الاثنين، 17 ديسمبر 2018

توافق المعنى واللفظ في النظم (دراسة نقدية في قصيدة سُراة الليل للشاعر غازي أحمد أبوطبيخ) بقلم الاديب الناقد كريم القاسم

توافق المعنى واللفظ في النظم
(دراسة نقدية في قصيدة سُراة الليل للشاعر غازي أحمد أبوطبيخ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ان العمل الادبي هو فَنٌّ ممزوج بالذائقة ، ويتم وفق عمليتين متتابعتين ( شعورية وتعبيرية) وهذا التتابع يتم ضمن مقاييس الفكر ، لكنه في الحساب الادبي سيكون عملية إبداعية متداخلة واحدة . لذلك نجد ان العمل الادبي نثرا كان ام شعرا لايصل الى ادراك المتلقي عن طريق التعبير ، إنما الشعور الظاهر على جسد النص سيكون هو الاشراقة الأولى التي تتصفح وجدان المتلقي.
ـــ ممّا تَقدَم ...
سنحملُ نصاً شعرياً ونفترشه على مائدة النقد والتحليل ، ليتزود منها مَن يتزود ، وليتذوق مَن يتذوق زاداً معرفياً يتسم بسلاسة الأسلوب ، وفصاحة اللفظ ، وبيان الفكرة والقصد ، فلا نُزاحمكم بما لايُفهَم ، ولا نشارككم بما لايُعلَم ، انما واحة خضراء ، فأخترنا لكم ما يجذِب الذائقة ، بمفردات سهلة الورود رائقة ، وبعبارات جليّة نافقة ، كي تعم بين اياديكم الفائدة ، وتقف عند اعتابكم طلائعها الرائدة ، فالنقد يُفهَم اذا بانَ خطابه وابتعدَ عن التعقيد بابه ، والشعر يُفهَم إذا سُبِكَ كلامه ، وانتضمَتْ أفهامه ، وتناغَمتْ أقسامه .
لذا فان المؤلف عليه ان لايكتب كيفما اتفق ، انما لابد ان يختار من الالفاظ والتعابيرالتي تناسب ذلك الشعور الدفين ، ويبتعد عن التراكيب المعقدة ، وعليه أن ينسج ماسابقتْ معانيه الفاظه الى الفهم ، وإن كثرة المعاني في البيت الشعري الواحد سيولد التعقيد في الفهم والادراك ، وستصبح حشوا ، ويُمنَع الذوق عن التحصيل ، وبهذا ستكون تعابير الشاعر خاوية لاتحمل الا الجفاء والجفاف . وأما ماكانت الفاظه موافقة لمعانيه فسيكون هو الاوفر حظاً في النفوذ الى ذائقة المتلقي .
فالنص الادبي يجب ان يحمل طعمه الخاص الذي يغطي كل الجسد . فلا يمكن ان نأتي بقفزات فرح في نص اعتراه الحزن والجوى أو تعابير ضعف وخنوع في مواقف شموخ وفخر . ويبقى هذ الطعم متباينا في حدته ونكهته بين مؤلف وآخر حسب اختلاف البيئة والشعور والخزين اللغوي والخبرة .
الشاعر العراقي البصري (غازي احمد أبو طبيخ) ينتمي الى مدرسة أدبية بصرية عريقة . عاصر حركة التطور الشعري ولاصق عناوين فكرية وابداعية كثيرة ، مما أثمرَ مداداً ذي مسارات فكرية مختلفة ، وصوراً ابداعية متنوعة ملتزمة لاتخلو من الحزم والثبات . وهو ليس دخيلا على النظم بل نَما بين شطآنه حتى اورق وازهر واثمر . شاعرنا يحمل في وجدانه وطنية جارفة لايمكن ضمَّها دون افصاح ، لذا نجده قد ترجم هذه المشاعر بأروع قصائده ، وأبلغ نظم ، حتى عرضها على ساحة الادب وهي تحمل صفات الثبات والدوام .
القصيدة /
(كفانا سُراة الليل) .... غازي احمد ابوطبيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على قلقٍ يمّمْتُ شطرَك ساعيا … كأنكَ أضرمْت َ الهوى بالأمانيا
تُطالعُني بالشمسِ في غَسَقِ الدُّجى … فتُمْرِعُ آمالي وانْ كنت نائيا
قصيّا بما حكّمْتَ شأوكَ في العُلا … سُمُوّا وشأنُ البدْرِ يسْمُقُ عاليا
عصِيّاً بما حمّلْتً نفسَكَ غايةً … تنوءُ الرواسي تحتَها والقوافيا
بلى سبَقَتْ منك العَرَافَةُ بَوحَنا … وأطبقْتَ في الحالينِ قِرْماً ورائيا
وما كل ّ غوّاصٍ ينالُ الدراريا ... وما كلُّ ذي جُنْحٍ يطال المعاليا
كفانا سُراةُ الليلِ يومَ توسّلوا ... اليكَ السُّهى فُلْكا وما زلْتَ ساميا
تجيشُ القوافي عندَ بابِكً غَرّة ... وبحْرُكُ يبقى حولَها مُتراميا
وكمْ مِنْ أميرٍ خلّدتْه ُ قصيدةٌ … ولولا قصيدُ الناسِ احْجَمَ خابيا
وفيضُك للساعينَ خُلْدٌ مُنَوّرٌ … اذا قيل فيك الشعر اصبح باقيا
كأنّ عناقيد َ النجومِ تنزّلتْ ... على كتفي حتى توهّجَ ما بِيا
اُناجيك ُ لكني بحبّك َ اصطلي … ولولا نحولُ الجسم حلّقْتُ ساريا
كأنّ جناحَيْ طائرٍ خَفَقا معاً … بقلبي فأفْضى بالذي كنتُ خافيا
(فأبلغَ عني أنّ حبّكَ) مَلجأي … اذا عصفَ الدهرُ الخؤونُ بحاليا
انا الشعب ُ صوّبْني الى ايِّ جبهةٍ … تجدْني حساماً قاطعَ الحدَّ ماضيا
********
انا بابلٌ والنيلُ والقدسُ والسُّرى … انا قلعةُ التاريخِ والفتحُ بابيا
انا فيضُ طه والنهارُ جوانحي … انا المجدُ جلّتْ في رؤايَ المعانيا
ولي من اراداتِ الحياةِ جليلُها ... اذا رمتُ شأناً فالسماءُ مداريا
معي قبسُ الرحمنِ أنّى تكاثرتْ … جراحي وحامت ْ حولَهُنّ السوافيا
فلنْ يُطفِئوا نورَ المحبة ِ في دمي … وقدْ اسرج َ الله العظيم ُ فناريا
وكمْ قصدَ الغيلانُ وأْدَ مطالعي … فأرعدَ فيهم طائري وسَما بِيا
الى حيثُ لا يَرقى الي مُحَمحِمٌ … فقدْ ملكتْ روحي جناحَ المعاليا
وأخلصني ربُ الهدى بالهدى على … درايةِ خلّاقٍ لطيفِ النواجيا
حَباني بأسفارِ النبوة ِ والنُّهى ... وكلّلني بالمُنتهى واصْطفانيا
(وذلك ما لا تدّعي) أمم ُ الدُّنا … فاْنْ جنَحوا فالغي يَجْنَحُ باغيا
مكائدُ تترى أحرَنَت ْ بعنادِها … قديماً وما انفكَّ المُهَجْهَجُ راغيا
فليسَ عجيباً انْ تضجَّ خواطري … بألفِ مسيحٍ حينَ اُبصِرُ طاغيا
وكمْ صلَّبوني غيلةً بعدَغيلةٍ … وسالَ دمي في ماء ٍ دجلةَ قانيا
فما قدَروني حقّ قدْري وانّما … لغاياتِ نفسٍ حُرّة ٍ كنت فاديا
ولو كانَ همّا مُفْرَداً لكتمْتُهُ … بصدري فذاكَ الهمُّ زيتُ سراجيا
ولكنها اسفار ُ شعبٍ خضيبةٍ … وما زال جرحُ ا لامسٍ يشخَب طاميا
وكنتَ لها يا ذا العراقِ تضمُّها … بجنبيكَ آلافَ الجراحِ الدّواميا
فخذْ علقاً مني ومنكَ رَجاحة ... ومنْ أحكمَ التسديدَ،أصمى المراميا
.......................
* الضمير الفردي هنا ضمير شخصاني، وليس ضميرا شخصيا..
هذا يعني ان الشاعر يمكن ان يعبر عن الضمير الجمعي بضميره الشخصي وهو وان كان مجازا فهو ايضا ـ من زاوية نظرعميقة ـ تعبير عن الشعور بالانتماء حد الحلولية الذائبه.......
................................................................................................
ــ الذي دعاني الى استعراض هذه القصيدة في مقالنا هذا هو قدرة الشاعر على نسج عباراته بالفاظ متوافقة ومناسبة لمعانيها ، وهذا مايندر وجوده هذه الأيام الا عند مَن اهتم لتأليفه ولنظمه . وعند التأمل في ابيات هذه القصيدة نجد معانيها قد سبقتْ الفاظها الى الفهم والتلقي ، وهذه السِمة هي التي جعلتْ القصيدة تتوشح بمتانة السبك وقوة الاشراق .
ــ القصيدة التي امامنا ذات الثلاثة والثلاثين بيتا شعريا قد حَملتْ في غرّتها سمات الوطن ، والتي رسمها الشاعر بأجمل نسج وادق نَول ، وهذه السمات (نائيا ، قصيأ ، عصيأ) حيث توزعت على الابيات الشعرية الثاني والثالث والرابع ، وهذه المعاني قد تمازجت بين العلو والسؤدد والقوة ، حتى حَملتْ هذه التمازجات صهارة متفاعلة ساخنة ستأتي بسبك لا يفارق سِمات عناصرها ، وكما سنبينها في الآتي :
ــ يبدو ان القلق قد انتاب الشاعر من اول السبك ، فالأمنيات مازالت تتأرجح في ركب يسير الهوينى لوحولة الطريق ولظلام الأفق ، فيقول :
" على قلقٍ يمّمْتُ شطرَك ساعيا… كأنكَ أضرمْت َ الهوى بالأمانيا "
الشاعر يصور حالة توجهه نحو الوطن باللفظة (يمَّمتُ ) وتعني التوجه نحو المكان ،
ولفظة (شطركَ ) تعني الجهة والقصد ، وفي عجز البيت استعمل الشاعر لفظة (اضرمتَ ) دلالة على قوة التوقد والاشتعال والشوق ، وهو استعمال رائع ومناسب في مخاطبته لكيانٍ كالوطن . وهذه الالفاظ يمكن لاي شاعر ان يستبدلها بالفاظ أخرى لترجمة معنى البيت ، لكنها بالتأكيد لايمكن ان توفر الفصاحة والبيان لاحضار المعاني والبلاغة المطلوبة والمشرقة كالتي توفرها الالفاظ التي استعرضناها وكما يحتاجها الشاعر لدغدغة مشاعر المتلقي ، فهي جاءت مناسبة تماما للقصد .
ــ ورغم الحال الذي يعيشه الوطن من آلام وآهات وجراح الا انه لابد ان يكون هو الواحة الخضراء للروح والجسد ... ففي اجمل نسج حضرَ البيت الثاني :
" تُطالعُني بالشمسِ في غسقِ الدُّجى… فتُمْرِعُ آمالي وانْ كنتَ نائيا "
هذا الطباق المتواجد في صدر البيت (الشمس ، الدجى) انتج معنىً مهيبا في الشطر الثاني ، حيث ان الشاعر احسن اختيار مفردة (تُمرِعُ) وهي تعني الخصب والاخضرار ، ولا يحدث الاخضرار والنمو الا بوجود الشمس ، حيث يشعر الشاعر بحجم فضل الوطن عليه ، ورغم الظلام الذي يحف بالبلاد والشعب ورغم البعد والنوى الا انه يفيض بشمسه على الروح فتجعلها مخضرة معشوشبة ، وهذا تصوير شعري باذخ ، وتناسق رائع بين المفردات والمعنى .
ــ لنتأمل البيت الشعري الثالث :
" قصيّا بما حكّمْتَ شأوكَ في العُلا… سُمُوّاً وشأنُ البدْرِ يسْمُق ُ عاليا "
ــ ابتدأ الشاعر بلفظة (َقصيّا) وهي صفة مشبهة تدل على الثبوت وتعني (البعد) ولم يستخدمها بمعنى الابتعاد السلبي إنما بمعنى علو الرفعة والشرف ، وهذا ما أيَّده المعنى المتجلي في إبتداء الشطر الثاني (سمواً ) ثم ان الشاعر جاء بلفظة (شأوك) وتعني (الشأن والغاية) فهو أراد بها (الغاية) والهدف نحو العلا ، ولو جاء بلفظة (الشأن) ثم كررهها في الشطر الثاني لكان السبك ضعيفاً يُنزل من رتبة الجودة ، لكن نباهة الشاعر ووفرة خزينه المعرفي جعلته يناور بذكاء في المترادفات ذات المعنى المتشابه مما يعطي النظم نظارة وجاذبية .
ــ في البيت الشعري الرابع :
" عصِيّاً بما حمّلْتَ نفسَكَ غايةً… تنوءُ الرواسي تحتَها والقوافيا "
السمة الثالثة التي رعفت بها القصيدة هي (عصياً) ونلاحظ الشاعر قد وظّفها بعناية لرسم صورة شعرية قوية معبرة ، ولنتأمل المفردة (حمّلْتً) في الشطر الأول ، والمفردة (تنوءُ) في الشطر الثاني وكيفية تلاحم المعنى بينهما ، ولو غيَّرَ الشاعر احداهما لتشوشَ المعنى واصبح باهتاً ، لان عبارة (تنوء الرواسي تحتها) وتعني تنهض الجبال وهي مثقلة بهموم الوطن وجراحاته لتترجم مقدار هذا الثقل ، وهو مايناسب تماما معنى عبارة ( حَمَّلتَ نفسَكَ غايةً ) .
ــ في البيت الشعري الخامس :
" بلى سَبَقَتْ منك العَرَافَةُ بَوحَنا… وأطبقْتَ في الحالينِ قِرْماً ورائيا "
بعد ماتقدم من بوح في الابيات الأربعة أعلاه يخاطب الشاعر وطنه من جديد ويقول له : حتى من اشتغل بالتنجيم ومَنْ قرأ المستقبل قد تنبأ مسبقا بما كنا نبوح به ، وقد وافق بوحهُ بوحنا ، فأنت لا يُخطيء بك متنبيء بأنك (قِرماً) وسيدٌ فحلٌ عظيمٌ . واستعمال الشاعر لمفردة (قِرما) تفرز ذكاء النظم وروعة التأليف ، فهذه المفردة سيادية بحتة ، وتعني الرجل العظيم المُتسَيِّد ، وهو ما يناسب الوطن وعنفوانه السامق .
ــ لغرض تعضيد الفكرة والقصد في النظم ، وبعد ذاك الابتداء الرائع في نظم الابيات الشعرية الخمسة ، والتي حملت معاني شموخ الوطن ورفعته وسموه ضَـمَّنَ
الشاعر بيتا شعريا كاملا بنسج ٍ جاء بسياق المَثَـل . وكان العرب يستخدمون ظاهرة تضمين قصائدهم بالامثال والحِكَم بكثرة ، ووجودها في القصيد له أهميته البالغة ، لان الشعر هو لغة فئة خاصة ، أما الامثال فهي لغة العموم ، ولذلك يكون وقعها اكثر تفاعلا لدى المتلقي . وقد اُستُعمِلَتْ في الشعر لاصابتها القصد بدقة ، وكان اهل الصنعة يميلون الى الامثال كونها تجتمع فيها أربعة ميزات لاتتوفر في غيرها من كلام ( إصابة المعنى ـ اللفظ المكثف ـ قوة البلاغة ـ دقة التشبيه ) .
لذا فليست غريبة على الشاعر هذه الدلالات والفوائد ، حيث جاء بسبك احتوى على عبارات البسها ثو ب المَثَـل والحكمة ، ولو تأملناها بدقة لوجدناها خفيفة على السمع تقبلها الذائقة لما تحتويه من حكمة مكثفة كالبيت الشعري التالي :
" وما كل ّ غوّاصٍ ينالُ الدراريا ...وما كلُّ ذي جُنْحٍ يطال المعاليا "
حيث تَضَمَّنَ شطرين ، وكل شطر جاء كأنه مثل واضح جليّ . والجميل في التأليف ان الشاعر قد تمثل في فضائين (العمق و العلو) جاعلا الصدر والعجز بنفس القافية كي يصبح البيت اكثر تكاملا مع توفر الجرس الموسيقي .
وكذلك ختم قصيدته بشطر حمل صورة المَثَـل بأروع سبك ، فقال :
" ومنْ أحكمَ التسديدَ ، أصمى المراميا "
والمتأمل لهذا السلوك النظمي يجد الشاعر قد أولى اهتماما بالغا لهذه المحطة حيث جاء بالبيت الشعري الذي تضَمَّن المَثَـلَين بعد المطلع الافتتاحي لسمات الوطن الرائع البيان ، ليصبح توكيدا للمُراد والفكرة ، ثم انهى القصيدة بشطر رائع قد نسجه بأجمل الالفاظ والمعاني . ولاشك ان هكذا نظم يدخل في حساب النظم الدقيق والمهذب.
ـــ بعد هذا المطلع البهي يحتاج الشاعر الولوج الى فضاء المناجاة . والمناجاة هي فعل بلاغي تخاطبي بين الانسان وغيره ، بغض النظر عن ماهيته ، ليطلق عنان خياله وخواطره للتعبير عمَّا يختلج الصدر، وهذا الولوج يجب ان يأتي سَلساً لايشوش الفكرة ، لذا فان الشاعر استعرض بيتا سميكا اقتطع من صدره عنوان قصيدته (سُراة الليل) :
" كفانا سُراةُ الليلِ يومَ توسّلوا... اليكَ السُّهى فُلْكا وما زلْتَ ساميا "
وهذا المضاف والمضاف اليه ( سُراة الليل) يفيد بلاغياً في تفخيم وتعظيم المضاف (سراة) وقد ادخل الشاعر المجاز في هذا البيت الشعري ليشير الى الوطن ويناجيه :
بان الكثير قد تأمل وكتب ونظم فيك أيها الوطن ، ورغم عظمتهم وعظم جهدهم ، حيث راموا بلوغ (السهى) ــ وهو كوكب بعيد جداــ في تكريمك ، لكنهم لم يصلوا أو يقتربوا من مقامك وكنهك .... فكيف بنا نحن ؟؟؟
ـــ القصيدة عبارة عن نص حزين شجي قد ضَمَّ بين جوانحه مفردات تناسب الحال الذي يمر به الوطن الجريح . فبعد هذه المطلع المَهيب الرائع ينتقل الشاعر الى مقطع القصيدة بانتقالة مستساغة لا تشكل لحظة انفصالية عَمَّا سبقها كما في الآتي :
" تجيشُ القوافي عندَ بابِكً غَرّة ... وبحْرُكُ يبقى حولَها مُتراميا "
فيبدأ مقطعه بعبارة (تجيش القوافي) وهي صورة حزن مجازية لتدفق الدموع من قوافي النظم ، فيترجم الشاعر هذا المعنى بأنه مهما بلغ هذا النظم من روعة في تقاسم الهموم مع الوطن الا ان ماحولهُ من قوافي ومشاعر هي كالبحر إمتداداً وعمقا ، ويظل وحده مصدر ومركز الاشعاع . إذا نحن امام ابيات شعرية قادمة تحمل هذا النداء المُحَمَّل بالنَجاء .
ــ يقدم لنا الشاعر تعليلاً لنظم القصيد في خدمة الوطن ، فيقول : ان الكثير من الامراء قد خَلَّدَتْ القصائدُ ذِكراهم ، ولولا القصيدة لكانوا في عالم النسيان والعدم :
" وكمْ مِنْ أميرٍ خلّدتْه ُ قصيدةٌ… ولولا قصيدُ الناسِ احْجَمَ خابيا "
وقد استعمل الشاعر لفظتي (أحجَمَ) أي الكف والامتناع ، و(خابيا) أي السكون والخمود ، وهذه المعاني قد توافقت تماما مع الفاظها لرسم صورة شعرية هادفة ورائعة لفكرة البيت الشعري . وقد وظَّف الشاعر هذا البيت لبيان مرتبة الوطن ومنزلته التي تفوق رتبة السلطان والعرش ، لذا فهو يعطف عليه ببيت شعري رائع ، ليجعل من سبكه دليلا على ما سبق .... فيقول :
" وفيضُك للساعينَ خُلْدٌ مُنَوّرٌ… اذا قيل فيك الشعر اصبح باقيا "
وهنا قد خصص للوطن سمة لاتتوفر عند غيره ، فالوطن لايَخلُدُ بالقصائد ، إنما القصائد هي التي تَخْلُد بالوطن . فالوطن اشرف مرتبة واجل ، وهذا تشريف كبير قد أبرزه الشاعر في اجمل صورة شعرية دالة . وكذلك نلاحظ انه جاء بلفظة ( خلدٌ) ومعناها الدوام والبقاء ، ولان السبك مستمر بتقديم وعرض هذا المعنى ، نرى الشاعر يختم البيت بلفظة (باقيا) وهي مرادفة للـ (خلود) تماما ، وهذا سبك جميل .
ــ وما زال شاعرنا ينظم ابياته الشعرية بالفاظ ومفردات يعرف كيف يسكنها رتبتها وبما يوافقها من معان ... فلنتأمل هذا البيت الشعري :
" كأنّ عناقيد َ النجومِ تنزَّلَت .... على كتفي حتى توهّجَ ما بِيا "
استعمل الشاعر عبارة (عناقيد النجوم) و ( تنزَّلتْ) وفعل التنزيل يحتاج رعاية معنى ، كي يسمو ويطير بلاغيا ، فجعل التنزيل على (الكتف) في عبارة ( على كتفي حتى توهّجَ ما بِيا ) والكتف هو مَحمَلُ الرُتبِ لكي يتم الوهج النفسي والذاتي والانارة في هذا الجسد ، وهذا من ارقى النسج واحلاه .
ــ ثم يبدأ شاعرنا بانعطافة هائلة من المناجاة وفض الاسرار والمشاعر لطرحها على طاولة النظم ، حيث صرَّحَ الشاعر عَلناً بأن التالي من النظم سيكون استمرار النَجاء فيقول :
" اُناجيك َ لكني بحبّك َ اصطلي… ولولا نحولُ الجسم حلّقْتُ ساريا "
وجاءت (اُناجيكَ) استهلالاً صريحاً لما سيأتي بعدها من فيض احاسيس ومشاعر لاتخلو من الحزن واللوعة والشجى والصبابة . ثم لا يلبث الشاعران يستدرك نجاءه بـ (لكن) في عبارته (َ لكني بحبّك َ اصطلي) كونه لا يستطيع الاقتراب في الوصف اكثر لشدة عشقه لهذا الوطن ، وكأنما لهذا العشق حرارة نار تصطليه ، ثم يبرر هذا الاستدراك ، بمجاز رائع ليبدأ العجز بـ (لولا) في عبارة (ولولا نحولُ الجسم ) وهو يدلّ على امتناع المعنى الاول لوجود غيره ، حيث يبرر خوف الاقتراب لنحول الجسم ، ويقول .. لولا النحول والضعف لطرتُ وعانقتُ أعالي السماء ، وهو مجاز رائع وواضح . والمتلقي الذي يتواصل في قراءة هذا النَجاء سيتيه في عمق المعاني الراقية والتي جاءت متوافقة لاتخرج عن حدها ، وكأنما فُصِّلَت على قدر الفاظها .
ــ المناجاة والصبابة تحتاج الى صور شعرية شفافة تنساق مع الريح ، ويستنشقها القاريء حتى تتغلغل في اجزائه بهدوء رغماً عنه . وهذه الصور لا يمكن رسمها وتشكيلها دون معان والفاظ رشيقة ومتطابقة ليشرق فعل البلاغة ، انه فعلٌ سحري لابد ان يجيد الشاعر الذكي خلطته ، فهو سيدخل الى فضاء مختلف ، وسيخاطب الوجدان والخاطر . والأكبر من هذا كله ، انه سيخاطب الشعور الوطني .
فكيف سينسج قماشته ؟؟
وبأي نول ؟؟
وما لون مداده ومانوع الخيوط التي سيلاعبها بين انامله ؟؟
لاشك انه استعراض يحمل التحدي والمقدرة على عرض الخبرة .
ــ الاديب (غازي ابوطبيخ) هو قلم من رعيلٍ كان يقرأ الكتاب ولو قُفِلَ عليه بألف قفل ، وقد عاش النظم وقافيته بل ومازجهما روحاً، لذا نجده قد استعرض المشاعر الوطنية بعمق لكنه افرزها للسطح وهي تطفو كأنها طوق نجاة لروح كادت تغرق لفرط الجهد والضَنَك . وإن القلب لا يفضي ما بداخله الا بحافزٍ يُحفِّزهُ ، أو قادح يقدحه . لذا نرى الشاعر قد نجح في توظيف اللقطة والصورة الشعرية المناسبة لهذا الفضاء في البيت الشعري التالي :
" كأنّ جناحَيْ طائرٍ خفقا معاً… بقلبي فأفْضى بالذي كنتُ خافيا "
فجاء التشبيه بـ (كأن) ليرسم صورة خفقان جناحي الطائر في قلبه كي يفضي بالمشاعر الخفية . والقلب حيز مغلق الا من فتحات تُغذّيه بالدم والحياة ، لكن صورة رفيف جناحي الطائر فيه ترسم صورة تسارع نبضات القلب وارتجاجه حين كشف مابداخله من وجد وهموم ، وهي صورة إفضاء رائعة . ولفظة (أفضي) جاءت مناسبة جدا للمعنى المطلوب ، وهو الكشف عن خبايا وخفايا النفس ، وهنا تكمن روعة ودقة الاختيار .
ــ لا يلبث الشاعر ان يردف المعنى السابق بمعنىً آخر أجمل وابلغ ، عندما يجعل ملجأه الذاتي عند عصف نوائب الدهر به هو الوطن وليس القلب الذي افضى بكل اسرار عشقه ... كما في البيت الشعري التالي :
" (فأبلغَ عني أنّ حبّكَ) مَلجأي… اذا عصفَ الدهرُ الخؤونُ بحاليا "
وهذا التناغم في المعنى والتناسق الراقي بين البيت الشعري وما يليه هو الذي نوصي به دائماً ويوصي به اهل الصنعة والحرفة سابقاً ، فكيف والنظم بيد خبير . ثم ان استعمال لفظة (خؤون) هي من صيغ المبالغة ، والتي جاءت صفة للدهر والزمان الذي نعيشه ، وهي مناسبة جدا في معناها مع لفظة (عَصَفَ ) والتي تعني الهبوب بشدة وقوة .
ــ ولابأس ان نوضح فائدة نقدية هنا بشأن تقويس عبارة (فأبلغَ عني أنّ حبّكَ) والحصر بين قوسين هو دلالة بأن هذا السبك ينتمي جزء منه الى شاعر آخر وهو (امريء القيس) في احد ابيات معلقته الشهيرة ، وهو :
( غَـــرَّكِ مِــنِّـي أنَّ حُــبَّــكِ قَـــاتِــلِــي ... وأنَّـكِ مَـهْـمَـا تَـأْمُـرِي الـقَـلْبَ يَفْعَـلِ؟)
نلاحظ هنا دقة وضرورة الأمانة العلمية في النقل او الاستلهام وحتى أحيانا في النغم والجرس الموسيقي ، وهذا لا يُضعف النص اطلاقا ، ولا يُقلل من رتبة المؤلف ، إنما يزيده ألَقاً وإشراقاً ، كونه دليلا على اكتنازه زاداً ادبيا وفيرا، أما القلم الفقير فهو لايمكن ان يرفد نسجه بلآليء وعقيق مخزون .
ــ وبعد هذا الكشف عن دفين السرائر يبدأ الشاعر بالخطاب المباشر، واستخدام الضمير (أنا) دلالة على (الشعب) وهو تفسير لما قبله وما بعده من مناجاة ومشاعر ، حيث ينظم فيقول :
" انا الشعب ُ صوّبْني الى ايِّ جبهة… ٍتجدْني حساماً قاطعَ الحدَّ ماضيا "
هذا النذر والفداء (صوّبْني الى ايِّ جبهة) قد احتوى على مفردة (صوبني) وتعني التسديد والتهديف قبل الاطلاق ، وهي تناسب في معناها تماماً الغاية والصورة والفكرة في البيت الشعري ، حيث ان فعل التسديد ينسجم مع الرصاصة او السهم ، لكنه جاء بلفظة (حساماَ) وأراد بهذا اللفظ وهذا المعنى التوغل الى المراد والهدف ، فإن الذي سينطلق ليس سهما او رصاصة انما شعب بكامله ، ولايناسب هذا الانطلاق المجازي إلا السيف ، وهو مانجده مع مفردات (قاطع ، حد ، ماضٍ) وهي تناسب المعنى بأكمله .
ــ يكرر الشاعر الضمير (أنا) في بيتين شعريين آخرين ، بعد ان أوضح إن القصد من الضمير هو الشعب والأمة ، فيبدأ بالتفصيل والتوضيح بشيء من الفخر والزهو :
" انا بابلٌ والنيلُ والقدسُ والسُّرى … انا قلعةُ التاريخِ والفتحُ بابيا
انا فيضُ طه والنهارُ جوانحي… انا المجدُ جلّتْ في رؤايَ المعانيا "
وقد استعمل الشاعر الالفاظ (فيض ـ النهار ـ جَلَّت ) والتي جاءت مناسبة ومنسجمة تماماً مع صورة البيت الشعري وما يصبو اليه .
ــ بعد هذا التعريف الممزوج بالشمم والاباء ، يفتخر الشاعر بمعانٍ باذخة العمق والسمو كما يقول :
" ولي من إراداتِ الحياةِ جليلُها... اذا رمتُ شأناً فالسماءُ مداريا
معي قبسُ الرحمنِ أنّى تكاثرتْ… جراحي وحامت ْ حولَهُنّ السوافيا "
وهنا وضع الشاعر محطة إطمئنان وجسور عبور الى ضفة النصر والتقدم ، وهذه المحطة تمثلت في (معي قبسُ الرحمنِ) وهو اجتماع ومصاحبة ذكية لمفردات ومعان رائعة . ونلاحظ هنا الصورة الشعرية الرصينة التي نسجها الشاعر في الشطر الثاني عندما استخدم لفظة (سوافيا) وتعني التراب الذي تذروه الريح ، وكيف تَخيَلَ صورة الجرح الذي تحوم حوله الاتربة والغبار ، وان هذه اللفظة جاءت بمعنىً بليغ ٍ قد اسند الصورة برمتها .
ــ امامنا الان خمسة ابيات شعرية قد استخلصها الشاعر من محطة الاطمئنان السابقة (معي قبسُ الرحمنِ) وليجعل من هذا القبس فوجاً لفظياً رائعاً يحمل رتباً سامية من المعاني الموازية .... فالبيت الأول :
" فلنْ يُطفِئوا نورَ المحبة ِ في دمي … وقدْ اسرَج َ الله العظيم ُ فناريا "
جاء بالالفاظ المناسبة جداً لهذا الغَزْل المتوافق تماما والمنضبط (نور، اسرج ، فناريا ) وقد رُكِّبَتْ بعناية لتعطي معان تعين على نسج صورة النور والضوء .
ــ في البيت التالي :
" وكمْ قصدَ الغيلانُ وأْدَ مطالعي… فأرعدَ فيهم طائري وسَما بِيا "
استعرض الشاعر صورة التحدي فجاء بلفظة (غيلان) وهو جمع لإسم حيوان اسطوري يدعى (غول) وكان يخافه الناس لإعتقادهم بمقدرته على تغيير هيئته ولشدة فتكه ، وقد استعمله الشاعر كناية عن العدو والكيد ، وهكذا حيوان لابد من تحدّيه بلفظ وفعل مناسب وهو (أرعَدَ) وهذا اللفظ يحمل معنى الجهر والاعلان القوي ، فكل حروف المفردة (أ ـ رـ ع ـ د ) هي حروف جهرية ، والجهر صفة قوية تلازم اللفظ ان توفرت فيه ، فجعلَ الشاعر طائره مُرعِداً امام الغول ، بل وطار وارتفع عاليا بالشعب والأمة فوق هذا العدو ، وهي دلالة تمكنيّة ، وهذا التناسب جعل البيت الشعري منسجما فخما بدلالة التمكن والانتصار .
ــ ولكي يكمل الشاعر صورة التحدي لهذا العدو الخبيث الفاتك ، نراه يُنظِم بيتاً شعرياً آخر :
" الى حيثُ لا يرقى الي مُحَمْحِمٌ… فقدْ مَلكتْ روحي جناحَ المعاليا "
لنتأمل الالفاظ المستخدمة ( يرقى ، مُحَمحمٌ ) وهي الفاظ تخص وصف العدو (الغول) وبما انه يمتلك قدرة تغيير الهيئة ، فلابد للشاعر ان يأتي بالفاظ مختلفة ، فلفظة (يرقى) تعنى الارتفاع والصعود بالتسلق والتدرج و(المُحَمحِم) هو الحيوان الذي يُصدر صوتا خافتا حينما يروم فعل شيء ، وهذه اللفظة لاصقت الخيل القوية ، اذا نحن امام معان متناسقة مع القصد .
ــ هذه التحديات والقوة الذاتية لم تأت من فراغ ، فلو تأملنا هذا البيت الشعري :
" حَباني بأسفارِ النبوة ِ والنُّهى ... وكلّلني بالمُنتهى واصْطفانيا "
لوجدنا هناك مَدَداً إلهياً تمثلَ في (اسفار النبوة) وهي الكتب السماوية المنزلة ، و (النُهى) وتعني العقول الحكيمة كما جاء في القرآن الكريم :
{ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ} طه (54)
وفي الشطر الثاني جاءت الالفاظ (المنتهى) وتعني النهايات والغايات وقد ردفها الشاعر بلفظة (اصْطفانيا) وتعني الاختيار والتفضيل ، والضمير الشخصي هنا إنما يمثل إشارة للأمة العربية التي اختار الله منها نبيا ختم به الرسالات ، وهذا من جميل المجازات والاستعارات . وكم اسعدني عندما وظَّفَ الشاعر لفظة (وكللني) لهذا الاختيار السماوي ، والتي تعني التتويج والزينة التي تحيط بالانسان وتبدأ من الرأس ، وهي لفظة ثرية كريمة سخية .
ــ في البيت الشعري التالي :
" (وذلك ما لا تدّعي) امم ُ الدُّنا… فاْنْ جنَحوا فالغي يجْنَحُ باغيا "
جاءت عبارة (وذلك ما لا تدّعي) وقد حصرها الشاعر بين قوسين ، وهذا من ادب التاليف وامانة (الالتقاط) وكان معمولا به حتى لدى الشعراء الكبار ، وهذه العبارة تنتمي الى شعر (المتنبي) في إحدى قصائده عندما مدح سيف الدولة الحمداني :
" ويطلب عند الناس ماعند نفسه ... وذلك مالا تدعيه الضراغم "
ثم إن المعنى الذي أراده الشاعر (غازي ابوطبيخ) هو توكيد ما آل اليه المعنى السابق من فضل الله على الامة حين توجها بخاتم الأنبياء وخاتمة الرسالات حيث قال : (وذلك ما لا تدّعي امم ُ الدُّنا) أي لايمكن لامم الدنيا ان تنسب اليها مثل هذا القول وهذا الفضل ، وإن مالوا عن الحق فهو الضلال والغي الذي يُعتبر خروجاً عن الحق وعن طريق الصواب . وهذا المعنى الأخير قد تضمَّنه عجز البيت : (فاْنْ جنَحوا فالغي يجْنَحُ باغيا) حيث استعمل الشاعر المفردات التي تناسب في معانيها الفكرة تماما . وكذلك اعتنى الشاعر بكيفية تركيب الالفاظ ( جنحوا ، الغيّ ، باغيا ) في الشرط وجواب الشرط وقد استوحى ابتداء الشطر من ابتداء الاية الكريمة :
{ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الانفال 61 .
وهذا الاستيحاء من المعنى القرآني الشريف هو إستقاء ذكي ومناسب لشرف المعنى الرسالي والذي جاء في البيت الشعري السابق .
ــ وبعد ماتقدم من النظم الوافي والذي امتلأ بالفَخار والشواهد الدالة عليه وحسن البيان والتعليل ، نجد الشاعر قد بيَّت خاتمة تحتضنها ابيات شعرية ثمان قد اسفرت عن الم مكنون ابرزه في اجمل تراكيب لغوية ، وكعادته لم يهمل اختياراته للالفاظ والمعاني المناسبة والتي توافق الفكرة ولاتحيد عنها . فلو تأملنا البيت التالي:
" مكائدُ تترى أحرَنَت ْ بعنادِها… قديماً وما انفكَّ المُهَجْهِج راغيا "
هنا الفاظ أربعة ... (احرنتْ ) أي عاندت الانقياد ، وهذا ما أكده اللفظ الثاني (عنادها) ثم لفظة (مُهُجْهَج) أي الفحل الشديد الهدرة ، ولفظة (راغي) أي شديد الصوت الذي يصاحبه الزَبَد حول شدقيه . هذه المفردات لو تغير أحدها لخرج البيت الشعري كله عن توفيق المعنى البلاغي ولحدث في داخله شرخ بَيّن واضح ، فهذه الالفاظ هي التي تناسب الدواب ، وفكرة البيت الشعري تتلخص في وصف (المكائد) التي جاءت تترى واحدة تلو الأخرى وهي تنفث سمها في جسد الامة . ولغرض رسم صورة عناد هذه المكائد وقوة سمّها شبهها الشاعر بالدابة العنيدة الحرون الهادرة الصعبة الانقياد ، وهذا نظم فخم جدا لاينظمه إلا خبير .
ــ عند توالد المكائد والشدائد لابد ان يكون مصدرها عروش طاغية ، وما ان نستذكر الطغاة حتى نستذكر مايقابلهم ممن وقفوا امام هذا الطغيان وجسدوا اجمل وابلغ معاني الاستنكار والرفض والتضحية والفداء ، وفي السفر الديني والتاريخي امامنا المسيح والحسين ـ عليهما السلام ـ وقد جسد الشاعر هاتين الصورتين بالبيتين الشعريين التاليين :
" فليسَ عجيباً انْ تضجَّ خواطري … بألفِ مسيحٍ حينَ اُبصِرُ طاغيا "
" ولكنها اسفار ُ شعبٍ خضيبةٍ … وما زال جرحُ الامسٍ يشخَب طاميا "
فالشاعر لايعجب حين تجيش خواطره ويرصد مواقف الرفض للباطل حتى يتذكر الف بطل مقارع للجبروت والطغيان كالمسيح ـ عليه السلام ـ ورغم ان المسيح مازال رمزا في سفر التاريخ ، لكن الجرح مازال بليغا ، والطاغوت هو هو ، حتى جاء بعد المسيح من وقف وقفة شجاعة باسلة رافضا كل العروض والهبات ، وضحى بأغلى مايملك ، وسطَّر أروع صور الشهادة والبطولة والفداء من أجل بناء ركن أساسي في منهجية ايقاظ الشعوب من سباتها ، وإيقاد جذوة الحرية والكرامة والشموخ ، تاركا ورائه أثرا خالدا لن يزول ، وراية مرفرفة لا تركع ولن تُنَكَس ، إنه الحسين بن علي بن ابي طالب (كرَّم الله وجههما).
ولفظة (خضيبة) تخص الحسين الذي تخضبتْ جبهته حين استشهاده بدماء الغدر والبغي . ولنتأمل الالفاظ التي نُظمتْ لتناسب هذا الجرح المقدس ، حيث أن لفظة (خضيبة) هي صفة تدل على الثبوت ، وتعني تلون الشيء بلون معين ، واللون هنا هو لون الدم بسبب وجود لفظة (الجرح) ، ثم لفظة (يشخب) وتعني استمرار سيلان وتدفق الدم من الجرح ، وهي صورة لإستمرارية الجرح الوطني الكبير ، ولفظة (طاميا) وتعني الجرح العظيم ، وهذه الالفاظ توفرت لتجعل البيت اكثر انسجاما وقوة ، ليصنع صورة لا تقبل التشويه والزوغان .
ــ هذه المكائد والجراح التي نشبت بجسد الامة لايكتفي الشاعر بوصفها وعدّها ، بل يشكو ويضج الماً حين يستذكر ويتذكر وهو ينفث الزفرات ، فيقول :
" وكمْ صلَّبوني غيلةً بعدَغيلةٍ… وسالَ دمي في ماء ٍ دجلةَ قانيا "
وهنا يضع الشاعر ادواته النسجية ليميل بها الى وطنه العراق وما تحمَّل من غدر وخبث وخداع ، فاستعمل لفظة (الصلب) وهي التي ترافق لفظة (المسيح) عليه السلام ـ وهي ايمائة الى اشد حالات التعذيب ، وقد جاء بلفظة (غيلة) أي الاغتيال بغدر ، ورسم صورة استمرارية الغدر بعبارة (غيلة بعد غيلةٍ) وعجز البيت الذي تضمن لفظة (دجلة) هو دليل على الجرح العراقي مستمر النزف .
ــ لنتأمل هذا البيت الشعري :
" فما قدَروني حقّ قدْري وانّما… لغاياتِ نفسٍ حُرّة ٍ كنت فاديا "
يستطيع المتلقي لهذا البيت الشعري أن يتذوق طعم النظم وحلاوة السبك وسهولة نطق الالفاظ وسلاسة مخارج الحروف بحيث يصبح النطق مستساغا لدى الجميع ، فالمفردات سهلة التناول لدى الجميع لكن نسجها بهذا التركيب جعلها اكثر جمالا ونفوذا الى السمع . والمختصون من اهل الصنعة سابقا يعتبرونه من النظم الحسن لكون يأتي مسبوكا كالكلام العادي دون تكلف ، فلا يسبب جهدا في القراءة ولا يُثقل على سمع المتلقي .
ــ كل ماتقدم من آهات وهموم يختزنها الشاعر ، هو قادر على اختزانها ودفنها وعدم نثرها على مسامع الناس ، ويوضح بأن هذا الهَمّ لوكان شخصيا لتجرعتُ الصبر في كتمانه . لكن هذا الهمّ الدفين يعتبره الشاعر كالزيت الذي يغذي شعلة السراج ، فهو الذي يوقِد عنده شرارة الشعر ، وهو الذي يوقِد عنده سراجاً ينير الدرب للقادم من الأيام ، فيقول :
" ولو كانَ همّا مُفْرَداً لكتمْتُه… ُبصدري فذاكَ الهمُّ زيتُ سراجيا "
ثم لايلبث ان يستدرك بـ (لكن) فيقول :
" ولكنها اسفار ُ شعبٍ خضيبةٍ … وما زال جرحُ الامسِ يشخَبُ طاميا "
إذا لايمكن دفن الهمّ لهول الجرح وعظم الامر الذي مازال نازفا في جسد العراق .
ــ يناجي الشاعر العراق قبل ان ينهي قصيدته ببيت شعري يلهب الوجدان فيقول :
" وكنتَ لها يا ذا العراقِ تضمُّها… بجنبيكَ آلافَ الجراحِ الدّواميا "
حتى اخرج من عتاده الادبي عبارة مفعمة بصورة الحنان ( تضمُها بجنبيكَ) والتي وظفها اجمل توظيف في صورة احتضان العراق لهذه الجراح الدامية ، وعندما ابتدأ البيت الشعري بـ (وكنتَ لها ) أي لاغيرك يتحمل هذه الجراح وهي إشارة رائعة لقوة العراق وبسالته وشكيمته وشدة عزيمته ، وهذا بيان جميل رائع . ثم استعمال الشاعر لأسم الإشارة (ذا) في عبارة (يا ذا العراق) قد جاء فيها ذكاء نظميا واضحا . فالاسم الذي يأتي بعد (ذا) هو صفة ملازمة ويعتبر علامة فارقة تميزه عن غيره . كما في الاية الشريفة :
{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } الأنبياء 87
وذا النون أي صاحب الحوت وهو نبي الله (يونس)عليه السلام ـ والنون هو اسم الحوت الذي التقمه في البحر ــ ولذلك جاءت (ذا) قبل (نون) للدلالة على السمة الفارقة للنبي .
إذاً أراد الشاعر الاشارة الى العراق من بعيد بهذه الصفة أي (صاحب السؤدد والمجد والنسب العريق) فالعراق تأتي بمعنى جمع لاسم (عريق) مع المعاني الكثيرة الاخرى .
وهذا السبك يُحسَب للشاعر ولحسن نظمه الدقيق .
ــ بعد هذا النظم الباذخ المُترَف بالمعاني السامية والالفاظ الفخمة لابد للشاعر ان ينهي عصارتة بلذيذ الشراب الذي مأ أن تنتهي منه حتى يغلق طعمه في الفم ـ وخير الشراب ماعلق طعمه ـ حيث ترجم الشاعر غازي ابوطبيخ هذا المتبقي من الشراب بخاتمة تجلَّت في عجز بيت شعري رائع جداً تضمن معاني نكران الذات ، فجاء كالمَثَلِ او الحكمة ، وهذا من حسن النظم واجمله ، فيقول :
" فخذْ علقاً مني ومنكَ رَجاحة... ومنْ أحكمَ التسديدَ ، أصمى المراميا "
ففي هذا الخطاب الراقي يخاطب الشاعر وطنه بلفظة (العَلَق) إي الدم المتجمد والمتخثر ، وهو دلالة على الشهادة والفداء ، فيقول خذ دمي وأغلى ما أملك ولكن (رجاحتكَ) واتزانكَ وكمالكَ لاتفرّط به ، ثم يردف هذا الوجد بأجمل شطر شعري ، فيقدم دلالات للوطن (ومنْ أحكمَ التسديدَ ، أصمى المراميا) وفي هذا الشطر أروع البيان ، فقد جاء وهو يطبع بديهية لاخلاف عليها ، ومن يُحسن التسديد والتصويب لابد من ان يبلغ الهدف . حيث استعمل الشاعر لفظة (اصمى) وتعني نفوذ الرمية وقتل الصيد ، وهي لفظة تحمل معنىً متوافقاً جدا مع معنى العبارة (احكم التسديد) وهذه الصورة الشعرية هي إشارة ذكية الى ضرورة تكاتف الشعب بكل اطيافه للعمل بدقة وانتباه ، للوقوف بوجه المكائد والغزاة .
• بعد ما تقدم من تفحص وتحليل لهذا النظم الفخم للشاعر والاديب والناقد (غازي ابوطبيخ) لابد ان نشرق بحقائق مفيدة نضعها في ركاب المتلقي او من يريد الإبحار في ميادين الشعر .
• عند الشروع في عملية النظم لهذه القصيدة احسن الشاعر التصرف في اختيار المفردات والالفاظ التي تناسب فكرة القصيدة .
• جعل الشاعر المعاني متوافقة مع الالفاظ فلا تخرج عنها او تنحسر أوتضيق كي يأتي النظم وهو يحمل البيان الواضح والبلاغة المشرقة .
• عند سبكهِ للعبارات ونسجها خرجَ عما هو مألوف ومعتاد ، وذلك للوصول الى عتبة الابداع .
• تعامل الشاعر بذكاء مع المفردة التي أختارها وإبتعد عن العشوائية والحشو .
• عندما يكون القصيد مخاطباً لفكرةٍ كـ (الوطن) لابد ان يسمو بكل اجزائه واركانه وعناصره كي يناسب المقام ، وهذا ما وجدناه متوفراً في النص .
• النقاط أعلاه هي المعمول بها لدى الشعراء اهل الخبرة والدراية ، وما هذا النص الماثل في هذا المقال إلا نموذجاً رائعاً قد استوفى محطات الجمال والفصاحة والبلاغة ، كونه يحمل اكثر من محطة وفائدة نقدية .
تقديري الكبير ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق