السبت، 15 ديسمبر 2018

قراءة في نص ( في المرة القادمة ) للشاعرة ميرفت أبو حمزة -رؤية : الأديب محمد الدمشقي ..

قراءة في نص ( في المرة القادمة ) للشاعرة ميرفت أبو حمزة
رؤية : الأديب محمد الدمشقي ..
المقدمة :
النص الوطني الإنساني ... هو دائما نص جدلي محير يقع الكثيرون في مطب المباشرة عندما يخوضون غماره لأنه محاصر بالتقريرية غالبا و بالاستهلاكية أحيانا .. فلا جديد في الطرح السياسي أو الفكري لدى الكثيرين فنحن إما أمام نصوص وطنية تمجيدية أو نصوص باكية مستهلكة يقلد فيها الكثيرون تجارب سابقة ، لهذا فالنص الوطني الإنساني اليوم مطالب بتجديد الطرح و الاسلوب حتى يتمكن من إيصال رسائله بطريقة أكثر عمقا و سحرا
و من يريد أن يكتب هموم الوطن و الإنسان عليه أن يعيش بواقعية و صدق مع قضاياه و مجتمعه لا أن يكتب عن الوطن من برج عال دون أن يدرك مواجع أزقته و حاراته
في قصيدة الشاعرة ميرفت أبو حمزة ( في المرة القادمة ) نرى نموذجا متفوقا للنثر الوطني الإنساني بواقعية و عمق و ذكاء في الطرح بعيدا عن الانتماءات الضيقة و التخوين و التكفير .. هي نظرة تبدأ من الذات و بخطوات ثابتة ترينا كافة أبعاد اللوحة
طبعا ميرفت أبو حمزة اللبنانية السورية التي تعيش في السويداء و مرت معها تجربة موجعة في السويداء و هي جريمة داعش النكراء .. مما جعل ميرفت تبدأ رحلة البحث عن الحقيقة و إيجاد الحلول و تشخيص المرض الذي سبب هذه الفجوات التي دخل منها الارهاب و الموت و الشرور الى وطن كان مثالا للأمن و الأمان و التعايش السلمي بين الطوائف و الملل

الإضاءة :
هنا نرى مثالا ناصعا للنثر الوطني الوجداني الانساني الشمولي البعيد عن التصفيق و المباشرة و المثاليات الزائفة
هذا هو النموذج الذي أبحث عنه في النص الوطني
النص الذي يحلل الواقع بكل حيثياته و المرض بكل مسبباته و اعراضه و سبل علاجه
الآن أعزو خيبتي للضباب
أستقيل من لزوجة الطين
الملطخ بالعتم
وأحطم آخر مراياي المظلمة
بقنديل أو بعود كبريت
يزفر بوجه القتامة
من البداية بدات ميرفت بوضع النقاط على الحروف .. فالعلة تبدأ منا نحن ... و فينا نحن ... دائما نهرب للضبابية و الحياد السلبي و نقول بأن هذا الضباب هو سبب الخيبة هذه نظرة .. و من زاوية أخرى فنحن نتذرع بالوضع العام الضبابي كلما فشلنا و نتهرب من مواجهة الحقيقة ، نحن هذا الطين الملطخ بالعتم فالانسان ولد من طين .. و هذا الطين تلطخ بالعتم اي بالآثام و الظلام الفكري و النفسي و الروحي ... و دائما نحطم المرايا كي لا نرى عيوبنا و ندرك حقيقتنا و المرايا هنا هي الضمير و الوازع الداخلي الذي يمنعنا من الغرق في الآثام و يجعلنا ندرك حقيقتنا دون رتوش و لا كذب و لا هروب
بداية نارية تدخلنا في فكرة انسانية عميقة تؤكد أن بداية الحل تكمن فينا لأن العلة بدايتها و جذرها فينا نحن
أنا لم أشعر بالخيبة يوما
مع أنها تتسلق جسدي
كلما هممت بالاقتراب
من نافذة..
كي لا أختنق
لم ألحظ أظافرها يوما
وهي تتشبث بأطراف ثوبي الليلكي..
المقطع الثاني و بذكاء منقطع النظير تقول لنا بان ما يجري كان تراكمات لاخطاء لم ننتبه لها فكانت الخيبات تتسلقنا دون ان نشعر لاننا حطمنا المرايا و تهربنا من مواجهة حقيقتنا ... حتى اغلقت في وجهنا كل النوافذ و الحلول
طبعا ليس المقصود يأسا إنما لفت النظر إلى أننا كنا يجب أن نعالج التراكمات الصغيرة التي أوصلتنا الى المصائب الكبيرة و الخيبات القاصمة للظهر
لم يعد يثير ضحكاتي أي شيء
ولا شيء يبكيني...
لكأنّني صرت صنما
في معبد هجرته الآلهة
وقفز عنه التاريخ..
بفرح زائف
المقطع الثالث تتكلم فيه الشاعرة عن هذا الجمود الذي اصابنا و الانغلاق الفكري و الأصنام الثقافية التي لا تنفع و لا تضر و لا تسمن و لا تغني من جوع مما دفعنا إلى الهروب نحو الماضي الجميل و التغني بامجاد تاريخنا الزائفة هربا من مواجهة واقعنا التعيس
هل من ملامح أقتبسها
لأصف لوني المفضل لشريدٍ
أعمى أراد أن يبتسم..
ومضة الشريد الاعمى راقية جدا فلو مر بنا شريد اعمى كيف نصف له الوطن و كيف نصف له انساننا و ارضنا و واقعنا
هل من إشارة تفسر رعشة صوتي
حين خرج من حنجرتي المتهدجة
لصمم لم يبكه الناي يوماً ؟
للقهر سطوته..
ولي عتب على الأزقة والشوارع العريضة
لأنها فضحت أقدامي
قبل أن أخطو ..
سأرسمها وأسيجها بالياسمين والأضواء
ثم أمحيها...
لئلّا يتلاشى بطشها
وترقص الأسرار البريئة
الازقة و الشوارع العريضة بمعنى اننا منحنا الكثير من اسرارنا للغرباء و وسعنا الفراغات في مجتمعنا حتى غدت شوارع عريضة تمر منها الفتن و المؤامرات و الخيانات و ما اجمل روعة الشاعرة في الرغبة برسم الشوارع من جديد مسيجة بالياسمين و الياسمين رمز نقاء و حب و عنفوان لو سيجنا به الوطن لحميناه من كل شر
و بعدها تقترب الشاعرة اكثر من المتلقي فتعزو الخيبة للقدر و النصيب كما يفعل الكثيرون
الآن أعزو خيبتي للنصيب
لربّما قطعت تذكرة للصبر والنسيان..
سفينة بلا شراع،
ومجذاف صدفة...
وبوصلة من بساتين الطفولة المسروقة مني..
و كأننا نقطع تذكرة للسفر إلى المجهول ... فأقدارنا ليست معلومة لنا و علينا أن نسعى و نعمل و نجتهد فتحميل النصيب و القدر مسؤولية فشلنا هو قمة الهزيمة و الاختباء وراء أصبع مخذول
ثم نعود و نلقي الخيبة و سببها الى التاريخ و الدين ممثلا باجتهاد الشاعرة في ذكر يوسف و يعقوب و زنوبيا فالعلة ليست في تاريخ مضى و اندثر و ليست في دين و لا انبياء .. بل فينا نحن الذين شوهنا التاريخ و الدين و غيرنا فيهما حسب اهوائنا و مصالحنا الضيقة السخيفة
الآن أعزو خيبتي
لانكسارات ظلي
على دم الصليب
وعلى قضبان حبس يوسف
ودمع زليخة ويعقوب
وانتصار زنوبيا على نفسها..
لأعلن حيازتي لخشبة
موت الشعور..
القفلة الراقية تكلمت فيها ميرفت بلسان الأرض و الأمة التي أصبحت قاحلة جرداء من كل أمل و غدت استراحة للمتحاربين على نهب ثرواتها و قتلها ... لكنها لن تستسلم و لربما تنهض مع جيل قادم و زمن آخر و أناس آخرين ...
على مستوى الأسلوب اتبعت ميرفت الومضات النثرية بامتياز بعيدا عن السرد و أدواته و هذا مناخ نموذجي لقصيدة النثر الناجحة بامتياز حيث تنثر الأفكار لتجمعها و تربط بينها بخيط فكري رفيع .. نوعت الشاعرة من الجمل بشكل فيه نضوج و رقي تعبيري كبير حيث قللت الأفعال في بدايات الجمل كي لا يتحول النص الى سرد و كذلك لم تعتمد على التوصيف بل اعتمدت كثيرا على الجار و المجرور و أشباه الجمل و الاستفهام مما منح النص حالة حركية جميلة و كانت الأفعال دائما في قلب الجملة و ليس في أولها
استخدمت الشاعرة المضارعة الذاتية كثيرا للإشارة إلى حركة داخلية متماوجة ( أعزو .. أستقيل .. أحطم ..أشعر ... أتسلق .. الخ )
أكثرت الشاعرة من التسويف باستخدام ( س ) مثلا ( سأرسم .. سأرنو .. سأنهض ) و الهدف الحث على النهوض و الاستيقاظ ...
النص فيه الواقعية الجديدة الثورية المتمردة التي تعري الواقع و لكنها تضع الحلول و تفتح النوافذ للأمل .... و تحاول تغيير الواقع بنظرة الى داخل الانسان و لا تلقي بالتهم الى الاعداء و الغرب بقدر ما تحاسب الذات على تراخيها و جمودها و ظلامها و هروبها من المواجهة
هذه كانت دراسة تقريبية لنص رائع و الهدف أن نقدم لكم مثالا لنص الرمزي الوطني من تجربة شابة و موهبة قادمة بقوة و ليس من تجربة العمالقة كما يفعل البعض مما يجعل الناس يبتعدون عن الشعر بسبب المقارنات الخاطئة مع تجارب مكتملة كدرويش و نزار و أدونيس و غيرهم ... و نرجو أن تعم الفائدة للجميع..
،،،
نص الشاعرة:
…………………
في المرة القادمة
............................
الآن أعزو خيبتي للضباب
أستقيل من لزوجة الطين
الملطخ بالعتم
وأحطم آخر مراياي المظلمة
بقنديل أو بعود كبريت
يزفر بوجه القتامة
أنا لم أشعر بالخيبة يوما
مع أنها تتسلق جسدي
كلما هممت بالاقتراب
من نافذة..
كي لا أختنق
لم ألحظ أظافرها يوما
وهي تتشبث بأطراف ثوبي الليلكي..
لم يعد يثير ضحكاتي أي شيء
ولا شيء يبكيني...
لكأنّني صرت صنما
في معبد هجرته الآلهة
وقفز عنه التاريخ..
بفرح زائف
هل من ملامح أقتبسها
لأصف لوني المفضل لشريدٍ
أعمى أراد أن يبتسم..
هل من إشارة تفسر رعشة صوتي
حين خرج من حنجرتي المتهدجة
لصمم لم يبكه الناي يوماً ؟
للقهر سطوته..
ولي عتب على الأزقة والشوارع العريضة
لأنها فضحت أقدامي
قبل أن أخطو ..
سأرسمها وأسيجها بالياسمين والأضواء
ثم أمحيها...
لئلّا يتلاشى بطشها
وترقص الأسرار البريئة
الآن أعزو خيبتي للنصيب
لربّما قطعت تذكرة للصبر والنسيان..
سفينة بلا شراع،
ومجذاف صدفة...
وبوصلة من بساتين الطفولة المسروقة مني..
الآن أعزو خيبتي
لانكسارات ظلي
على دم الصليب
وعلى قضبان حبس يوسف
ودمع زليخة ويعقوب
وانتصار زنوبيا على نفسها..
لأعلن حيازتي لخشبة
موت الشعور..
سأرنو من بعيد بسخرية فاشل..
لقاء حبيبين وموعد كهلين
على شاهدة قبر..
وأضحك على نفسي طويلا..
الآن نضجت أكثر.. 
وصرت أعرف لماذا غدوت استراحة للمتعبين
وأرضا قاحلة في ذروة جبل.. 
وكيف هدرت عطري
على نسيم يفتقد حاسة الشم... 
حين كنت زهرة...... 
نبتت في الصحراء و بين القبور
وسأنهض مجددا .... 

في حياتي القادمة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق