الاثنين، 17 ديسمبر 2018

هل توجد معايير ثابتة لنقد النصوص الأدبية ؟ بقلم/ د.هاشم عبود الموسوي

عن موقع الاتحاد العام للأدباء والكتاب في البصرة مع التقدير الكبير:
،،،
هل توجد معايير ثابتة لنقد النصوص الأدبية ؟
،،،
د.هاشم عبود الموسوي
،،،
لا شك وأن كثيراً من النصوص الأدبية الراقية خالفت قواعد البلاغيين وقواعد النحو، وكانت الغاية من كل ذلك هو إبراز الجمال الذي يتطلبه الإبداع الأدبي، الذي يحكم بنيته.. وعندما نتحدث عن النصوص الأدبي، فإننا نقصد بها تلك الكتابة الإبداعية التي هي من نتاج الخيال الأدبي والتي تشمل الشعر والنثر (القصة القصيرة والرواية خاصة)، والدراما والمسرح.
وقد تم تسجيل كثير من العوائق التي توضع بوجه التفضيل الجمالي بحجة الالتزام بقواعد النحو والبلاغة، والتي أدت إلى إجهاض الانطلاقات الأسلوبية المبدعة في الأدب.
إن الأحكام المعيارية لا تستطيع فكمغاليق النصوص الأدبية المتميزة التي ترفض الخضوع الجامد للقواعد.
والأدب بشكلٍ عام يُعتبر مادة شديدة الرهافة، خاصةً عندما تتعلق هذه المادة بانفعالات مثل الحب والكراهية أو بقيم مثل الحرية والعدالة والمساواة، فهل يُمكن ملاحظة هذه الانفعالات والقيم؟ وهل يمكن جعلها قابلة للملاحظة، ومن ثم كيف يمكن دراستها موضوعياً.
قام بعض النقاد في بداية القرن العشرين بمحاولات مهمة في هذا الاتجاه، ولعلّ أشهرهم هو الناقد الإنجليزي ريتشاردز I.A.Richards خاصةً في كتابه "النقد التطبيقي" "Practical Criticism" الذي ظهر في عام 1929، في وقتٍ لم يكن علم النفس فيه مهتماً بدرجة كبيرة بالأدب. وتظلّ هذه الدراسة - كما يشير تشايلد - مثيرة للاهتمام داخل علم النفس حتى الآن. لقد أعطى ريتشاردز خلال تلك الدراسات - التي قام بها - عدداً من القصائد غير محددة المؤلف إلى طلاب يدرسون الأدب في الجامعة الإنجليزية، التي كان يقوم بالتدريس فيها، وطلب من كلٍ منهم أن يقرأ كل قصيدة بعناية، وأن يكرر هذه القراءة ثم يعلّق على القصيدة ويعطيها تقييمه الخاص.
وقد راجع ريتشاردز "استجابات الطلاب لكل قصيدة" وسعى من أجل الوصول إلى الصياغة، والتحديد للمعاني المختلفة للقصائد المختلفة، والتي كانت معانيها تختلف من قارئ إلى قارئ، وحاول أن يحدد كيفية صدور الأحكام الجمالية على القصائد، عندما يكون الفهم لها صحيحاً أو غير صحيح.
قبل ذلك كان ريتشاردز، بالتعاون مع أوجدن Ogden، في كتابهما "معنى المعنى The Meaning of Meaning" (العام 1923) قد حاولا التمييز بين المعنى العقلي، والمعنى الانفعالي للكلمات، ومن خلال تحليله للقصائد في كتابه "النقد التطبيقي" كان ريتشاردز يحاول أن يفك المعنى الانفعالي إلى ثلاثة مكونات هي: شعور الشاعر نحو الموضوع الذي يكتب عنه، والنغمة السائدة الموجهة نحو القارئ في القصيدة، ثم النية أو القصد الذي يقصد من ورائه التأثير في القارئ. فمن خلال القصيدة يشتق القارئ الانفعال والنغمة والقصد، وهي الجوانب التي تكون مسؤولة أو مفسرة للعمل الكلي الذي يقرأه أو يسمعه. إن الفهم المناسب للقصيدة - كما رأى ريتشاردز - يشتمل على التأويل المناسب أو الصحيح لهذه الجوانب الثلاثة من المعنى التوقعي Expectatonal Meaning، وهو المعنى الذي يرتبط بعمليات التوقع أو الاستباق لما سيأتي في القصيدة أو داخلها، كما يشتمل أيضاً على تلك الجوانب الخاصة بالمعنى الدلالي أو المرجعي Referential Meaning، الذي يحيل إلى أشياء أو صور خارج القصيدة، وقد يتداخل الفشل في فهم المعنى التوقعي (الداخلي) مع الفهم الصحيح للمعنى الدلالي (الخارجي) فتعاق عملية التذوق.
كان كتاب ريتشاردز عندما صدر "إلى جانب كونه تمرداً على فوضى النظريات النقدية، محاولة منهجية صادقة لإقامة النقد على أساس علمي راسخ، وكان ريتشاردز في ذلك متأثراً بالنزعة التجريبية التي كانت غالبة على تفكيره، وهي النزعة التي دفعته إلى التعاطف مع المدرسة السلوكية في علم النفس، ومن ثم التركيز في فهم التجربة الجمالية على الاستجابة السلوكية التي تخلقها هذه التجربة في المتلقي من ناحية، وعلى صلة هذه الاستجابة بنظرية في القيمة، من ناحية ثانية، وأخيراً على نظرية هي التوصيل لا تقل عنها في الأهمية.
كذلك قام داوني J. Downey في بدايات القرن العشرين بدراسة استكشافية كي يتعرف من خلالها على أسس تفضيل الأفراد للجميل والسار من الشعر، وكذلك أنواع الانفعالات والصور العقلية المرتبطة بتفضيلات الأفراد لأنماط معينة من الشعر. واستخدم هذا الباحث نماذج من أشعار "براوننج" وبيرون وشلّي ومالارمية وغيرهم، وكان يطلب من الأفراد كتابة تقارير استنباطية عن خبراتهم التي يشعرون بها خلال قراءتهم لهذه الأشعار، وخلال محاولتهم لتنظيمها داخلياً، وميّز بين ما سمّاه الشعر الانفعالي وما سمّاه شعر الصور Imagery Poetry أو شعر التفكير بالصور، وقال أنّه في النوع الأول يكون الانفعال هو السائد، وفي الثاني تكون الصور هي السائدة، حتى لو لم يكن هناك انفعال ما كبير يهيمن على القصيدة. وقد وجد داوني أن المحصلة العامة لدراسته هي أن الاستجابة العامة للشعر الانفعالي أكثر ذاتية من الاستجابة العامة لشعر الصور العقلية. كذلك وجد هذا الباحث أن الألفة بالمادة الأدبية تعمل على خفض الفروق بين الأفراد، وأيضاً أن المضمون الخصب انفعالياً وتصورياً من المادةالشعرية يساهم مساهمة كبيرة في عمليات التفضيل الجمالي، وأن آثار الفروق الفردية في التفضيل الجمالي تكون واضحة جداً بدرجة يمكن من خلالها تجميع الأفراد في فئات متميزة على أساس نمط استجاباتهم.
وخلال دراساته المبكرة، وجد بيرت كذلك أنّه حتى بعد استبعاد الفروق في الذكاء العام بالأساليب الإحصائية المناسبة، ظلّ هناك عامل كبير تشترك فيه كل الاختبارات المستخدمة في قياس التذوّق الفني، وقد نُظر إلى هذا العامل على أنّه بمنزلة العامل العام للقدرة الفنية. وقد أشار بيرت نفسه إلى أن هذا العامل ليس مقصوراً على "الفن" بمعناه الضيق، لكنه يدخل أيضاً في كل تجليات ومظاهر التذوّق الجمالي السمعية، والبصرية، واللفظية، والملموسة. وقد أشار بيرت أيضاً إلى أنّه عندما تم التحكّم الإحصائي في الذكاء العام، والتذوق العام (أي استبعد تأثيرهما أو حُدّد بالأساليب الإحصائية المناسبة)، ظهرت عوامل أخرى أكثر تخصصاً بالنسبة إلى تذوّق الأدب (الشعر والنثر) والموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، والرسم، أي عوامل خاصة بالأنواع الفنية مختلفة المحتوى، وقد دعمت بحوث بيرت وتلاميذه التالية هذه النتائج التي يبدو أنها تتضمن الإشارة إلى وجود استعدادات متخصصة فطرية بالنسبة إلى التذوّق أو المهارات اللفظية، والبصرية، والسمعية، والحركية، وأنّه خلال المرور عبر هذه الأقسام الفرعية - وفقاً لمحتواها - يمكننا أن نجد أيضاً عوامل قطبية تشير إلى التفضيلات (أ) للأساليب الكلاسيكية من الفن ومنها الشعر والنثر في مقابل الأساليب الرومانتيكية، و(ب) المعالجة الواقعية في مقابل المعالجة الانطباعية. وهذه العوامل يبدو أنها تعتمد، في جانب منها على الأقل، على العوامل المزاجية.
رغم كل ما ذكر آنفاً، فإن النظريات النقدية الشكلانية لـ(موكاروفسكي أباكوبسون مثلاً) تقدّم تفسيرات مُقنعة خاصة بالتغيرات الجمالية. وكذلك لم تستطع نظريات أخرى خارج الشكلانية، مثل نظريات نيكمان وماير وكوهين تقديم تفسيرات مقنعة حول الاتجاه الخاص، الذي يمكن أن تأخذه التغيرات في المحتوى الجمالي، وإحدى مزايا هذه النظرية التي قدّمها "برلين" و"مارتنديل" كلٌ بطريقته الخاصة. هي أنها تقدّم تنبؤات خاصة محددة حول التتابع الخاص بالمحتويات والأساليب المتوقعة في أي تراث أدبي.
وبالرغم من وجود كثير من الدراسات والتجارب حول المنحى الموضوعي للتفضيل الجمالي للأدب.. إلا أنني أجد بأن الإبحار في موضوع مثل "كيفية تحليل النصوص الأدبية العربية" سيكون محفوفاً ببعض الصعوبات والمخاطر وسيواجه كثيراً من العقبات، لأنّه يُعتبر أولاً علماً متطوراً، لا يستطيع الناقد أن يُمسك بقواعده التي ليس لها ثبات. وثانياً، لأني قُمتُ بالاستعانة بمصادر قام بوضعها مُنظّرون أجانب متخصّصون في الأدب الحديث، في بلدان تعجّ بالنظريات والدراسات والأبحاث، يندر أن نجد لها مثيلاً في النقد الأدبي المتواضع المستوى حالياً في بلداننا العربية..
أتمنّى أن أكون قد وُفّقتُ
.................................
*
خالص شكرنا وعظيم تقديرنا لهذا الجهد الخير الكبير استاذنا د.هاشم الموسوي الجليل..تحياتنا وبالغ اعتزازنا ،والسلام..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق