السبت، 15 ديسمبر 2018

مشوار نقدي في محنة (عادل سعيد) بقلم الاديب الناقد كريم القاسم

مشوار نقدي في محنة (عادل سعيد)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الجميل أن نضع أيدينا على نماذج لقصيد النثر (المتحضر) والحداثوي الذي يمتاز بصفة العذوبة اللفظية والفكرة الهادفة دون الغوص في حشوٍ يربك النص ويعيق العرض والاستعراض .
المعروض في سوق الادب كثير ، لكن من يدغدغ المشاعر ويتفاعل مع العاطفة كي يجعل من النقد عملية متحركة أو داينمو كبير ليعيد النص الى الواجهة هو القليل والقليل .
ــ من بين القليل …. أمامي كاتب يتلاعب بالمفردات ويركّبها كقطع (الميكانو) لتأتي بمجسم وهيكل ثابت وجميل يجعلك تتلمسه كطفل معجب يبحث عن كل مايثير الدهشة والغرابة.
ــ الشاعر (عادل سعيد) قرأت له الكثير من المنشورات للبحث عن مواطن وبـؤَر الجمال في نصوصه الشعرية ، حتى اصابتني الحيرة ، فكل نص يحمل فكرة تهرول الى الابداع وتجذبه جذباً يصل حد التلابس ، فالنصوص تحوي ملاحة ووسامة وبهاء قل نظيرها ، وأخيراً تشبثتُ بهذا النص المكثف والذي يحمل عنوان (محنة) :
مِحْنـَــــة 
ـــــــــــــ
لم أكن حلزوناً
كأقصى ما يمكنُ أن يقترحهُ
خيالي الخُرافي
لكنّي أعرفُ
أن الحلزونَ ينوءُ بقوقعتِهِ
و حين يمتعضُ من العالم
ينسحبُ الى وطنِهِ المتقوقعِ
فوق ظهرهِ ..
إلاّ القوقعةَ فوق ظهري
فإنْ خرجتُ منها
مُتُّ
و إنْ انطويتُ فيها
مُتُّ
يالَهذي القوقعة..
…..
….
يالَـ ..
.. وطني
……………………
ــ الكاتب هنا استعمل في تأليفه هندسة النص القصير، وهكذا بناء ينسحب الى منصة ذكاء صاحب القلم ، كونه يكتب بروح العصر ، إذ لابد ان يستعمل كل ادوات الشباب الادبي ، وأولها حجم النص الغير مُتعِب للقاريء الحديث ، والذي يبتعد عن كل ماهو مطوّل لانشغاله بجزئيات الحياة الوفيرة والمعقدة …
ــ العنوان … جاء مُستنبطاً من المعنى العام وكان الاختيار موفقا جداً ليجعل القاريء يتسائل : ما هذه المحنة ؟؟
ــ ثم نتطلع الى مطلع النص ليبدأه بالنفي … نفي لفكرة اقترحها تفكيره الخرافي في أن يكون ( حلزوناً ) :
” لم أكن حلزوناً
كأقصى ما يمكنُ أن يقترحهُ
خيالي الخُرافي ”
ــ أمامنا هذين الشطرين :
” كأقصى ما يمكنُ أن يقترحهُ
خيالي الخُرافي ”
فلو افترضنا ان الشاعر استخدم مفردة (عقلي ) بدلا من مفردة (خيالي) لأصبح النسج كالآتي :
” كأقصى ما يمكنُ أن يقترحهُ
عقلي الخُرافي ”
لنَسَفَ النص بالكامل كقيمة انسانية عقلانية ، لان العاقل لايمكن ان يجعل عقله خرافياً ، فاستخدم مفردة (خيالي) وهو مسموح به عقلانياً ان يكون خرافياً ويهيم في عالم اللامعقول ، فيجعل اقصى نقطة في خياله ان يكون (حلزونا) وهنا نؤشر على ذكاء الكاتب ليفرض احترامه على قاريء النص ، وهذا المطلع المبدوء بالنفي ( لم أكن حلزوناً ) هو من اروع المطالع حيث يُدخل القاريء في زحمة صراع الفكرة ودون تمهيد ، وهذا من ضرورات تأليف النص القصير والمتوسط .
ــ ثم يخاطب القاريء ويستدرك بـ (لكني) كي يُثبت ان ما بعدها مخالفًا لما قبلها فيقول :
” لكنّي أعرفُ
أن الحلزونَ ينوءُ بقوقعتِهِ ”
ــ المدهش … ان الكاتب مازال يضع اللفظ في المكان الذي يناسب المعنى تماماً ، وهذا ماكان يطلبه الاوائل ويمدحون صاحبه ، فمفردة (ينوء) هي لاغيرها مناسبة لهكذا تعبير يخص الحلزون وقوقعته ، حيث ان الحلزون يسير وهو (مثقلا) بحملِ القوقعة على ظهره رغم انها وطن له ، ولو جاء بغيرهذا اللفظ لضعف المعنى .
ــ ثم يكمل :
” و حين يمتعضُ من العالم
ينسحبُ الى وطنِهِ المتقوقعِ
فوق ظهرهِ ”
ــ لاحظ اخي القاريء … ان مفردة (يمتعض) وكيف استخدمها الكاتب ، وكيف نجح بامتياز بوصف حالة البهيمة عندما تنزعج اوتغتم وتغتاظ ، فإنها تقبع في مثواها ، او مستقرها ، ثم يرشدك الكاتب الى سبب هذا الفعل ، فيشير الى كون القوقعة وطنا ، وهنا وصل الى منتصف النص ، إذاً عليه ان يُظهِر الفكرة الأم ، لذلك فهو قد هيّأَ ذهن القاريء الى لفظة (الوطن) .
ــ ويسترسل في نسجه :
” إلاّ القوقعةَ فوق ظهري
فإنْ خرجتُ منها
مُتُّ
و إنْ انطويتُ فيها
مُتُّ ”
ــ هنا جاء بأداة الاستثناء (إلا) واستثنى قوقعته عن قوقعة الحلزون ، وهذا من جمال الفرز ونباهة القصد ، حيث ترجم وجدانه العاشق والمُغرم بحب الوطن الذي لايمكن الافلات منه ، فإن خرج منه مات ، وإن (انطوى) فيه مات ، ولرب سائل يتسائل :
ما الغاية من استخدام الكاتب لمفردة (انطويت) ؟؟ والمفروض استرسالاً ان يستخدم تضاد مفردة (خرجتُ) وهي (دخلتُ) فيصبح النسج كالآتي :
” وإن دخلتُ فيها مُتُّ ”
وهنا لابد أن نقدّر نباهة الكاتب وتمكنه من السبك والنسج التأليفي حيث استخدم لفظة (انطويت) وتأتي هنا بمعنى (الانكماش) او (العزلة) وهي خير مفردة لخير معنى ، كونه عاش تجربة الغربة والانعزال ، فاستطاع من توظيفها بعناية فائقة في القصيدة . فقال :
” و إنْ انطويتُ فيها
مُتُّ ”
ــ ثم يختم النص بالتحسّر والشفقة لِما وصل اليه الحال ، فيربط ذهن القاريء بين لفظتين قد استخدمهما ، وهما (القوقعة) و(الوطن) حيث استخدم الاشطر المنقطة ، والتقطيع للكلمة دون عشوائية بل بدراية وعناية ليصور شدة الالم والتأوه وعدم القدرة على النطق المستمر ، كون الشعور والوَجد والحسرة قد أخذت منه مأخذها … فيقول :
” يالَهذي القوقعة..
…..
….
يالَـ ..
.. وطني ”
ــ الحال العام للنص :
ـــــــــــــــــــــــــــ
ــ يعتبر هذا النص من النصوص المستساغة للقاريء لحجمه المناسب .
ــ العنوان امتاز بالإستدراك الحسي ليعطي معنى عام ومكتمل للقاريء ويفسر كل فعل في النص .
ــ المطلع امتاز بقوة النفوذ والاشراقة الواضحة الجلية .
ــ المقطع إمتاز بحسن التصوير والذكاء في ايصال الفكرة للقاريء.
ــ الخاتمة تميزت بالايجاز والبلاغة .
ــ نجح الكاتب في ترابط الافكار المطروحة دون فجوات مما جعل من النص وحدة متماسكة ومترابطة .
ــ استخدم الكاتب مفرداتاً والفاظاً تقع تحت المعنى المطلوب … وهذا من جمال التأليف ــ استخدم الكاتب الفاظاً ليست بالغريبه على القاريء كون الفكرة موجهة للعام لا للخاص وهذا من الفطنة والذكاء .
ــ رغم قصر النص الا ان الكاتب نجح في تكثيف المعنى بصورة تبهر القاريء الحصيف .
ــ النص يحمل روح الابداع والحداثة والشباب الادبي .
ــ لم يأتِ الكاتب بألفاظ ومفردات عسيرة الفهم والتناول بل جاء بما هو مستعمل ، حيث استطاع توظيفه بعناية وجمالية ، وزَيَّـنها ببلاغةٍ وفصاحة .
تقديري الكبير …


……………………

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق