الأربعاء، 2 يناير 2019

هندسة العنوان في قصيدة الفيتوري بقلم / الاديب كريم القاسم

هندسة العنوان في قصيدة الفيتوري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهندسة البنائية لهيكل القصيدة ، تبدأ من عتبة العنوان حتى تنتهي بركن الخاتمة . وهذه الهندسة يغفل عنها الكثير من الكتاب . لكن المحترفين يعتبرونها واحدة من سِمات الجمال والرمزية التي يحتاجها النص ، لتكتمل هالته الادبية المضيئة . وعنوان النص له اهمية كبيرة في توجيه الفضاء النفسي والفكري الوجداني لدى المتلقي ، ويعتبره الناقد (العتبة الاولى) في السلّم البنائي والاستكشافي لروح النص.
امامنا قصيدة للشاعر السوداني الكبير(محمد مفتاح الفيتوري) ـ رحمه الله ـ اختارَ لها عنوانأً هو(الليل والحديقة المهجورة)
...........................................
(الليل والحديقة المهجورة)
محمد مفتاح الفيتوري 28 فبراير، 2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
الليل..ليل العبيد المتوجين.. العرايا
القابعين تماثيل.. فوق أرض الخطايا
الآثمين.. النبيين.. القاتلين.. الضحايا
مثلي.. ومثلك ..نحن المسوخ.. نحن السبايا..
* * *
(2)
الليل..
هذي العيون المصعوقة المصدومة
هذي الشفاه الغلاظ
المصبوغة.. المحمومة..
هذي الحكايا القديمة..
هذي الجراح الأليمة..
هذي السواقي..
التي تطحن العظام الرميمة
* * *
(3)
الليل.. في كل ليل..
يدوس فوق شعوري!
جنازة تدفن الحزن
في قبور السرور
سحابة تمطر الموت
فوق روض نضير..
وجه إله غريب
معذب.. مقهور..
* * *
(4)
قد كان لي في رباه
حديقة مهجورة..
يجرد البوم فيها
أحزانه المستورة
ويلفظ الشجر الأسود.. العجوز عطوره..
ويدفق الصمت.. واليأس..
والظلال الحقيرة!
* * *
(5)
دخلتها ذات يوم..
على جناح الرياح
فأجهشت في ربيعي.
وأظلمت في صباحي..
فرحت أطرد عنها
كآبة الأشباح..
ورحت أخفي دوامي جراحها..
في جراحي!
وكم صباح سجين
أطلقته من دجاها..
ونهر من دموع
فجرته في ثراها
وشفق.. علقته كفاي
فوق سماها..
وطائر شق عنها.. جمودها
فشجاها..
* * *
(6)
وفجأة أبصرت
أعين الليالي الضريرة
حديقة تتغنى..
فيها طيور كثيرة..
وكان ثمة أصداء
صرخة مذعورة
لطائر باحث..
عن حديقة مهجورة
* * *
(7)
يا ليل..
يا جبل الصمت يا ضريح الظلال..
ترى أغطتك بعدي أوراق ريح الشمال
فحدثتك.. ومرت..
عن أمسياتي الخوالي وعن حديقةِ ورد تجعدت في خيالي؟
....................................................................
ــ إعتمدتُ ترقيم المقاطع ، لمساعدة المتلقي ، في الدلالة والاستدلال .
فلو تأملنا الهندسة البنائية التركيبية الادبية لهذا العنوان ، نجده يتكون من جزئين :
الجزء الاول هو ( الليل ) والجزء الثاني هو (الحديقة المهجورة) ، حيث اختار الشاعرعنوان قصيدته بدقة عالية .
ــ لننظر الى القصيدة ، نجدها تتكون من سبعة مقاطع . وإن مفردة (الليل) تحتل الموقع المتقدم لمطالع المقاطع (الثلاثة الاولى ) في فضاء النص :
• في المقطع الاول :
" الليل..ليل العبيد المتوجين.. العرايا "
• في المقطع الثاني :
" الليل..
هذي العيون المصعوقة المصدومة
هذي الشفاه الغلاظ
المصبوغة.. المحمومة.. "
• في المقطع الثالث :
" الليل.. في كل ليل..
يدوس فوق شعوري! "
ـــ إذاً مفردة (الليل) هي عنصر مهم في القصيدة ، قد ارتكزت على نصف مساحة فضاء النص . ومن الضروري فهم مغزى اختيار (الفيتوري) لهذا الجزء من الزمن .
ــ في المقطع (الرابع والخامس والسادس) يأتي الجزء الثاني (الحديقة المهجورة) ليحتل نصف فضاء النص المتبقي .
• في المقطع الرابع :
" قد كان لي في رباه
حديقة مهجورة.. "
• في المقطع الخامس :
" دخلتها ذات يوم..
على جناح الرياح
فأجهشت في ربيعي. "
ــ عَوَّضَ عن (الحيقة المهجورة ) بـضمير الغائب المتصل (ها) ، في عبارة (دخلتها ذات يوم) . ويتحدث الشاعر هنا ليصف هذا (الحيّز) المهم في حساباته الوجدانية .
• في المقطع السادس :
" وكان ثمة أصداء
صرخة مذعورة
لطائر باحث..
عن حديقة مهجورة "
ــ يختتم هذا المقطع بعبارة (عن حديقة مهجورة) .
ــ إذاً أتت عبارة (الحديقة المهجورة) على النصف الآخر لفضاء النص .
• في المقطع السابع والاخير :
نجد ان جزئي العنوان ... (الليل) و(الحديقة المهجورة) قد افترشا هذا الفضاء ، فبدأ
الشاعر بالنداء ، (ياليل) وبنفس المفردة التي بدأ قصيده بها :
" يا ليل..
يا جبل الصمت يا ضريح الظلال.. "
ــ ويختم هذا (الفضاء السابع) بمفردة (الحديقة) ، ضمن سياق الخاتمة :
" ترى أَغطّتك بعدي أوراق ريح الشمال
فحدثتك.. ومرت..
عن أمسياتي الخوالي وعن حديقةِ ورد تجعدت في خيالي؟ "
ــ إن عنوان (الليل والحديقة المهجورة ) إقتسم مضمون القصيدة كلها . وكلّ وصف
وايقاع شعري ، استطاع الشاعر توظيفه للدوران حول محور هذا العنوان .
ــ ياترى هل هذه الهندسة التوزيعية لهذين العنصرين هو من باب الصدفة ؟
بالتأكيد لا . لان مانراه ينفي ذلك ، وقرائتنا للنص بتمعن ، نجد الشاعر الكبيرـ رحمه الله ـ قد قَصَدَ اختيار هذا العنوان ، فهو سر القصيدة . حيث طرزها بالبديع من المفردات ، والمعاني الراقية ، وهي من الادب السهل الممتنع ، الذي يختفي خلف ظلاله الف عنوان وعنوان . وقد نَزَفَ الشاعرُ وجداً وحزناً وألماً ، ليجسد مرارة سلالة بشرية مازالت تناضل ، وتحطم قيود الذل والخنوع والضيم .
ــ مما تقدم ، هل يعني إن اختيار عنوان النص الادبي يجب ان يتم بهذه الهندسة وهذا
التشكيل والتوزيع ...؟
الجواب : كلا
ــ فلكل كاتب او مؤلف طريقته الابداعية في إختراع النص ، وتوليف حروفه ومفرداته . وقد تتعدد الطرق للكاتب الواحد ، بما ينسجم وروح النص ، ومقتضيات الحالة . لكن المهم في الامر ، ان المحترف يحسب لكل شيء حسابه . ويبقى الهدف الشاخص امام ناظريه ، هو المتلقي والمستقبِل للاشارة ، ونعني به (القاريء) و (السامع) . فعليه ان يبدأ بالاشارة الاولى وهو (العنوان) ليجذب ذهن (المُستقبِل) ، ولا ينفك منه حتى آخر اشارة في ختام فضاء النص .
تقديري الكبير ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق