الجمعة، 18 يناير 2019

قراءة لقصيدة الشاعرة فاطمة محمود سليطين ( حصاد الآخرة ) رؤية : محمد الدمشقي

قراءة لقصيدة الشاعرة فاطمة محمود سليطين ( حصاد الآخرة )
رؤية : محمد الدمشقي
مقدمة : بعد دراسات نثرية كثيرة أظن بأننا بحاجة الى قراءة النص العمودي المتهم عند بعض الحداثيين أنه مقيد و غير قادر على التحليق و صناعة الدهشة
و هذا ظلم كبير لأن الشعر العمودي الذي صمد أكثر من ألفي عام و بقي أساس الشعر قادر على تطوير أدواته و مواكبة عجلة الزمان و التحليق بعيدا بصور و انزياحات و مجازات رفيعة المستوى غير آبه بضوابطه لأن من امتلك ناصية اللغة و التعبير لا يمكن لشيء أن يقيده
و من هنا كانت وقفتي مع قصيدة عمودية قوية متطورة تثبت أن الشعر العمودي ما زال بخير و أنه قادر على التحليق بعيدا
نظرة أولى :
نحن مع قصيدة شموخ و يقين و ارادة واثقة ... هادرة ...كقافيتها التي تمكنت منها شاعرتنا بقوة و نجحت في جعلها مطواعة لكل الابيات منسجمة مع ايقاعها الداخلي الهادر الواثق الذي أفادته ألف التأسيس الواثقة في القافية و تلك الهاء بعد الراء و التي تشعرنا بحالة حماسية مناسبة جدا لمعاني النص التي تدعو للثبات و الشموخ و رد العدوان و قوة الارادة مستبشرة بتطهر الارض من البغاث و الاعداء و عودة الامل و الحب و الامان اليها مقدسة هذا التراب معلنة انتماءها الى الوطن و متحررة من كل فكر ظلامي يمزق شمل الوطن ...
طبعا الغرض كلاسيكي و مطروق في الشعر العمودي لكن طريقة التناول كانت مكمن الابداع
الإضاءة :
سأحاول في إضاءتي أن أقف عند أهم الأبيات و أكثرها تأثيرا و كذلك عند الصور الابداعية الراقية في النص اضافة الى دراسة المعاني و الأهداف و الأسلوب
و يهدهد الكون الجريح عناقه
و يشك في عين الظلام غدائره
أحببت ان انوه في هذا البيت الى مسالة مهمة و هي حداثة البيت الشعري كصورة و ليس كمفردات مائعة كما يظن بعض الحداثيين ... و لن أقول الحداثويين فهذه مدرسة فاشلة فانا مع الحداثة و لست مع الحداثوية ... لاحظوا الخروج عن النمطية و المألوف و الشيء المتوقع و هنا يكمن الشعر الحقيقي ... فشاعرتنا منحتنا انزياحين رائعين
يهدهد عادة تكون للوجع او للبكاء اما هنا فهو يهدهد العناق و هذا مد رقعة الصورة لان العناق هنا عناق الانسانية و تلاقيها بدلالة الكون الذي وسع الهدف ايضا
ثم المفاجأة و الضربة الشعرية في يشك غدائره ... الغديرة هي الجديلة يشك في عين الظلام غدائره اي ضوءه المتمثل بهذه الجديلة التي تحولت الى سلاح و الجديلة هنا لها معنى مهم جدا و هو الترابط و التعاضد بيننا كسوريين و هذا هو السلاح الامضى ... تشعر هنا بحالة شاعرية حقيقية ...
و يمزق الديجور ضوع هديله
فتفور أنفاس السلام العاطرة
هنا يمزق ضوع الهديل الديجور ... صورة ثلاثية الابعاد فالهديل تجسد عطرا و الديجور تمزق به ...
و لاحظوا كيف من ثقب الديجور و بطريقة علمية مدروسة تفور انفاس السلام العاطرة .... فالسلام مثل صباح يتسلل من ثوب العتمة
و يفك للأضغان أزرار الردى
فيرف سرب للأماني الغائره
لاحظوا تدرج الحركة في النص و هذا الربط التصويري الدرامي الراقي لتمدد النور و انقشاع الظلام برمزية و حركة شاعرية لا تتوقف و انزياحات مدهشة في كل بيت و ربط عضوي بين الشطرين ... في قول شاعرتنا فيرف سرب للاماني الغائرة مثلا ..نتخيل سرب حمام يتسرب من خلال العتمة بعد ان كان النور غائرا عميقا بسبب كثافة الظلام
المشهد في المقطع الثاني اشبه بعودة للخلف فبعد ان وضعتنا الشاعرة امام صورة درامية راهنة يتسلل فيها الضوء ليفك ازرار العتمة ثم ترينا الشاعرة الاسباب التي اوصلتنا لهذا الظلام و هو الربيع العربي الكاذب الذي عاث افسادا في بلادنا لانه مخطط له من الخارج فصورت لنا الوضع بذكاء شاعري
حيث ان هذا الربيع او الفتنة تدخل اثناء غفلة ما فيفك العروة الوثقى و يمزق المجتمع و الوطن فتتناثر القلوب و هاجر الكثيرون الوطن بسبب هذا الضياع الفكري الذي سبب لنا كوارث و مصائب و حربا طويلة
و انتهكت الحرمة و الحرمة هنا هي قداسة الوطن و المحبة التي تجمع ابناءه و عندما تنتهك هذه القداسة بافكار ظلامية مضللة فهذا يؤدي الى خراب و دمار رغم اننا مع الاصلاح لكن ليس بهذه الوسائل التي تمزق شمل المجتمع و يمزق اللحمة الوطنية التي تجمعنا كسوريين دون اي انتماءات مذهبية طائفية تمزيقية
لكن تختم الشاعرة المقطع الثاني بطريقة راقية بالحب و الامل فتقول
و ستسجد الامجاد فيها مثلما
صلت نوافل في العهود الغابره
بيت مهيب عظيم فيه معنى رائع و هو ان هذه الارض المقدسة كانت تعطي كل البلاد من خيرها و حبها و هذا موثق عن سورية الخيرة التي كانت تعطي لبنان و الاردن و كل البلدان العربية من خيراتها و تستقبل على ارضها كل مجروح و بكل حب و طيب .. معنى عميق
لكن تلك العودة تحتاج الى صرخة حق و لهذا ختمت المقطع بقولها
لا تغضين على القذى يا صرختي
هبي و دوي في مسامع حائرة
الفاظ جزلة قديمة هنا في هذا البيت في تنوع شاعري جميل حتى في مفردات شاعرتنا الراقية ....
انا صوت عشتار إذا أومتْ إلى
حقلٍ غفا فتحَ الربيعُ بصائرَهْ
دعوة ضمنية للانثى السورية بان تتبوأ موقعها كصانعة للأمل لا ان تبقى متفرجة ... الانثى السورية لها تاريخ و جذور و هي قادرة على تخقيق المعجزات بارادتها الصلبة و ذكائها المعروف و صبرها و عزيمتها المشهود لها
و لاحظوا التصوير الحركي الراقي في قول شاعرتنا
و تمايلت امواج أقماح زهت
ببطونها حبلى السنابل هادرة
الهدف عميق هنا ... فهناك في تلك السنابل الحبلى أمل و نور و خير قادم
لست القاصرة
صرخة لكل انثى بانها ليست قاصرة بل هي قادرة على الدفاع عن الحق و تربية الاجيال و دعم الرجل و حماية الوطن بالحب و العطاء او حتى بالشعر و الكلمة المقاومة
سيفي حروف أثقلت بمواجع
زفرت أنينا من صدور صابرة
بيت فيه شموخ ... ففي محبرة الوجع و الزفرات و الانين وضعت الشاعرة يراعها لتكتب و يصير شعرها سيفا و الرائع هنا الدعوة الراقية بأن يكون الحرف معبرا عن المواجع الوطنية و الانسانية و متداخلا فيها فبوحنا تعبير عن كل مواجع الناس و همومها و انينها و صبرها الطويل
للشمس مدت عنقها و تهجدت
ليرتق الدفء انشراخ الآصرة
بيت مشرق يسطع بقوة ... التهجد للشمس جميل جدا هنا و الشمس دلالة على الوضوح و النقاء و الصدق و الامل و ليست مصابيح مضللة خادعة هو ضوء الحقيقة الساطع الذي يرتق الشروخ و يعيد المتانة لأواصر المجتمع .... و نلاحظ الانزياح الملفت ( ليرتق الدفء ) تجسيد مميز للدفء
من لم تكن بحرفها جرحا ثغا
منها تبرأ نبض نبض الشاعرة
توكيد لفظي هدفه تاكيد الفكرة في قفلة هذا المقطع ... فمن لم يكن هدفه من الشعر رتق الجراح فلا معنى لشعره و الرائع هنا انها تخيلت للجرح فما يثرثر و لا بد من تكميمه ... نعم فوراء الجراح احاديث ملتوية و ظلام يثرثر لا بد من اسكاته بالحق و الشعر و المنطق
لمقطع الاخير
إنّي أرى سربَ الحمائمِ سابحاً
في روضتي يشدو حصادَ الآخرَهْ
هنا اود ان انوه الى قدرة الشاعر على الاستبصار للقادم فالشاعر قادر على رسم الأفق من خلال احساسه و وعيه و فكره ... و لا بد ان يكون الشاعر واثقا يحمل مشعل امل و انبعاث ... نعم انبعاث الطائر من تحت الرماد نافضا كل الركام و الاسى و الموت .... سيعود الحمام يرفرف فوق هذه الديار و الحمام رمز للسلام و الطمأنينة ... و الطير المنتفض رمز للفجر القادم و الامل الذي لن يموت مهما تكدست فوقه كثبان الرماد
كما تستبشر الشاعرة بخروج هؤلاء المجرمين العابثين بحرمة الاوطان مخذولين صاغرين مهزومين .. لانهم مسوخ مصطنعة من الاعداء ... مصيرهم الخسران و لانهم بغاث اي حشرات سخيفة لا فكر لها و لا جذور و لا شعور .... و ستبقى في السفح بينما الذرا للحب و الوئام و القلوب النقية المحبة المنيرة
نص هادر عاصف شامخ فيه رسائل وطنية و انسانية رائعة جدا
وقفة بنيوية اخيرة مهمة جدا في هذا النص الراقي
المقابلات الشعرية اساس مهم في الموزون لاننا امام شطرين كل شطر يمثل وجها لعملة ما
مثلا شاهدنا المقابلات بين النور و الظلام
و يمزق الديجور ضوع هديله
الديجور ظلام و الهديل رمز للصباح
ايضا المقابلة بين الحب و الكراهية
فيعود للسفح البغاث و تهتدي
لذرا الوئام قلوبنا المتناحرة
لاحظوا المقابلة بين الوئام و التناحر كم وسعت الهدف
ايضا هناك مقابلة دائمة معنوية في النص بين الخير و الشر و بين انتصار الحق و هزيمة الباطل و بين شموخ الحق و سفاهة الباطل و بين كرامة الحق و ذل الباطل و هذا في كل الابيات تقريبا
ايضا اشير الى ثقافة الامل التي كانت اساسية في النص و برايي هي اهم رسالة في الشعر فالشعر انبعاث و انطلاق و امل و عزيمة و شموخ
ايضا اشير الى ثقافة الانوثة الفاعلة المنتجة المقاومة الصابرة و هذه رسالة مهمة جدا تبين دور المرأة الأساسي في دعم الحق و لو بكلمة
ايضا اود أن اشير الى الدعوة الدائمة في التص للترابط الوطني و نبذ التفرقة و الفكر الظلامي التمزيقي و هذه رسالة مهمة جدا جدا أيضا
كذلك اود الاشارة الى المعجم اللغوي الزاخر الذي مكن الشاعرة من وضع المفردات في مكانها الصحيح المناسب تماما دون تكرار و لا ركاكة و لا تكلف
و أشير أخيرا الى الكم الهائل من الصور و الانزياحات الحداثية المترافقة مع روح الشعر العمودي و اصالته و مفرداته بنفس الوقت و هذه خلطة سحرية لا يجيدها الا الكبار
هذه نظرتي العامة لهذا النص كنموذج مميز للقصيدة العمودية المتهمة بالقصور و القيود ... لنتعلم ان لا قيد ابدا يقف في وجه الشاعر الحق
النص :
للحبِّ أنذرُ صيحتي وقريحتي
فَتزُفُّ وشوشةُ الصباحِ بشائرَهْ
ويهدهدُ الكونَ الجريحَ عناقُهُ
ويشكُّ في عينِ الظّلامِ غدائرَهْ
ويمزّقُ الديجورَ ضوعُ هديلِهِ
فتفورُ أنفاسُ السّلامِ العاطرَهْ
ويفكُّ للأضغانِ أزرارَ الرّدى
فيرِفُّ سربٌ للأماني الغائرَهْ
*******
عاثَ الرّبيعُ بحضنِ داري مُفسداً
في غفلةٍ بُتّتْ وشائجُ طاهرَهْ
والعروةُ الوثقى تكسّرَ ضلعُها
فتناثرتْ دُرَرُ القلوبِ مُهاجرَهْ
والحرمةُ انتُهكتْ بفعلٍ ينتمي
لفصيلةِ التّضليلِ تلكَ الماكرَهْ
ياوصمةً في جبهتي لن تمكثي
ستتوهُ في أرضي دروبُكِ عاثرَهْ
وستسجدُ الأمجادُ فيها مثلما
صلّتْ نوافلَ في العهودِ الغابرهْ
لا تغضيَنَّ على القذى ياصرختي
هبّي ودَويّ في مسامعَ حائرَهْ
********
انا صوتُ عشتارٍ إذا أومتْ إلى
حقلٍ غفا فتحَ الربيعُ بصائرَهْ
وتمايلتْ أمواجُ أقماح،ٍ زهَتْ
ببطونها حُبلى السنابلِ هادرَهْ
بنضالِ خولةَ سوفَ أهزمُ صولةً
لحثالةِ الأزمانِ ، لستُ القاصرَهْ
سيفي حروفٌ أُثقِلتْ بمواجعٍ
زفرتْ أنيناً من صدورٍ صابرَهْ
للشّمسِ مَدّتْ عنْقَها وتهجّدتْ
ليرتّقَ الدّفءُ انشراخَ الآصرَهْ
منْ لم تكمَّ بحرفها جرحاً ثَغا
منها تبرّأ نبضُ نبضُ الشاعرَهْ
********
إنّي أرى سربَ الحمائمِ سابحاً
في روضتي يشدو حصادَ الآخرَهْ
والطّيرَ مُنتفضاً ببعثٍ صادحاً
من تحتِ أكداسِ الرّمادِ الآسرَهْ
ويرنُّ في أذُني نشيجُ توجُّعٍ
لخُطا المسوخِ على الدّروبِ الخاسرَهْ
فيعودُ للسّفحِ البغاثُ وتهتدي
لذُرا الوئامِ قلوبُنا المتناحرَهْ
ماحامَ في حضنِ الكرامةِ ناعقٌ
مهما تبجّحَ سوفَ نكسرُ خاطرَهْ
*********
البحر الكامل
فاطمة محمود سليطين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق