السبت، 17 مارس 2018

تحولات الرؤى المموسقة.. قراءة نقدية في قصيدة الشاعرة السورية إيناس الداود.. بقلم الناقد/ غازي الموسوي

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏


مادام بحر(المتقارب) هو اقرب البحور الى استيعابات قصيدة النثر الاكثر مرونة ،فإنه يتيح للشاعر ان يفكر من خلاله بحرية كاملة هو وشقيقه في دائرة المتفق واعني بحر (المتدارك) تحديداً..وهذا ما شهدناه عند د.علي احمد سعيد (ادونيس) في(تحولات الصقر) مثلا،كما وشهدناه قبله عند السياب وسعدي وحسب ودرويش ايضاً،وغيرهم كثير ومايزال مستمراً..ولم نكن قد راينا نصاً تفعيلياً ( حراً)مسبقاً لهذه الشاعرة،
ولهذا أدهشنا اعجاباً نزولها به بإسلوبية راسخة وبسياقات لغوية سليمة ونسيج شعري بديع ومضمون لم يتخط منهجية الشعر الرؤيوي في التعبير عن الموضوع من دون ان نفتقد الى الوجدان الصافي الذي استدعته الضرورة الابداعية في هذا القصيد بالذات..
دعونا ننظر في هذا المونولوج المجتزأ من النص:
...
اسائل نفسي..
اما كان صوتي جواباً
وموتي سؤالاً
..
ولكم كنت اتمنى التقديم والتاخير فقط..واعني تقديم المقصور الثالث( وموتي سؤالاً) على الثاني(صوتي جواباً)،حرصا على تراتبية المضمون..وللشاعرة رأيها الخاص بالتأكيد..
ثقة بمن ابتدعت هذا المقصور الكبير..
..
وامي بصبر فضاء..
..
صورة واسعة النطاق..لم تطرق مسامعي لافي التركيب ولا في المضمون..
وهنا مكمن الدهشة وروعة الوهج..
كذلك هذا المكثف الذي نحتاج الى تفسيره والتعليق عليه بما امكن..
...
وامي القضية..
..
نعم ..كإنموذج للمراة..
وكاستعارة للارض..
وكقناع للفكرة..اياً كانت..
ومن كل بحسب خياره..
..
حتى فكرة الصمت المفكر..
او المتقرّي..محمولة على جناحي المرآة..
انا المخلوق ..الانسان متمثلا بالشاعر..ة
وانا المخلوق الاخر..متمثلاً..بالنص الابداعي..
كلانا في مواجهة العالم..
او كلانا يشكل بعدا مقابلا يحمل ضرورته بل وجدارته في المواجهة مع الكون:
( اتحسبُ انّكَ جرمٌ صغيرٌ
وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ)..ولتبيان حالة التقابل التي اقترحها علينا هذا النص العميق الجميل:
...
قريبا من الصمت
ارنو لذاك الفضاء
ويرنو اليَّ
...
ولو اكتفت بالمقصور الاول لما تحقق(المعادل الموضوعي) ..
ارنو اليه
ويرنو اليّ
...
انا وهو كفتا ميزان..
ومن خلال هذا الجدل الديالكتيكي الرائع ،نبع السؤال..ونبغ الجواب في ادناه..
فلقد كان الحمل ثقيلاً..
بل وثقيلا جدا..
ذلك لان محاولة الاختراق بالمجس المعرفي امر ليس متيسرا دائما،وانما قد يكون حجم ( الجهل..او الجهالة..او الظلم..او حتى العنت والطغيان بكل اشكاله المعتمة) قاهراً يميل بأثقاله على محاولات المبدعين او المتنورين او العارفين لبناء حصانات نورانية من منطلقين..
*فبالهمة العالية..استحضاراً لهذه المقولة(انر الزاوية التي انت فيها)
*وبالخيار الضعيف الباحث عن الصمت في بيت الاعتزال بحثا عن الخلاص ،او ابتعاداً اوحتى هروباً عن مخالب الظلام باشكاله المختلفة..
ليس امر ا سهلاً اطلاقا،فجدار العتمة الضاغط يكاد يتمدد على حساب الخيارين الاول والثاني حد الارباك،لولا النزوح الى حضن القضية ( الام) كمآل مبدئي للخلاص ..
...
هذا المآل الوجداني المقدس ،لم تتمكن شاعرتنا من انتزاعه او الوصول اليه ابدا..لولا تحولات عناصر خلقها الاولى التي تصاعدت رويدا عبر بنيوية-لا اظنها عفوية-بحكم معرفتنا بوعي الشاعرة أيناس داود النوعي الذي تلمسناه من خلال متابعاتها لزميلاتها وزملاءها على طول المسار..
اما عناصر خلقها المُصَعَّدَةُ المتحولة فهي على التوالي منذ البدء..
* سراب الاماني..
* الحلم النائي الذي لايلوح جليّاً..
*قريبا من الحلم..انتقالة الى اعلى..وتموضع في محطة ايجابية مامولة
* الحلم يتحول..( اعني تحوله الى حمام ينوح..والنوح دلاليا..تصريح بالحزن ..وبوح واضح بشجونه..
*(تطوف جراح..
تعانق جرحي..
وتهجع فيَّ..)..
هذه الضربة كبيرة بمفادها الدلالي الذي يشي باروع الضمائر الجمعية ،فالجراح التي طافت مع حمائم الحلم عانقت جرحي الشخصي لنتحول معا سوياً الى اعلى ،ذلك لانها ترسبت فيَّ..فتصاعدنا الى مدمج (قريب من الجرح..)..
ولكم تمنيت غير مفردة الجرح هنا..لأنها غيره بكل تاكيد ..فجراح وطن ..اوجراح شعب..او جراح شريحة ذات متسعة كبيرة قد آلت اليَّ انا المبدع..انا الضمير الجمعي النائب ..انا الصوت الصارخ الصادح في البريّة..
اذن..فالاجدى ان يكون البديل..
( قريبا من البوح..مثلا..او اي شكل من اشكال
الافصاح..او ليكن طائرا..او اي هتاف جماهيريّ يصعد بنا معا بخار بحر بشريّ حاملاً ضجيج افئدتنا الى السماء لكي يتكاثف ( سحاباً)..
لكننا نحتاج الى مقصور تصعيديّ هنا..
لكي يسهم عميقاً
في الانبعاث العظيم..
(انبعاث نداء الضحية)
ويالها من لحظة رؤيوية باسلة ورفيعة المقام..
ولكنني لن اطالب شاعرتنا الممتلئة بحس الرؤيا بالافصاح بين (الضحية.. والرجعى الى العقلنة الحكمية الذرائعية التي لم تحقق كمالاً ايديولوجياً شجاعا ،ولكنها حققت بديلا بريئاً مبسطاً لايخلو من اللطف السوسيولوجي بحسه ونفَسِهِ الشعبي المتمثل في الدعوة الى المصابرة (على كف امي)..
وكاني بوعي الشاعرة ينتبه الان..معلنا بالعقلنة المتنورة ان بعض دعوات التصبر ليست الا كسلاً وربما نكوصاً..
(وامي تحوك دثاري
تكدس وقتي
بخيط التمني)
مع انها..
(تعلم اني
حبيب السماء
وتنكر صوتي)..
الام ..بصورتين اذن..
والا فسنقع بالتناقض يا شاعرتنا الرائعة..
امٌّ بشريّة مشبعة بالسائد،بطلب السلامة..
وأمٌ..هي المصعَّدة..التي تريدها الشاعرة..ونحن معها..نبية الزمن الشرقيّ كلّه..حاملة التاريخ الانثروبولوجي كله..انما حتى اللحظة ما فتئت في دورة الحلم المكبوت ،لكنه الذي سيشكل حافزاً بعد قليل..
...
هكذا نكون قد شهدنا على فعالية تبخر الماء،ثم تصاعد البخار ثم هطول المطر..
فالام النبية هنا..هي ذات الام القضية هناك..والجدل بين الدعوة البشرية العادية وبين دعوة الارض المقدسة سيستمر حتى تتم الاجابة على كل الاسئلة..
...
كل ذلك في رحبة موسيقية بارعة وسليمة اعتمدت على لوازم ايقاعية تشبه القوافي المتباعدة شكلت ضابط الايقاع في القطعة الموسيقية متمثلة في :
(جليّا..فيَّ..الضحيّة..النبيّة..اليَّ..اليَّ..القضيّة..)واللازمة في مايشبه الروي(يَّ..ة)..تدعيما ورفعا لايقاع المتقارب البطئ اصلا ،بحكم الخيار الموضوعي المنطوي على الحس الثوري المخبوء تحت الغلاف المجازي العام..
نحتاج فقط الى وقفة ناخذ فيها نفسا بين ( الصدى ..و..ليرتدَّ).. فهذا النفس الوجوبي ضرورة للتدوير الموسيقي العام..انما هو ليس ملزما،وذلك لاننا نستطيع ان نقف على الف الصدى المقصورة ..ثم نبدأ جديداً من ..ليرتدْ..فعولن..دَقهراً..فعولن..اليَّ..فعولُ..وهذا يعني سلامة العروض في الحالين..سواء ادوّرنا ام لم ندوّر..
...
النص ملئ بالشحنات الايجابية الداعية للحوار الواسع الذي يستلزم وقتا وجهدا لانملكهما الآن،فعذراً سيدتي الشاعرة..
أ.إيناس الداود الفاضلة..تحياتي وبالغ اعتزازي....
ملاحظة:
...........
كانت هذه المتابعة النقدية تعليقا في الاصل،ولكنها زادت عن طاقة الموضع..اعني مساحة التعليق..ولهذا لجأنا الى نشره هنا على صفحتك الموقرة،علما اننا سننشره في افاق نقدية في وقت قريب بعونه تعالى ،مع الاعتذار مجددا،والسلام..
...
نص الشاعرة:
................
#_أمنيات_مستحيلة_لنبي
قريباً من السّفحِ
حينَ تفوحُ الأماني
تغازلُ عوداً طريّا
وتمطرنا الأمنياتُ سراباً
فما عادَ حلمٌ
يلوحُ جليّا
قريباً من الحلمِ
حين يصيرُ حماماً
ينوحُ بصدري
تطوفُ جراحٌ
تعانقُ جرحي
وتهجعُ فيَّ
قريباً من الجرحِ
حين يصيرُ سحاباً
ويُبْعَثُ فينا
نداءُ الضّحيّة
وصبرٌ قريبٌ
على كفِّ أمّي
وأمّي تَحوكُ دِثاري
تكدّسُ وقتي
بخيطِ التّمني
وتعلمُ أنّي
حبيبُ السّماءِ
وتنكرُ صوتي
وأعلمُ أنكِ
أنتِ النبيّة
قريباًمن العتمِ
أبني جداري
يميلُ عليَّ
فأُسندُهُ بالصدى
ليرتدَّ قهراً إليَّ
قريباً من الصّمتِ
أرنو
لذاكَ الفضاءِ
ويرنو إليَّ
أسائلُ نفسي
أما كانَ
صوتي جواباً
وموتي سؤالاً
وأمّي بصبرِ فضاءٍ
وأمّي القضية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق