من حقيبة المذكرات
بقلم وفاء كمال الخشن
أنا مدينة أسطورية ٠ لا أسجد لريح لا تشق القصائد بعصاها
٠وهو نزق غاضب حاقد على كل أنواع السلطة والتسلط والظلم الذي كان سبب فقره وجوعه وتشرده
وملاحقته ٠ دافع عن غبنه بالأظافر ٠ لأنه كان يعتقد " إن الأسنان فائض قيمة أو
إنتاج ٠ يجب أن تزول٠ وقد حقق له القضاة العرب تلك الأمنية باستجواب واحد " ٠
لكنه لم يخضع لتيار أو حزب أو مدرسة أو سياسي أو رجل دين٠ حتى حائط المدرسة
كان يتململ منه لأن عصا المعلم أطول منه ٠ كان يتمنى لو يمحو ركبتيه أو يأكلهما حتى
لا يجثو أمام أي كائن ٠
لذا كان لابد أن يلتقي وجهانا أو يتصادما كاصطدام مكوك فضائي بتربة كوكب
مجهول ٠
فعندما دعاني الفنان دريد اللحام لحضور حفل افتتاح فيلمه " التقرير
" لم أجد " محمد الماغوط " حاضرا" لأجري معه حوارا لمجلتنا ٠ فطلبت
منه أن يدلني إلى سبيله، أو يأخذ لي موعداً معه ٠ قال دريد: " أبو شام "
لا يحب اللقاءات الصحفية ولا الحوارات ٠لكن لابأس، فهو يبحث عن مدرسة كيمياء
لابنته سلافة ٠وأنت صيدلانية ويمكنك أن تدرسيها بعض الوقت وتغتنمي فرصة فراغه وتواجده
وتقومي بالحوار ٠ بشكل متقطع ٠
في اليوم التالي فزت بلقائه
دخل " الماغوط " الصالة الصغيرة ..فاضطربتُ كلوحٍ من الخشب تتقاذفه
الأمواج ..لا
أدري سبب ذلك ! هل هي هيبة إطلالته؟ أم هو شغفي
بالالتصاق بالقصائد المغضوب عليها ؟
هممتُ للتلميح حول مهمتي الصحفية لولا دخول امرأة سمينة قروية الملامح’
, (رحبت بي واظهرت مودة بالغة ), قدمها لي الماغوط :
-إنها شقيقتي
سألتها: هل انت شاعرة أيضاً؟
سبقها " الماغوط " بالإجابة :
إنها راقصة .
لم أتمكن من تمييز الجد من الهزل في رده ,.فشكلها
لا يوحي بما نعتها به مطلقاً , وخاصة محيط بطنها وخصرها الواسعين .
قلت :هل كنتِ مدربة على الرقص ؟
فضحكت ونظرت لشقيقها الشاعر" محمد الماغوط " الذي ضحك بدوره
و قال : بالأمس أجرت عملية جراحية ..وشقوا بطنها من أقصى اليمين إلى أقصى
اليسار فما عساها أن تعمل سوى ( الرقص) ؟
هكذا كان " الماغوط " تسبقه كلمته الساخرة . فيحرك خيال المقابل
إلى موضع لا
يمكنه تصوره .
استطاع أن يبعدني عن مهمتي التي حضرتُ بصددها ٠
وينقلني إلى عالم الوجع ومعاناة الناس المستمرة ..فالشعر عنده يغلو في الانتقال من
ذاته وازهاره النادرة، ليمسي ملاصقاً للناس وأوجاعهم ومعاناتهم .
إن رغبتي بلقاء ذلك البدوي الأحمر الذي قاتل على
عدة جبهات ( شعر ومسرح وصحافة) وجمع كل تناقضات الوطن على صفحات كتابه " سأخون
وطني "٠ حيث كتب ما كتب. كإنسان جريح يحمل آلام الناس والمعذبين
في الأرض والفقراء والمظلومين والمهشمين والمحزونين٠
جعلتني أنسى الحوار ٠ فما اسمعه اليوم هو جزء من الصورة التي كنت أخزنها
في خيالي عنه ٠ صورة المضحك المبكي في آن واحد ٠لقد أحببت نسيج حياته لأنها كانت مزيجاً من حياة أبي وجدي الذي أدرك موهبتي
الأدبية
منذ أول رسالة أرسلتها له وهو في المهجر ٠كان الماغوط
محروما من حنان الأب الذي كان قاسيا" يضربه كما تضرب الجارية ، كذلك كان أبي محروما
من حنان الأب الذي هاجر هربا من الاستعمار والفقر ؛ ٠ قضى الماغوط حياته هارباً من
السلطات التي كانت تلاحق منتسبي الحزب السوري القومي بعد اغتيال عدنان المالكي على
يد أحد
أعضاء ذلك الحزب ٠ كذلك كان أبي متخفياً حين انصبت
حوله الشكوك بمساعدة سجينين من قادة الثورة السورية عندما كان يعمل في ثكنة للجيش الفرنسي
٠لم تكن عوائل السجينين لتعثر على مكان وجودهما لولا زيارة أبي لهم وتبليغهم بالاتفاق
مع السجينين ٠ فما كان من السوريين إلا التظاهر في المرجة صباح اليوم التالي مطالبين
بالإفراج عنهما ٠ لم يكن أبي يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ٠ خاف وهرب إلى لبنان ٠وظل
متخفيا خشية الملاحقات٠ ليعود ويتعرض لها في شبابه بعد انتسابه لنفس الحزب الذي انتمى
اليه الماغوط ٠، ثم هرب من الملاحقات وسحب انتسابه ٠فكتبت عنه الصحف بالخط الأحمر العريض
( كمال بيك الخشن يعتزل السياسة) ٠ لم يكن والدي( بيك) لكن هذا اللقب أطلقه عليه الحرس
الرئاسي حين ذهب لاستقبال والده المهاجر لأول مرة الذي عاد للوطن بدعوة من الحكومة
بعد أن نال وسام الاستحقاق السوري ذا الرصيعة لجهوده المضنية في مقارعة الاستعمار والصهيونية
ولأنه كان من الصحفيين الأوائل الذين لم يبيعوا ضمائرهم وأقلامهم للسفارات الأجنبية
٠ فأوقفوا الإعلانات عن جريدته " العلم العربي " ظنا منهم انهم يستطيعون
الضغط عليه لكن الجريدة كانت توزع لأبناء الجالية ملفوفة
بجريدة أخرى ٠
الماغوط كان يذكرني بأبي وجدي ٠ لذا لم يكن بإمكاني إلا أن أحبه كما أحب
أبي ٠لكن لماذا قفز قلبي بين ضلوعي حينما تهادى صوته لأذني من سماعة الهاتف؟ هل كنت
أعشقه دون أن ادرك تفاصيل ذلك العشق؟ أم أنه الشعور بالزهو والانتصار لأنه هو الذي
اتصل وليس أنا٠
كانت هذه المرة الثانية التي أزورهم فيها ولم يتطرق للحوار لا من قريب
أو من بعيد ٠ بل كان يحدثني عن براعتي بالكيمياء. لم أكن أعلم من أين استقى تلك المعلومة
الخاطئة ٠ فأنا طيلة دراستي في كلية الصيدلة لم أكن بارعة بالكيمياء مطلقا ٠ إلا أنه
استطاع أن يقنعني أنني أستطيع أن أكون مدرسة كيمياء لابنته " سلافة " ففعلت
ريثما أحظى بالحوار. كان من الممكن أن أتوقف لولا رغبتي الشديدة بمصافحة شعره الذ ي
يفيض بالتمرد والتحريض والثورة والحب والحرب والسجن والحرية.
كان عليًّ في يوم لاحق ان انهي درس الكيمياء ل
" سلافة " قبل أن يغادر والدها المنزل. وطيلة الدرس وأنا افبرك أفكاري وأختزلها
علَّني أحظى ببعض الوقت للجلوس معه ومحاورته حول قصيدة النثر التي استطاع أن يحملها
إلى بر الإبداع والتميز. . لكنه لم يغادر المنزل (كعادته) اثناء درس سلافة ابنته الصغرى.
بل دخل الجزء المستقل من الصالة. وكان يبدو غاضبا ومضطرباً .حيث تهادى إلى سمعي صوت
ركلة قدمه للكرسي.
قررت أن لاأسأله ذلك اليوم أي سؤال , وأن لاأحاوره
مطلقا. خصوصاً عندما نظرتُ إليه بطرف عيني فوجدته يتفصد عرقاً رغم برودة الطقس ..فقد
سمعت أن تلك الحالة كانت تنتابه حينما يلِح احدهم بسؤاله عن زوجته المرحومة الشاعرة
"سنية صالح" .
حاولت ان اترك "سلافة " وأغادر دون ان
أنهي الدرس علني أجد مبررا للعودة مرة ثانية بعد ان أعود من السفر المقرر مع عائلتي
إلى لبنان . قالت "سلافة " : هل انتهينا يا مس ؟قلت: نعم . لكن
مازالت هناك بعض المعادلات بحاجة للتوازن.( وانا أنظر صوب الماغوط نظرة مليئة بالعتاب).
ابتسم بسرعة غريبة وكأن شيئاً لم يكن وقال : وفاء يا عزيزتي أنا مشتاق
للسير والتسكع في الشوارع تحت المطر كالأطفال ..هل ترافقيني ؟ شعرت بالإحراج
قلت : علي ان أنهي تحرير صفحتي الخاصة بالمرأة٠ وسأرافقك حتى مجلة الحرفيين .
انطلقنا معاً تحت المطر وقد عادت الابتسامة إلى
وجهه .. وقال: المطر يشعرني بالحنين إلى كل شيء إلى طفولتي وأيام تشردي ويوقظ احاسيسي
المنسية , فأحنُ إلى وجوه افتقدتها ..كنت ادرك انه يلمًّح عن زوجته المتوفاة الشاعرة
" سنية صالح " لكن لم اجرؤ ان احشر نفسي في موضوع قد يجعله متقلبا في مزاجه
وطباعه .واكتفيت بالقول : مثلك أنا أعشق المطر لأنه يزيل الأصباغ عن الوجوه فتظهر على
حقيقتها دون تصنع او تكلف .كانت قطرات المطر تتناثر على وجهه فيبدو كطفل صغير قد نسي
موجة غضبه إثر
عثوره على دمية . بينما كنتُ ارفع يدي لإعادة ترتيب
شعري الذي عبث به المطر وانا أتخيله يتمتم أغنية حزينة .( اهطل أيها المطر ..أريد ان
استعيد طفولتي لحظات قبل الممات )كنا نسير متحاذيين وكأننا كائن واحد ٠ كانت الحرارة
تثرثر في وجنتي وتمسح المساحيق من شدة الخجل الممزوج بالسعادة وهو يرسم صور كاريكاتورية
للحياة يبدو أنه على صلة وثيقة بما يتحدث عنه ..فلا تكاد تميز بين الحقيقة والخيال في كلامه
..فهو يمتلك الحس الفطري السليم ,بحيث لا يستوجب عليك وأنت تحادثه ان تطرق لتتمعن في
كلماته.. إنه يحكي ذاته باستمرار لم يصطنع شخصية مغايرة تستر ما في نفسه عن الأعين.
كنا نسير تحت المطر وهو يحدثني عن خيباته التي كانت
ارضا خصبة لأعماله المسرحية . كنتُ أشعر بالأسى, لكنني في نفس الوقت لم أتمالك نفسي
من الضحك وهو يسرد لي هذه الحادثة : ( ذات يوم طلب مني رئيس التحرير حضور حفل نيابة
عنه كان يعتقد أنه يقدم لي مكافأة ثمينة . دون أن يكون على دراية بكرهي للحفلات الرسمية
. فكنت اختلق الاعذار لكي لا أذهب ,مرة اتذرع بحذائي المثقوب ,وتارة
بسحاب بنطالي المقطوع ,أو بعدم امتلاكي بزة رسمية ,أو ربطة عنق أو بعدم امتلاكي لسيارة . لكنه وفرَ لي اللباس والمال والسيارة
. لم يترك لي مبررا لعدم الذهاب .فاضطررتُ لحضور الحفل مكرهاً
رأخاك لا بطل .لم يكن همي في ذلك اليوم الا انتظار الطعام ..حيث كان بطني خاويا . وحين
احضر النادل الطعام ووضعه على الطاولة كنت اول من غاص به. رغم انه طعام بسيط فجل وخيار
وزيتون وحمُّص بالطحينة ومتبل ومخلل. قلتُ : تقصد المقبلات .قال: وتلك كانت الطامة
الكبرى فقد أُتخمتُ منها تماماً .وكنت اعتقد انها وجبة الغداء الرئيسية. لذا كنت أستغرب
لم لا يرغب الجميع الأكل مثلي ؟ لكن المفاجأة الحقيقية كانت بعد ان أُتخمت من المقبلات
. حيث بدأوا يحضرون اطباق اللحم الشهية والسمك والدجاج والكبة, والكثير مما تشتهيه
النفس ممَّا لذ وطاب من اصناف الطعام التي جعلت عيني تغادران محجريهما .ولكن لم اكن
قد تركت في معدتي فراغا ولو للقمة واحدة .مما احزنني كثيرا وذهبت إلى المرحاض علني
انجح في تفريغ معدتي من المقبلات ..لكن دون طائل.شعرت بخيبة كبيرة. فأسندت راسي الى
الحائط ,ورحت ابكي لانني خسرت فرصة تذوق ذلك الطعام الذي كنت محروماً منه طيلة عمري).
كان "الماغوط" يحكي ذلك بحرقة وحسرة
. لكنه يعود ويضحك ويرفع نظارته ويمسح عينيه ويضحكني معه .. أقول له كافي لقد سال الكحل
من عينيَّ. فيقول لي :أحب ضحكتك ..لأنها ( طالعة من الصماصيم ) . وكلما لمس دهشتي وسعادتي
يسترسل دون انقطاع وأسترسل أنا بالضحك الممزوج بالوجع .وأنا أحاول الإلتطاء تحت الأروقة
حتى وصلت إلى مقر المجلة ٠وقفت لأودعه فقال: لم لا تتابعين السير معي قلت لدي عمل وسنسافر
اليوم إلى لبنان ولا أريد أن أخسر تسريحة شعري بسبب المطر: قال: أنت جميلة بمطر وبدون
مطر ٠ قلت: وأنت تجيد الإطراء بدون مظلة واقية ٠ فأنت لم تر شعري عندما ينفش إنه مصيبة٠٠٠
كارثة ٠ابتسم و قال أنت جمالك يشع من داخلك من ثقتك بنفسك وسرعة بديهتك ٠ كنت في حقيقة
الأمر لا أرغب بتوديعه ٠ لكن لم أكن أمتلك مساحة من الحرية للخروج مع رجل غريب حتى
لو كان بسن والدي٠ فاضطررت أن أودعه وأنا أتساء: أية روح عذبة تلك التي تستطيع أن تنقل
كل ذلك القهر والضيم والوجع والظلم والجوع والحرمان بقالب كوميدي دون تجميل أورتوش؟
٠
مضيت في اليوم التالي لأعطي سلافة الدرس ٠
رفعت يدي المرتعشة وقرعتُ الجرس . سمعتُ وقع خطوات وئيدة تتوجه صوب الباب
. أخذ قلبي يدق بعنف .لأنني توقعت أن الماغوط سيفتح الباب بنفسه , وليس "سلافة
" او شقيقتها الكبرى "شام" شعرتُ انني لن اتمكن من كسر الزمن مابين
تلك الخطوات وبين قبضة الباب . لكن شابة سمينة في مقتبل العمر قطعت عليَّ ذلك الإحساس
حين فتحت الباب . كانت ترتدي ثوباً منزلياً خالياً من الأناقة ..ولم تكن جميلة .لا
أدري لمَ كنت اقوم بتشريحها بنظراتي.؟! أنقِّبُ عن عيب ما فيها , قبل أن أعرف من هي
..قالت :تفضلي ثم صاحت لسلافة . سحبتُ الكرسي بغضب (لاأعرف سببه..) وجلست خلف الطاولة
التي كانت كتب سلافة مبعثرة فوقها بفوضوية عارمة . نادت الشابة لسلافة التي حضرت مهرولة
, تحمل بيديها مجموعة لوحات .حيتني وقالت : ( شوفي رسماتي حلوين يا مس وفاء؟ ) .انعقد
لساني من الدهشة فقد كانت لوحات فنانة محترفة , لالوحات طالبة متهاملة في الإعدادية
..كان فيها نفحات سلفادورية وشيء من روح الفنان " فلاديميير كوش " . سألت
" سلافة" : هل تعرفين المدرسة السريالية في الرسم ؟ قالت : لا لكن بابا يقول
أن لوحاتي سريالية . قلت : إذاً دعيه يوفر لك معرضاً لعرض لوحاتك ..سحبتُ الكرسي لنبدأ
الدرس . فقالت : (والله موطايقة لا الفيزياء ولا الكيمياء . منشان الله قولي لبابا
إني أخذت الدرس ولاتعطيني ياه ) قلت : هل هو في المنزل ؟ قالت : لا ..ذهب لإجراء تخطيط
للقلب بطلب من الطبيب ..شعرت بألم يعتصر قلبي. ورغبة مجهولة بالبكاء ..قررتُ المغادرة
وقلت لسلافة سأذهب الآن , وقد أعود غدا, ما دمتِ لا ترغبين اليوم بالدراسة وفي الحقيقة
كنت أنا التي لا ترغب بالتدريس ..مضيتُ والأفكار السوداء تتلاطم برأسي ..وإيقاع أحاديث
ا"لماغوط " التي لم أرتوِ منها بعد يتردد صداها في أذني كتراتيل سماءٍ قدسية.
انقضى يوم آخر ٠
كنت أدرس سلافة بعصبية ٠ خصوصاً أنني كنت أحاول حشو رأسها بنظرية"
لافوازييه " التي كنت أنا
نفسي لاأحفظ منها سوى عبارة ( المادة لاتفنى ولاتخلق من العدم) ٠ كنت
أحاول صرف نظرسلافة عن قانون لافوازيه باستخدام عبارات أدبية مثيرة بالحديث عن أعدام
لافوازيه، وعن العبارة التي قيلت في قاعة المحكمة (لسنا بحاجة لعلماء بل بحاجة الى
عدالة) كانت سلافة تستمتع بالحديث لذا تخجل أن تواجهني بفشلي بالتدريس ٠ لكنها تقول:
لا أحب الفيزياء ولا الكيمياء يا مس وفاء. خاطبت نفسي قائلة (يلعن أبو الفيزياء على
أبو الكيمياء) ليتك تقرئين ما يجول في رأسي في هذه اللحظة ٠ فأية ورطة ورطت نفسي بها
حينما قلت لوالدك أنني أفهم الكيمياء؟ ٠ألم تكن الكيمياء التحليلية سبب رسوبي في السنة
الثالثة صيدلة؟ ٠٠ (هلأ صرت بدي أعمل حالي لافوازييه؟). في هذه اللحظة سمعت وقع خطوات
الماغوط في آخر الصالة المنعزل يبدو انه سحب بعض الأشياء وغادر دون أن يحيني أو يعيرني
اي اهتمام. ترى هل كان يتنصت على حوارنا الذي تجاوز الكيمياء الدراسية ألى كيمياء الحياة
والوجود والموت؟ هل٠٠ وهل٠٠٠ وهل؟ مئات الأسئلة التي كانت تطوف في رأسي، قطعها بدخوله
المفاجئ ٠ وقف في منتصف المسافة بيني وبين سلافة ٠ وضع يده اليمنى على كتفها ودس اليسرى
بشعري، وحك فروة رأسي بأبوة وحنان٠ شعرت بسعادة لا توصف، فتلك الأصابع التي أنجزت أجمل
القصائد و اروعها تتوغل في شعري وتشعل الجنون في أطرافي ٠ فالحمد لله انني قد سشورت
شعري قبل زيارتي لهم. أي احساس مقزز كان سيشعر به لو تركت شعري عكشا على طبيعته؟ لقد
غمرني بالحنان والدفء للحظات وقال:هل تحبين الأرضي شوكي؟ استغربت سؤاله، وتذكرت في
الحال تشبيه الموسيقار عبد الوهاب للأرضي شوكي براقصة "الستريبرز ً التي تخلع
ثيابها قطعة قطعة ٠ فأجبته لا٠٠لا٠٠ أحب السفرجل كل عضة بغصة ٠ لم يبد اية ردة فعل،
وكأنه لم يفهم قصدي ً لكن لم عليه أن يفهم قصدي؟ ولم علي أن أفهم قصده؟ ًأنا مجرد مدرسة
مؤقتة لحين إنهاء الحوار معه٠
كل تداعيات تلك الأفكار قطعتها تلك الفتاة السمينة التي يبدو أنها كانت
نادلة او مربية اوضيفة قريبة كانت تحمل صينية مليئة بالأرضي شوكي المغطى بالصنوبر واللحم
٠ كان البخار يتصاعد باتجاه أنفي وكنت جائعة جداً فقلت: نأكل الأرضي شوكي ٠لم لا نأكل؟
٠ وليذهب الحوار للجحيم فللشعر رب يحميه.
لم يسع' "ٱلماغوط" لإنجاز الحوار معي
٠ ولم يشر له مطلقاً ٠. فقررت أن أذكره به، لكن ليس قبل أن أسأل الفنان " دريد
اللحام " عن الصيغة التي قدمني فيها له ٠ هل قدمني بصفتي إعلامية ؟ أم قدمني على
أنني مدرسة كيمياء؟ قررت أن أقابل "دريد " في مكتبه دون موعد لأن هاتفه كان
مغلقاً دوماً ٠ولأنني كنت قد خبِرْتُ عدم التزامه بالمواعيد٠ لاادري هل ذلك هو شأن
الإنسان عندما تعلو منزلته في قلوب الناس أم أنها انشغالاته المتواصلة ؟!٠
غذذتُ السير باتجاه مكتب الفنان دريد٠ انعطفتُ نحو اليمين حيث كانت تنتصب
كافيتيريا " موروكو " ٠ آلاف الحزم الضوئية كانت تنعكس على المقعدين الفارغين
اللذين كنا نستودع فوقهما أحلامنا البائسة أنا وخطيبي قبل انفصالنا .حيث كنا نريد تأسيس
دار نشر ونحن نحسب مئة حساب لدفع فاتورة الكافيتيريا ’ هو طبيب متخرج حديثا ً وأنا
طالبة سنة ثالثة صيدلة ٠أقتربت ُ من المكتب، كنت أرتدي بنطالاً ضيقاً بالكاد أدخلتُه
بساقي السمينتين ٠وأنتعل حذاء ذا كعب عال ِ’ لم اعتد ْعلى السير بمثله مسبقا٠ فما أن
وصلت إلى باب المكتب حتى انخلع الكعب، فانحنيت لأجد حلا ’ فانقطع سحاب البنطال( يلعن
الساعة يلي لبست فيها كعب ضروري كان طوِّل حالي قد امه) أنا بطوله بدون كعب٠ لا أقصد أنني طويله بل هو قصير ٠ ومن حسن حظي
أنه لم يكن موجودا، فرجعت ( عالوحدة ونص) لا ألوي على شيء٠
لم يعد الحوار مهما بالنسبة لي، إذ كلما تباطأ كانت فرصتنا من اللقاءات
المبررة اجتماعياً أكبر، وتتيح لي مجالاً أوسع للخوض في تفاصيل حياة إنسان يترك بصمة
دافئة في وجداني إثر كل كلمة يتلفظ بها. ٠لكن يبدو أن الأمور تعاكسني، فحيث أردت أن
يبطئ الحوار،اتصل هو ٠رفع أخي الطبيب السماعة ثم ناداني :
-الشاعر محمد الماغوط على الخط٠
وارتبكت كعادتي٠ ذاك هو شاني كلما تحدثت مع رجل أفكر بردود أفعال من حولي
أكثر من تركيزي على حديث المتصل٠ لم أكن أريد أن يسيء أحدهم الظن بي .فأنا كنت مجرد
معجبة بنصوصه . الماغوط على الورق وقد فتحت عيني على نصوصه المتحيزة للضحايا والأبرياء
والفقراء والطبقات الكادحة والإنسان المحكوم بشتى أنواع السلطة ( الدينية والسياسية
والأبوية) ٠أحببت ذلك التفرد في شعره حيث كان دوماً ٠يشبه الشعر بالحيوان البري تدجنه
القافية والتفعيلة والوزن ٠ وكان لا يهوى كثيرا ذلك التدجين ٠
أحببت أسلوبه الخاص الذي لايشبه إلا نفسه٠رغم. بساطة تعابيره التي لم
تتمكن الترجمة من تشويهها٠ أحببت فيه ذلك الحزن الذي يشبه حزن أبي االذي كانت حياته
كوميديا ساخرة ومحزنة ٠فوالده الذي رباه المجتهد السيد محسن الأمين حين لمس فيه النباهة
والذكاء وسرعة البديهة ٠ كان قد هاجر حين قرعت نواقيس الغربة، وابتلعت ولولات .السفن
حشرجات الأمهات الذين غالباً ما يودعن أولادههن دون رجعة٠
فترك جدي عبد اللطيف الخشن والدي كمال يعالج الفقد والحرمان والجوع٠ومضى
يحدوه الأمل بالعمل مع أخويه اللذين زينا له الغربة ٠ولكن سرعان ماتركاه فريسة للجوع
والتشرد، . ليعاني مايعاني ويكافح ويغامر، حتى اهتدى إلى عمل في الصحافة ٠حيث طلب منه
رئيس تحرير جريدة الفطرة " ان يعمل معه ٠ وعهد اليه بتحريرها بعد ان لاحظ كيف
كانت تتدفق الحروف كالشلال الهادر من بين أصابعه ٠ بينما كان الوطن العربي يغلي كالمرجل
وكانت بذور حركات التحرر الوطني في بدايات نهوضها٠ وقد لمس" سيف الدين رحال
" كيف كانت العروبة تسري في دم جدي حين ينشد أحدى قصائده:
قالوا العروبة داء فيك،
قلت لهم: داء ولكنه خال من الألم ٠
آمنت بالعرب إيماني بخالقهم،
آمن بمن شئت، بالشيطان بالصنم
هكذا امتطى عبد اللطيف صهوة الصحافة مدافعا عن العرب ووحدتهم حيث قال:
أراني لا أفرق بين قطر وقطر
، قد تحرر من بلادي/
نضالي للجميع نضال حر
أحارب فيه تجار المبادي/
وغرسي للجميع فلا تسلني
كم استثمرت أيام الحصاد/
صديقي من يصادف يعربيا
عدوي للعروبة من يعادي
وبعد سنوات من تحرير الفطرة اسس جريدة العلم العربي. باللغتين العربية
والاسبانية التي استلم تحريرها بعد وفاته شقيقي عصام الخشن ً
إذا ذكرت بلادي رحت أبكي
على نفسي لأني من بلادي /
احس ببعدها ناراً ٠
وليست تحس بأوبتي أو في بعادي٠
ألا ياعائدا للحي عفوا،
أكاد أشق من حسدي فؤادي / ٠
أاسقي حقل أوطاني بدمعي،
ولا أجني سوى خرط القتاد؟
هكذا كان قلم عبد اللطيف الخشن ألذي قال عنه الشاعر جورج صيدح انه ( أحد
سنان جردته الصحافة العربية في وجه الإستعمار والصهيونية، هذا القلم الظريف اللطيف
النظيف، الذي يصول ويجول على صفحات " العلم العربي" في" بوينس ٱيرس
/ االأرجنتينن" ٠ قلم فتاك متى غضب جذاب مطراب متى رضي ٠ تحوطه لعنات المارقين
وصلوات المخلصين ٠
_الو
- أهلين (وشك ولا ضو القمر)؟
- هل ترين وجهي؟
نعم بقلبي( عيني الثالثة التي لا تخطئ أبدا)
-ممكن نلتقي غدا؟
صمتت قليلاً، وحاولت أن أبدي عدم اهتمامي، ليس لأنني لا أرغب برؤيته،
بل لأنني كنت أنفذ فكرة مجنونة أناوشقيقي المهندس الذي كان يصغرني سنا وصديق العائلة
الشاعر" جمال زين الدين " ٠وهي إزالة جدار اسمنتي بين غرفتين، مستغلين سفر
والدي إلى قريتنا( سحمر في البقاع الغربي من لبنان) ٠كان جمال متحمسا للفكرة لأني وعدته
أن نعرض قصائده على " الماغوط" عندما يحضر عيد ميلادي٠
بدأنا عملية الهدم التي استغرقت وقتا طويلاً وجهداً لم نكن نتوقعه ٠
كنا نهدم ونخشى أن ينهار السقف فوقنا٠ كان شقيقي قصيراً بالنسبة للشاعر
جمال، فكلما كسر جمال قطعة اسمنت وقعت فوق رأس شقيقي الذي لم يكن موافقا في البداية
على عملية الهدم، واضطر حينما ثقبنا الحائط أن يساعدنا ثم انسحب٠ كان جمال يتصرف كالمهندس
ويسألني
- (بيتكم زواياه عضايد أم صف
بلوك)؟
-لاأعرف٠٠ مامعنى عضايد؟
- العضادة هي الأساس ٠إذا كانت الزوايا صف
بلوك قد ينهار فوقنا
كنت أضحك وأنا أضرب الحائط بالقدوم٠ وأنشد قصيدة أمل دنقل :
آه ماأقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق٠
فيجيبني جمال الذي بدأ الإرهاق يرسم خطوطه على محياه ؛
ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة٠ أضحك بعمق وأتابع:
لو لم يكن هذا الجدار
ماعرفنا قيمة الضوء الطليق٠
قلت للماغوط:
هل نؤجل اللقاء لما بعد الغد؟ فأنامشغولة اليوم
٠
- مالديك؟
- لدي بضعة أوراق علي أن أكتبها ٠
في الحقيقة كنت أريد إتمام مراسيم الحفر والدفن ٠
قال: ألا يمكنك تأجيل الكتابة لما بعد الغد
- لا٠٠ أبدا (وجهت ناظري باتجاه جمال وربت
على خدي الأيسر ٠
كنا أنا وجمال معفرين بالتراب وقد بدت رموشنا بيضاء، وتخللت قطع من الإسمنت
شعري وشعر جمال و لم يكن نفضها سهلا٠ وبدت الغرفة وكأنها تعرضت لعاصفة رملية ٠ (لوحت
بيدي لجمال هامسة: لو رآني الآن لتخلى عن صداقتنا)
قرع الباب والسماعة في يدي ٠ خرج شقيقي من عيادته
المجاورة ودخل المنزل مسرعا. وقال :بابا وماما عادا من لبنان ٠ فقلت للماغوط وأنا ابتلع
نصف الكلمات : اتصل بك غدا ونتفاهم ٠ الآن لدينا ضيوف٠
-إلى اللقاء٠٠اغلق السماعة وأنا أرتجف ٠اراد
جمال أن يقفز من سطح الجيران فمنعته ٠
-تريد أن تفضحنا؟
- أفضل من أن يرتكب أبوك فينا جريمة
-لاتخف ٠
-أبوك لايعرف ربه الذي خلقه عندما يغضب٠
دخلت ماما يتبعها والدي٠ وضع الحقيبة على الأرض ونظر الى جمال بحنق٠ فهو
لم يكن يرتاح لصداقتنا ويقول: إجتمع المجانين ٠ وقف جمال صامتاً كالتمثال ٠ ووقفت أنا
أرتجف فحمل والدي القدوم يريد ضرب جمال٠ تدخل شقيقي وحل المشكلة قائلا: جمال لادخل
له أنا طلبت منه أن يهدم الحائط سنحضر مهندس مختص بالديكور لصنع خزانة هنا مثل التي
عند أبو حسين ٠فهدأ أبي قليلاً٠ فشقيقي كان طبيب أسنان أخصائي في جراحة الفم والفكين
وكان يساهم بمعظم مصاريف المنزل لذا كانت كلمته مسموعة ومطاعة ٠ وولى جمال هاربا وهو
يحمد الله الذي لايحمد على مكروه سواء
اتصلت في اليوم التالي٠ فأجابني بتثاقل ولهجة مليئة بالجفاء٠ تمتمت بصوت
منخفض ٠(يبدو أن المزاج هو ربه العالي٠ ربما يؤدي إلى انقطاع الجسر بيننا قبل أن أنجز
الحوار)٠
قلت: مابك؟ هل أنت مريض؟
-نعم متوعك ومتعب وحزين ٠
اذاً لنؤجل الحوار٠
-)ك٠٠٠ إخت الحوار(
نزلت كلمته السوقية فوق رأسي كالصاعقة ( صحيح انني
أاستلطفه، لكن لايعني ذلك أن أسمح بإزالة الحواجز بيننا لذاك الحد ٠حاولت أن أبحث عن
مبرر لذلك الغضب ٠
قلت:
- تبدو ثملا ومتعبا ٠ نلتقي في وقت آخر ٠
-قال لا سأنتظرك في الرابعة بمقهى"
الهافانا "تعرفينه بالتأكيد٠
-لا٠٠لاأعرفه من قال لك :انني ارتاد المقاهي؟
-المقهى في مدخل الصالحيه لايتوه عنه أحد
٠
كنت مثل المنومة مغنطيسيا لا أعرف لم لم أرفض الذهاب؟ كنت كعربة تندفع
نحوه بينما عجلاتها تتحرك نحو الخلف ٠ خاطبت نفسي:" الهافانا " من اسمها
تبدو ملاذا للسكارى ٠ هل من الممكن أن يورطني بالذهاب إلى هناك؟ على كل سأذهب وإذا
لم يعجبني المكان أغادر٠
كانت واجهة " الهافانا " واسعة، وكان يجلس خلف طاولة ووجهه
باتجاه الخارج ٠ كنت أتصبب عرقاً من شدة الخجل والإرتباك قبل الدخول ٠لكن جلوسه على
كرسي قرب باب المقهى، اختصر كل الحرج الذي سيصيبني لو بحثت عن مكانه ٠ لم يكن المقهى
كبيرا ٠ كانت رائحة الدخان تملأ المتسع ٠ ولم ألمح أي امرأة ٠ كانت تفوح من الماغوط
رائحة العرق٠ لكن لم يكن على الطاولةأثر للمشروب ٠قلت له بنبرة غاضبة :
-(لوين جايبني كلهن سكرجية)
٠ ضحك وقال :لا سنصعد للأعلى هناك مكان للعوائل٠
جلسنا في القسم العلوي ٠وضعت محفظتي على الطاولة٠ قال: محفظتك كبيرة
٠ أنت لاتحملين حقائب كحقائب النساء٠ ٠سحب المحفظة قبل أن اجيبه وقال:
ماذا أحضرت لي معك؟ قلت: أحضرت (كتاب الأصول والمذاهب
في فتح الحقائب) ٠ ضحك وقال أنت سريعة البديهة ٠ وذكية في التخلص من المواقف الحرجة
٠ في حقيقة الأمر كنت أخاف أن يفتح حقيبتي لأنني خشيت أن يرى الأوساخ في داخلها٠ من
بقايا أقلام مبرية ومناديل ورقية ملطخة بالكحل وبقايا عطر زيتي، والقليل من النقود،
وقصاصة أظافر، وبطاقة دعوة مفتوحة لحضور حفل افتتاح فيلم التقرير، ورسالة من مراهق
٠ثم استرسل أتعلمين لقد قالت لي سنية أنك ذكية ٠
-من سنية؟
- زوجتي المرحومة ٠ ضحكت وقلت: متى قالت ذلك؟
قال بالأمس ٠
-أنت محضر أرواح؟
لا ولكن سنية مازالت حاضرة، وطلبت أن تراك ٠
-( لا دخيلك مابدي شوف حدا)
٠
كانت الجدية تبدو على وجهه ولم يكن يبتسم وكأنه رأى سنية حقا ٠
-انت لن تنسى سنية أبدا ٠ فلكل إنسان أسطورته
وسنية هي أسطورتك والشعر هو معجزتك ٠
- سنية هي التي كانت تدفعني للكتابة فحين
كنت سجيناً، وحين كنت اختبئ في بيت ذي سقف واطئ٠ كانت تحضر لي الكتب هي وزكريا تامر
٠وحين كتبت قصيدة " العصفور الأحدب " قالت: هذه مسرحية بفصول، فهي كانت تدرس
الآداب، وأنا لم أكن أعرف شروط المسرحية، فقد كنت ولا زلت أعتبر نفسي شاعراً في كل
ما أكتب ٠ ولم أتخل يوما عن الشعر ٠ لقد٠تعلمت من سنية صالح الكثير الكثير ٠
- أنت تستحضر سنية اليوم لأنك تشعر بتأنيب
الضمير٠ وتذكرتها لأنك تشعر بأنك بدأت تخون ذلك الإحساس الذي رافقك منذ وفاتها ٠
- استحضرتها لأنها تشبهك ٠ فهي امرأة تفيض
حنانا وإنسانية وجمالا"٠
-حياتي بدونها لا تعادل عود ثقاب ٠
أشعل سيجارة ثانية واغرورقت عيناه بالدموع ٠ لم أكن أصدق أن الماغوط بكل
عظمته سيبكي كالطفل ٠ كان يمكن أن أسنده ليبكي ٠ لكنني لا أشبه سنية ٠ فهي الأول والآخر
والظاهر والباطن بالنسبة له
كان " الماغوط" ثملاً وحزيناً للغاية ؛ ولديه رغبة جامحة للحديث
عن سنية ٠ وقد احترمت تلك الرغبة، ولم أشأ أن أقطعها في حديث ما مهما كانت أهميته
٠بل بزغت لدي لوهلة ما رغبة لأن أضمه إلى صدري ليبكي هناك ٠ لكثرة ماذكرني بحزن أبي
الذي أودع بيديه وهو شاب يافع شقيقتيه الواحدة تلو الأخرى للرحمن ٠ لكن ماكان يثير
استغرابي أن وفاة سنية لم يكن حديث العهد٠ فماالذي هيج أشجانه وذكرياته اليوم؟ ٠لم
يطل استغرابي إذ قطعته امرأة أربعينية، توجهت اليه وهي تغادر المقهى، وعزته بوفاة والدته
٠ فقد أحسست أنه اختصر كل الحنان الذي فقده منذ وفاة شقيقته ليلى إثر حمى نفاس وأمه
ناهدة إثر مرض عضال، في الحديث عن سنية التي كانت بمثابة الصديقة والزوجة والأخت والأم
والصخرة التي يصب عليها جام غضبه ٠
لم أكن أحب التعازي، ولا المباركات، لأنني اعتبر أن الحزن والفرح أمران
شخصيان ٠ فإن فرحت أو حزنت لأحد فللمجاملة ٠
حاولت أثناء حديثه مع المرأة البحث عن عبارة تعزية مناسبة أعزيه بها
٠ هل أقول له: خاتمة الأحزان إن شاء الله؟ فتنبهت أنها عبارة خاطئة لأن الحزن لاينتهي
إلا بالموت٠
هل أقول له: البقية في حياتك؟ ماهذه الأنانية؟ هل أقول إذا: ( إن شاء
الله تسلم)؟ ومن يسلم من الموت؟ ذلك المارد الجبار ٠ والزورق الذي يحمل الغالب والمغلوب
معاً٠ في معرض تلك التساؤلات المتراكمة تذكرت شقيقي الذي يكره المجاملات مثلي٠ وكان
أن توفي عم خطيبته ٠ وارتبك أثناء تعزية والدها٠ فبدل أن يقول له: (انشالله بتسلم قال
له: يسلملي ربك)٠
بعد ان غادرت السيدة، قلت : أنت غريب حتى في حزنك٠ إنها إرادة الله وإرادة
الله لاتقابل بالتمرد والعصيان، بل بالطاعة والامتنان ٠قال :جل ماأخشاه أن يكون الله
أميا،
قلت سبحان من قهرنا بالموت والفناء والذي لايمكننا جعله يستثني أحداً
منا ابدا.
قال: لماذا علي أن أطيع الله؟ ألأنه خلقني؟ هل كنت
أوقظه بسبابتي كي يخلقني؟
تركت تلك الكلمات رعشة في بدني ٠لأن مثل تلك الأسئلة كانت تثير حفيظتي،
حيث انني اعيش تلك التساؤلات دوماً، حول سر الخلق والوجود، والغاية من خلقنا، ثم إماتتنا
٠كنت أقول لنفسي دوماً؟ هل خزن الله تلك الأسئلة في خلايانا قبل خلقنا لنثابر في البحث
الذي يقودنا للإيمان ٠وماذا لو نظرنا للموضوع من زاوية أخرى؟ أليست الأفكار التي تراودنا
هي نتاج وعينا الذي يستمد صوره من الواقع المادي؟ ٠ ربما تحمل الحياة أشياء ليست ذات
معنى، وإسقاط انطباعاتنا عليها يجعلها ذات معنى٠ فاللون الأسود مثلا ألسنا نحن من منحناه
.معنى الحزن؟ ٠ و مالمانع بأن نرتديه بالزفاف؟ كنت دوما أحاول الهرب من تلك التساؤلات٠
وأتذكر رائد الفضاء " غاغارين " عندما عاد من الفضاء وسأله البابا: هل رأيت
الله أثناء دورانك حول الأرض؟ أجابه:لا قال: لاتقل ذلك، فالشعوب ليست مهيأة للكفر
٠ وحين سأله" خروشوف " هل رأيت الله؟ أجاب نعم ٠ فقال: لا تقل ذلك فالشعوب
ليست مهيأة للإيمان ٠ وأنا في حقيقة الأمر لم أكن مهيأة للكفر ٠ لذا أجبته :ربما خلقك
ليخلق من قصائدك المحملة بالجمال والمواقف النبيلة معجزة ومعادلة للموت٠ فشعرك حياة
بحد ذاته٠
قال: لو تدركين ياوفاء أن سنية
كانت ملهمتي ومعلمتي ومرضعتي لعرفت أسباب حزني ٠
سنية كانت أشعر مني٠ وقد انتزعت مني جائزة قصيدة النثر في الستينات ٠
إنها شاعرة عظيمة ٠ هل تعرفين ذلك يا وفاء؟
-نعم أعرف٠ فهي من عائلة ضليعة بالشعر قرأتها
وقرأت خالدة السعيد شقيقتها زوجة أدونيس واستغربت أنك كنت وحدك تتصدر الأضواء ٠
-هي لم تكن تحب الأضواء ولا الواجهات ٠ كانت
تنطوي على الأضواء التي بداخلها ٠ وتدفعني نحو القراءة والكتابة ٠
حين كنت متخفيا حولت قصيدتي العصفور الأحدب الى مسرحية ٠ وكانت تحضر لي
الكتب بأسعار غالية مرفقة بالورود ٠ فتعود لتجدها أوراقا مبعثرة ملطخة بالقهوة ٠ فتنظفها
وتعيد تنضيدها ٠
كانت نظيفة رقيقة كينبوع عذب ٠
وكان جلدها دقيقا كالشحرور ٠ وأصابعها شفافة كالمشكاة ٠ فنظرت دون انتباه
الى أصابعي التي تورمت وتسلخت أثناء تهديم الحائط٠ فتنبه لأصابعي، وقال: ماذا حل بيدك؟
هل احترقت؟ ٠ قلت: نعم٠ قال: بماذا احترقت؟
-( هيك لا شي) دعنا في موضوع
سنية ٠ فاسترسل قائلا": لقد سرقنا انا والمرض الفرح من سنية في حياتها ٠ والآن
تسرق هي والمرض الفرح مني في مماتها ٠
بدأت أتململ، ولم أعد أرغب في إجراء الحوار ٠الذي كنت اعتقد أنه أحضرني
كي ننجزه. ٠ صحيح أنني حزنت لأجله ًلكن ما معنى أن يستحضرني ليبكي على سنية ؟ هل أنا
حائط مبكى؟ قلت له في الحال: أنا سأسافر مع أهلي إلى لبنان ٠ قريبا وربما لن أعود
٠ فهل نقوم بالحوار أم لا؟ ربما لاحظ نبرتي الغاضبة؛ وكنت قد قررت فعلا الذهاب دون
الحوار لو لم يتجاوب معي ٠ قال: نلتقي غدا في قهوة أبو شفيق؟ ً قلت: له وقد شعرت بالنرفزة؛
لا بقهوة ابو شفيق ولا بأم شفيق ٠ بل في منزلنا، وبوجود أشقائي,٠ ماذا بك؟ الله حاور
الملائكة؟ إن كنت لن تجري حوارنا فأنا لست متوقفة عليه ٠ حاول تهدئتي وقال: ( غدا٠٠
وعد شرف) ؛ ولكن ليس في منزلكم، فالأمر محرج بالنسبة لي، ليكن في مكتب الفنان دريد
اللحام ٠أو عندنا، سلافة مشتاقة لك ٠ اعربت عن رغبتي في عدم متابعة دروسها، بذريعة
أنني لاأفيدها، وبأنها بحاجة
لمدرسة أكثر احترافا٠ و هممت بالوقوف لأنهاء لقائنا ٠فبادرني بسؤال٠ أنت
وفاء كمال أم وفاء الخشن؟
_وفاء كمال الخشن ٠
- انت صاحبة مقالة " الكاتو الشعري
"في العدد 19 من مجلة الناقد؟
-نعم أنا صاحبة المقال ٠
- انا واثق أن نزار سيصاب بالجلطة بعد قرائته٠
ابعد الله عنه الشر٠ فحتى لوهجوته، هذا لا يعني أنني أكرهه فنزار شاعر
عظيم ٠
"لم تقصري لقد أصبته بالصميم "
- يبدو أنك تكرهه ٠ أنتم الشعراء لا تحبون
بعضكم ٠ لقد فتح رئيس تحرير المجلة " رياض نجيب الريس " نوافذ مجلته للحوار
بيننا وأنا بانتظار رد نزار ٠
- لقد أجابك بقصيدة في بداية العدد عنوانها" من بدوي مع أطيب التمنيات "٠ -
القصيدة قديمة وليست موجهة لي ً
- نزار خبيث القصيدة بمثابة رد لك ٠فهو لم
يشأ أن يورط نفسه معك حين لمس الجرأة والهجوم الشرس عليه منك٠ نزار كان يمرض اثر كل
كلمة كان يكتبها عنه " جهاد فاضل " فكيف لوقرأ ماكتبت؟وخصوصا عندما نوهت
عن سرقته لبعض العبارات من ديواني "الفرح ليس مهنتي"٠ فو الله أنا نفسي لم
انتبه لذلك ٠
- هذه ليست سرقة بالمعنى الصحيح للسرقة ٠ فهو استعمل عباراتك في الحديث على المنصة ٠
- أليس من المعيب أن يفعل ذلك دون أن ينوه
لإسمي؟
- ربما سقطت العبارات سهواً دون قصد ٠
لا٠٠لا٠٠ نزار لص بارع٠ هل قرأت قصيدته ( مع جريدة ) وقصيدته " إفطار
الصباح " ٠٠ لقد سرقها من " جاك بريفير "؟ - قرأتها كاملة في الحي اللاتيني
لسهيل ادريس ٠ لكن سهيل وضعها باسم صاحبها ٠
-يبدو أنك حنقا على نزار وكأنه سرقها من
جيبك ٠
ومن قال لك أن سرقة القصائد ليست كسرقة الجيوب ٠
رسول حمزاتوف (هههههههههه) فقد كانت له عبارة مشابهة ٠
-واضح أنك مستاء من نزار هل تغار منه؟
- مم أغار؟ نزار عبارة عن قصيدة واحدة مكررة٠
أحداثها تدور في غرف النوم وعلى أسرة البغاء ٠ هو مجرد رجل شرقي مصاب بعقدة نفسية٠
ويشعر بالفشل والنقص، ويحاول ستر فشله في كثرة الحديث عن بطولا ته مع النساء ٠ وجعل
المرأة مجرد متعة يلهو بها٠ حتى غدا شهريار عصره ٠ أنت نفسك كتبت حول تلك النقطة بدقة
وقد أصبته بالصميم عندما تحدثت عن انتهازيته٠ صدقيني سينجلط فهو كان اثر كل حرف يكتبه
عنه " جهاد فاضل " ٠ يمرض قبل أن يرد عليه على صفحات المستقبل.
لماذا لاتتحدث عن " أدونيس " بتلك اللهجة؟ هل لأنه صديق السجن
والشقاء والنضال، ولأنه زوج شقيقة سنية؟
- أي نضال؟ انا أصلا انتسبت للحزب القومي
في شبابي دون أن أقرأ مبادئه ٠ ولأن مقره كان قريباً من منزلنا وفيه مدفأة وشاي ٠
-أذكر حديثا لبول شاؤول عن " أدونيس
" يقول :إن أدونيس لا يسرق فحسب٠ بل يسطو سطوا مسلحا ٠ وأن معظم أشعاره هي ترجمة
لشعراء أجانب٠ وأنا أثق بكلام شاؤول لأنني أدرك غنى لغته الفرنسية ٠( والعهدة على الراوي
) ٠
ادونيس ربه ومذهبه الجوائز ٠فهو مستعد أن يجعل نفسه حمالا من أجل الحصول
على جائزة، حتى لو كانت دمية أطفال٠ أما فيما عدا ذلك فهو شاعر لا يندى له جبين٠ وقد
عملت معه لفترة في تحرير مجلة ٠ ولكن لا استبعد عنه السرقة٠ فهو ليس نزيهاً تماما
٠ فأنا لا أجيد أية لغة لأتمكن من التقاط وتوثيق تلك السرقات ٠
-ربما هي تناصات والتناصات تقنية متعارف
عليها ٠
ضحك وقال قول اليوت: الصغار يقلدون، والكبار يسرقون ٠
دلف الماغوط الصالة يحمل صحناً يحتوي بسكويتا متطاولا مصففا بعناية ٠
وضعه على الطاولة وقال: تفضلي ٠ أخذت قطعة وقضمت جزءا منها وأعدت ما تبقى للصحن ٠ قال
أكملي مابك؟ فتناولت قطعة غير الأولى وقضمتها ثم صففتها قرب سابقتها ٠
دخلت شام تحمل صينية عليها فناجين، قدمت لي القهوة ٠ فقال: جربي البسكويت
مع القهوة ٠ فراحت يدي باتجاه قطعة ثالثة غير مقضومة فوضع يده فوق يدي وثبتها ممازحا
بلهجته الحموية ( مابدي قطمشهن كلهن) ٠ يقصد البسكويت ٠
ضحكت وقلت :سنبدأ الحوار اليس كذلك؟ قال: في الحقيقة أنا ظلمتك وتأخرت
عليك ٠ كنت أعتقد انك متطفلة على عالم الأدب، الى أن قرأتك وثبت لي العكس ٠ أنت كاتبة
بارعة لا تستهيني بنفسك ولا تؤخذي بالأسماء ٠فنحن بشر عاديون جدا ٠ ذات يوم اجتمعنا
انا وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال في منزل الشاعر " فؤاد الخشن " لنتباحث
في قضايا مجلة " شعر " وموضوع الحداثة وقصيدة النثر ٠ وكان فؤاد غنياً فهو
إلى جانب كونه شاعراً كان تاجر موبيليا ٠ أحضر لنا يومها كيس جزر طازج وكان الجو حاراجدا
وكانت لديه عصارة جزر صوتها مزعج جدا لكنها تعصر بسرعة وجودة ٠ راح كل منا يجرب حظه
في صنع العصير و (على عملة طرررررر رر. يمتلئ الكأس) قضينا يومنا نطرطر كالمحرومين
٠ ولم نتباحث مطلقا في قصيدة النثر ٠ تخيلت الموقف وضحكت كثيرا وحمدت ربي أنه كان رائق
المزاج اليوم و مهيئاً تماماً للحوار .
حوار مع الشاعر " محمد الماغوط " أجرته الشاعرة وفاء كمال الخشن
________________________________
محمد الماغوط شاعر واجه العالم بالحساسية المفرطة ، والموهبة التي جعلت قلمه يتدفق بعفوية نادرة لاتطالها الصنعة أو العمل المسبق ٠ فقدكتب بحبر جراحه وعذاباته دون أن ينتمي لمدرسة أو تيار٠ واعد ملفاً ضخماً فيها ليرفعه إلى الله فور توقيعه بشفاه الجياع ٠ على حد تصريحه ٠
لكأنه روح سرمدية تريد الطيران الدائم في خلايا القصيدة ٠ هرباً من كل أنواع السلطة ٠فثار على أبنية الشعر العربي الكلاسيكي ٠مبتدعاً قاموسه الشعري الخاص الذي كان الخيال الجامح والحساسية الشعرية عضده، ونواته اللغة السهلة الممتنعة التي تجمع معان كثيرة في ألفاظ قليلة، تفردت في انبثاقها من الداخل معتمدة على المعاناة والمغامرة التي صنعت إيقاعها الموسيقي٠
كان متحيزاً للضحايا والأبرياء والجياع والفلاحين والمحزونين فهو شاعر الحزن فكراً وسلوكاً وأعصاباً ٠ حزين بدءاً من أول حرف بالأبجدية حتى نهايتها ٠ولكي نفهم عطاء الشاعر لابد لنا أن ننطلق من جو الشاعر نفسه ٠ فلنبدأ من الحزن ٠
_هل تجيز لي أن أبدأ معك من الحزن؟
_ الشعر هو الناطق التاريخي باسم الطفولة البكماء ٠والحزن هو جوهر كل إبداع وتفوق ونبوغ ٠ حتى الكوميديا الراقية إذا لم يكن منطلقها الحزن تصبح تلفيقاً وتهريجاً٠
_ذات بوم هتف يسوع ( عليه السلام) : " إلهي لماذا تخليت عني؟ " ٠ وأنت صرخت: إلهي إنني وحيد ٠ فأنت على الأقل لك مناخ ذلك الحزن الكبير ٠ فماذا تقول في تخلي السماء عن الأرض؟
_ المسيح صلب مرة واحدة من أجل السماء ٠ وأنا نبي لاينقصني سوى ألعكاز واللحية ٠. وقد صلبت من أجل الأرض ٠ لذلك فأنا بلا أتباع أو مريدين ٠ ويظل تخلي السماء عن الأرض نوعاً من العقاب، ليس للأرض بل لمن فوقها ماعدا الأطفال والسجناء والعشاق ٠
_ وما الذنب الذي صلبت من أجله؟ ولماذا أعرض عنك الأتباع.
_ الأتباع دائماً يركضون وراء الحلم والمجهول، ولا يلهثون وراء من يدق رؤوسهم بأرض الواقع، ويملأ عيونهم بدموعه ٠
_ أنت حقاً شاعر متحيز للإنسان والضحايا. والأبرياء ٠ هل تعطي الشاعر المعادي حقه فنياً؟
_ ما من شاعر أصيل يعادي شاعراً أصيلاً آخر، حتى ولو كان كل منهما في قارة٠ الخائن لقضية الإنسان هو الذي يقبض ثمن موقف ما ٠
الشعر هو قضية أخلاقية فبل كل شيء فالشاعر الحقيقي لايمكن أن يكون ضد قضية الإنسان ٠
_ بعض الشعراء يتقاسمهم نزاع بين الإلتزام وإغفال الجماليات، أو العكس ٠فكيف توفق بين جمالية الإلتزام وإلتزامية الجمال؟
_هناك نظامون أو محترفون، هم مرتزقة الشعر ؛ لايمكن الحديث عنهم ضمن سياق الحديث عن الإلتزام والجمال في الشعر ٠ فالشاعر الأصيل هو الذي يعطي ولا يأخذ ٠ كما لايمكن الفصل بين الجمال والإلتزام ٠ فالشاعرالأصيل إذا التزم بضوء نجمة في السماء بعيدة ٱلاف السنين الضوئية عن قضايا الناس، يظل صادقاً وأكثر إنسانية من قبيلة من الشعراء ٠ المرتزقة الذين يكتبون عن الشعوب ومآسيها٠
_ لكل شاعر عالم خاص يقربه من القصيدة، أو يبعده عنها، أو يدخله فيها ٠ فأين هو مكان ذلك العالم في قصائدك؟ وكيف تتعامل معه؟ بحدة، أم بغضب، أم بعفوية، أم بحذر ٠
_ إذا اعتبرنا القصيدة أو التجربة الشعرية بيتاً فأنا لا أقرع بابها ٠ بل هي التي تقرع بابي ٠ليس لي عالم منظم في كتابة الشعر ٠ إنها فوضى أشبه ماتكون بمعركة خيول في الغبار ٠ رويداً ٠٠ رويداً تنجلي المعركة ٠ ودائماً يكون الصدق هو المنتظر فيما أكتب وإن كان مثخناً بالجراح ٠
_ مهما حاول الإنسان الإنسلاخ عما حوله فإنه يظل مرتبطاً بماضيه وحاضره ومستقبله ٠ فلماذا كنت تخفي حزنك على الماضي وعلى زوجتك المرحومة الشاعرة سنية صالح؟
٠ ولماذا تخفي قلقك على المستقبل؟
_ كلمة مرحومة تذكرني بالقبر والمشيعين وأمسيات التعزية ٠ مثلها مثل أي ميت ٱخر ٠ لكن " سنية " لم تكن ميتة في يوم من الأيام بالنسبة لي فقد كانت قا رئتي الأولى ومعلمتي الأولى في الشعر ٠
ومن المؤلم أن النقاد لم يأتوا على ذكرها في مسار الشعر العربي المعاصر أكثر مما يأتي الملحدون على ذكر الله ٠
لقد كانت شاعرة كبيرة في وطن صغير ٠ وبين نقاد صغار ٠ وفي اعتقادي أن ديوانها الأخير " ذكر الورد " والذي كتبته وهي على سرير الاحتضار بين باريس ودمشق، من أعمق وأجمل ماكتبت عن الإنسان العربي في هذا العصر ٠
وحزني عليها لا أعرضه في المقاهي والشوارع ٠ إنه إحساس شخصي جدا ومدفون في الأعماق دون شاهدة ٠
عندي قصيدة لم تكتمل بعد ولا يمكن الحديث عنها ٠
لا أخفي قلقي ولا فرحي ولا خوفي على المستقبل ٠
لاأخفي في هذا الوطن سوى عورتي
_ الخوف يرافقك في معظم أعمالك، ويجعلك تحمل أوراقك الثبوتية آينما تحركت وأينما ذهبت يمنة أو يسرة ٠ ضحكك وبكاؤك دائما في الظلام ٠ فلماذا هذا الهلع والخوف؟
_ الأمة العربية لها أسس فريدة من نوعها ٠ جميع الأمم مقوماتها الدين واللغة والتاريخ، ماعدا الأمة العربية ٠ فمقوماتها الدين واللغة والتاربخ والخوف ٠ وأنا من هذه الأمة، وخوفي طبيعي، وطمأنينة الآخرين هي المستغربة ٠ واللاطبيعية ٠ والعربي الذي لا يخاف أو المطمئن أشك بعروبته.
_ لقد قلت يوماً: هذا القلم سيوردني إلى حتغي / لم يترك سجناً إلا وقادني إليه ٠
وقد قادك ذلك القلم إلى السجن ٠ ولكن إلى أين قاد السجن ذلك القلم؟
_ قاده إلى مزيد من الإصرار على محاربة الظلم والقهر داخل السجون وخارجها ٠ وقد ألخص ذلك في هذا الجزء من القصيدة ٠
ما من قوة في العالم
ترغمني على محبة ما لاأحب،
وكراهية مالا أكره ٠
مادام هناك
تبغ وثقاب وشوارع ٠
_ مشكلتك ومشكلة كل شاعر عربي دائما في المطالبة بحرية التعبير والكتابة عن الوطن ٠ فهل ترى أن الوطن ضدك؟
_ عندما يكون المواطن ضحية فقدان التعبير، فالوطن يكون هو الضحية الكبرى ٠ فكيف تنجد ضحية من ضحية أخرى؟
الوطن لايمكن أن يكون ضد أبنائه فقط، ولا حتى ضد الحشرات التي تسعى على أرضه ٠ لكن أصبح الوطن مشجباً لتعليق مايعجز الكتاب عن قوله، أو المجاهرة به ٠
في إحدى قصائدك نصحت الشاعر " بدر شاكر السياب أن يظل ميتاً لكي لايرى استهانة الوطن به، والمتاجرة باسمه، فهل ترى أنه لوظل السياب على قيد الحياة لكان من الممكن أن تتحقق نبوءتك؟
بالتأكيد ٠٠٠ ولو كان الآن على قيد الحياة ، فلن يصنع منه الوطن سوى محرر صغير في إحدى الصحف المهاجرة ٠
_ لنعد إلى الشعر
قد تمتلئ مملكة العقل بكثير من المصطلحات والرموز التي تشكل حاجزاً في طريق الولوج إلى عالم الشعر٠ فهل ترى أنك تقذف الشعر باختيارك، أم أنك تخضع لتلك الأسيجة؟
_ لو كنت أحب الرموز والحواجز، أو كان صدري يتسع لها ؛ لما تخليت عن الأوزان والبحور الشعرية ٠ قلما أستعمل الرموز في شعري ٠ وإذا وجدت فبا ختيارها وليس باختياري ٠
لا أحب سبل التشويق واللف والدوران حول ماأريد قوله٠ أحب أن أطلق الكلمات كالصرخة أو الطعنة ٠ وما من طعنة تصيب هدفها إذا مضت متعرجة أو مترددة ٠
_ ولكن إن لم يخضع الشاعر لبعض الحذر الفكري في كتاباته، فستنفتح عليه عيون كثيرة أولها عيون النقاد ٠ألا تحسب حساباً لتلك العيون؟
_ لا ٠٠ فأنا أكتب بعفوية تامة دون اللجوء لذلك الحذر ٠ ولا أحسب حساب النقاد ٠
_ ولكن هناك عيون أخرى قد تنفتح عليك، كعيون القراء وبعض الشعراء والسلطات ٠ أي عين ترهبك من تلك العيون ٠
_ لاأخاف إلا من نفسي و من صفحاتي البيضاء ٠ فهي " سيبيريا خاصة بي تواجهني في مطلع كل قصيدة ٠
_ إذاً لماذا لاتنام جيداً حينما تختمر القصيدة ٠ فمن المعروف عنك قلة النوم ٠
_ لاأعرف النوم لاقبل ولا بعد كتابة القصيدة ٠
_لماذا؟ مع أنك تصرح أنك تحلم أكثر مما تكتب ٠
_ نعم النوم بالنسبة لي راحة مزعجة، أو لص يسرق حياتي وشعري ليلة بعد ليلة ٠وأحلامي تتطور إلى كوابيس٠
_ ماهو الكابوس الذي يلح عليك أكثر من غيره؟
_ السقف الواطئ والملاحقات والسجن ٠ ففي أعماقي احتياطي من الخوف يفوق احتياطي السعودبة وفنزويلا من النفط ٠
_ وماذا عن ذكرياتك مع الشعراء ومجلة شعر ؟
مجلة شعر كانت نقطة البداية لوضع الشعر العربي على طريق الحداثة ٠
_ لكنها توقفت واستبعدت عنها أنت وأدونيس وخالدة السعيد وخليل حاوي ٠
_ نحن تركناها بعد أن انقسمت إلى تيارين أحدهما يستند لتأصيل الوحدة والعروبة٠ والثاني لتعميق الإقليمية ٠ وكانت حرب حزيران نقطة الفصل التي غيرت مفهوم الصراع حول الهوية ٠
_ وماذا بخصوص قصيدة النثر؟ لقد صرحت في أحد حواراتك لصحيفة الأهرام المصرية بأن الشعر القديم نصفه شعر ونصفه غوغاء ٠ فهل ذلك نعت لقصيدة النثر بالكمال ٠
الشعر الكلاسيكي هو نصف شعر ٠لأنه شعر قيلولة ومناسبات وتتويج هذا وخلع ذاك ٠
وهذه ليست مشكلتي أبداً ٠ حتى لو كتب شكسبير قصيدة في تتويج ملك، فلن أقرأها ٠لكن لو كتب عن أحد الخدم في ذلك الاحتفال لقرأته بشغف ٠
الشعر الكلاسيكي مهما قيل فيه ورغم احترامي لتراثه وعائلته العريقة وحسبه ونسبه، فإنه مايزال شعر طرب واستجداء وتصفيق ٠
_ تناصب القصيدة الكلاسيكية العداء وأنت متهم بالخمول الشعري ٠ هل تريد أن تحمل الراية في مجال آخر؟
_ الكاتب جندي في معارك شتى ٠ وكل معركة لها أسلحتها ورايتها وظروف الإنتصار أو الهزيمة بها ٠وأنا في كل ما أكتب في المسرح والصحافة والنثر، لم أتخل عن الشعر أبداً ٠ فالشعر عندي موقف قبل أن يكون ألفاظاً وصوراً شعرية ٠ وأعتقد أنني عندما انتقلت بالشعر إلى المسرح فقد وضعته في موقع متقدم ٠
_ معظم كتاباتك المسرحية للفنان دريد لحام ٠ فما سر العلاقة بينكما؟
_أحب المسرح وبذور المسرح موجودة حتى في قصائدي الأولى" حزن في ضوء القمر " و" غرفة بملايين الجدران " ٠ و" دريد اللحام " هو فنان كبير وأفضل من يجسد ما أريد التعبير عنه في المسرح ٠
لم أفكر بالكتابة لغيره، فهنالك تفاهم بيننا ٠ وليس من المنطقي أن أترك النهر وأبحث عن السواقي لمجرد التنويع ٠
_ يبدو أن الحوار بات طويلا وبدأت تكثر من الدخان فأنت تضجر بسرعة وقد صرحت ذات يوم بأنه ليس لديك سوى عدوين الضجر والشيوعية مع أني لم ألمس في قصائدك مايدعم عداءك للشيوعية ومبادئها ٠ فما سر ذلك التصريح؟
_ هذا عنوان مقابلة لعبت فيها الشطارة الصحفية من الصديق العزيز " بول شاؤول " في مجلة المستقبل٠ وقد كنت أعني في ما أعنيه أشخاصاً معينين. أعرفهم في المقهى ٠ وكنت أضجر من أحاديثهم وتنظيراتهم ٠ فالحديث كان شخصياً للغاية ٠ فأنا قصدت ماركسية المقاهي التي تسيء إلى ماركسية التاريخ الحقيقية ٠ لست على عداء مع الماركسية فهي تيار صادق في نصرته للحق والعدل والحرية بالفعل لابالقول ٠ وأنا صديق الإنسان وعدو الشعارات ٠
_ كلمة أخيرة قبل أن أنهي الحوار أنت معروف بأنك تكره المقابلات الصحفية قهل تتهيب الصحافة أم أنك ترى أنها تكرهك على قول أشياء تعرفها ولا تجرؤ أن تبوح بها، أم أنك تكره الشهرة والأضواء ٠
_ ندرة مقتبااتي الصحفية ترجع إلى طبيعتي الشخصية ٠ ولاعتقادي أن الأضواء في زمننا العربي الرديء هذا خلقت لطمس الحقائق لا لإضاءتها ٠
بالإضافة أنه لي آراء في الشعر والنثر والمسرح والحرية والإنسان لم تتبدل منذ أن كتبت أول كلمة، ولا أقبل على نفسي أن أكررها من مقابلة لأخرى ٠ ثم أن معظم الذين يأتون لمقابلتي هم من الجيل الجديد يأتونني ويا للأسف ككاتب سينمائي أو مسرحي، وينسون " محمد الماغوط " الشاعر في كل مايكتب ٠
ولو لم تستخدمي غريزتك الصحفية وشطارتك في هذا المجال لما نجحت في انتزاع هذا الحديث ٠
_ ألا ترى أن كلمك انتزاع تحمل المزيد من الغرور ٠ وكأنني أخذت الحديث منك عنوة ٠
_ لا٠٠لا٠٠ أبدا فالأحاديث التي دارت بيننا قبل الحوار أقنعتني أنك إعلامبة ناجحة لأنك تعرغين محمد الماغوط الشاعر والمسرحي وكاتب الأفلام ٠وقبل كل ذلك تعرقين محمد الماغوط الإنسان المتجرد من صفته كأديب ٠ لذا لم يكن من الممكن الفرار من هذا الحوار معك ٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق