السبت، 5 أغسطس 2023

المكنون في (مازلت اسمع الصدى).. مطالعة بقلم الاديبة نائلة طاهر الفاضلة ( تونس).. وخاطرةٌ بقلم غازي احمد ابوطبيخ الموسوي


المكنون في (مازلت اسمع الصدى)..
مطالعة بقلم الاديبة نائلة طاهر الفاضلة ( تونس)..
وخاطرةٌ بقلم
الموسوي

النص:

مازلتُ
أسمعُ الصدى:
هكذا…
بعضُ الأحجارِ
ناطقةٌ
أكثرَ من المحسوبينَ على…
جدرانُ مدينتِنا
القديمةُ مثلاً
تبوحُ بأسرارِ الماوراءِ
كلّما جنَ الليلُ
ونامَ الرّقيبُ
أسمعُها بروحي
من الجهة النازفة
فبيني وبينها
طرقٌ شتّى للإصغاءِ
تسمعني وأسمعها ،
طرقٌ لا يعرفُها سوى الحالمين،
مسالكُ مسكونةٌ
بالأمالِ الصاديةِ
والأرواحِ ذواتِ الفوانيسِ
ذواتِ الوشيجةِ
معَ ديوجين
او البهلول
بينا لا شمسَ
في نهاراتِ القلقِ
والأماني
معقودةٌ ب"فردوسِها المفقود"،
هي تتدلّى
كالعنقودِ
بانتظارِ لحظةٍ حالمةٍ
بيدٍ بيضاءَ صادقةٍ
مضيئةٍ
خاطفةٍ كالبرقَِ الأيمنِ
والعنقودُ
في موسمِ القطافِ الآنَ
والهواجسُ
تتبركنُ رويداً
في أفئدةِ الرعاةِ
أعني الرعاةَ المغنين
توائمُ ديموزي النبيلُ،
الذينَ يجيدون العزفَ
على أوتارِ الكَلِمِ
بنبراتِ الحبِّ
وشهقاتِ الحنين!!..
ألرّدى حبلُهم المتينُ
إلى الخلود!!..
وها أنا أسمعُ الصدى
في حفيفِ الأشجارِ
من شفاهِ السّواقي
من حمحماتِ الليالي العميقةِ
وتأوّهاتِ الحمامِ المتخفّي
واليمامِ الزائرِ للشبابيكِ المفتوحةِ
هكذا..
أهتف كلّما كلكلَ السكونُ:
-يامدينتي العتيدة،
يا أمَّ البساتينِ الفقيدةِ
ويا حسرةَ روحي
المخنوقةَ
سأظلُّ "بانتظارِ غودو"!!
آمالي الحبيسةُ
ستبقى سادرةً
أنْ يسطعَ المأمولُ
في سمائِكِ
من جديدٍ
شمساً
وإنشودةً
وزهرةَ لوتس...
أنْ تعزفَ أناملي
على سعفاتِ
نخلةِ بيتِنا القديم
بيتِنا المثخنِ
بذكرياتِ الوجعِ القاني
أغنيةً
تُزهرُ على أنغامها
جراحُ الأرضِ
من بين حباتِ
الترابِ المضمّخِ
بدموعِ الثكالى
ورداً
وأطفالاً
وعصافير!!....
……………...
.............................................
القراءة:
"""""""""
للمكان في القصيدة خصوصية هامة لا تعتمد بالضرورة على تحديده ولكنه يبرز من خلال المعنى ،و هو يتجلى تدريجيا عبر تواتر الصور الشعرية وتصاعد إيقاعها ،خاصة اذا ما كانت للشاعر علاقة وشائجية عميقة معه ،تصاعد الايقاع هو ميزة هامة بالنص إذ تنبئنا موسيقاه بما هو ضاج في عاطفة الشاعر ولعل العاطفة هي السمة الغالبة في النص يكاد معها يغيب العقل ، فنرى الشاعر كتلة مشاعر محترقة صادحة مذهولة ولكنها مع كل ذلك متحركة ،الضامن لتلك الحركية ايقاع غريب سري يتسارع كلما ضاق المكان أو اتسع أوكلما تأزمت علاقة الشاعر به وكأنك إزاء هارموني تصنعه نبضات القلب التي تتحكم في الأنفاس والشهقات وبالتالي في الوقفات. يمكن ان نسميه الايقاع "المتوتر" أو كما قال عنه الشاعر و الباحث المغاربي فرج العربي الايقاع الغامض هنا يستغني الشاعر عن الايقاع الخارجي و يوظف الايقاع الداخلي الذي يشكل القصيدة فتتحول كما يقول ميتشونيك الى "دال جوهري".
المدلول الجوهري الايقاعي استخدم جيدا لاستلاب وتملك ذهن القارئ فحين قلنا إن النص خال من توصيف تفاعلات العقل لم نكن نعني ان لا رؤية فكرية به ،وانما كان اتجاهنا يسير نحو لفت الإنتباه إلى ما تحويه القصيدة من إشارات شبيهة بطرائق الصوفية للوصول إلى الحقيقة .تطلق الصوفية على ادراك العقل علما (العالم )وادراك القلب معرفة وذوقا (العارف ) لذلك عمد الشاعر إلى خلق مدمج بينهما تصبح بمقتضاه القصيدة حاملة لوجهتين متجانستين ، وجهة معرفية وأخرى علمية ،او رحلة بحث عن مُجسد حقيقي لما ينطق به الصمت ويردده الحجر ليستقر في القلب أمل صادٍ متعطش و فكرة محرضة على السعي نحو الرواء .
بعض الأحجار
ناطقة
مثل جدران مدينتنا
القديمة
اسمعها بالروح
من الجهة النازفة
فبيني وبينها
طريق مسكونة
بالأمال الصادية
هذا ما جاد به طريق القلب من سبل تلتقي مع طريق العقل حين يدخلنا الشاعر دائرة ضوئية شبيهة بفانوس ديوجين ذاك السراج الذي يمسكه الفيلسوف نهارا بحثا عن حقيقة ما .ولجوء الشاعر إلى استعارة رمزية هي سراج ديوجين المستعين بالضوء نهارا في بحثه عن إنسان ما لا يراه بين كل الناس التي يحيا معهم ، فيه مفارقة مقصودة تؤكد أن القصيدة كتبت على النحو العرفاني الممتلك صاحبه للمعرفة ببواطن الأمور وحتى شخصية ديوجين نفسها لها دلالة مشتركة مع المتصوف بِشْرُ بِن الحَارِث الحَافِي فكلاهما كان يسعى حافيا في الأرض دون نعل في رحلة بحث لا تنتهي.
لذلك تضيق دائرة المعنى لتصبح في مجملها دفقا روحيا يتسرب إلى عقل القارئ من خلال التحكم في ردات فعله كلما تدرج المعنى نحو الاقناع .فديوجين كان يبحث عن رجل نبيل يسطع بالحقيقة ،والشاعر كان ينتظر يدا تأتي بالخلاص لمدينة تنطق أحجارها و تحترق مدنها وزياتينها في لحظات ذهول من ساكنيها ،ذهول قد يتمناه المرء لحظة حلم صاخب لا يتحول ابدا الى كابوس .وككل شاعر أصر شاعرنا على أن تكون ذاكرته ملتحمة بإرادته فجعل من ذاته الخاصة السراج المنتظر .وحين تمنى أن يعلق هو على سماء مدينته لم يكن يقصد سوى الإشارة إلى أن ما حواه عقله المستنير وما جعل روحه تسمو كفيل بأن يعم بعده السلام ،لكننا لا نعرف ان كان ذلك السلام روحيا أو ماديا أم هو كما اراده الشاعر مزيجا من الاثنين وقد يتوقف ذاك على مدى الٱستجابة للرؤية .فلكل شاعر استشرافي رؤاه الخاصة ولكل قصيدة قدر لا يحدد من التورية والتغيير خاصة مع القصائد التي تبلغ فيها مستويات التحديث أقصاها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق