَسَاكِرُ
وَأَمِيْلُ حِيناً لِلغُرُوبِ تَقِيَّةً
وَأَنَا شُرُوقٌ مُسْتَفِيضٌ ساحِرُ
أَكْبُو فَتَنْتَحِبُ النُّجُومُ لِكَبوتي
فأنا وَأَمسي بِالهَزِيمَةِ ظَافِرُ
لَا الصُّبْحُ يَتْرُكُني على وَتَرِ الدُّجَى
نَغْماً وَلَا لَيْلي جَلاهُ مُسَافِرُ
قَل لِي وَقَدْ طَرَقَ المنونُ نَوافِذِي
وَأَنَا عَلَى بَابِ التَّلَاقِي حائِرُ
ماذا سينفعُني حُطَامُ مَشَاعِرِي
لوْ قِيلَ أنّي في المَحَافِلِ شَاعِرُ
أَوْ يَسْتَفِيقُ الدَّرْبُ يَبْكِي فرقةً
وَقَدْ آنتضتْ قَلبَ الطَّرِيقِ مَعابِرُ
نُصفي مِن الأَلَمِ المُمِضِّ مُكَوِّنٌ
وَبِصَوْتِ مَوْجِ البَحْرِ نِصفٌ آخَرُ
لَكِنَّنِي رَغْمَ النوازلِ دَاخِلِي
نَهَشَتْ، كَمَا نَهَشَ الغَريرَ كواسِرُ
جُرْحِي عَنِيدٌ لَا يُهَادِنُ شَفْرَةً
أَوْ يَسْتَكِينُ إِذَا هَجَتْهُ مَحابِرُ
يَا قَلْبِيَ المَصْلُوبُ فَوْقَ رَحِيلِهِ
وَمُقَيَّدٌ صُبَّتْ عَلَيْهِ مَجامِرُ
إِنْ كُنْتَ مِنْ أَلَقِ البُزُوغِ مُتَوَّجاً
فَقَد ٱحتَوَتْكَ مِنْ المغيبِ مَقابِرُ
إني وإن مَلأَ الرحيلُ حَقائِبي
فكأني في نظرِ الطريقِ مُهاجرُ
ستَقودُني جهةَ الغَمامِ كرائِمٌ
وتُعيدُني جذرَ الحياةِ مَآثِرُ
إنْ ساقني سَوطُ المنيةِ ضاحِكاً
تبكي على نعيِ الحُسَينِ مَنابِرُ
أو جَرَّنيْ ظَمأُ الحَنِينِ لِغَيْبَةٍ
لَطَمَ الْفُرَّاتَ عَلى خدودِهِ جائِرُ
أَو يَبكي دِجْلَةَ مِنْ عُيُونِ نَخِيلِه
وَتُعاتبُ الشُّطْآنَ فيه قَنَابِرُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق