الجمعة، 18 يناير 2019

نموذج في شرح الشعر وتحليله بقلم الباحث والاديب جرول ابن أوس

كتب الباحث والاديب جرول ابن أوس :__
______نموذج في شرح الشعر وتحليله
=================
الاتّكاء على الموروث في شعر غازي القصيبي وأحمد سليمان الأحمد
" المتنبي نموذجاً "
مقدمة :
الموازنة بين الشعراء ، والمقارنة بين مقومات التجربة الفنية في إبداعهم الأدبي نوع قديم من فنون الدرس الأدبي النقدي يرجع إلى بدايات النقد الأدبي عند المتقدمين الذي ضربوا لذلك أمثلة بتحاكم علقمة الفحل وامرئ القيس إلى أم جندب زوج الثاني فحكمت لعلقمة على زوجها ، وغلّبته عليه . ومنه تحاكم الشعراء إلى شعراء آخرين أطول منهم باعاً في مضمار الشعر كما بدا في ما أطلقه النابغة الذبياني من أحكام على شعر الخنساء وحسان بن ثابت في قُبّته التي كانت تُضرب له في سوق عكاظ ، وتدرج الأمر إلى أن أصبح أمراً أقرب إلى العلم الذي له أصوله وقوانين عند الآمدي الذي ألّفَ كتابه ا(الموازنة ) الذي وازن فيه بين أشعار البحتري وأبي تمام ، ومن بعده عبد العزيز الجرجاني الذي ألف كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه) ، وغير ذلك من الموازنات والمقارنات التي عقدها النقاد بين الشعراء على امتداد عصور الأدب العربي.
وتسعى هذه الدراسة اليسيرة إلى المقارنة بين شاعرين في العصر الحديث ،أحدهما من بيئة الخليج العربي وهو السعودي غازي القصيبي ، والثاني سوري هو أحمد سليمان الأحمد من خلال قصيدتين لهما تناولا فيهما هموم الإنسان العربي في الواقع الذي يعيشه ، وارتباط ذلك بالموروث الثقافي لكل منهما . وبعد فكلا الشاعرين أكاديمي جامعي كان له تأثره بالغرب بحكم عمله الحكومي أو الجامعي. ولابد هنا من أشير إلى بعض المصاعب التي واجهت هذه الدراسة اليسيرة متمثلة في صعوبة الوصول إلى أشعار الشاعرين من أعمالهما الشعرية المطبوعة ، لأسباب شتى في مقدمتها أنّ قصيدة القصيبي كانت مُنعَت حيناً من الزمن بعد أن نُشرت في جريدة الجزيرة السعودية في العام 1984م . وإبراز أوجه التشابه والاختلاف بين القصيدتين ، على صعيد غرضهما وأدوات الشاعر الفنية في كل منهما هوما تسعى هذه الدراسة الموجزة إلى إبرازه.
تمهيد :
تتناول هذه الدراسة اليسيرة مقارنة بين قصيدتين من القصائد التي تعتمد على تقنية القناع في الأدب من خلال استدعاء شخصية من التاريخ الأدبي القديم هي شخصية المتنبي الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" (1) ، وهما قصيدة "رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة " لغازي القصيبي وهو شاعر خليجي ، وقصيدة " مع المتنبي على مشارف القرن الحادي والعشرين " وهي لشاعر سوري هو أحمد سليمان الأحمد ، وكلاهما أستاذ جامعي ، وذلك بهدف الوقوف على نموذجين للشعر الفصيح في الإقليمين العربيين . ولذا كان لا بد لهذه الدراسة من أن تقدم لذلك بترجمة يسيرة للشاعرين في سياق الحديث ، من أجل الوقوف على نمط الصنعة الفنية عند شاعرين من إقليمين مختلفين متشابهين في آن ، مروراً ببيان الخصائص الفنية لكل منهما في قصيدته ، دون أن أغفل توضيح مفهوم القناع في الشعر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً من خلال الدراسات النقدية والأدبية التي تناولت ذلك . فما القناع ؟
1- القناع في الاصطلاح :
يذهب د. إحسان عباس إلى تعريف القنــــــــــاع تعريفاً موجزاً جامعاً يين حدود المصطلح ، يقول : " يمثّل القناع شخصية تاريخية – في الغالب – يختبئ الشـــــاعر وراءها ليعبر عن موقف يريده ، أو ليحاكم نقائص العصر الحديث من خلالها "(2).
ويوسّع د. خليل الموسى في حدود المصطلح فيرى أنّ " القناع في الشعر المعاصر : وسيلة درامية للتخفيف من حدّة الغنائية والمباشرة، وهو تقانة جديدة في الشعر الغنائي لخلق موقف درامي أو رمز فنّي يُضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية من الشخصيات يستعيرها الشاعر من التراث أو من الواقع ليتحدّث من خلالها عن تجربة معاصرة بضمير المتكلم إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يميّز تمييزاً جيّداً صوت الشاعر من صوت هذه الشخصية، فالصوت مزيج من تفاعل صَوْتَي الشاعر والشخصية، ولذلك يكون القناع وسيطاً دراميّاً بين النص والقارئ "(1) .
ونجد قريباً من هذا عند د. عبد أبو هيف الذي يضيف الحديث بضمير الغيبة عن الشاعر المُستلهم ، فنجده يذهب إلى أنّ شخصية القناع تفيد في " استدعاء الشخصية التراثية جزئياً أو كلياً صراحة أو إضماراً بضمير المتكلم (سبيل النجوى ، أو المنولوج الدرامي ) أولاً ، وبضمير المخاطب أو الغائب (بتعاضد السرد مع صوت الشخصية ) أو تماهيها السّيَري ، أو تعدد الأصوات الكاشف عن القناع "(2) .
ومن هنا كانت هناك شخصيات كثيرة استلهمها الشعراء المعاصرون، فمن ذلك "علي بن أبي طالب ، والحسين، مريم ، العازر، المسيح ، الحَلّاج ، زرقاء اليمامة ، المتنبي ، كليب ، مهيار ، الحجاج ، عثمان ، الرشيد ، صقر قريش ، وغيرهم من الرموز " (3).
ولا بدّ هنا أيضاً من الإشارة إلى أنّ استخدام المتنبي قناعاً في الإبداع الشعري لم يكن وقفاً على هذين الشاعرين ، وإنما يشركهم في ذلك آخرون سبقوهما أو عاصروهما ، ومن أولئك : الأخطل الصغير ، وعمر أبو ريشة ، والشاعر القروي ، و عبد الله البردوني ، وسليمان العيسى ، وفايز خضّور ، وأمل دُنقُل ، ومحمود درويش ، وعبد الوهاب البياتي ، ومحمد عمران ، وأدونيس (4).
ولكن لمَ كل هذا الإلحاح على استدعاء شخصية المتنبي ؟! عن هذا التساؤل يجيب ثائر زين الدين بقوله:" يلفت الانتباه هذا الحضور الكثيف في أعمال عدد كبير من شــــــعراء العربية المعاصرين ؛ وهو حضور متعدد ومتنوّع ، ويختلف من شاعر لآخر، حتى إنّ الدارسَ ليجد صعوبة في رصد جوانبه ، إذا انبرى متصدياً لذلك.
إنّ المتنبي الذي ظهر في القرن الرابع الهجري بشخصيته الطاغية الجبارة ، فملأ الدنيا وشغل الناس ، وكان موضوع حركة نقدية جديدة في حينها ، يعود إلينا بصور وأشكالٍ جديدة ، ولو شئنا التأني في النظر إلى ذلك الحضور الجديد لربطناه بنظرة الشعراء المعاصرين إلى تراثهم ، وطرق تعاملهم معه ، وموقفهم منه بشكل عام ، بين شاعر ينطلق من موقف المحافظة على التراث والاعتصام به ، والهروب إليه . وآخر يرفضه ، ويسعى إلى القطيعة معه ،وثالث يستلهمه ؛ فيستدعي ما يخدم فنه فكرياً ، فيصبح لديه روحاً وطاقة جديدة ، ولا يُتاح ذلك للشاعر إلا إذا واجه تراثه مواجهة شجاعة ، فألقاه عن ظهره ، وتأمّله ، وأخذ منه ما يصلح لمستقبل أيامه " (1).
2- ترجمة الشاعرين :
أ‌- غازي بن عبد الرحمن القصيبي (2 مارس 1940 - 15 أغسطس 2010) ولد في الأحساء ، وعاش طفولته الأولى في البحرين ، والقاهرة ، شاعر وأديب وسفير دبلوماسي ووزير سعودي. والقصيبي له مؤلفات في فن الرواية والقصة مثل : شقة الحرية ودنسكو ، وأبو شلاخ البرمائي ، والعصفورية ، و"سبعة" ، وسعادة السفير، و الجنيّة، وآخر أعماله كانت أقصوصة الزهايمر التي نشرت بعد وفاته. أما في الشعر فلديه دواوين "معركة بلا راية" و"أشعار من جزائر اللؤلؤ" و"للشهداء" و"حديقة الغروب". وله إسهامات صحافية متنوعة أشهرها سلسلة مقالات في "عين العاصفة" التي نُشرَت في جريدة الشرق الأوسط إبان حرب الخليج الثانية ، كما أن له مؤلفات أخرى في التنمية والسياسة وغيرها منها: التنمية ، الأسئلة الكبرى وعن هذا وذاك ، وباي باي لندن ، ومقالات أخرى مثل : الأسطورة ديانا ، و100 من أقوالي غير المأثورة ، وثورة في السُّنة النبوية ، وحتى لا تكون فتنة (2).
ب ‌- أحمد سليمان الأحمد (1926 – 1993م ) شاعر وأستاذ جامعي سوري ، ولد في إحدى قرى اللاذقية لأسرة كان فيها العلم والشعر، فوالده الشيخ سليمان الأحمد عضو مجمع اللغة العربية بدمشق ، وأشقاؤه شعراء وأدباء وهم محمد المعروف "ببدوي الجبل" ، وأخته "فتاة غسان" ، وعلي سليمان الأحمد ، حصل على شهادتي دكتوراه إحداهما من سوربون باريس ، والثانية من موسكو، وعمل في جامعات صوفيا والجزائر ودمشق ، وله عدة دواوين مثل "عبقر" و" جبل الإلهام" ، و" أغانٍ صيفية " ، و"أرواد حلم آخر في العيون " ، و"الكلمة للشمس والشهيد"، و"نوافذ البروج المضاءة " ، و " عشر معلقات ومُوَثِّبة في الجاهلية الأخيرة " و " للكلمات جهات تقصدها عمدًا ".وله ثلاث مسرحيات شعرية هي : «ممّوزين» ، و«المأمونية» ، و«أغنية تقاوم اثني عشر غرابًا» .هذا إضافة إلى أشعار مترجمة عن الروسية والفيتنامية والبلغارية ، وقصص مترجمة للأطفال، وكتاب هذا الشعر الحديث (1).
3 - القصيدتان موضوع الدراسة :
هما قصيدتان بائيتان يكاد يكون موضوعهما واحد إذ تتناولان ما تعانيه منظومة القيم العربية من اهتزاز في مستوياتها كافة سياسياً ، واجتماعياً ، وأخلاقياً منذ زمن المتنبي إلى أيام الناس هذه . وإذا كنتُ – أزعم - استطعت أن أقف على الدوافع التي كانت وراء نظم القصيبي لقصيدته تلك متمثلاً فيما ذكره من أنّ ذاك كان جراء بعض متاعب من العمل الحكومي عندما كان وزيراً للصحة ، فنشرت القصيدة في صحيفة الجزيرة السعودية عام 1984م ، فأقيل على إثر ذاك هو ورئيس التحرير الذي نشرها ، وقيل : إنّ سبب القصيدة كان راجعاً إلى إنصات الملك إلى وشايات بالرجل ، مع أنه نفى ذاك ، واعداً أن يكشف الحقيقة في فترة لاحقة إلا أنّ قدره لم يمهله (2) ، فإنني لم أستطع معرفة سبب نظم أحمد سليمان الأحمد قصيدته التي نشرت أول مرة في مجلة المعرفة السورية منتصف العام 1976م (1) خلا ما قدّمته حول ما يتصل بالحياة العربية وتناقضاتها ، ومنظومة القيم التي اهتزت فيها على أكثر من صعيد في حياتنا المعاصرة بما يشبه ما كان عليه الحال زمن المتنبي الذي كانت تعصف بالحياة العربية المتناقضات ذاتها من فساد ، وتسلط للقوى الأجنبية ، وضعف لنظام الحكم العربي.
وتقع قصيدة أحمد سليمان الأحمد في سبعة وعشرين بيتاً على البحر البسيط ، في حين جاءت قصيدة القصيبي في خمسة وعشرين بيتاً على بحر الكامل . ولم يكتف الشاعران باستدعاء شخصية المتنبي ، بل ترسّم كلٌّ منهما خطا المتنبي في شعره حتى ليبدو الأمر وكأنّه معارضة لبعض قصائده، ولا سيما قصيدتيه :
أغالبُ فيكَ الشَّوقَ ، والشَّوقُ أغلبُ **** واعجَبُ مِن ذا الهَجْرَ ، والوصْلُ أعجَبُ (2)
التي مدحَ فيها كافوراً الأخشيدي ، فكانت أقرب إلى الهجاء منها إلى المدح ، فقال القصيبي على الوزن والقافية ذاتهما :
بيني وبينك ألف واش ينعبُ****فعلام أسهب في الغناء وأطنبُ
صوتي يضيع ولاتحس برجعه****ولقد عهِدْتكَ حين أنشدُ تطربُ (3)
أما الأحمد فترسم خطا المتنبي في قصيدته المعروفة بالدينارية التي مطلعها :
بأبي الشُّموسُ الجانحاتُ غواربا **** اللابساتُ من الحريرِ جلاببا (1)
فقال مخالفاً له في الوزن ، إذ جاءت قصيدته على بحر البسيط ، في حين أنّ قصيدة المتنبي على بحر الكامل :
أشعلتَ نجماً من جراحكَ ثاقبا ****وحنا الخلودُ على جبينكَ عاصبا
تفترّ ألوانُ الربيعِ صوامتاً *****ويهزّنا عنفُ الشتاءِ مُخاطبا (2)
والناظر في قصيدة القصيبي يرى مقدار ما وفّره الشاعر من الألفاظ الجزلة الموحية والمعبّرة التي كان لها الأثر الكبير في نفس المعني بها وهو فهد بن عبد العزيز آل سعود ملك العربية السعودية آنذاك ، إذ إنّ الملك ما لبث أن أعاد للشاعر اعتباره بعد إقالته من وزارة الصحة ، فجرى تعيينه سفيراً لبلاده في البحرين ، ثم في لندن في مرحلة دقيقة من تاريخ المنطقة العربية (2). وجاء في مطلع القصيدة :
بيني وبينك ألفُ واشٍ ينعبُ **** فعلامَ أُسْهبُ في الغناء وأطنبُ
صوتي يضيع ، ولاتُحسُّ برَجْعه **** ولقد عهِدْتكَ حين أنشدُ تطربُ
وأراكَ مابين الجموع فلا أرى**** تلك البشاشةَ في الملامحِ تعشبُ (1)
ومن الألفاظ الموحية "ينعب" في البيت الأول التي توحي بالشؤم والشر، و"البشاشة تعشب" اللتان توحيان بالحياة والخصب والنماء والخيرفي البيت الثالث، و"مروّعاً" التي توحي بالقلق والخوف والاضطراب ، قال :
وتمرُّ عينُك بي وتُهرَعُ مثلما ****عبَرَ الغريبُ مُروّعاً يتوثبُ
و"الثعلب" التي توحي بالمكر والاحتيال والغدر في قوله :
هذي المعارك لست أحْسِنُ خَوضَها **** مَن ذا يحارِبُ والغريم الثعلبُ ؟
ومثلها " الوشاة " ، و"دسيسة" ، و"تتلون" في أبيات أخرى . و كذلك لفظة " القفر" الموحية بالقحط والجفاف ، و غير ذلك كثير .
وفي جانب التصوير يعجُّ النص بالكنايات والتشبيهات والاستعارات الرائعة التي جلّت عن معانيه ووضحتها،فمن الكناية ما جاء في الأبيات الثلاثة الأولى التي كنى بهما عن كثرة اعدائه ، وضعفه عن مواجهتهم ، وانقطاع حبال الود بينه وبين مليكه ، وانصرافه عنه بسبب وشاياتهم ودسائسهم . و" أتيت أرفع رايتي " كناية عن استسلامه لهجمتهم عليه إن كان مليكه راضياً عنه ، فهو لا يُحسن خوض معاركهم القائمة على الدسائس والمؤامرات ، قال :
قل للوشاة أتيت أرفع رايتي الـ**** بيـضاء فاسعوا في أديمي واضربوا(2)
ومَنِ المناضلُ والسلاحُ دسيسةٌ **** ومَن المكافحُ والعدو العقربُ ؟ (3)
وفي جانب التشبيه نجد مثل قوله : " الزيف المُعطّر"، و " السلاح دسيسة" في الأبيات التي مرت سابقاً كما نجد " القلوب خزائناً " في قوله :
سبحان من جعل القلوب خزائناً **** لمشاعرٍ لمّا تزلْ تتقلبُ
ومنه أيضاً قوله : "أنا شاعر الدنيا " ، و"أنا شاعر الأفلاك" في بيتين آخرين. وهي كلها من التشبيه البليغ الذي يكون فيه المشبه هو المشبه به عينه .
وأمّا إذا عرّجتُ على الاستعارات فإنّه يضيق المجال عن ذكرها جميعاً؛إذ لا يخلومنها بيت ،فمن ذلك : " صوتي يضيع " في قوله :
صوتي يضيع ، ولاتُحسُّ برَجْعه **** ولقد عهِدْتكَ حين أنشدُ تطربُ
وأراكَ مابين الجموعِ فلا أرى**** تلك البَشاشةَ في الملامحِ تعشبُ
إذ جعل صوته شيئاً مادياً يمكن ضياعه ،والبشاشة تشبه مطراً ينبت العشب ، وفي بيت آخر يقـــول: " تأبى الرجولة " إذ شبّه الرجولة وهي أمر معنوي بشخص يرفض ويأبى ، كما يقول :" تحتضن القفار رواحلي" إذ شبّه الصحارى المقفرة بإنسان يحتضن تلك الإبل التي يرحل عليها الشاعر حانياً عليها وعاطفاً ، وقوله :" سأصبُّ في سمع الرياح قصائدي" إذ جعل الرياح إنساناً له أذن يسمع بها ، والقصائد كالماء العذب الذي يطفئ لهيب الظمأ ، وقوله :" وأصوغ في شفة السراب ملاحمي" فالسراب إنسان له شفاه تصوغ الكلام الذي يدخل القلب دون استئذان ، و الكلام يشبه ذهباً تفنن صائغه في تشكيله حلياً جميلة تسحر الألباب . وكلها من الاستعارة المكنية التي تقوم على حذف المشبه وترك شيء من لوازمه يُستدل بها عليه . ولست أنسى هنا الإشارة إلى حُسن التقسيم الذي أشاع في النص جرساً موسيقياً داخلياً مؤثراً في مثل قوله :
ومَنِ المناضلُ والسلاح دسيسةٌ **** ومَن المكافحُ والعدو العقربُ ؟
على أنّ هناك حُسن تقسيم بين شطري معظم الأبيات يضفي عليها رونقاً وسرعة نغم داخلي أسهم في توفير جرس موسيقي أتهى هنا متهادياً رقيقاً على جلالة الموقف ، فأفاد أيما إفادة في التبرؤ من العتاب الذي كان يعتمل في نفسه تجاه مليكه .
وأمّا ما يتّصل بالمحسنات فهي قليلة عموماً إلا ما جاء منها عفو الخاطر مثل " صَدَّ الصُّدود تَقرُّبُ" ، و"شعري يُشرِّق عبرها ويُغٍّرِبُ". وهكذا فقد وفّر القصيبي لقصيدته كلّ ما من شأنه أن يجعلها مؤثّرة في نفوس سامعيها ، ومليكه في المقام الأول ، فعادت حبال الود لتتصل بينهما بعد إسبوعين من إقالته من منصبه (1). لقد ظهرت روح المتنبي في معظم أبيات القصيدة ، إلا أنها بدت أكثر ما تكون في أبياته الثلاثة الأخيرة مع البيت التاسع عشر، حتى ظنّ بعض من نقلوا القصيدة في بعض المنتديات التي تُعنى باللغة العربية على شبكة المعلوماتية أنّ القصيدة للمتنبي لا للقصيبي ، وهي
قوله :
ياسيدي والظلمُ غيرُ مُحببٍ **** أمّا وقد أرضاكَ فهو محببُ
لا يستوي قلمٌ يُباعُ ويُشترَى ****ويَراعَة بدمِ المَحاجرِ تَكتبُ
أنا شاعر الدنيا تبطّنَ ظهرها ****شعري يُشرِّقُ عبرها ويُغرِّبُ
أنا شاعرُ الأفلاك كلُّ كُليمةٍ ****مني على شَفَقِ الخلودِ تلهّبُ (1)
وهذه العلاقة بين القصيبي والمتنبي، يوضحها القصيبي نفسه بقوله : " مع أنّ علاقتي بالمتنبي بدأت مبكرة إلا أني لم أُعجب به إلا تدريجياً على نحو متزايد بمرور السنين . إنني اليوم أشدُّ إعجاباً بالمتنبي من يوم قرأت ديوانه لأول مرة ، بل لعلني اليوم أكثر تأثراً به مني في البداية " (2).
أمّا قصيدة أحمد سليمان الأحمد ، فقد ذكرت فيما مضى أنني لم أستطع الوقوف لها على مناسبة خاصة بها عدا ما أشرت إليه من اتفاقها مع الجو العام السائد في المجتمع العربي من انكسارات ، واهتزازات في الحياة ، وفي منظومة القيم العربية عامة ؛ مما أثار حفيظة الشاعر ، وأحاسيسه تجاه مايراه حوله ، على أنّه يمكن تسجيل ملحوظة بارزة تتصل بلغة النص التي تميزت بالقوة ، وبقربها من لغة القدماء بشكل أوضح مما اشتملت عليه قصيدة القصيبي ، وذلك راجع – فيما أظن – إلى طبيعة الموقف الذي نُظِمت فيه القصيدتان ، فقصيدة القصيبي أملاها موقف آني ألهب مشاعره – وقد أقيل ، واستغني عن خدماته – فجاءت ألفاظه عفوية دون كبير اختيار ، بما يتوافق وطبيعة الموقف وضرورة الاستجابة السريعة ، فجاءت ألفاظها موسومة بهدير لغة المتنبي التي " تتصعّد نفسه الطامحة في السماء فتقطفها نجماً نجماً " على حد قول لخليل هنداوي في دراسة عتيقة له عن أبي الطيب عهدي بها من زمن الدراسة الثانوية ، وما وقعت يدي لها على أثر .
ثم إنّ بحر البسيط الذي نظم عليه الأحمد قصيدته أتاح له راحة أكبر في نقل كل ما يجول في خاطره ، ويضرب على أوتار أحاسيسه ، فيعزف آلامه وأحزانه مما يرى من حال أمته وأبنائها ، فيرفع صوته عالياً مخاطباً أبا الطيّب بقوله:
أشعلتَ نجماً من جراحكَ ثاقبا ****وحنا الخلودُ على جبينكَ عاصبا
تفترّ ألوانُ الربيعِ صوامتاً*****ويهزّنا عنفُ الشتاءِ مُخاطبا
أنا كيف أرضى الوشوشاتِ وجُبْنَها**** في حين تسحِرُني الرُّعودُ غواضبا
الهاوياتُ - إذا عقمنَ - صواعقًا ***** والهامياتُ - إذا لقِحْنَ - سحائبا
إني اتّقيتُ كما، اتّقيتَ، أفاعياً ****لكنْ غفلتُ فما اجتنبتُ عقاربا (1)
إنها أبيات تشعر السامع بروح المتنبي المتوثّبة المتعالية على كل شيء حولها تريد أن تُضعه إلى إرادتها في ذلك السيل من الألفاظ الموحيةمثل "لقحن" الموحية بالخير ، و"عاصباً" الموحية بالعطف والنصرة والاهتمام . و"الهاميات" التي توحي بقوة التدفق والانصباب ومن ذلك ألفاظ مثل "الوشوشات" التي توحي بالجبن والذل ، و"غول كما تروي الأساطير ..." التي توحي بالرعب والعدوان والافتراس ، وغير ذلك .
وإذا ما مضيت إلى التصوير الفني في قصيدته ألفينا الكنايات في مثل قوله :
وسمعتَ، إذ خرس الحديدُ، ملاحماً****ورأيتُ سيفَكَ في الأعادي خاطبا
كناية عن شجاعة المتنبي ، وما تسفر عنه معاركه من انتصارات . وقوله :
ومن ذلك قوله :
حتى اقتحمتَ على الزوابع كهفَها ***** تجتثّ أنياباً لها ومخالبا
كنى بـ"الزوابع" عمّا كان أعداؤه ومناوئوه في كل مكان يحيكونه له من دسائس ومؤامرات لينقضوا ما كان بينه وبين سيف الدولة من ود.
وإذا مضينا إلى التشبيه وجدناه قليلاً عنده – إذ يستعيض عنه بالاستعارة- مثل قوله :
الهاوياتُ - إذا عقمنَ - صواعقًا ***** والهامياتُ - إذا لقِحْنَ – سحائبا
وقوله :
تَجني الأغاني مثلَ أثمارٍ على **** أشجارها، وكما قطفتَ كواكبا
وقوله :
هبّتْ على بحر العذابِ رياحُها***ومضتْ ترجّ، بمن تُقلّ مَراكبا (1)
.............................. ***** ................................
ونهبتَ أعماراً إذا جمّعتَها **** ودَّ الخلودُ لو استحالَ الناهبا
فالعذاب عنده بحر ، والخلود هو الناهب الذي يرغب أن يحوي الأعمار كلها ، وهي كلها من التشبيه البليغ.
أما في جانب الاستعارات فلا يكاد بيت يفلتُ منها ، وهذا مما يدلّ على تأني الشاعر وتروّيه في نظم قصيدته ، ومن ذلك قوله :
وثبوا على «الحَدَثِ» التي أعليتَها*****حمراءَ، حيثُ ارتدّ باغٍ خائبا
بالأمس تسقيها الجماجمُ قلعةً*****واليومَ تسقيها العيونُ خرائبا
فالجماجم تشبه إنساناً يسقي من استهدفوا قلعة الحدث الحمراء في حلب الدماء ، واليوم تسقي العيون خرائب القلعة بالدموع . وقوله :
زيّنتَ بالإلهام صدرَ تجاربٍ *****راحت تتيهُ على الحياةِ تجاربا
فالتجارب تشبه إنساناً له صدر يُزيّن بالإلهام الذي غدا قلائد ثمينة له ، دلالة على علو مكانة شعر المتنبي في الحياة العربية منذ ومنه ، وحتى أيام الناس هذه.
وفي المحسنات نجد حُسن التقسيم بما له من جرس موسيقي خفي ، مثل قوله :
ماذا تُحدّث عن «كويفيرٍ» وعن***** أقزام فكرٍ يرتقون مناصبا
وعن الضعيف مُقاوياً، وعن الشُّجا*****عِ مُحدّثاً، وعن الجبانِ مُحاربا
والأكثرين محامداً حتى إذا*****عرّيتَهم فالأكثرون مثالبا
هذا فضلاً عن حُسن التقسيم والاتساق بين شطري كل بيت في القصيدة . وإذا مضينا إلى التضاد الذي يوضح المعنى ويبرزه وجدناه في معظمه يعتمد على المقابلة التي هي الشكل الأوسع للتضاد في مثل قوله :
الهاوياتُ - إذا عقمنَ - صواعقًا ***** والهامياتُ - إذا لقِحْنَ – سحائبا
وقوله :
ورأيتَ كيف يكون حكمٌ حاضراً ***** في حين لا ينفكّ شعبٌ غائبا
وربما اكتفى بالطباق كما في قوله :
والأكثرين محامداً حتى إذا *****عرّيتَهم فالأكثرون مثالبا
وشجاكَ أنَّ أجانباً حكّامُنا ***** أَوَ ما شجاكَ، الخادمون أجانبا؟!
أمّا إذا أردت الحديث عما كان فيه تناصٌّ بين شعره وشعر المتنبي ، فإنّ ذلك نجده في بيتيه اللذين مرّا عن الحدث التي تسقيها الجماجم ، فهما من قول المتنبي :
هلِ الحَدَثُ الحمراءُ تعرفُ لونها **** وتعلمُ أي الساقيين الغمائم
سقتها الغمامُ الحُرُّ قبل نزوله **** فلمّا دنا منها سقتها الجماجمُ (1)
واستعارته لـصيغة التصغير "كويفير" في بيت مضى أيضاً ، وقوله " ونهبت أعماراً" مأخوذ من قول المتنبي :
نهبتَ من الأعمارِ ما لو حويته **** لهُنِّئتِ الدُّنيا بأنّك خالدُ (2)
وهذا ما لم نلمحه بهذه الصورة لدى القصيبي ، بعيداً عن مسألة الإجادة أو التقصير في المعنى المأخوذ.
و هكذا نرى أنّ الشاعرين قد أجادا في توفير كل المقومات التي تجعل من شعرهما مؤثراً في المتلقين ، فكلٌ منهما شاعر متمكّنٌ من أداته الشعرية ، وربما كانت التجربة الشعرية في قصيدة القصيبي أشد وقعاً ؛ لأنها تتعلّق بحادثة شخصية أكثر منها انسياقاً مع الجو العام الذي تمر به المجتمعات العربية عامة.
خاتمة :
كانت مدة يسيرة تلك التي صحِبت فيها شاعرين كبيرين من شعرائنا المعاصرين أولهما من السعودية وهو غازي القصيبي الذي كانت قصيدته " أغنية للخليج" أولى قصائده التي وقفت عليها ، وكانت سبباً في اطلاعي على شعره . والثاني هو السوري أحمد سليمان الأحمد الذي قادتني إليه المصادفة إذ كنتُ قرأت قصيدتيهما المختارتين للمقارنة في بعض المنتديات المتخصصة في اللغة العربية على شبكة المعلوماتية ، فكان من أمر هذه الدراسة اليسيرة لهذين الشاعرين ما كان بقدر ما أتاح الوقت الذي كان يحاصرني ، فيسد علي طرقي وسُبلي كما سُدّت طرق المتنبي الذي مضى إليها غير آبه لا يلوي على شيء ، فاقتفيت أثره إبراراً لوعد قطعه لأخية كريمة علي في مكان آخر. وكان من المصاعب التي واجهتني تلك المتعلقة بالمراجع ، إذ لم أجد ما يعين من الدواوين الشعرية ، أو الدراسات في مكتبة الجامعة ، أو دار الكتب الوطنية ، أو مكتبة الأوقاف - في زمن عزت فيه مكتبتي - وحتى ما وجدت منها على شبكة المعلوماتية مصوراً كان بعضه نسخاً تجريبية تعرض لبعض الكتاب لا كله ، كما في كتاب " قناع المتنبي" .
وقد كان من نتائج هذه الدراسة أن وجدت أنّ ظروفاً واحدة اصطلحت على الشاعرين لجهة عصامية كل منهما ، وتفوقه وتبوئه أرفع المراكز العلمية أو السياسية ، كما شهد كلاهما مرحلة واحدة من تاريخ هذه الأمة التي نفخر جميعاً بالانتماء إليها على الرغم من الانكسارات الهزائم التي ما زالت تلاحقها منذ نحو ألف عام . وتوصلت الدراسة إلى أنّ كلاً من الشاعرين استعان بقناع المتنبي كثيراً أو قليلاً من خلال الاتكاء على شعر الرجل ، ومعانيه ، مسقطين ذلك على تجربة شخصية مر بها كلٌّ منهما ، تجمعها أوجه تلاق ، وأوجه افتراق ، ربما كان أبرز ما يجمع الشاعرين تلك اللغة الأنيقة التي تصل إلى القلب دون استئذان . وكان بودي أن يمتد الوقت شيئاً ما للتقصي ، والتعمق في سبر أغوار كل من الشاعرين ، وهذا ما تأباه طبيعة الأمور، وربما كان لي فسحة من الوقت في قادم الأيام لاستكمال ما بدأت.
وبعد فإنّني أرجو أن أكون قد وفّقت فيما قدّمت فإن أصبتْ فبفضل وبتوفيق من الله ، وإن كانت الأخرى فمن عجزنفسي وتقصيرها ، مما يجعلها أسيرة ترديد قول أبي الصعاليك : " ومبلغ نفسٍ عذرها مثل مُنجحِ" ، ومُحترسة من عُجب - ومما يكون وقع فيه فشابه - فتلوذ بقول القائل :
إن تجدْ عيباً فسُدَّ الخللا * * * جَلَ مَن لا عيبَ فيه وعلا
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامشه موجودة في الأصل

هناك تعليق واحد:

  1. احتار في بيت القصيبي تأبى الرجولة ان تدنس سيفها

    ردحذف