توماس ستيرنز إليوت Thomas Stearns Eliot شاعر وناقد ومسرحي وفيلسوف إنكليزي من أصل أمريكي، ولد بمدينة سانت لويس في ولاية ميسوري الامريكية. واكمل الدراسة الجامعية ، وقد ترسخ اليوت باطلاعه ودراسته المسرح الإنكليزي في العصر المتقدم نسبيا بشكل مكثف، وخاصة شكسبير، وافرز من وقته الكثير للفصل او المقارنة بين كيفية الجمع بين التسلية في الشعر وبين نفائس الشعر في القصيدة الواحدة او العمل الواحد، وبين الشعر النفيس في المسرحية الناضجة. وقد أدى به ذلك إلى توسيع مداركه بل وانفتاحه على عوالم كانت اشبه بالبعيدة عنه لحين دراستها والانتهاء منها، وربما يكون ما انتجه اليوت متمثلا برائعته ( الارض الخراب، الارض اليباب، الارض الضائعة) وهي ترجمات متعددة لنفس القصيدة، والتي تعتبر من وجهة نظر النقاد في بداية القرن العشرين وبعد ان ذاع صيتها وبدأت بالانتشار على مساحات عالمية واسعة، وبعد ان تم تناولها بالترجمة من قبل المترجمين الافذاذ ولاكثر من لغة واسعة الانتشار، انها القصيدة او العمل الشعري المتكامل الذي توج هذا الشاعر وصنفه الارقى على مستوى بريطانيا وتعدى ذلك على مستوى اوروبا، لاسباب منها تعددية مراحل العمل وتوزعه على مساحات واسعة شاملا بذلك كل من لسعته نار الحرب وخرابها، والتي لم تنحسر في بلد او في حالة شهدتها الحرب دون سواها من اخريات حدثن في بلدان اخرى، والسبب الاخر ان اوروبا كل اوروبا كانت تدعي ان هذا النص الشعري انما يخاطب الاوروبيين ويجسد ماساتهم بعد الحرب العالمية الاولى وليس مختصا ببلد او حالة في بلد دون الاخر، في عموم اوروبا، حتى تعدى الامر هذه الحدود وتجاوزها في لغة النقاد والمبدعين من خارج دائرة الضوء الاوروبي او الانكليزي، واذكر هنا ما انسحب على قضايانا العربية بعد الحرب العالمية الاولى وما كان يتناقله المثقفون والادباء والنقاد على ساحة الوطن العربي، واقرب تمثيل لهذا جبرا ابراهيم جبرا الذي عد هذه القصيدة محاكاة وتجسيدا للواقع الماساوي لقضية فلسطين المغتصبة وشعبها المظلوم ، وهناك ادونيس الذي تاثر باليوت بشكل جلي وواضح، وقد يكون من أكثر الشعراء العرب تمثّلاً لدرس إليوت الجمالي، لتأثره العالي به وبخاصة في قصيدته الهجائية "قبر من أجل نيويورك"1971، حيث حاول الولوج في عوالم ورؤى اليوت وسبر فلسفة اليباب في الزمن الحديث، واعني سحب الحالة في زمكانها المقترح الى زمكان يرى ادونيس انه مفصل لها وهو الارحب لما للقضايا العربية التي عمت الشرق الاوسط من مطابقة ورحم افضل من كل الارحام لولادتها، وكان ادونيس يريد القول مجازا ان اليوت كتب قصيدته في الشان الاوربي ارضا وحدثا، لكن الرؤيا كانت ابعد مما يتصورون وقبل ان يرى الناس الحدث ويشهدوا عليه، لا بل قبل حدوثه، وقد لامس أدونيس لحظات مفصلية في شاعرية إليوت، على رغم معرفتنا بوفاء ادونيس لبلاغة اليوت الرؤيوية، وهو الذي وظف أكثر من رمز إليوتي، وبخاصة العرّاف (تيريزياس)، الذي يصفه إليوت بالصوت المحوري الذي يمثّل وعي القصيدة لذاتها وللعالم. (تيريزياس) لدى أدونيس في ديوانه "تنبأ أيها الأعمى" الصادر سنة 2005 ، في مقطع يقول:
"وكانت نبوءات تيريزياس في ما بعد ملأت عيني هوميروس بظلمة تنحدر".
حيث تيريزياس الأعمى، لدى إليوت وأدونيس، يرى ما لا يراه المبصرون، ويلجأ إليه الشاعران ليكون عيناً لهما في ظلمة مطبقة :
"عين بلورية تقرأ لمن يريد ان يصغي". وتيريزياس في"الأرض الخراب"، يظهر في القسم الثالث، كما رأينا، جالساً عند جدران معبد طيبة، يناجي نفسه :
"انا من مشى بين أكثر الأموات انخفاضاً"،
ومهما كان من فرق بين الرائي في اليوت والرائي في ادونيس الا ان الهدف التقى في النهاية رغم اختلاف صيرورة الرائيين. مع العلم ان الاسماء التي وافقت على راي ادونيس، وتوافقت مع تطلعاته بمساحة الوطن العربي كثيرة لا يمكن احصاؤها انذاك، وهذا يوضح ان الامتداد الفعلي بالتاثير الرؤيوي لامتداد الفعل الابداعي الذي وجد فيه المثقفون وخصوصا الشعراء الملاذ لهم انذاك من قيود تصوروا خطأ انها محددات للابداع في التجديد المنشود الذي طالما تمنوه وسعوا اليه، ولربما كانت الاقلام التي نادت بمشروع الشعر الحر او شبيهاته من دعاة الانفلات عن البيت الشعري العربي والقافية والوزن الى ما الى ذلك من تجليات ظهرت في منتصف القرن العشرين كمدرسة القت بظلالها على الاجواء الادبية ليست في العراق فحسب انما امتدت الى باقي ارجاء الوطن العربي حتى ولادة الشعر الحر على يد مجموعة من الادباء والمفكرين المبدعين يتقدم ركبهم المرحوم السياب الذي كان رائدا لايجارى في هذا المضمار وهو اشهر من خطط ونظَّر لهذا الفعل واكاد اجزم انه هو الذي تحمل وزر هذا الابداع، فكان بحق هو زعيمه..
الأرض الخراب لاليوت تعتبرالنواة التي تنطلق منها رؤياه للعالم، والعالم برمته والقائمة على انزياح مجازي، يتمثّل في تقويض العلاقة التقليدية بين الدالّ والمدلول في مابين مفردات العمل، فلو لاحظنا الربيع في رؤيا القصيدة نجده يدلّ على موات بطيء، وقسوة تفتك بالطبيعة. في حين اننا نرى ونعرف ان الربيع يرمزُ للخصب والانبعاث، كما ورد في انشودة المطر، ولولا الموضوعة الرئيسة لكلا القصيدتين، وهدفهما لما كان هناك من ارتباط بين انشودة المطر وارض اليباب الا في شكل القصيد، ودوافع العمل التي حكمت السياب واليوت في خراب ماثل جسده اليوت بعد الخرب، او خراب متوقع منتظر كان السياب يوحي الى حدوثه في كثير من سطور القصيدة، وما يؤشر بالفعل وايمانا منا لاظهار الحقيقة الراقية لنقطة التقاء اليوت بالسياب هي ميزة الاسلوب المتفرد الذي جمع بينهما دون ان يستند السياب الى اليوت على اعتبار ان السياب متاخر في الزمان في صدور القصيدة عن اليوت الذي تقدم عليه بفترة طويلة حتى اتمام الاصدار واعلانها وليدا جديدا على بلده واوربا، مثلما اعلن السياب ذلك على بلده والعالم العربي، وما انفراد الاثنين بتقنية الانزياح هذه والتي تكاد تنسحب على المعمار الكلّي للقصيدة وبنائيتها المتناثرة الابعاد والاوشاج لديهما، إذ يكاد لا يخلو سطر من سطور القصيدةعند اليوت من رجّة تنقلُ المعنى إلى سياقٍ آخر، منزاحاً عن مركزه، في قراءة تضادّية قوية للموروث الشعري برمّته، يعزّزها افتتانُ إليوت بدمج أساليب أدبية وشعرية ودرامية متناقضة، تتأرجح بين الموغل في سمّوه البلاغي والمسرف في تقشّفه اللّفظي. لكن الذي ابهر النقاد في شعر السياب ليس ما ابهر النقاد في شعر اليوت، لان القفزة التي قدمها اليوت الى بلاده واوربا مختلفة عن تلك القفزة الرائعة التي قدمها السياب الى بلده ومن ثم العرب لاحقا، هذا الانسجام المتواتر المتراصف شكلا مع الوزن الموسيقي الجميل الذي تناوله السياب مع الانسجام الانموذجي في شكل البنائية لقصيدة صورت لنا الشاعر وكأنه لم يبتعد عن خط الوزن ولا عن موسيقى العرب في شعرهم، وما هذه المحافظة على اللون الجديد دون ان يؤشر اي خلل من قبل النقاد، بل هناك من ايد وفي ذلك الوقت بما ابدع السياب وزملاؤه من فن جديد كتب له فيما بعد ان يكون واقفا قويا رصينا على قدمين متجذرتين في ارض صلبة وبقامة شامخة ممتدة الى عنان الفضاء،
ويُجمع النقّاد:
" أن هذه الرؤيا الجديدة للّغة الشعرية ساهمت، إلى حد بعيد، في بلورة حساسية شعرية جديدة غيّرت جذرياً مفهومَنا لماهية الكتابة الشعرية".
وهنا يجدر بنا ومن وجهة نظر تحليلية بحتة النظر الى بواطن الامور لا الى شكلياتها، منطلقين من هذا الاجماع النقدي المختلف المناشيء المتحد الفكرة والنص والهدف، هل كانت غاية النقاد ان تعزو كل محاولة تحديث او تجديد منذ بدايات القرن العشرين شعرا، الى التاثر بروح اليوت ؟ ليس في قصيدته هذه كقصيدة حسب انما الانتقالة العصرية الخطيرة التي لم يكن قد ألفها الاوربيون من قبل في تداعيات تناوله الاسطورة وتمثيلها تجسيدا على الواقع الحي الذي كانت تواجهه اوروبا وكأنها حصيلة تلك العصور من المواجهات، والصراعات التي استمرت عقودا من الزمن..
إنّ لغة اليوت في تمجيده لقيم التضادّ والتقابل والمقارنة في قصيدته، واعتباره الشعر هروباً من الأنا الرومانطيقية، وليس تكريساً لها، شكّل نقطة تحول كبرى في تاريخ الشّعرية الحديثة. على الصعيد الاوروبي ، محاولا تجسيد ذلك ونشره على مساحات اوسع شاملا به على سبيل المثال الشرق الاوسط ومناطق في افريقيا وجنوب شرق اسيا لا اوروبا فقط، وإذا علمنا أنّ إليوت كتب قصيدته، متأثّراً بمناخات الحرب العالمية الأولى، التي لا تغيب صورها المرعبة عن أجزاء القصيدة الخمسة، والتي كانت تصل الى حد التكرار في البنى لولا براعة اليوت في التنقل من حالة الى اخرى وطرح المختلف في القادم من الاسطر، ليكون عاملا جامعا لكل الحالات التي كان يتشوفها في فلسفته الشعرية ذاتها والتي هي الأكثر حسماً في تقديم نصّ مدهش في بنيته ، وإحالاته المنفلتة من كل سياق، والتي تقوم على اجزاء من أحاديث غير مكتملة، ومشاهد مسرحية مقطوعة ، وتأملات فلسفية لا تخلو من التهكم والسخرية، وتهليلات غنائية صوفية، ترثي موت الخالق في الزّمن الحديث. وعلى رغم أنّ إليوت يصف نفسه بالمحافظ أو الملكي في السياسة، والأنغلوكاثوليكي في الدّين، والكلاسيكي في الأدب، إلا أنه باجماع النقاد واهل الشأن أبدع واحدة من أكثر القصائد جنوناً في القرن العشرين. وربما كانت الاولى على هذا الصعيد، إذ تكاد لا تخلو استعارة من إحالة إلى نص سابق، أو نسق رمزي أو أسطوري أعلى، أو استحضار لحكاية رمزية، أو أدبية أو دينية أو شعبية.
( ... وتجدر الإشارة الى انه، وعلى رغم الجهود الجبّارة التي بذلها نقّاد كبار من أمثال لويس عوض، وإحسان عباس، وعبدالواحد لؤلؤة، ويوسف سامي اليوسف، في ترجمة قصيدة "الأرض الخراب" الى العربية، وشرح رموزها، وسبر دلالاتها، كل على طريقته، إلا انها ظلت قصيدة شبه مقفلة امام الشعراء العرب، الذين اكتفوا كما نوّهنا، باستعارة روحها المتشائمة، ونبرتها الهجائية، وموقفها النقدي، من دون تمثل درسها الجمالي الفذ. ويجب الاعتراف بأن القصيدة صعبة المنال، وتجيد إخفاء أسرارها، والنأي بنفسها عن إغواء الشرح والتأويل، وما الهوامش الاثنين والخمسين التي ضمّنها إليوت في القصيدة، والتي باتت أكثر شهرة من القصيدة نفسها، سوى دليل على إمكانية تعدد القراءات وتنوعها، واختلاف الاجتهادات وتناقضها، وبخاصة ان النقد الحديث بات يعتبر هذا النص الحداثي من كلاسيكيات القرن العشرين، ولا يقلّ تأثيره في وعينا الجمالي والنقدي والشعري عن تأثير شكسبير في المسرح، وبيتهوفن في الموسيقى، وبيكاسو في الرسم، ونيتشه في الفلسفة.)
مايهمنا بعد هذا الاستعراض هو حالة المقارنة بين اليوت والسياب كشاعرين في زمكانين مختلفين، في قصيدتين متقاربتين روحا ورؤى وموضوعا ان جاز لنا التعبير، مع تحفظنا على ان انشودة المطر نهلت من ذات الموضوع ،واحتفاظنا بحق الانتصار للسياب في جزء بعيد عما تناوله اليوت لاختلاف ماهية المجتمعين العراقي العربي والانكليزي الاوروبي .. وسياتي شرح ذلك فيما يلي من سطور..
الاسئلة التي تم تداولها من هنا وهناك سنكون واضحين في الاجابة عنها وقد استطعنا جمع اغلبها مع تشابه الاخريات في الطرح
"الارض اليباب" لاليوت و"انشودة المطر" للسياب، هل كان السياب قد تاثر باليوت؟
هل كانت روح "انشودة المطر" تحاكي " الارض اليباب "؟
اين التقارب والتلاقي والتراصف فيما بين العملين؟
اين الاختلاف فيما بينهما؟
ما تاثير اليوت على الواقع الشعري الانكليزي الاوروبي؟ وما تاثير السياب على واقعه الادبي والشعري العراقي والعربي ؟
هذه الاسئلة واخرى غيرها سنتناولها في قادم الحلقات
......
"وكانت نبوءات تيريزياس في ما بعد ملأت عيني هوميروس بظلمة تنحدر".
حيث تيريزياس الأعمى، لدى إليوت وأدونيس، يرى ما لا يراه المبصرون، ويلجأ إليه الشاعران ليكون عيناً لهما في ظلمة مطبقة :
"عين بلورية تقرأ لمن يريد ان يصغي". وتيريزياس في"الأرض الخراب"، يظهر في القسم الثالث، كما رأينا، جالساً عند جدران معبد طيبة، يناجي نفسه :
"انا من مشى بين أكثر الأموات انخفاضاً"،
ومهما كان من فرق بين الرائي في اليوت والرائي في ادونيس الا ان الهدف التقى في النهاية رغم اختلاف صيرورة الرائيين. مع العلم ان الاسماء التي وافقت على راي ادونيس، وتوافقت مع تطلعاته بمساحة الوطن العربي كثيرة لا يمكن احصاؤها انذاك، وهذا يوضح ان الامتداد الفعلي بالتاثير الرؤيوي لامتداد الفعل الابداعي الذي وجد فيه المثقفون وخصوصا الشعراء الملاذ لهم انذاك من قيود تصوروا خطأ انها محددات للابداع في التجديد المنشود الذي طالما تمنوه وسعوا اليه، ولربما كانت الاقلام التي نادت بمشروع الشعر الحر او شبيهاته من دعاة الانفلات عن البيت الشعري العربي والقافية والوزن الى ما الى ذلك من تجليات ظهرت في منتصف القرن العشرين كمدرسة القت بظلالها على الاجواء الادبية ليست في العراق فحسب انما امتدت الى باقي ارجاء الوطن العربي حتى ولادة الشعر الحر على يد مجموعة من الادباء والمفكرين المبدعين يتقدم ركبهم المرحوم السياب الذي كان رائدا لايجارى في هذا المضمار وهو اشهر من خطط ونظَّر لهذا الفعل واكاد اجزم انه هو الذي تحمل وزر هذا الابداع، فكان بحق هو زعيمه..
الأرض الخراب لاليوت تعتبرالنواة التي تنطلق منها رؤياه للعالم، والعالم برمته والقائمة على انزياح مجازي، يتمثّل في تقويض العلاقة التقليدية بين الدالّ والمدلول في مابين مفردات العمل، فلو لاحظنا الربيع في رؤيا القصيدة نجده يدلّ على موات بطيء، وقسوة تفتك بالطبيعة. في حين اننا نرى ونعرف ان الربيع يرمزُ للخصب والانبعاث، كما ورد في انشودة المطر، ولولا الموضوعة الرئيسة لكلا القصيدتين، وهدفهما لما كان هناك من ارتباط بين انشودة المطر وارض اليباب الا في شكل القصيد، ودوافع العمل التي حكمت السياب واليوت في خراب ماثل جسده اليوت بعد الخرب، او خراب متوقع منتظر كان السياب يوحي الى حدوثه في كثير من سطور القصيدة، وما يؤشر بالفعل وايمانا منا لاظهار الحقيقة الراقية لنقطة التقاء اليوت بالسياب هي ميزة الاسلوب المتفرد الذي جمع بينهما دون ان يستند السياب الى اليوت على اعتبار ان السياب متاخر في الزمان في صدور القصيدة عن اليوت الذي تقدم عليه بفترة طويلة حتى اتمام الاصدار واعلانها وليدا جديدا على بلده واوربا، مثلما اعلن السياب ذلك على بلده والعالم العربي، وما انفراد الاثنين بتقنية الانزياح هذه والتي تكاد تنسحب على المعمار الكلّي للقصيدة وبنائيتها المتناثرة الابعاد والاوشاج لديهما، إذ يكاد لا يخلو سطر من سطور القصيدةعند اليوت من رجّة تنقلُ المعنى إلى سياقٍ آخر، منزاحاً عن مركزه، في قراءة تضادّية قوية للموروث الشعري برمّته، يعزّزها افتتانُ إليوت بدمج أساليب أدبية وشعرية ودرامية متناقضة، تتأرجح بين الموغل في سمّوه البلاغي والمسرف في تقشّفه اللّفظي. لكن الذي ابهر النقاد في شعر السياب ليس ما ابهر النقاد في شعر اليوت، لان القفزة التي قدمها اليوت الى بلاده واوربا مختلفة عن تلك القفزة الرائعة التي قدمها السياب الى بلده ومن ثم العرب لاحقا، هذا الانسجام المتواتر المتراصف شكلا مع الوزن الموسيقي الجميل الذي تناوله السياب مع الانسجام الانموذجي في شكل البنائية لقصيدة صورت لنا الشاعر وكأنه لم يبتعد عن خط الوزن ولا عن موسيقى العرب في شعرهم، وما هذه المحافظة على اللون الجديد دون ان يؤشر اي خلل من قبل النقاد، بل هناك من ايد وفي ذلك الوقت بما ابدع السياب وزملاؤه من فن جديد كتب له فيما بعد ان يكون واقفا قويا رصينا على قدمين متجذرتين في ارض صلبة وبقامة شامخة ممتدة الى عنان الفضاء،
ويُجمع النقّاد:
" أن هذه الرؤيا الجديدة للّغة الشعرية ساهمت، إلى حد بعيد، في بلورة حساسية شعرية جديدة غيّرت جذرياً مفهومَنا لماهية الكتابة الشعرية".
وهنا يجدر بنا ومن وجهة نظر تحليلية بحتة النظر الى بواطن الامور لا الى شكلياتها، منطلقين من هذا الاجماع النقدي المختلف المناشيء المتحد الفكرة والنص والهدف، هل كانت غاية النقاد ان تعزو كل محاولة تحديث او تجديد منذ بدايات القرن العشرين شعرا، الى التاثر بروح اليوت ؟ ليس في قصيدته هذه كقصيدة حسب انما الانتقالة العصرية الخطيرة التي لم يكن قد ألفها الاوربيون من قبل في تداعيات تناوله الاسطورة وتمثيلها تجسيدا على الواقع الحي الذي كانت تواجهه اوروبا وكأنها حصيلة تلك العصور من المواجهات، والصراعات التي استمرت عقودا من الزمن..
إنّ لغة اليوت في تمجيده لقيم التضادّ والتقابل والمقارنة في قصيدته، واعتباره الشعر هروباً من الأنا الرومانطيقية، وليس تكريساً لها، شكّل نقطة تحول كبرى في تاريخ الشّعرية الحديثة. على الصعيد الاوروبي ، محاولا تجسيد ذلك ونشره على مساحات اوسع شاملا به على سبيل المثال الشرق الاوسط ومناطق في افريقيا وجنوب شرق اسيا لا اوروبا فقط، وإذا علمنا أنّ إليوت كتب قصيدته، متأثّراً بمناخات الحرب العالمية الأولى، التي لا تغيب صورها المرعبة عن أجزاء القصيدة الخمسة، والتي كانت تصل الى حد التكرار في البنى لولا براعة اليوت في التنقل من حالة الى اخرى وطرح المختلف في القادم من الاسطر، ليكون عاملا جامعا لكل الحالات التي كان يتشوفها في فلسفته الشعرية ذاتها والتي هي الأكثر حسماً في تقديم نصّ مدهش في بنيته ، وإحالاته المنفلتة من كل سياق، والتي تقوم على اجزاء من أحاديث غير مكتملة، ومشاهد مسرحية مقطوعة ، وتأملات فلسفية لا تخلو من التهكم والسخرية، وتهليلات غنائية صوفية، ترثي موت الخالق في الزّمن الحديث. وعلى رغم أنّ إليوت يصف نفسه بالمحافظ أو الملكي في السياسة، والأنغلوكاثوليكي في الدّين، والكلاسيكي في الأدب، إلا أنه باجماع النقاد واهل الشأن أبدع واحدة من أكثر القصائد جنوناً في القرن العشرين. وربما كانت الاولى على هذا الصعيد، إذ تكاد لا تخلو استعارة من إحالة إلى نص سابق، أو نسق رمزي أو أسطوري أعلى، أو استحضار لحكاية رمزية، أو أدبية أو دينية أو شعبية.
( ... وتجدر الإشارة الى انه، وعلى رغم الجهود الجبّارة التي بذلها نقّاد كبار من أمثال لويس عوض، وإحسان عباس، وعبدالواحد لؤلؤة، ويوسف سامي اليوسف، في ترجمة قصيدة "الأرض الخراب" الى العربية، وشرح رموزها، وسبر دلالاتها، كل على طريقته، إلا انها ظلت قصيدة شبه مقفلة امام الشعراء العرب، الذين اكتفوا كما نوّهنا، باستعارة روحها المتشائمة، ونبرتها الهجائية، وموقفها النقدي، من دون تمثل درسها الجمالي الفذ. ويجب الاعتراف بأن القصيدة صعبة المنال، وتجيد إخفاء أسرارها، والنأي بنفسها عن إغواء الشرح والتأويل، وما الهوامش الاثنين والخمسين التي ضمّنها إليوت في القصيدة، والتي باتت أكثر شهرة من القصيدة نفسها، سوى دليل على إمكانية تعدد القراءات وتنوعها، واختلاف الاجتهادات وتناقضها، وبخاصة ان النقد الحديث بات يعتبر هذا النص الحداثي من كلاسيكيات القرن العشرين، ولا يقلّ تأثيره في وعينا الجمالي والنقدي والشعري عن تأثير شكسبير في المسرح، وبيتهوفن في الموسيقى، وبيكاسو في الرسم، ونيتشه في الفلسفة.)
مايهمنا بعد هذا الاستعراض هو حالة المقارنة بين اليوت والسياب كشاعرين في زمكانين مختلفين، في قصيدتين متقاربتين روحا ورؤى وموضوعا ان جاز لنا التعبير، مع تحفظنا على ان انشودة المطر نهلت من ذات الموضوع ،واحتفاظنا بحق الانتصار للسياب في جزء بعيد عما تناوله اليوت لاختلاف ماهية المجتمعين العراقي العربي والانكليزي الاوروبي .. وسياتي شرح ذلك فيما يلي من سطور..
الاسئلة التي تم تداولها من هنا وهناك سنكون واضحين في الاجابة عنها وقد استطعنا جمع اغلبها مع تشابه الاخريات في الطرح
"الارض اليباب" لاليوت و"انشودة المطر" للسياب، هل كان السياب قد تاثر باليوت؟
هل كانت روح "انشودة المطر" تحاكي " الارض اليباب "؟
اين التقارب والتلاقي والتراصف فيما بين العملين؟
اين الاختلاف فيما بينهما؟
ما تاثير اليوت على الواقع الشعري الانكليزي الاوروبي؟ وما تاثير السياب على واقعه الادبي والشعري العراقي والعربي ؟
هذه الاسئلة واخرى غيرها سنتناولها في قادم الحلقات
......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق