الأدميرال لا يحب الشاي صورة تاريخ أم كوميديا سوداء
قراءة في رواية (الأدميرال لا يحب الشاي )للكاتب نزار عبد الستار ..
بقلم
الناقد محمد رستم
،،،
جمالية الأدب تكمن في أنّه مادة غير يقينيّة فهو يخلق عالماً فنيّاً موازياً للواقع لكنّه يتكئ على الخيال وعلى مفاعيل المكياجات والمبالغات لذا فإنّ الحكم عليه يضرب في فضاءات التكهّن والتخمين ،ومن هنا كان لا بد ّ من تعدد الرؤى والآراء حوله ..
العنونة (الأدميرال لا يحب الشاي )هي العتبة الأولى للمنجز ،الأدميرال رتبة عسكريّة لعلّها إشارة إلى الجيش أو الحرب ،(وهو ما كانت بل وما زالت تعتمد عليه الدول الاستعماريّة في هيمنتها على العالم ) ،لا يحب الحب من المشاعر واستخدام لا النافية يدل على انتفاء المشاعر لديه ،الشاي مادة تجارية مصدرها الهند والشاي مشروب الطبقة الفقيرة .
إذا جيش وصراع وحروب تسود فيها المشاعرالسلبيّة في مجال التجارة ساحتهاالعراق والهند والصين ..
تستلقي الرواية على سرير الواقعيّة التاريخيّة تعرض أحداثاً نقلها الكاتب ببراعة إلى عالم فنيّ يغصّ بمحمولات تاريخيّة مشوّقة وأطماع استعماريّة تجاريّة فاضحة . ومع أنّ رواية التاريخ والحروب تكون دائماً على تماس مباشر مع السياسة والإيديولوجيا (ومن هنا تتبدى درجة المخاطرة فيها فقد تقع في فخ المباشرة أو الواقعيّة الفجة مما يسيء إليها ) وبوضوح يبدو موقف الكاتب غير الحيادي والانحياز إلى جانب الشعوب المغلوبة والمنهوبة .
مقولة الرواية وهدفها الإشاري هو فضح جرائم الدول الاستعماريّة ورسم صورة واضحة للأساليب التي انتهجتها الامبراطوريات الاستعماريّة (من جرائم وسرقة لخيرات الشعوب )وتنمّر واستعلاء عليها يرمز لذلك .
(وجود لوحة تظهر فيها الهند كامرأة جاثية على ركبتيها تقدّم تاجها المرصّع بالجواهر إلى السيّدة بريطانيا ) معلّقة في مقر شركة الهند الشرقيّة في لندن، وكذلك نسخة أخرى منها علقها زيز في قصره في الهند ...
ولأن الرواية تكاد تكون سيرة ذاتيّة لبطلها عزيز نعرف به
أمه الأميرة الهندوسيّة آكشي هربت مع الضابط الانكليزي تشارلز لانكستر
والده (وفي) عربي من البصرة تزوج آكشي أدخل تقنيّة جديدة على المدفع المحمول على السفن فضموه إلى مصنع الأسلحة لكنه مات بعد أن أنجبت آكشي عزيز الذي ولد في حوض السفن في بريطانيا وأصبح مشرّداً . فقام لانكستر مدير الحسابات في الشركة باخراج عزيز من ملجأ الأيتام وألحقه بقصره . لكنّه تلقى تقريراً عن سلوك عزيز العنيف وإنّه لا يمكن إبقاؤه بين الأطفال لأنّه يشبه ابن الشيطان .فوضعه لانكستر في عهدة مربّية قصره التي لم تقدر على ترويضه فأعفته من كل ما يمت لأتكيت التربية الأرستقراطية من( نظام الأكل النظافة العزف على البيانو ) إذا والده بالتبني لانكستر هذا في الظاهر وهنا نسأل ماوراء اهتمام لانكستر بعزيزأيعود ذلك لأنّه والده الحقيقي ؟؟؟ثم لماذا هربت آكشي مع لانكستر ؟؟ وهل عزيز هو ابن حرام من لقاء غير معلن بين آكشي ولانكستر ؟؟؟؟
زيز هذا هجين اجتمعت فيه عدة عناصر أب عربي بصري وأم هندوسية ومتبن انكليزي ،كما أنّه بروستانتي التسجيل اسلامي الأصل .
وحين بلغ لانكستر 77 عاما ودع زيز وطلب منه العودة إلى لندن ومعه ثروة يستطيع بها شراء أسهم الشركة وقال له ..نحن لا نريد الاستيلاء على الهند وإنما نريد تدمير الصين هذا ما يجب فعله كي تصبح انكليزياً حقيقياً(كلمة حقيقياً هنا)تشي بأنه انكليزي من طرف إبيه بالتبني وعربي من جهة أبيه بالنسب وهندي من طرف أمه أي أنّه هجين غير نقي
وبالتأكيد فإن السيطرة على تجارة الأفيون تقف وراء قوّة شركة الهند الشرقيّة ..ونظراً لخبرة زيز وتميزه فقد نصبته الشركة قائداً لها في حربها مع الهنود لتجبرهم على زراعة الأفيون فأوجد قانوناً عقابيّاً ماسأويّاً(بتراليد والرجل للرجال والأثداء للنساء )..
انهمك زيز في القسوة لأنّه قرر أن يكون إنكليزيّاً مخلصاًأمام بريطانيا.كان قلبه فحمة حجريّة ، وحواسه متقيّحة بالحقد كان يعتقد أن قتل الوثنيين يوفر الطعام والاعتماد على الله فقط في الموت يربك الرياضيّات (هذه فكرة نازيّة بالطبع وما يشيع في وقتنا الحالي عن قصة المليار الذهبي أي إنقاص البشرية من سبعة مليارات إلى مليار تندرج في ذات الخانة .ففي عام 1994 تمت الموافقة على خفض سكان العالم من 6 مليارات إلى مليار واحد المتحدث كان سبينسر وكيل الاستخبارات المضادة الأمريكية )...
وزيز يؤمن أنّ المشاريع المدرّة للمال تبدأ بالحروب أولاً.وأنّ التجارة تحتاج للبنادق ..
وتطلب الأمر من زيز اغتصاب مئات الهنديات في بلدة بيهار (بلدة أمّه )
وذلك لتوسيع زراعة الأفيون حين أخبرته السلطات البريطانيّة العليا .
أنّ الصين عملاق نائم عندما تستيقظ ستهزّ العالم دعها تنم لهذا نصدر لهم الأفيون ..
فأنشأ فرقة (بنات دم القمر )وتم تدريبهن على القتال والجريمة فصرن يقتلن بمهارة أعداء شركة الهند وينفذن ذلك بأريحية وكأنها أعمال عاديّة وفي ستة أشهر اغتيل 19 انكليزيّا منافساً وأحرقت 63 مزرعة أفيون منافسة كما أنّه قتل كل المنافسين له من تجار القهوة .الهولنديين
وتوصّل زيز إلى أنّ لاسلطة لأحد عليه ففكتوريا ملكة بريطانيا قالت لرئيس الوزراء ضاحكة (ضعوا صورة ابن لانكستر على الروبية الإنكليزية بدلا من صورتي وسترتفع قيمتها )
فمضى زيز في ارتكاب الجرائم دون حسيب أو رقيب وهذا ما زاد في تضخّم ذاته حتى ظنّ أن الشمس تشرق بصياحه وصار يقول (أنا شركة الهند الشرقيّة البريطانيّة )
ولأنّه منحرف لا يقيم للدين أي اعتبار يقول (خيرك ،تجارتك الناجحة .الكتب المقدّسة للفقراء )
ولعل هذا الانحراف في سلوكه وعدوانيّته الشرسة يعود إلى أنّ جينات متعددة الجنسيات شكلت هندسته الوراثيّة فهو ذو دم خليط (لانكستر إنكليزي ، وفي عربي ، آكشي هندوسيّة )ورد في رواية لوليتا للروائي نابكوف (لعل اختلاط جنسيات مختلفة في نسب همبرت سبب شذوذه الجنسي (فهو ذو دم خليط أبوه سويسري ،أمه إنكليزيّة جده فرنسي جدته نمسويّة ) لقد نجح الكاتب في رسم شخصيّة زيز وتخليق الفضا
المحايث له ، فلأجواء العامة محمومة بالتنافس على مناطق نفوذ تجاريّة وهذه ساحة تناسب الحالات الشاذة فبدت شخصيّة زيز نموذجاً للمريض النفسي بقيمه المنحطة وطموحاته التي لاحد لها فهاجسه الدائم الشهرة والسيطرة والثراء والحياة برأيه دون ذلك طبخة حصى خالية الدسم .
وظلت وصيّة والده لانكستر قانونه في الحياة (المال هو الذي يجعلك أدميرالاً حقيقيّاً ) وتلبية لنوازعه الاجراميّة وتركيبته النفسيّة المبنيّة على لسع عقارب الكراهيّة الطاغية على طبعه فقد اتخذ الجريمة رمحاً يصارع به طواحين أحلامه بالجاه والثروة وللدلالة على أعماقه المجرمة يقول (..لا أستطيع التخلي عن القسوة نحن لا ننطق بكلمات رقيقة خشية أن نفقد دوافعنا في القتل والسرقة .) كما أنّ عبارة (بات يشك في صلاحيّة توحشه في ارتكاب الجرائم )تؤكّد ذلك ويقول لعمّه ( أنا آثم )هو يعترف صراحة بانحرافه
وهو انتهازي فقد رضي بحذف الحرف الأول (ع) من اسمه فصار( زيز بدل عزيز )عندما اقتضت مصلحته ذلك وهو الحرف الذي يؤكد عروبته فغير العربي لا يقدر على لفظه وعاد إلى اسم عزيز حين فرضت مصلحته ذلك ..وحين غدت مصلحته في نشر تجارة الشاي
وجد فيها تكفيرا يليق بالأرواح التي أزهقها من أجل الطمع (في تجارة الأفيون أو الاغتيالات ) وأنّه يريد أن يكون صالحاً في نشرتجارة الشاي لأنه يجمع الأسر ويساعد الفقراء على الشفاء من الأمراض ويزيد من انجاب البصريين وهذا يحسّن العلاقة مع الله الهندوسي والبروتستانتي والمسلم واليهودي .
وبسبب مرضه النفسي ومع كل النرجسيّة السوداء فهو يحس بالدونيّة تجاه بريطانيا (سألوه لماذا كنت تقتل الهنود وأنت ابن آكشي ..أجاب كنت أريد أن أكون انكليزيّاً فهذا أعظم شيء يمكن الحصول عليه ..)
لقد بدا زيز منذ يفاعته مريضا سيكوباتيّاً غير قابل للتكيّف مع محيطه وغير قادر على التأقلم مع أي نظام حياتي لذا صار في كبره يرتكب الجريمة بدم بارد وبقلب من صخر إنّه شخصيّة ذات سلوكية عدائيّة وقد يكون هو ذاته ضحيّة هالة مرعبة من دوافع الجريمة في أعماقه النفسيّة ، فهو يحقق رغباته الشخصيّة تحت ذريعة خدمة المصالح البريطانيّة ،فيدوّن على أرشيف الجريمة اليومي بطولة جديدة في القتل ،
إنّه ممن يتصيّدون في زواريب الفرص المخاتلة ،فعنكبوت الجريمة لديه ينسج شباكه المميتة من خيوط القسوة العارية من أية شفقة .
لذا فقد برز كعنصر فاعل فالانعطافات التي صنعها بجرائمه أحدثت متغيرات أساسيّة في المنطقة الواقعة تحت النفوذ البريطاني من العراق حتى الهند والصين .ورد في الرواية (زيز لم يقتل هنديّا منذ سبعة أعوام هذا يعني أننا أفلسنا ) هكذا ربط الثراء بجرائم زيز .
لقد اختار الكاتب الجريمة والقتل حاملاً لروايته حين جعل بطله مدمن قتل ، وبيّن تلاشي القيم الفاضلة أمام شراهة الاستملاك والسيطرة
فواقع التجارة مغمّس بالقبح والحرب غير المعلنة . فالأماكن التي تظهر الهدوء هي في حقيقتها ساحة حرب خفيّة فلا أحد يعلم متى تتساقط الضحايا وتسيل الدماء (البصرة مثال ) . فالصراع على مناطق النفوذ التجاري هو المغزل الذي نسج عليه الكاتب أحداث مرويّته .وزيز نموذج للدول الاستعماريّة
(هويت يسأل زيز تشتري نصف السوق أم تستأجره أجاب زيز ..لا هذا ولا ذاك ، أستولي عليه كما فعلت انكلترا مع الهند )
لقد ،كان زيز ينام في عسل الوهم حين ظن أنّه انتصر بانتصار الشاي على القهوة فكانت نهايته ..
وزيز هو جوكر الأحداث الظاهر منها والخفي ومهما بدا فاعلاً كالوزير على رقعة الشطرنج يضرب في كل الاتجاهات دون حسيب أو رقيب إنما كان يفعل ذلك تحت شرطيّة المصالح البريطانيّة فالملكة فكتوريا شملته بحمايتها ولم تعاقبه على سرقته سفينة الفضة بل اكتفت بنقله من الهند إلى البصرة فالمصالح البريطانيّة هي صاحبة البطولة الحقيقيّة وما الشخصيّات إلا بيادق على الرقعة ..
وربّما جعل زيز عربي الأصل هو لإبعاد شبهة الجريمة عن بريطانيا ذات البعد الحضاري ورد في الرواية (ورغم وضاعة أصله العربي فقد استطاع تحقيق انتصارات مالية باهرة نظّفت السمعة السيّئة لأبطال الشركة .
ويبرز على ساحة الرواية خطان متضادّان ،خط الاستقامة العظيمة للشرف العسكري البريطاني والأرستقراطيّة البريطانيّة يمثله اللورد بنتنك ، والخط القذر الذي تحتاجه شركة الهند الشرقيّة لكي تحصل على المزيد من المال يمثله زيز . بنتنك يقول لزيز (أنت الشركة حقاً ولكن قانون بريطانيا وشرفها لن يسمحا بالمزيد من الجرائم ،هذا الظلم سينتهي أجابه زيز مادام الجميع بحاجة إلى المال فلن يكون هناك قانون وشرف
وفضحت الرواية أساليب المستعمر في إحداث الفرقة بين الطوائف (نهجم على السيخ بالهنود الذين بشرناهم بالمسيحيّة ونستولي على أراضي المسلمين بجيش من الهندوس ونطرد الهندوس بمقاتلين من المسلمين المغول لقد صارت بريطانيا غنيّة وعظيمة بالهنود علينا شكرهم والوقوف معهم هذه هي نزاهة الشر وعدالة القسوة )
ولعل الخلط في نسب زيز إشارة إلى التلاحم العضوي بين أقطاب العمليّة التجاريّة المستورد بريطانيا ممثلة بلانكستر المتبني لزيز والمصدر الهند ممثلة بالأم آكشي والساحة التجاريّة الموصل يمثلها الأب وفي الميت ..
اعتمدت الرواية لغة شاعريّة جميلة في مضامين الكوميديا السوداء (استقبلوه بعطش عاطفي )....(تزيل عن الجدران سخام العزوبيّة )
الرواية كتبت بمنطق الكوميديا السوداء الساخرة لعل عبارة (الاعتماد على الله فقط في الموت يربك الرياضيات ) خير مثال فزيز يريد مشاركة الله في احداث الموت حتى تصبح المعادلة الرياضيّة سليمة أي يريد إنقاص عدد البشر وفق نظريّة (المليار الذهبي )
و واضح كيف اعتمد الكاتب الألفاظ الجنسيّة الموغلة في بشاعتها كجزرة غواية ..كما في ص (30 كذلك 245وكذلك 256) وجاء وصف موقع الأنوثة لدى مارينكا فاقعا منفّرا في ص (64)
كما اعتمد الكاتب العنونات الفرعيّة لكسر تراتبيّة الزمن السردي بما يحقق الفلاش باك لإدهاش القارئ..
ولعل الكاتب أكثر من ذكر الأماكن (البصرة ، الهند ،الصين ، عمان)..
شط العرب ، مقاطعة المهيجران ....ألخ ) لتأكيد واقعيّة روايته
أخيرا جاءت النهاية بما يشي باستشراف المستقبل فمقتل زيز على يد المنتقم الصيني يدل على استيقاظ المارد الصيني .وأن يكون بالمسدس ذاته الذي يعرفه زيز مما يدل على أن الدول الاستعماريّة تقضي على أدواتها حين ينتهي دورها وزيز كان إحدى تلك الأدوات ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق