الجمعة، 18 يناير 2019

( الـفـرزدقُ حـاضـراً ) دراسة نقدية في قصيدة (مكابدات الفرزدق الأخيرة)للشاعر الاعلامي / مهند صقور بقلم / الاديب الناقدكريم القاسم

( الـفـرزدقُ حـاضـراً )
دراسة نقدية في قصيدة (مكابدات الفرزدق الأخيرة)
للشاعر الاعلامي / مهند صقور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مازال الفرزدق يشكل علامة فارقة في جودة النظم وقوة الأسلوب الشعري رغم براعته كغيره من شعراء العرب في الفخر والمدح والهجاء ، وتأتي أهمية نظم هذا الشاعر الفحل هو في الحفاظ على الكثير من الالفاظ والمعاني والتي لولاه لاندثرت وتآكلت ، حتى قال فيه اهل اللغة :
" لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث العربية "
مواقف الشاعر المُحبة لآل بيت الرسول (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين ) معروفة واضحة مشرقة . وأجمل إشراقاته تلك القصيدة الميمية الرائعة من بحر البسيط ، والتي تعتبر من النظم الخالد التي مدح فيها الامام زين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب ـ رضي الله عنهم وارضاهم ـ في موقف صمتتْ فيه كل الالسن عن الجهر بالحقيقة ، الا انه وقف متفرداً بوقفته الجسورة مبتعدا عن عطاء الخليفة الباذح حينها ، ليجهر بقصيدته التي اودعها كل معاني السمو وعناوين الصدق .... والتي مطلعها :
" ياسائليّ اين حلَّ الجودُ والكرمُ .... عندي بيانٌ إذا طلابهُ قدموا
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتهُ .... والبيتُ يعرفهُ والحلُّ والحَرَمُ "
حتى ختمها بأجمل وأبلغ ختام :
" مَوَاطِنٌ قَدْ عَلَتْ فِي‌ كُلِّ نائِبَةٍ .... علی‌ الصَّحَابَةِ لَمْ أَكْتُمْ كَمَا كَتَمُوا "
وهذا الخطاب الفرزدقي يحمل سمة الجرأة والاقدام حينما اُلقيَّ امام جمع من الحجيج بحضور الخليفة الاموي (هشام بن عبدالملك ) عندما لم يستطع شق صفوف الحجيج بعد طوافه لاستلام الحجر الأسود رغم وجود الشرطة والحرس وموكبه الكبير، ولكن لما حضر زين العابدين انشقتْ له الصفوف بين تهليل وتكبير ، وفسحوا له المجال لاستلام الحجر ، فأغاض هذا الموقف هشام ، وشعر بالخجل والخيبة ، فما كان من احد المتملقين المرافقين إلا أن حاول التقليل من شأن الامام وإنقاذ الموقف لرفع الحرج والغضب عن هشام بن عبدالملك .... فقال :
ـ مَنْ هذا الذي هابه الناس يا أمير المؤمنين ؟؟
فاجابه هشام :
ـ لا أعرفه ؟
وكان الفرزدق حاضراً ــ كون الخلفاء يصحبون معهم الشعراء لانهم المادة الإعلامية لهم ــ فقال :
ـ لكني أنا اعرفه .
فقال الشامي :
ـ مَن هو يا أبا فراس .. ولم يكن يتوقع من الفرزدق أن يتجرأ ليلقي بهذه القصيدة العاصفة الهادرة .
وكما هو معروف في كل البلاطات ، لايمكن لأحد أن يتجرأ وينطق بالحقيقة ، فالمال والمنصب يكمم الافواه ، لكن الفرزدق تقدم جاهراً بالحقيقة التي صَدمتْ الجميع ، والتي كان نصيبه منها السجن والتنكيل والنفي . والقصة معروفة تاريخيا في كثير من المصادر ومنها (تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر- المجلد 41- الصفحة 400 ) وذكرها أيضا الكثير من اعلام التاريخ والرواة كالبحراني وأبي نعيم والاصفهاني . ولشدة ثباته وشكيمته وثقته في نفسه فقد كان يلقي القصيد امام الخلفاء وهو قاعدا .
ــ الذي دعاني الى هذا التقديم هو حسن الربط من قبل الشاعر الإعلامي (مهند صقور) لهذه الشخصية العربية الكبيرة وبين فكرة قصيدته اختيار هذا النص ، مما وفرَّ لمسة الابداع والممازجة الرائعة بين محطات الفرزدق الشعرية وبين كربلاء الحسين . وهكذا نصوص أدبية بات الكثير ـ منذ فترة ليست بالقصيرة ـ الابتعاد عن الولوج فيها او عن تعزيزها بما يجب من مستحقات تاريخية وفكرية ، لاسباب فكرية ضيقة ومغلقة يعصف بها الجهل والخوف والحَمق ، إلا ان الفكر الحديث الحر الرصين بات يكشف الحقائق كماهي ، ويمقت أقلام السلاطين وتشوهات التاريخ ، رغم ان الغرب كتب عنها اكثر مما كتبنا نحن .
ــ الإعلامي الشاعر (مهند صقور) كاتب وقلم متين يجيد العزف على الوتر الشعري ، ومازال خياله خصبا لاينتج الا ثمارا ناضجة تستحق القطف والتناول .
لماذا يحضر الفرزدق هنا ؟؟
الفرزدق قلم جريء صريح وثوب ، عندما يحتاج الحق عضدا نراه ينبثق كنبعِ ماءٍ صافٍ يستلذ السامع ببيانه وفصاحته وجزالة لفظه وعنفوان بلاغته ، حتى تكاد تستشعر هدير رعده وصرير قلمه .
من هذا الوصف المكثف اجد شاعرنا قد انطلق برحلته ذات الست محطات لينتخب طريقاً ليس كطرق القوافل أو طرق الخرائط ، انما طريق حياة ، وطريق رفض طغيان ونكران ذات وجراءة قل نظيرها في تاريخ الثورات والانتفاضات قديمها وحديثها ، انه طريق التضحية والفداء ... انه طريق كربلاء .
ــ الربط بين الفرزدق وهذا الانتخاب المجازي الرائع هو حلقة وصل بين سِمة قلم الفرزدق في مدح آل بيت الرسول وبين كربلاء التي تعتبر بوصلة فدائهم ومنارة صولتهم .
لذا فقد احكم الشاعر توجيه قلمه بين هذين الفضائين حتى نشر اشرعة ابداعه وابتكاره حينما ابتدأ بتقديم قصصي فصيح بليغ لايتجاوز عدة اسطر ليرشد المتلقي الى مبتغاه وليرسو في موانيء الجمال الادبي وروعته .
ــ امامنا النص الاتي مع تقديم رائع بليغ من قبل الشاعر :
" مُكَابَدات الفرزدق الأخيرة "
الشاعر الإعلامي مُهنّد صقّور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هُناكَ في مملكةِ القصيدِ المُقدّسِ سألتُ عنهُ ... أشارت لي قافيةٌ ملقيّةٌ على رصيفِ الإهمال تتخبّطُ بدمائها وأومأتْ لي بالمسير ... سرتُ وسِرتُ .... وفي الطّريقِ ما بينَ الصّدرِ والعجزِ التقيتهُ حانٍ يحذفُ حشواً هنا ويجبرُ وزناً مكسوراً هُناك ...
ـ مَنْ أنتَ ؟
سألني ... وهو يرفو جراحَ مُفردةٍ خالطتها دموعهُ ... نعم لقد عرفتكَ .
ــ عرفتكَ أنتَ ذاك البيتُ مِنَ الشّعرِ الكربلائيّ الذي أنكرهُ قرّاؤه وألقوا بهِ مِنْ جرفٍ هارٍ ... نعم أنتَ مَنْ تمرّدَ على جهلهِم وهرائهم وأوهامِهم ... أنتَ مَنْ ملّ نعيبهم ونقيقهم ...
ــ أنتَ .. تعالِ معي .... قالها بصوتٍ لم يكدْ يُسمعْ .
سار وسرتُ وراءه ولم أزل أسيرُ حتى الآن .
.......................................
( مُكَابَدات الفرزدق الأخيرة )
الشاعر / مهند صقور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
في الطّريقِ لِكَرْبَلاءْ ...!!ِ
ينَسَى الزّمَانُ زَمَانَهُ ...
وتَضِيقُ آفَاقُ الوجُودِ ،
ويَغيبُ مِنْ دَهَشٍ ذَاكَ الزّمَانْ .
في الطّرِيقِ لِكَرْبَلاءْ ...
تُنكِرُ السّماءُ زُرْقَتَهَا ...
وتَهْجُرَهَا شَتّى الكَواكِبِ ،
وتصيحُ تَحْلُفُ أنّهَا.....
لَيستْ سَمَاءْ ...!!
(2)
فِي الطّرِيقِ لِكَرْبَلاءْ...
يَأكُلُ الوَقتُ نَفسَهُ .
يَجْتَرّ أدْهَارَاً .
تَورّمَ جُرْحُهَا ...
ويَقيسُ الشِّبْرَ بِالفَترِ ...
ويُطْلِقُ زَفْرَةً حَيرى ...
ويَذْرِفُ دَمْعَةً حَرّى ...
ويُطْلِقُ صَرْخةً مِنْ قَهْرِ ..
: أنَا الوَقتُ الذي أسْرَيتُ
مِنْ قَبْرٍ إلَى قَبْرِ ....!!
(3)
فِيْ الطّرِيقِ لكَرْبَلاءْ ...
يَنْحَرُ الطّيفُ مَوتَهُ ..
ويُخيطُ مِنْ نَارِ الغضَا كَفَنَاً ،
ومِنْ جَمْرِ الوَجِيبِ وِسَادَةً ،
لِيُقَابِلَ المَلَكَينِ مَوتَاً رَاحِلاً ..
ويَجيءُ ربَّ العَرشِ ...
يُقْسِم بِاسْمِهِ .
هَا قَدْ وَفَيتْ ..
فَأنِرْ لِيَ يَا مُرْسِلي
الدّرْبَ الـمَشَيْتْ
(4)
فِيْ الطّرِيقِ لكَرْبَلاءْ ...
تَتَبَرّأُ الأحْرُفُ مِنْ ظِلّها ..
وَتَسِيرُ خَلْفَ دَوَاةِ حِبْرٍ أُجّرَتْ
لِلجهلِ ألْفَ قَرنٍ أرَعَنٍ ،
واسْتُبْدِلتْ بِقَنَابِلٍ وَمَدَافِعٍ ..
بِفَتاوى قَتْلٍ أصْفَرٍ ..
بِنِكَاحِ حُورٍ مَلّتِ العَنَسَ المَقِيتَ ،
فَهَاجَرْت أوْطَانَهَا طَوعَاً ،
لِتُرْضِي عُرْيَهَا ...
وَتَخُطَ فِي هَزَلِ الجِهَادِ حِكَايَةً ..
أوصَى بِهَا ( هُبَلٌ )
وَأرّخَ عُهْرَهَا...
الجِيلُ الشّتِيتْ .
(5)
فِي الطّرِيقِ لِكَرْبَلاءَ ....
يَنْتَابُني أمَلٌ ..
ويَقطَعُ خَلوتي شَبَحٌ ..
وأرَى علَى الكُثبَانِ ظِلٌّ جَالِسٌ
تَقودُني الخَطَواتُ عَجْلى نَحوهُ ...
فإذَا بِهِ شَيْخُ القَرِيضِ (فَرزدَقٌ)
يَحنو على قَوسٍ ...
يُمَسّدُ رِيشَها ..
: لَا تَقتَرِبْ مِنّي .
إيّاكَ أنْ تَطَأ الكُثَيبَ بِخَطوةٍ .
قالَ ـ وقدْ كَواهُ الرّملُ ـ
لِأيّ مَكانِ يَا هَذا تَسِيرُ وأنتَ لا تَدري ..؟
قلتُ :
رُويداً شَيخَ هَذا العَصر...
لِمَ التّقليلُ مِن قَدْرِي ..؟
فثَارَ الشّيخُ مُنتَفِضَاً ....
كبُركَانٍ علَى قَدرِ ،
وهَاجَ ...
ومَاجَ كَالمَطعونِ ..
كالمَلدوغِ مِن جُحْرِ .
وقَالَ وَقَدْ علَاهُ الغَيظُ :
أنتُم سُبّةُ الأزْمَانِ
مِنْ بَدوٍ ومِنْ حَضَرِ ،
وأنتُم أنتُم الأعرَابُ
أنتُم عُصْبَةُ الكُفْرِ .
ألَسْتُمْ مَنْ أبَاحَ العِرضَ ..
وبَاعَ الأرْضَ بِالشّبْرِ ؟
ودَاسَ قَدَاسَةَ الأوطَانِ ..
مَفتُوناَ بِمَا يَجري ..؟
ألَسْتُمْ جُنْدَ سَلطَنَةٍ ...
تَسَنّمَ عَرْشَها عَلَناً
سَليلُ البَغيّ واللخنَاءِ ،
ونَجلُ الطّغمةِ اللُقَطَاءِ ،
وخَاتمُ أرْجسِ البُلَهَاءِ ،
أمِيرُ دَوَاعِشِ الطّلَقاءِ
إبْلِيسٌ فَتَى بَغدَاد
مَولَاكُم (أبِو بَكْرِ) ..؟
(6)
فِي الطّرِيقِ لكرْبَلاءَ ....
مَشَيتُ والوَجَعُ (الحُسَينِيّ) مَعِي ..
وَدُمُوعُ ( زَيْنبَ )
تُسْرِجُ المِشْكَاةَ فوقَ رُمْحٍ شَاحِبٍ ...
فَيُضِيءُ جُرْحي بَعْدَ ظُلْمَةِ أدْهُرٍ ..
وإذَا بِهِ مُزّمِّلاً بِدِمَائِهِ نَبْضي ،
وقَلبِي مُمْسِكٌ بِرِدَاءِ (زَيْنِ العَابِدينْ) .
...............................................
ــ اختار الشاعر عنوانا ذكيا جداً (مكابدات الفرزدق) منتخباً مفردة مناسبة جداً للفكرة برمّتها وهي (مكابدات) حيث انها مصدر للفعل (كابدَ) والمكابدات تعني المعاناة والمَشاق وتحمّل الشدائد والاهوال ، وعندما جاء الشاعر بالاسم جمعاً فهو يعني ذلك ، لان (الفرزدق) قد عانى ماعانى من مشاق وأزمات ومِحَن بسبب صولاته في إظهار الحق والذود عن آل البيت .
لذا فإن شاعرنا (فهد صقور) قد ابدع وابتكر نصا عميقا في رؤاه ، وغاص الى عمق الاحداث ليستخرج لنا نصا شعريا يمثل رحلة ألم ومسيرة تضحية وفداء مستمرة شرع الشاعر بالتنقل بين محطاتها الست المقتطعة من السِفر الكربلائي ليسمو في نسجه المُبهِر الراقي ، ولينقش لنا صورا ومجازات هائلة تجعل المتلقي يعيش ذات الحدث .
ــ التقديم الذكي الرائع الذي سبق النص قد استعرضه الشاعر بقوة ودراية وعناية ، بل واستنفر طاقته الإبداعية ليجعل من هذا التقديم قطعة أدبية أخرى تدخل في عالم الاقصوصة . والفكرة هي عبارة عن حوار بين الشاعر والفرزدق ضمن مكان سمّاه الشاعر مجازاً (مملكة القصيد) حيث وفر لها الغطاء الذي تستحقه من العناصر المطلوبة (الفكرة ـ الحدث ـ التنسيق والتهذيب) لذلك وجدتُ نفسي مُجبراً ومقاداً لتحميل نقدين في هذا المقال ، أحدهما للتقديم الذي جاء مُغلَّفاً بجسد الاقصوصة ، والآخر للنص الشعري الذي جاء يمثل محطات رحلة شعرية بكبسولة زمنية كربلائية مستمرة الحدث والاشراق .
ــ العنوان (مكابدات الفرزدق) جاء مشتركاً للنصين كونهما ولدا من رحم فكرة واحدة .
وتوفرتْ في التقديم وحدة بنائية تمثل اقصوصة ذكية ، والتي استطاع الشاعر ان يشكلها بإتقان ومهارة عالية .
ــ الاقصوصة هي فن ادبي يختلف بعض الشيء عن القصة القصيرة الا انهما يشتركان بالعناصر والسمات الفنية ذاتها عدا ان الاقصوصة تتميز بمايلي :
• بساطة وتكثيف النص .
• قلّة التفاصيل والاحداث .
• قلّة عدد ابطالها .
• الفكرة برمتها تتمحور حول شخصية واحدة لا اكثر .
• التنقل الخاطف والسريع بين الاحداث .
هذه المميزات قد نجح الكاتب في التعامل معها وبدقة متناهية وبإحترافية مدهشة وبخطابٍ رَزُنٍ مُنصفٍ لايخلو من الجمال الادبي ، مستخدما مفردات تناسب المقام مثل (مملكةِ القصيدِ المُقدّسِ) و (التقيتهُ حانٍ يحذفُ حشواً هنا ويجبرُ وزناً مكسوراً هُناك ).
ــ النص لايتجاوز السبعة أسطر وقد تمحور حول بطل واحد هو (الفرزدق) حيث انطلق المؤلف بحوار تخيلي بينه وبين الفرزدق في مملكة القصيد والقافية ، وجعل حيز الاقصوصة هو البيت الشعري ، والاحداث تدور حول كيفية تأليف المفردات وسبكها شعريا وتشذيبها في عالم مجازي باذخ الجمال ممزوجة بإشارات الى معطيات واهداف نبيلة وسامية ، وقد زانت هذا الحديث فنيات السرد وديناميكية الحركة على خطوات الحوار الذي استطاع المؤلف ان يستعمل في سرده جُمَلاً وتعابيراً مكثفة المعنى قليلة المفردات كأنها ومضات ، مع الاحتفاظ بالإشارة الذكية الى الهدف وهو سِمة شعر الفرزدق والتصاقه بمدح آل بيت النبي ، وغفلة الناس عن سمو قصيده وعنفوان بلاغته ونبل قصده .
ــ لنبحر في اطلالة نقدية في هذا التقديم الذي جاء يحمل سمات الاقصوصة والتي جاءت محاطة بعناصرها الآتية :
الفكرة :
ـــــــــــ
وهي من اوليات العناصر الفنية التي يتمثل بها هكذا نوع من الفنون الأدبية والتي تجسد انطباع المؤلف ، حيث استطاع (مهند صقور) من تجسيد فكرته في نص مكثف ، وبيان انطباعه الشخصي من خلال فكرة خيالية محاطة بعناصر جمالية وصور ابتكارية ، ليقود المتلقي الى محور الفكرة المشتركة بين الاقصوصة والنص الشعري .... فيبدأ اقصوصته بهذا الخيال :
( هُناكَ في مملكةِ القصيدِ المُقدّسِ سألتُ عنهُ . أشارت لي قافيةٌ ملقيّةٌ على رصيفِ الإهمال تتخبّطُ بدمائها وأومأتْ لي بالمسير )
ثم يغوص باعماق الفكرة ليجسدها في سطرين سَلِسَين تحملان الإشارة الى شخص الفرزدق دون النطق باسمه مِن خلال عبارات مكثفة لإرهاصات كان يعيشها الفرزدق في محيطه الاجتماعي والسياسي :
(عرفتكَ أنتَ ذاك البيتُ مِنَ الشّعرِ الكربلائيّ الذي أنكرهُ قرّاؤه وألقوا بهِ مِنْ جرفٍ هارٍ . نعم ... أنتَ مَنْ تَمرَّدَ على جهلهِم وهرائِهم وأوهامِهم . أنتَ مَنْ ملَّ نعيبَهم ونقيقَهم .)
من هذا النسج نستدل على إن المؤلف استطاع ان يحكم قبضته على التوليفة ليعكس انطباعاته الشخصية وعمَّا يجول بخاطره وتقديمها باسلوبه الخاص وذائقته الأدبية . وهذا الركن هو الأهم في فن الاقصوصة لانه يعكس رأي وثقافة المؤلف الشخصية والتي يعتمدها الناقد في الانطلاقة .
الحدث :
ـــــــــــــــ
وهو قلب النص النابض بالحياة ويسمى (العقدة) وفي فن القصة نجد المؤلف يحافظ على تساؤلات عن الحال والكيفية ، واستفهامات عن الزمان والمكان ، ليجسد احداثيات المكان و دقائق الزمان ، وكذلك هنا في فن الاقصوصة يستطيع المؤلف ان يحبك هذه التساؤلات بتفاعل سريع خاطف ، حيث يحتاج الى سرعة بديهية وذكاء شديد وخبرة غير اعتيادية لرصف المفردات ونسج السرد البليغ من خلال الازمة والعقدة التي تدور حولها الفكرة ، فمثلا هذا التساؤل الرائع له من قبل الفرزدق :
(مَنْ أنتَ ؟ سألني : وهو يرفو جراحَ مُفردةٍ خالطتها دموعهُ.... نعم لقد عرفتكَ . )
نلاحظ هنا قوة الحبكة وكيفية إيجاد عقدة متفاعلة بقوة تساؤل مع وصف لحال الشاعر بمفردات قليلة جسدَّتْ كل اللقطة بمجازاتها العالية الدقة ، فلنتأمل هذا النسج والمجاز الراقي في الجملة الحوارية أعلاه ، حيث أراد الشاعر ان يضعنا امام لقطة تمثل لحظات تصور الفرزدق وهو يؤلف الشعر ويختار المفردات ثم يهذبها ، وهذا التهذيب والتشذيب عبَّر عنه مجازاَ بلفظة (يرفو جراح مفردة) وكلمة (يرفو) معناها اصلاح النسج مما حدث فيه من خلل او تهتك وتمزق ، وهو قد أشار مجازاً الى مرحلة (التهذيب والتشذيب ) في التأليف ، وهذا لعمري من جمال النسج وبليغه ، وهل نحتاج بعد هذا الوصف الى وصف آخر .
ثم انهى العبارة بجواب (نعم لقد عرفتك) فتكاملتْ عبارة مُحكمة ضمن فضاء الحدث الواسع . لذلك يجب ان يتوفر عنصر الانتقال الخاطف بعيدا عن الرتابة ، وهذا هو المتوفر في هذه الاقصوصة ، حيث جسد المؤلف احداثيات المكان (مملكة القصيد) والزمان هو زمان (الفرزدق) الماضي الذي ربطه المؤلف باستمرارية الحدث مع الزمن الحاضر فقال :
" ولم أزَل أسيرُ حتى الآن "
وهذا الختام يعتبر من الفضاءات المفتوحة والغير مغلقة التي يعتمدها الان معظم خبراء السيناريو والافلام ، لتجعل المتلقي يستمر التعايش مع الحدث .
التهذيب والتنسيق :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو من اهم عناصر الاقصوصة كونها تحتاج الى مراجعة كاملة بحنكة واقتدار لتنسيق العبارات وكيفية ادراجها ضمن جسد النص بالشكل المُلفت والجاذب ، مع الاحتفاظ بعنصر الدهشة والتشويق .
من خلال قرائتنا للنص تشرق امامنا نباهة المؤلف وعمق اهتمامه بهذا الامر مما ولّدَ نصّاً سرديا مكثفا رائعا يستطيع المتلقي أن يفهم ويتنقل من بداية الحدث حتى نهايته دون شرود او انشطارات لافائدة منها ، مع قوة الربط مع ماياتي من شعر ونسج .
ــ بعد هذا الفضاء النثري السردي الذي زرعه الشاعر(مهند صقور) في مقدمة قصيدته نجد المتلقي ـ بالتأكيد ـ سينطلق في رحلة الشاعر ذات الست محطات وهو متسلح بإحداثيات تدلّهُ على الطريق ، بل ويفهم ماتعنيه اشطر القصيدة من معان وأفهام .
ــ فكرة النص تبلورت في رحلة وصفية للشاعر يصور فيها هول وفضاعة جريمة كربلاء منتخبا صورا شعرية لتلك الفترة من التاريخ مقتطعا زوايا زمنية معينة أجاد في توليف مجازاتها ، ورسم صورة حوارية مع الفرزدق وفضح جرائم (داعش) ليختم نصّهُ بختام رحلته الموازية لقافلة سبايا آل بيت النبي .
ــ اختار الشاعر عنوانا للنص (مكابدات الفرزدق) والذي تحدثنا بشأنه عند نقد التقديم .
ــ في المحطة الأولى من القصيدة ، استطاع الشاعر ان يجسد امام المتلقي عنصري (المكان والزمان) فالمكان هو (كربلاء) وهي مدينة عراقية عريقة ارتبط اسمها باسم (الحسين بن علي بن أبي طالب) رضي الله عنهما وارضاهما ـ كونها تضم رفاته الطاهرة ورفاة الكثير من افراد اسرته واصحابه الذين استشهدوا معه في معركة (الطَف) التي جسدَّت أروع ملاحم البطولة والنبل والتضحية والفداء في سبيل رفع راية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ــ ابتدأ الشعر في المقطع الأول من القصيدة ببناء عَتَبَته النبيهة ليجسد ابتدائه الذكي الجاذب للحس والذوق حيث استعمل الخطاب السردي المباشر كما في الآتي :
" في الطّريقِ لِكَرْبَلاءْ ...!!ِ
ينَسَى الزّمَانُ زَمَانَهُ ...
وتَضِيقُ آفَاقُ الوجُودِ ،
ويَغيبُ مِنْ دَهَشٍ ذَاكَ الزّمَانْ .
في الطّرِيقِ لِكَرْبَلاءْ ...
تُنكِرُ السّماءُ زُرْقَتَهَا ...
وتَهْجُرَهَا شَتّى الكَواكِبِ ،
وتصيحُ تَحْلُفُ أنّهَا.....
لَيستْ سَمَاءْ ...!! "
ــ هذا الابتداء هو دلالة واشارة واضحة جدا بأن الشاعر سيلج الى عوالم مختلفة ويحلّق في فضاءات ومناخات سيكون لفلسفة كربلاء فيها صورا فكرية واحداثا تاريخية وانطباعات وجدانية سنمرّ عليها تباعا . لذلك ابتدأ قصيدته بعبارة (في الطريق لكربلاء) وكررها ضمن المقطع الأول للدلالة على ثبوتها واعتبارها نواة للنص ، وسنجد الشاعر يفتتح بهذه العبارة كل مقاطع النص الست ، وهذا مايؤيد التأكيد ووحدة القصد والهدف .
ــ استخدم الشاعر قافية الهمزة في هذا المقطع وهو من الحروف متوسطة الشيوع في الشعر كغيرها من الحروف مثل (الكاف والحاء والفاء) محافظاً على التردد النغمي الجميل .
ــ في الشطر الثاني من المقطع الأول استخدم الشاعر نسجا رائعا وصورة شعرية أروع جاذبة للحس والدهشة عندما يقول (ينَسَى الزّمَانُ زَمَانَهُ) حيث نستشعر ديناميكية السلاسة والحلاوة والطلاوة في النطق عندما جاء المفعول بنفس حروف الفاعل فتماثلت مخارج الحروف وتوفر حضور سمة التأكيد القوي للفظة (الزمان) .
ــ رغم تزاحم الصور الشعرية في النص واشراق روعتها الا ان هنالك صورا شعرية يجب ان لانتجاوزها لروعة نسجها ودقة تصويرها كما في المقطع الثاني من النص .
وهذا المقطع رغم كثافته وقصر بناء أشطره التي لاتتعدى الست ، إلا ان المتطلع والمتلقي الحصيف سيجد تسديدا ذكيا هادفا يدل على علو شأن هذا النسج ودقة نوله ...
فلنتأمل مايلي :
" يَأكُلُ الوَقتُ نَفسَهُ .., يَجْتَرّ أدْهَارَاً "
النسج ليس شأنا كيفيا او رَصفاً كيفما اتفق ، إنما لابد من الاتيان بالفاظ تجعل الصورة الشعرية بليغة ، فالعبارة الأولى (يَأكُلُ الوَقتُ نَفسَهُ) جاء التعبير مجازاً لفعل الاكل ، وهو يحمل صورة شعرية واضحة جدا ، لكن الشاعر أراد اكمال الصورة وتحريك ريشته السحرية ليضيف لمسات تجعل صورته نبضا متحركا فأردف العبارة بعبارة أخرى (يَجْتَرّ أدْهَارَاً) والفعلان (يأكل ، يجتر) يعودان على الفاعل (الوقت) ... ولنلاحظ كيف جاء الشاعر بالفعل (يجتر) وهو متناسق ومتوافق مع لفظة (يأكل) ، حيث نجد المعنى هو الذي القى بظلاله على الصورة ، فالأجترار هو إعادة الشيء من غير الاتيان بشيء جديد غيره ، كما تجتر الشاةُ الأكلَ من بطنها لتعيده إلى فمها لتمضغه ثانية ثم تبلعه . وهذا المراد هو الذي أراده الشاعر . فمازال الوقت يأكل نفسه ثم يجتره ويعود ذاته تماما باحداثه ليبتلعه من جديد . وكانما يقول : (ان التاريخ يعيد نفسه) .
ــ مما تقدم نجد الشاعر قد استخدم للزمن لفظتي (الوقت ــ أدهار وهو جمع للدهر) إلا ان لكل منهما معنى مختلفا .
فالوقت : هو مقدار من الزمن الذي يُقدَر لإمرٍ معين ، كأن نقول :
وقت صلاة الظهر أو وقت الشتاء أي (الفصل) ... وهكذا .
أما الدهر : فهو الزمن الطويل . وقال اهل المعاجم والتفسير :
بأنه الف سنة من زمان الدنيا .
والذي يهمنا من ذلك هو كيف استطاع الشاعر ان يعتني بمفهوم (الزمان) ويتعامل معه بحنكة واحتراف ، ولماذا جعل الفاعل هو (الوقت) ولم يستخدم غيره من أجزاء الزمان ؟؟؟
الجواب :
لانه أراد من (الوقت) الفترة الزمنية المُقدَّرة و المُحددة بموقعة (كربلاء) ، اما ماتلاه من اجترار وإسراء ـ سنتحدث عنهه في الآتي ـ فهما وصفان ذكيان لرسم صورا شعرية جميلة .
احسنت أيها الشاعر الذكي (مهند صقور) انه لذكاء الموهبة .
ــ ومازلنا نتجول في نفس المقطع لتبرز امامنا صورة شعرية أخرى تحمل عمق الرؤية مبتعدة عن السطحية ، حيث مازالتْ الصورة تناغم الوقت والزمان :
" أنَا الوَقتُ الذي أسْرَيتُ
مِنْ قَبْرٍ إلَى قَبْرِ .... "
لنتأمل هذه الصرخة من لدن الوقت ... فالتصوير هنا هو تكملة (إجترار الوقت للزمان) فالتاريخ مازال مزدحما بالقبور والمقابر وعناوين الموت ، حيث استعمل الشاعر لفظة (أسريتُ) وهو المسير ليلاً ، وهذا توافق رائع مع الصورة البلاغية لما قبلها ، فصار الوقت عند العرب عبارة عن حيّزٍ زماني تملأه جثث بشرية يُسرَى بها ليلا ، كي يُستهلَك هذا الوقت بالدفن والعويل .
ــ تميَّز هذا النص الفخم بالخطاب الجريء الغير متصدّع ،لأن (كربلاء) وحدها هي صرخة وعنفوان وقيم وبطولة وفداء ، حيث لايوافقها الا الخطاب الجريء . ففي المقطع (الرابع) استطاع الشاعر ان يستعرض (الظاهرة الداعشية) التي تعشعشتْ في الجسد العربي لتمثل فترة ظلام وعنف وضلالة متخذة من الدين الإسلامي ستاراً لها ، وهذه الظاهرة تناولها القليل من الأقلام للأسف ، اما خوفا او مسايرة مع الغباء والجهل والتمسك بثقافة التلقي لاثقافة التحليل والنقد والتصويب .
لذا فقد انبرى قلم هذا الشاعر لمعالجة هذه الظاهرة وكشف بعض بؤر الظلام فيها ، حيث استعرض سمات الظاهرة الداعشية من فتاوى ضالّة وكيفية تشبثهم بفتوى جهاد النكاح وكيفية تاثير الجهل على المجتمع الذي لايفقه جوهر دينه الحقيقي ... فقال :
" فِيْ الطّرِيقِ لكَرْبَلاءْ ...
تَتَبَرّأُ الأحْرُفُ مِنْ ظِلّها ..
وَتَسِيرُ خَلْفَ دَوَاةِ حِبْرٍ أُجّرَتْ
لِلجهلِ ألْفَ قَرنٍ أرَعَنٍ ،
واسْتُبْدِلتْ بِقَنَابِلٍ وَمَدَافِعٍ ..
بِفَتاوى قَتْلٍ أصْفَرٍ ..
بِنِكَاحِ حُورٍ مَلّتِ العَنَسَ المَقِيتَ ،"
ــ المقطع الخامس هو نقطة الوصل بين ثلاث محطات (العنوان ـ التقديم ـ الفكرة) وهذه المحطات كلها تصب في فضاء كربلاء .
مالذي تَميَّزَ به المقطع الخامس ؟؟
الجواب :
من خلال العنوان (مكابدات الفرزدق ) والتقديم الذي جاء يحمل بصمة الاقصوصة والتي كان للفرزدق فيها بطولة متفردة . هنا لابد للشاعر ان يجعل للفرزدق حيزاً وفضاء صوريا يناسب المقام ، فصنع اجمل قماشة وبأدق نسج وبأمهر نول .
وعندما نقول اجمل قماشة وادق نول فالسبب هو سمة الابتكار التي طغتْ على هذا المقطع ، وقد حوله الشاعر الى شعر حكائي ممزوج بين الاقصوصة والشعر ، ثم كلام الفرزدق الذي سبكه الشاعر بحرفية عالية الجودة كونه لسان حال الفرزدق ، حتى يكاد المتلقي أن لايغفل عن قراءة شطر ، بل يتروى في قرائته ليمضغ هذه الفاكهة ثم يتحسس طعمها .
ــ لوتأملنا في النسج التالي وكيف صور الشاعر هذا الفضاء القصصي بروح النثر الشعري :
" فِي الطّرِيقِ لِكَرْبَلاءَ ....
يَنْتَابُني أمَلٌ ..
ويَقطَعُ خَلوتي شَبَحٌ ..
وأرَى علَى الكُثبَانِ ظِلٌّ جَالِسٌ
تَقودُني الخَطَواتُ عَجْلى نَحوهُ ...
فإذَا بِهِ شَيْخُ القَرِيضِ (فَرزدَقٌ)
يَحنو على قَوسٍ ...
يُمَسّدُ رِيشَها .. "
قال الشاعر(ريشها ) كون (القوس) تُؤنَث وتُذَكر ، فـ (إبن الانباري) و(إبن السكّيت) اعتبراها مؤنثة ، اما (الجوهري) فقد أَنَّثَها وذَكّرها ، وكان لـ (سيبويه) في (القوس) ذكرا ايضا . وتُجمَع لفظة (القوس) باشكال مختلفة حتى أُنتُخِبَتْ لفظة (قُسيّ) جمعاً لها والتي تُستعمَل في وقتنا الحالي .
ــ ان استعمال لفظة (يُمَسِّدُ) لهي عين الصواب لهكذا صورة شعرية ، حيث اجاد الشاعر الوصف والتصوير في خمس الفاظ لاغير (يحنو على قوسٍ يُمسّد ريشها ) و(يُمسّد) أي يمرر انامله على ريش القوس فيحركها ، وهي صورة دلالية على تفكير الفرزدق في تلك الفارقة الزمنية وانشغاله بالتأمل في شيء ما .
ــ بعد تصوير الشاعر للظل على الكثبان الرملية وعجالة الخطوات ولقائه بالفرزدق وهو يتأمل كما في الاشطر التالية :
" وأرَى علَى الكُثبَانِ ظِلٌّ جَالِسٌ
تَقودُني الخَطَواتُ عَجْلى نَحوهُ ...
فإذَا بِهِ شَيْخُ القَرِيضِ " فَرزدَقٌ"
يَحنو على قَوسٍ ...
يُمَسّدُ رِيشَها .. "
نجد ه ينعطف في نسجه ليبدأ الخطاب والتخاطب بينه وبين الفرزدق ، وهنا بدأ الشاعر برفد النص بالقافية مع اهتمامه بالوزن ، لان التخاطب مع الفرزدق لا يمكن ان يُمَرُّ به مرور الكرام ، فهو يحتاج نباهة وذكاء وحسن خاطر وخيال خصب . لذلك فقد ابدع شاعرنا في هذه الانعطافة دون ان يحدث شرخا في قُماشة النص بل زانها بالجمال والابداع .
فللنظر الى هذا التخاطب الرصين ، والى حديث الفرزدق :
" لَا تَقتَرِبْ مِنّي .
إيّاكَ أنْ تَطَأ الكُثَيبَ بِخَطوةٍ .
قالَ ـ وقدْ كَواهُ الرّملُ ـ
لِأيّ مَكانِ يَا هَذا تَسِيرُ وأنتَ لا تَدري ..؟
قلتُ :
رُويداً شَيخَ هَذا العَصر...
لِمَ التّقليلُ مِن قَدْرِي ..؟
فثَارَ الشّيخُ مُنتَفِضَاً ....
كبُركَانٍ علَى قَدرِ ،
وهَاجَ ...
ومَاجَ كَالمَطعونِ ..
كالمَلدوغِ مِن جُحْرِ ."
ــ والان لنبحث عن سبب هيجان الفرزدق وما سبب انتفاضته ؟
لاشك ان الشاعر قد تبنى فكرة عالية الجودة والنقاء ، وهي فكرة انحراف المجتمع عن كل القيم الإنسانية الحقيقية وما تتضمنه من مفاهيم متنوعة ، لذلك نجده قد نسج على لسان الفرزدق ستة عشر شطراً متنقلا بالقافية ومحافظا على نغمة جاذبة وجرس موسيقي باذخ لإحالة الصورة الى ذلك الزمن القديم بلسان الحاضر والمستقبل ، وكأن الفرزدق يعيش حاضرنا ، حيث بدأ الفرزدق باللوم والملامة لجيلنا الحالي ، فقال :
" أنتُم سُبّةُ الأزْمَانِ
مِنْ بَدوٍ ومِنْ حَضَرِ ،
وأنتُم أنتُم الأعرَابُ
أنتُم عُصْبَةُ الكُفْرِ .! "
ومن خلال الفرزدق استطاع الشاعر ان يشير من بعيد الى الأعراب ومَن تآمر منهم على الامّة ، وأن يُصرّح بالصريح الى احد رؤوس الفتنة والبلاء الداعشي منهم (ابوبكر البغدادي) حين يقول :
" تَسَنّمَ عَرْشَها عَلَناً
سَليلُ البَغيّ واللخنَاءِ ،
ونَجلُ الطّغمةِ اللُقَطَاءِ ،
وخَاتمُ أرْجسِ البُلَهَاءِ ،
أمِيرُ دَوَاعِشِ الطّلَقاءِ
إبْلِيسٌ فَتَى بَغدَاد
مَولَاكُم (أبِو بَكْرِ) "
ــ اجمل مافي النص هو مسك ختامه (المقطع السادس) وقد تمكن الشاعر (مهند صقور) من تكثيف المعاني الكثيرة والخلابة في سبعة اسطر وكأنها الحدث برمته مستعملا الرمز الواضح مع مجازات نبيهة .
ــ كعادته يبدأ كل مقطع بعبارة (في الطريق لكربلاء) فهي خارطة طريق له ولهذا السِفر الشعري الرائع ، فيختم النص بتصوير يعكس مسيره محملا بالألم والحزن لما أصاب (الحسين) وسبي عياله وآل بيت النبوة ، فيقول :
" فِي الطّرِيقِ لكرْبَلاءَ ...,!
مَشَيتُ والوَجَعُ (الحُسَينِيّ) مَعِي .. "
ــ والآن لنتأمل هذه الاشطر ، ولنفرز الصور الشعرية والخيال المؤدلج بعناية فائقة :
" وَدُمُوعُ ( زَيْنبَ )
تُسْرِجُ المِشْكَاةَ فوقَ رُمْحٍ شَاحِبٍ
فَيُضِيءُ جُرْحي بَعْدَ ظُلْمَةِ أدْهُرٍ ..."
الصورة التاريخية هنا هي رأس الحسين بن علي بن ابي طالب ـ رضي الله عنهما وارضاهما ـ معلق على رأس رمح ضمن قافلة تتوجه من كربلاء الى الشام .
هنا اجاد الشاعر أيّما اجادة ، ليجعل من دموع البطلة (زينب) بنت علي ـ رضي الله عنهما ـ وقودا لإسراج وإنارة المشكاة ليضيء رأس الحسين ، وهو ماعبَّر عنه الشاعر مجازاً بالجرح ، وخاصة عندما اردف العبارة بـ (بعد ظلمة أدهرٍ) أي ان الجرح والموقف البطولي مازال مضيئا بعد هذا السِفر الطويل وبعد هذه المعاداة لهذا النهج وتشويه مسيرته .
ــ ان للامام زين العابدين بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ محطة تاريخية معروفة في احداث كربلاء ، ولمّا كان هنالك ربط بين الفرزدق وزين العابدين في القصيدة المتقدم ذكرها ، نجد الشاعر قد ختم النص برمته بهذا الاسم ، وقد أتى بأجمل موقف مؤثر يحمل من الدلالات الكثير ومن الإشارات الكثير ومن حسن النسج الكثير ... فيقول :
" وإذَا بِهِ مُزّملاً بِدِمَائِهِ نَبْضي ،
وقَلبِي مُمْسِكٌ بِرِدَاءِ (زَيْنِ العَابِدينْ) ."
الشطر الأعلى يشير الى راس الحسين حيث استعمل الشاعر مجازا (نَبْضي) وهو اجمل وابلغ تشبيه ، وقد استعمل كذلك لفظة (مُزَمّلا) أي مُلتفّا ، وهذا تشبيه فخم حين يرسم صورة التفاف الرأس بالدم الشريف .
ــ في الشطر الختام (وقَلبِي مُمْسِكٌ بِرِدَاءِ زَيْنِ العَابِدينْ ) يرسم الشاعر صورة أروع عندما يُفصح عن مدى تشبثه الشعوري بين الرأس الشريف الذي جعله كالنبض الحي وبين قلبه المتعلق برداء زين العابدين ونهجه .
هذا الختام الهائل لابد ان يضع النص في مصاف النصوص العامرة والعابرة للمعتاد .
ــ المتأمل للنص يجد الشاعر قد استطاع ان ينوع التردد النغمي والجرس الموسيقي وبانسجام وتوافق في نسجه لمقاطع القصيدة من خلال تنقلاته في القافية وسجع العبارات ، مما أضاف جوَّاً من اللذة والاستمتاع وجذب الحس .
ــ استعمل الشاعر في كل ابتداءاته في مطالع المقاطع الخمس فعلا مضارعاً (ينسى ، يأكل ، ينحرُ ، تتبرأ ، ينتابني ) الا المقطع السادس فقد ابتدأه بالفعل الماضي (مشيتُ) وهذا التصرف التوليفي هو في غاية الذكاء والحرفية ، لان الشاعر أراد ان يشعر المتلقي في الفضاء السادس بأنه يعيش ضمن فضاء الماضي للقصة والحدث ، رغم ان فلسفة أحداث كربلاء مازالت تمثل الحال والمستقبل بكل تبعاتها .
ــ لو تأملنا المقاطع الست ، لوجدنا الشاعر يحدد في كل مقطع مفردة واحدة او مفردتين يدور حولها المعنى ، وكل معاني المفردات هذه تصب في (كربلاء) حتى نجد النسج مفهوما سلس الورود الى ذهن المتلقي ، في الوقت الذي يُوَلِّد عصفا شعوريا هائلا لديه ، وهذا يتأتَّى من جلال الفكرة وقوة الخاطرة وحسن الصياغة ، وهي سمات مازال الشاعر يستجمعها في كنانته ويرمي بها متى شاء ... فلنتأمل مافي المقاطع الست :
المقطع الأول جاء بمفردتي (الزمان ، السماء)
المقطع الثاني جاء بمفردة (الوقت)
المقطع الثالث جاء بمفردة (الطيف)
المقطع الرابع جاء بمفردة (الاحرف)
المقطع الخامس جاء بمفردة ( أمل)
المقطع السادس جاء بمفردة (الوجع)
هذه المفردات بمعانيها استطاع الشاعر ان يحوم حولها ولم يأتِ بالحشو الزائد الذي يقلل من كنه النص وجوهره ، فكان لايأتي بمفردة أخرى إلا وهي تلتحف بمعنى المفردة أصلا وتعيش تحت ظلالها . ولوتمعّنا في معاني هذه المفردات لوجدناها منسجمة تماما وفكرة النص وهو(كربلاء) وما تحيط بكربلاء من خواطر واحداث ومواقف سطّرها التاريخ ... ولنأخذ مثلا على ذلك كما في المقطع الرابع :
" فِيْ الطّرِيقِ لكَرْبَلاءْ ...
تَتَبَرّأُ الأحْرُفُ مِنْ ظِلّها ..
وَتَسِيرُ خَلْفَ دَوَاةِ حِبْرٍ أُجّرَتْ
لِلجهلِ ألْفَ قَرنٍ أرَعَنٍ ،
واسْتُبْدِلتْ بِقَنَابِلٍ وَمَدَافِعٍ ..
بِفَتاوى قَتْلٍ أصْفَرٍ ..
بِنِكَاحِ حُورٍ مَلّتِ العَنَسَ المَقِيتَ ،
فَهَاجَرْت أوْطَانَهَا طَوعَاً ،
لِتُرْضِي عُرْيَهَا ...
وَتَخُطَ فِي هَزَلِ الجِهَادِ حِكَايَةً ..
أوصَى بِهَا ( هُبَلٌ )
وَأرّخَ عُهْرَهَا...
الجِيلُ الشّتِيتْ . "
نجد الشاعر قد اعتمد نسجه على مفردة (الاحرف) فجاءت المفردات الأخرى منسجمة ومتوافقة كي لا تتشظى الفكرة وتنفلتُ عنها المعاني الأخرى ، وحتى لايقعان (الهدف والصورة) تحت وابل الزيغ والارباك ، فجاءت المفردات ( دواة ، حبر ، الجهل ، فتاوى، تخط ، حكاية ، أرَّخَ ) متوافقة مع مفردة (الاحرف) وهذه المفردات اعانت الشاعر على الصاق مفردات بمعانٍ لالفاظ مضادة (قنابل ، مدافع ، قتل ، نكاح ، مقيت ، هاجرت ، عريها ، هُبَل ، عهرها) ليكوّن صورا اكثر بلاغة ، واعمق تصويرا .
ــ بعد هذا الفيض والابداع لابد ان نكون منصفين في حساب ميزان النص :
• الفكرة منتقاة بدقة ، وقد إتَّسمَتْ بجرأة الطرح والاقدام الادبي المنفتح القادح ، والتي لاتخلو من فيض تاريخي هادف ومنسجم .
• العنوان كان مثيرا ومناسبا جدا ومنسجما مع الفكرة .
• المقدمة نُسِجَت بتوليفة (الاقصوصة) وكانت تحمل عناصر الجودة في التأليف ، حيث اضافت للنص عنصر الابداع والابتكار.
• النص يعتبر محطة إبداعية متميزة من بين نصوص كثيرة .
• احداثيات الجودة واضحة المعالم على طول خط النسج مما يدل على أمور ثلاث :
أ‌- تمكُن الشاعر من صنعته من خلال استعمال المجازات والمحسنات البديعية والتي تعتبر هي روح الشعر .
ب ـ العتاد الادبي من الالفاظ الفصيحة والمعاني البليغة والخزين المعرفي الذي يختزنه الشاعر ، جعلت النص مُشرِقا جاذبا للحس منسجما مع الذوق السليم .
ج ـ اهتمام الشاعر بمرحلة تهذيب النص بعد نسجه أظافتْ عليه سمة الدقة والوضوح والتكثيف .
• استطاع الشاعر ان يبلور احداث كربلاء والتركيز على مرحلة السبي الداعشي ليجعلها انعكاسا لسبي نساء آل بيت النبوة .
• الحفاظ على روح الحدث من خلال رفد النص بالاسماء الصريحة ( الحسين ، زينب ، زين العابدين) رضي الله عنهم ، دون الاسهاب في ما لايُغني النص ، مُبتعدا عن الحشو . واكتفى بالرمز والتركيز والتكثيف البليغ . وهذا لعمري عنصر قوة وذكاء نسجي لبق هادف .
• استطاع الشاعر كذلك ان يعطي للـ (فرزدق) هيبته وعنفوانه الادبي من خلال الربط الصحيح مع عناصر تاريخ الحدث ضمن فضاءات ذكية غير مُمِلّة .
• المتأمل والمتمعن في النص سيجد المؤلف قد استطاع ان يبعد الملل والضجر عن المتلقي من خلال الانعطافات في الشكل البنائي للنص ، ومن خلال رصد الاحداث وتفجيرها في أوقات مناسبة لتثير المشاعر وتهيج الخاطر .
• الختام كان جديرا بالاحترام حقاً ، فهكذا نص يحمل روح القصة لابد ان يكون ختامه منفعلا شعوريا يحمل سمة الانفتاح وليس الانغلاق ، فالمعنى دلَّ على ان الحدث مازل مستمراً ولم تُغلَق القضية بعد .
ــ تمنياتنا للشاعر بالرفعة والسؤدد والاستمرار بالنتاج الادبي الهادف الملتزم الرصين .
احترامي وتقديري .....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق