الاثنين، 15 أغسطس 2016

هندسة السيمياء في شعر اسعد الجبوري / ج 2.. بقلم الأديب- أ.كريم القاسم.. مجلة- آفاق نقدية



(السيمياء بين البريكان والجبوري)
الذي دعاني الى كتابة هذه الدراسة النقدية ضمن اجزاء المشروع ، هو
العلامة الفارقة التي يتصف بها شعر أسعد الجبوري ، وهي الالتزام في
استخدام (علامات الترقيم) . وهذه السِمة هي ذاتها كانت ملاصقة لشعر
استاذي الكبير الشاعر (محمود البريكان) رحمه الله .
لقد رافقتُ البريكان أكثر من ثلاثة اعوام ، كنت فيها كظله ، أودَعَني الكثير
من الملاحظات التي لم تُطرَح حتى الساعة على مستوى الاعلام الادبي
ــ لرغبةٍ كانت في داخله ، وللظروف الخاصة في تلك المرحلة ــ لذا سأضع
بين يدي القاريء الكريم ( سَبَق ادبي وإعلامي) عن الاسلوب النقدي الذي كان
يستخدمه البريكان ذاتيا في دراسته لشعره ولشعر الاخرين من خلال محطات
(علامات الترقيم ) . حيث كان البريكان يتعامل نقدياً مع نصوصه قبل نشرها ،
لتحصينها بطلاءٍ ادبي واقٍ . وأجد من الجميل والمناسب ، ان تكون هذه
الدراسة وهذا الاسلوب النقدي مقترن بشعر الاستاذ (اسعد الجبوري)
لاشتراكهما في بؤرة سيميائية واحدة . إلا إن الجبوري اضاف ابداعاً كبيرا
فيها دون المساس بقواعدها.
ــ البريكان يرى ، بأن النص الادبي من هكذا نوع ــ يتفجر حداثوية ــ لايمكن
ان يخضع للعملية النقدية المعتادة ، والتي تخضع لضوابط وسياقات النظم
القريض ، وما يتضمنها من ابواب الافتتاحات والمقاطع والاختتامات . ويرى
البريكان ان من الواجب تطور العملية النقدية والنص النقدي بما يناسب تطور
وحداثة الجسد الشعري ، هندسةً وبناءً ، وان عملية رصف الفاظ الجزل
والبلاغة والجمال ضمن خيال حداثوي ، دون رعاية علامات الترقيم ، لَهيَّ
اشبه بعملية (البناء بلا أساس) أو (السير بلا نظام) .ويرى كذلك ان المنظومة
الشعرية الحداثوية ، تتحرك ضمن ( محطة وجدانية كونية) يتحرك بها خيال
الشاعر او الروائي ، بمساحات وآفاق تنسجم مع مساحة ابداعه وحرفيته .
ــ هذه المحطة الذهنية الوجدانية ، تتألف من عناصر ثلاث هي (المكان ــ
الزمان ــ الذات ) ولايمكن ضبط هذه العناصر إلا بعلامات الترقيم ، فهي
نقاط الدلالة للمتلقي ، وعلامات الارشاد للقاريء ، و(إشارات) تفاهم بين
الشاعر(المرسِل ) والمتلقي (المُرسَل اليه ) والتي تضيف رصانة للنص ،
ليظهر بكامل اناقته ولياقته الادبية .
ــ الشاعر (اسعد الجبوري) ، لم يبخل على نصوصه الحداثوية بعلامات الترقيم
، فهو ذو فطنة وانتباه لتوزيع هذه الاشارات والدلالات . فهكذا نوع من الشعر
، لاتُفهَم أو تُعرَف كيفية التنقل بين الفاظه ومعانيه ، الا بهذه العلامات ، والتي
غَفلَ عنها الكثير من الشعراء للأسف ، إلاّ البعض من محترفي الصنعة روائيا ً
وشعرياً والذين خَبِروا معاني العلامات. وتمكنوا من مكامنها وإفضاح جوهرها
ــ هنا ، اخترتُ نصاً شعرياً والذي نسخته من صفحته (الفيسبوكية) الخاصة ،
كي احصل على علامات الترقيم كما هي في النص الاصلي ــ لان الكثير من
العلامات تُفقَدُ في طباعة الدواوين ــ ننطلق من خلاله لدراسة نقديه تختص
بـ (سيميائية شعر اسعد الجبوري)، وسأخرج عن المألوف . حيث جرتْ العادة ،
أن يُكتَبْ (النص المنقود) بعد (الدراسة النقدية) او (المقال النقدي) .
لكن البريكان ــ رحمه الله ــ وجد بأن (النص) يجب ان يُعرَض اولاً على القاريء ،
ثم تأتي بعده (الدراسة النقدية) ، كي يفهم القاريء طبيعة وحبكة ومعاني
النص اولاً ، وبعدها يتفاعل القاريء ذاتياً مع مايريد الناقد في تحليله للنص .
...........................
(النص)
يقضي الزمنُ نهارهُ بصحبة زمزم ساعاتٍ،
ويتركُ لي الليلَ قبراً للتأمل بالعينين النائمتين .
كأن الترابَ زجاجٌ.
ونحن أخوةُ الماءِ،
وفي آبارنا تنضجُ الآلامُ عناقيد غير مأمونة
العَواقب.
موتٌ بمنتهى الدّقةِ .
وتلك التي لنا،
ليست سوى أرواحٍ من ورق الجدران.
موتٌ لا إعراب له.
وحزنٌ مشى على أربَع ما بين الدنمرك وبغداد.
الأرضُ
ضريحُ زمزم في نهاية المطاف.
ونحن مجموعةُ مَساكِنَ من لحوم،
ستنهارُ يوماً،
وربما لن يمتلئ بها اُخدُودُ الأبد.
(اسعد الجبوري)
........................................................................
ــ هنا نعتبر النص محطة وجدانية كونية أدبية ، لانه يمثل فكرة معينة نُسِجَتْ
ضمن هذا الفضاء الكوني بابعاده الدنيوية والآخروية ، وما بينهما من التحولات
الصورية والمادية عبر فضاء العقل . حيث ان فكرة النص ، تُجَسِدْ واقعاً
ملموساً او خيالاً ممزوجاً بآلام الذات .
ــ لنبحث في العناصر الثلاثة لهذه المحطة وهي : (الزمان ــ المكان ــ الذات )
حيث ان كل عنصر من هذه العناصر، يتألف من ساحلين ، محسوس ومجرد ،
فلربما يكون الزمن وقتاً محسوساً ، ولربما يكون الزمن مدمج بالخيال الشاسع ،
وكذلك (المكان) و(الذات) .
ــ لقد استعرض الشاعر مفردات تمثل الساحل الزمني لبحر النص مثل :
( الزمن ـ نهاره ـ ساعات ـ الليل ـ يوماً ). وهي جزئيات تقع ضمن مفهوم
ومصطلح (الزمن) . ويختلف استخدام كل مفردة من هذه المفردات ، بما
ينسجم وفحوى العبارة أو معنى اللفظ . والزمن هو من المصطلحات التي
يصعب وضع تعريف محدد له ، كونه يتمدد اميبيا مع فكرة الشاعر واتساع
مساحة خياله التي يرسمها على شكل صورة ادبية شعرية او روائية .
ــ ثم يستعرض الشاعرالجبوري المفردات التي تحدد المكان وترمز له مثل :
(قبراً ـ تراب ـ آبارنا ـ الدنمرك ـ بغداد ـ ضريح ـ الارض ـ مساكن ـ أخدود).
وقد تنوعت هذه الجزئيات المكانية بتنوع مراتبها التأليفية ، والتي عددها (تسع
مفردات ) يكاد ان يكون (ضعف) عدد مفردات الزمن ، مما يعطي اشارة
تحليلية الى القاريء الحصيف ، بأن الشاعر قد اهتم في تفكيره الوجداني
بالمساحات التصويرية للساحل المكاني وصوره الشعرية المتعددة ، وجعله
بؤرة محطته الكونية في هذا النص ، وجعل الساحل الزمني وسيلة للتعريف
وتحديد الاسس الهندسية البنائية ، عكس مايتبادر الى الذهن ، بأن الشاعر أراد
ان يشير الى الزمن ، وخاصة في الشطر الاول للنص (يقضي الزمنُ نهارهُ
بصحبة زمزم ساعاتٍ) .
ــ اما العنصر الثالث (الذات) ، فيختص بمجموع الافكار الملموسة والمحسوسة
، او الصور وقوة الخيال التي يوظفها الشاعر للممازجة والإدماج مع عنصري
الزمان والمكان ليخرج النص بنسجٍ لغوي وحبكة شعرية ذات سبك متين
ورصين ومُتَّزِن ، مُشبَّع بالحداثوية التي ينهجها صاحب النص . فمثلاً يقول :
1- " ويتركُ لي الليلَ قبراً للتأمل بالعينين النائمتين . "
2- " ونحن مجموعةُ مَساكِنَ من لحوم،
ستنهارُ يوماً، "
ــ نلاحظ في الفقرتين اعلاه ، بأن عنصر (الذات) قد زاوج بين عنصري
الزمان والمكان ( الليل ـ قبراً ) و ( مساكن ـ يوماً ) لتظهر العبارات بحلّةٍ
بَرّاقة بعد ان استطاع الجبوري ان يُؤنّقها بالجماليات الرمزية واستعارات
والفاظ رشيقة ، ولااريد الحديث عن الصور الجمالية كي لايخرج البحث عن
المراد ، وهو (السيميائية) في شعر الجبوري .
ــ فلو تأملنا هذا النص مجددا ، لوجدنا فيه تسع (نقط) ، كل نقطة (.) تقع في
نهاية جملة أو عبارة تامة المعنى ، وخمس (فاصلات) (،) تتخلل هذه
العبارات ، لتمثل محطات استراحة صغرى لفترة قصيرة من الزمن لايحسن
معها التنفس الطويل .
والنقطة (.) من علامات التوقف التام مع استراحة للتنفس ، والتي لا يتعدى
زمن وقوفها الثانية والنصف . اما الفاصلة (،) فانها تعتبر من علامات التوقف
القصير، لايتعدى زمن وقوفها النصف من الثانية ــ حسب بعض الدراسات
الحديثة ــ التي تعطي فكرة واضحة لقوة العلاقة بين علامات الترقيم وتنغيم
الاصوات حسب الحروف الصائته وما يناسبها من توقف زمني . حيث اصبح
النص الحداثوي ، لايُحَدَدْ بالبلاغيات والجزل وجمال الصور الشعرية فقط ، بل
بأواصر تساهمية منسجمة بين اللغة والصوت ، وما يتبعها من تفرعات .
ــ هذه (النقط) تعني ، إن هنالك في جسد النص تسع محطات فكرية انتهت
بحواجز دائرية ثابته ، ومَصدَات تجبر الفكرة بالتوقف والثبات في حدودها
الزمكانية والأيديولوجيّة . وقد عنيَ الشاعر في تجسيد صوراً شعرية خاصة
لكل محطة . فلنأخذ امثلة لمحطاتٍ كبيرة من النص تنتهي بنقطة (.) ، ودراسة
علاقتها بمضمون ماقبلها :
1- يقضي الزمنُ نهارهُ بصحبة زمزم ساعاتٍ،
ويتركُ لي الليلَ قبراً للتأمل بالعينين النائمتين .
2- ونحن أخوةُ الماءِ،
وفي آبارنا تنضجُ الآلامُ عناقيد غير مأمونة
العَواقب.
3- وتلك التي لنا،
ليست سوى أرواحٍ من ورق الجدران.
4- ونحن مجموعةُ مَساكِنَ من لحوم،
ستنهارُ يوماً،
وربما لن يمتلئ بها اُخدُودُ الأبد.
ــ نلاحظ هذه المحطات الاربع الكبيرة ، قد تخللها توقف زمني قصير بالفاصلة
(،) وهذا التوقف الزمني القصير، قد فصل بين محطات فكرية ابداعية متنوعه
،استطاع الشاعر أن يبنيها بكل دقة وجمال . فلو استمر القاريء ، باللفظ
والقراءة الشفاهية دون التوقف القصير، لأدركه التعب والاعياء النفسي
والبايولوجي ، ويتيه عنه تفصيل المعنى . ولايريد الشاعر الحذق ان يجعل من
افكاره مجرد رصف كلمات دون رعاية او عناية . إنما اختتم كل محطة ــ
والتي تمثل الفكرة ــ بـ (نقطة) (.) .
ــ الذي جعلني اغوص في دراسة نصوص الجبوري ، هو هندسته الفائقة في
الجمال والدقة في رعاية علامات الترقيم . فلو تتبعنا كل (نقطة) و(المفردة)
التي قبلها ، سنجدهما متناغمتين مع بعظهما في الموقع والمعنى . فلو تأملنا
العبارات الاربع السابقة ، لوجدناها تنتهي بكلمات :
(النائمتين .) ، ( العواقب .) ، (الجدران .) ، ( الأبد . ) .
ــ ففي الاولى خُتِمَتْ العبارة بـ (النائمتين) ، والنوم هو نوع من الموت المؤقت
، تتوقف خلاله بعض الوظائف الاحساسية البدنية ، وتختفي فيه ارادة الوعي
الكلي او الجزئي .
ــ وفي الثانية خًتِمَتْ العبارة بـ (العواقب) والتي تعني أواخرالشيء وخواتيمه.
ــ وفي الثالثة خُتِمَت العبارة بـ (الجدران) وتعني نهاية حدود الحيّز الهندسي .
ــ وفي الرابعة خُتِمَت العبارة بـ (الابد) وهو الفترة الزمنية الطويلة جدا أو
المقاربة من اللانهاية .
ــ هذه المفردات والكلمات كلها ، وضع الشاعر بعدها نقطة (.) التوقف
الاستراحي ليغلق فضاء الفكرة ، وبما يتناغم وينسجم ويتوافق تماما مع
المعنى الذي قبلها .
فلو وضع الشاعر الشطر الاخير (وربما لن يمتلئ بها اُخدُودُ الأبد.) مكان
الذي قبله (ستنهارُ يوماً) فهو لايؤثر على المعنى ، لكنه لا يتوافق مع المعنى
الجمالي ، ولضاعتْ فائدة (النقطة) ومغزاها، لان مفردة (يوماً) لاتعني الفضاء
المعدوم او المتوقف . لكن الشاعر وضع علامة التوقف النقطة (.) ليضع حداً
لاحتمالية (امتلاء اخدود الابد بمساكن اللحوم) والتي لايتمناها الشاعر .
ــ نلاحظ مما سبق ، ان توظيف (النقطة) جاء متناسقاً مع معاني الالفاظ التي
تسبقها ، مما أحدثتْ حقلاً تفاعلياً بين المتلقي الفَطِن والشاعر الذكي .
ــ إن سيمياء النص ترسم لنا محطة كونية فكرية كبيرة الاتساع حُدِدَتْ بين
مكانين (بغداد والدنمارك) ، و بين هاتين المحطتين مسافات شاسعة من
المديات الفكرية واللهيب الوجداني وفيض من الآلام والذكريات تَجَسَدَتْ
(بتسع) محطات كبرى وجدانيا ، تخللتها محاطات قصيرة الاستراحة .
ــ إذاً نحن امام نص كبير المحتوى مكتنز المعنى ، وهذه من سِمات شعر
الجبوري . وتدل هذه المحطات (التسع) ،على الافكار المركزة وتنويعاتها
في النص الواحد .
ــ فمرة تأتي المحطة الواحدة وهي قليلة المفردات وقصيرة نسبيا ، لكنها
مكتظَّة بالزاد والعَتاد الادبي الجمالي والبلاغي ، وتنتهي بنقطة توقف (.)
للدلالة على اكتمال المعنى ، كقوله :
1- كأن الترابَ زجاجٌ.
2- موتٌ بمنتهى الدّقةِ .
3- موتٌ لا إعراب له.
4- الأرضُ
ضريحُ زمزم في نهاية المطاف.
ــ أتت النقطة (.) في هذه المحطات ، للدلاله على توقف المعنى الكلي للجمله
وانتهائه تماماً .
فتفسير العبارات الاربع ( تشبيه التراب بالزجاج ، وعملية الموت الجسدي
الدقيق التوقيت ، والموت مهمل لامحل له من الاعراب ، والارض كأنها قبر
لماء زمزم المبارك وتمثل خاتمة المآل ) كلها معاني تناسب التوقف التام
بـ (النقطة) (.) ، ولانحتاج الى الايغال اكثر لوضوح المعنى والسياق.
ــ حقاً إنه الابداع المدروس بدقة .
ــ ومرة تأتي محطة كبيرة تحوي الكثير من المفردات ، لحاجة خيال الشاعر
الخصب والمعنى المكتنز الى رسم الصورة الشعرية بمعاني مختلفة وامتدادات
ذهنية تستدعي الى التوقف القصير ثم الاسترسال ، ليكتمل جمال العبارة ، وهذا
الذي يجيده شاعرنا اسعد الجبوري ، ويجيد رسمه بسوريالية رائعه ، لاتخلو
من الرمزية ، كقوله :
1- " ونحن أخوةُ الماءِ،
وفي آبارنا تنضجُ الآلامُ عناقيد غير مأمونة
العَواقب. "
2- " ونحن مجموعةُ مَساكِنَ من لحوم،
ستنهارُ يوماً،
وربما لن يمتلئ بها اُخدُودُ الأبد. "
ـ هاتان الففرتان تمثلان محطتان فكريتان ناضجتان كبيرتان ، حيث يمكن
للقاريء ان يستمر بقرائته للنص ومتابعته للفكرة الكبيرة الواحدة دون التوقف
والتمَعّن بما قرأ ، لذا فقد اودع الشاعر هذه العلامات التوقفية والتي تأمر
السائح بالتنفس القصير ليستدرك معنى ومساحة الفكر الذي إطَّلَعَ عليه حتى
الوصول الى نهاية الفضاء والفكرة ، ثم التوقف التام بالنقطة (.) .
ــ فلوتتبعنا المحطة الكبيرة الاولى ، لوجدنا عبارة صغيرة اولى (ونحن أخوةُ
الماءِ،) تختلف تماما في المعنى والسبك عن التي تليها :
(وفي آبارنا تنضجُ الآلامُ عناقيد غير مأمونة
العَواقب.)
ولايمكن الاستمرار في القراءة دون التوقف القصير ، لان ذالك سيربك المعنى
ويجهد الذوق والنفس .
والجميل ، إن الشاعر جعل لفظة ( العواقب . ) مستقلة الشطر، ووضع بعدها
النقطة (.) ليجعل القاريء يحس ويستشعر بهذا التوقف المقصود عند هذه
المفردة بالذات ، ولوجاءت المفردة ضمن السياق ، لكان التوقف اقل حدة
وأضعف بلاغة عما هو عليه الحال .
ــ وفي الفقرة الثانية ، وظَّفَ الشاعر (الفواصل) بين المحطات بالشكل الرائع
، حيث قسَّمَ الفكرة الى التوضيح اولاً عبر استعارة هائلة (ونحن مجموعةُ
مَساكِنَ من لحوم،) ثم فصلها عما سيتوقعه مستقبلا (ستنهارُ يوماً،) وفصلها
أخيراً عَمّا يُحتَمَل (وربما لن يمتلئ بها اُخدُودُ الأبد. ) وجعله نهاية المطاف في
الرؤى والايحاءات الفكرية الجادة وأغلق الفضاء بالنقطة (.) .
ــ النقطة (.) في هذا النص عَنَتْ بالتوقف بمايناسب معنى اللفظ ، وفي مكان
آخر جعل ــ الشاعر اسعد الجبوري ــ النقطة تمثل لحظة تنفس والتقاط انفاس
، فهو يتلاعب بها بما ينسجم مع وظيفتها دون المساس بالقواعد والاصول .
ــ مما تقدم ، يتأكد لنا بأن الشاعر (اسعد الجبوري) لايقدم نصاً شعرياً مجرداً
من الاحساس المركب (الشعوري واللاشعوري) فقط ، بل يقدم مشروعاً
شعرياً مدروساً متكاملاً ، يوائم فيه بين شعور المتلقي وفكرة (المرسِل) وهو
المؤلف ، ولايمكن لهذا التواصل ان يتم إلا من خلال فهم وادراك (المتلقي)
لما يرسمه (المُرسِل) من (إشارات) ، والتي تعتبر هي الوسيط الاثيري بين
الاثنين ، ولايتم هذا الادراك والاستدراك الا بعلامات الترقيم ، والتي اسعَدَنا
الجبوري في تمكنه من عرض استخدامها بالشكل الابداعي المدروس ، وبحنكةٍ
وحرفية واضحة للعيان مما زاد النص عذوبة وإناقة وبهاء . وجعل النص
يتفاعل بحداثة غير معهودة لدى الكثير .







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق