الثلاثاء، 29 أغسطس 2023

(في مدار الياسمين) قراءة نقدية لنص الشاعر محمد الدمشقي (نفحة عودة).. بقلم غازي احمد ابوطبيخ الموسوي

 (في مدار الياسمين)

قراءة نقدية لنص الشاعر محمد الدمشقي
(نفحة عودة)..
بقلم
----------------------
في مثل هذا النوع من النصوص يصعب على الناقد تبني المنهج الشكلاني وحده, او التكويني وحده, ذلك لأن الشاعر محمد الدمشقي لم يتنازل قيد انملة عن وجهي المرآة معا , بمعنى انه لم يضح بأحدهما لصالح الآخر , بل وأصرّ منذ المدخل على تحقيق المعادل الجمالي الذي اكد عليه تعريف قصيدة النثر الاتفاقي والذي ورد في الموسوعة العالمية على الوجه التالي:
( ان قصيدة النثر :هي جنس فني يستكشف ما في لغة النثر من قيم شعرية , ويستغلها لخلق نتاج يعبر عن تجربة ومعاناة عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد, وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صياغية تحس ولا تقاس)..
ولقد اوردنا التعريف الكامل إعماما للفائدة وتبيانا لطبيعة المنهج الدقيق الذي سلكه الشاعر الدمشقي في قصيدته الموسومة ب( نفحة عودة)..
ونحن لا نختلف في قراءة هذا النص مع التفكيكيين في ان العلاقة بين النص والقارئ تحددها طبيعة القراءة ،وليس ما يقوله النص اعتماداً على مستوى الوعي الثقافي للمتلقي كما يؤكد ذلك د. سلمان كاصد في كتابه ( قصيدة النثر)-1-
ولكننا نجد انفسنا في غاية التفاهم -وفق هذا النص -مع ثلاثية (غريماس) التي اوضحت طبيعة العلاقة بين ( المنتج..والنص..والمرسل اليه)..على اساس انها تقوم على بنى ثلاث هي على التوالي:
1-بنية الاداء..وتتعلق بطبيعة البنيتين الشكلية والتكوينية للنص , او مايرتبط بالمبنى في جانب والمعنى في جانب اخر..
2-بنية الاتصال..وتتعلق بطبيعة التلقي ومستوياته الشديدة الارتباط بمستوى الوعي والملكة الثقافية للمتصل ..المتلقي..كما بينا آنفا..
3- بنية الإنفصال..التي تعبر عن آثار النص في المتصل وربما آثار المتصل في النص حتى بعد مغادرته بحكم المحمول الايديولوجي او الثقافي للقارئ نفسه..
من هنا نتصور ان قراءة نص الدمشقي يجب ان تاخذ بعين الإعتبار شكله ومضمونه , لأن طبيعة اداء الشاعر اقنعتنا تماما بقوة اللحمة بين مبناه ومعناه حد الاتحاد المبدع:
.......................
(نفحة عودة ... )
*
من أنا ؟
أنا المكتملُ بكِ ،
المبحرُ في سلافكِ ...
من أول النار ..
حتى أخرِ مرفأ للحلم ،
تعطري بشغفي ،
ليقرأَني شذاكِ ...
و يتلوني على ضفافِ حنينك
فأجدني ...
هديلَ صلاةٍ ...
رشفةَ نور ....
يغردها الندى
بصيصَ فجرٍ ...
يفتشُ عن سناه ،
و قد يقطفُني الليل
و يزرعني بين نجمات الشرود
فيراني قلبكِ
في غمرةِ الترنيمة
و ينهمرُ وجهيَ المفقودُ
في عينيك أتلألأ
أو أغرقُ في رعشةِ ذكرى
من دمعتِها أتوضأ .
...........
………….
وجدير بنا القول
إن الأصل في قصيدة النثر هو التعبيرعن عامة المتابعين مع اختلاف طبقاتهم الثقافية, ومن اهم اشراطها شدة ارتباطها بواقع الشاعر المحيط تاريخاً ومجتمعاً..عمقاً انثروبولوجياً وعمقاً حياتياً..مع التاكيد على انها لاتعني ابداً التنازل عن أصالة الشاعر او عن انتمائه سياقاً وانساقاً..ولسنا نحيل هذا النص على منهج محدد المعالم ،فالدمشقي كما تابعناه لايشبه إلا نفسه ،وهي خصيصته المهمة،والرجل لايلتزم بخارطة منهجية محددة،فالمذهب او المدرسة الفنية او الأدبية ذات سمات معلومة يتوجب الإلتزام بها على من يتمذهب بمنهجها،كما يشير أ.د.حسين عبود الهلالي من خلال استشهاده بتعريف الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر والذي يقول معرفاً المدرسة او المذهب الإبداعي انه: ( مجموعة افكار تستحيل طابعاً،-وجهات نظر ،نظريات وتطبيقاتها-يسود الادب و(الفن)،في زمن من الازمان،وبلد من البلدان،ويكون لهذا الطابع اعلام يمثلونه ويوطدونه،وصفات يمكن تحديدها وتعدادها،وكأنها القواعد والقوانين)2..
شاعرنا الدمشقي لاينطلق من هكذا مسلمات منهجية ،ذلك لان حرفه حر طليق بحسب اللحظة الراهنة.
من هنا كان تركيزه على المجاز الراسخ والنضج التعبيري الناضح كبيراً من اول النص حتى اخره..
يقول جوناثان مونرو:
( كان منتظرا من قصيدة النثر أن تحقق اختراقا متبادلا بين ماهو جمالي من ناحية وبين ماهو سياسي اجتماعي من ناحية اخرى, لكن الحقيقة المؤكدة تقول ان كثيرا من النماذج عززت قيما اخرى نأت بالنص عن المستهدفين به ورسخت عزلته وسط واقع شديد المحافظة والتقليدية..)..
ولقد تمكن الدمشقي بحكم وعيه وموهبته من تخطي هذا التاشير الى درجة عالية من التحققات الايجابية , بما جعل من هذه القصيدة بنية حمل بالغة الشفافية لمحمول يبدو في ظاهره عاطفيا او ربما رومانتيكيا , ولكنه يختزن ضمنيا اعماقا إنسانية ولمحات واقعية ذات صلة بتجربة الشاعر المعاصرة , وآثار الواقع السياسي والاجتماعي بينة واضحة للمتلقي الحصيف :
.........
نفحة عودة ... ( جديدي نثرا )
من أنا ؟
أنا المكتملُ بكِ ،
المبحرُ في سلافكِ ...
من أول النار ..
حتى أخرِ مرفأ للحلم ،
تعطري بشغفي ،
ليقرأَني شذاكِ ...
و يتلوني على ضفافِ حنينك
فأجدني ...
هديلَ صلاةٍ ...
رشفةَ نور .... يغردها الندى
بصيصَ فجرٍ ... يفتشُ عن سناه ،
و قد يقطفُني الليل
و يزرعني بين نجمات الشرود
فيراني قلبكِ
في غمرةِ الترنيمة
و ينهمرُ وجهيَ المفقودُ
في عينيك أتلألأ
أو أغرقُ في رعشةِ ذكرى
من دمعتِها أتوضأ .
...........
لملمي قطراتِ لحني
قبلَ أن يجفَّ صوتي
و يهرمَ النداء ،
أشرقي في غربتي
نفحةَ عودةٍ ،
أغنيةً من ياسمين ،
اسقني نظرةً ...
تعيد ألواني إليَّ
بددني السراب ،
تمزقُ ستائرَ البعدِ
أطفأَني الأنين ،
في غيابكِ ...
ظلُّ شاعرٍ أنا ...
شذراتُ بوحٍ ...
لا يضمدُها ورق
سحابةُ ضجرٍ حائرةٌ
لا سماءَ تصحبُها
و لا يبوحُ بها مطر ،
.....................
بعثرَني الصدى ...
و لم تجمعيني ،
ألف دمعةٍ تشربني ...
و لم تسكبيني ،
أنعشي بوحَ المنى في خافقي ،
عشقكِ في ظلامِ الحزنِ نورٌ يحتويني ،
مللتُ من الرحيلِ بلا اتجاه ...
كلما أغمضتُ جرحاً ..
تفتحتْ غصة !!
و كلما أبصرتْني نافذةٌ
أسدلتْ أجفانَها
فأحضنُ ظلي
و يحتسيني الظمأ
...................
أيا حبيبتي
بسمةُ صمتكِ أنا ..
دندنةُ القصيدة ،
حولي ترفرفين ،
أجنحتكِ أمنياتي ،
سماؤكِ تنهيدةٌ ترسمُني ...
على شبابيكِ السهاد ،
تلك الآهُ ...
شرفةٌ أذرفُ في أحداقِها ضوئي
لينبتَ اللقاء !!
أبثُها مواويلي ...
كلما نامَ القمر !
أعرف أنك تخبئينَ لهفتكِ
خلف غيمة تشبهني
بتشتتي و رحيلي
و أن انتظارَ الزهرِ
محملٌ بالعواصفِ و الحروب ،
و عناقُنا
رقصةُ مطرٍ تكسرتْ خطواتُها
بعثرتْها الريحْ
حبُّنا المنفيُّ يمامةٌ
لم يختنقْ هديلُها
بين أفواهِ الدخان
صباحٌ ... لم تصلْ بعدُ رسائلُه ..
لكنهُ .. ما ضيَّعَ العنوان
..............
…….………
..الشعرية إذن كانت هم الشاعر الدمشقي المحورية معرفة منه انها فقط ما يثبت انتماء النص النثري الى مناخات الشعر وعوالمه المعلومة..
كان عليه وفق هذا الفهم ان يحقق هذا الانتماء وفق شغل ابداعي محترف وحصيف , ولو عدنا الى تعريف الشعرية التي اسس لها مسبقا قبل الميلاد رائدها ارسطو طاليس في كتابه ..فن الشعر..لوجدنا انها تعني مايلي:
( هي دراسة المنهجية التي تقوم على علم اللغة للأنظمة التي تنطوي عليها النصوص الادبية , وهدفها هو دراسة الأدبية واكتشاف الانساق الثقافية التي توجه القارئ الى العملية التي يتفهم بها ادبية هذه النصوص)..
والا فإن الإنزلاق من السردية الادبية الشعرية على وجه التحديد الى السردية الخارجة عن الانتماء الى الادب روحا وأداء وارد جدا بل انه في غاية المداهمة والمخاطرة..
من هنا كان حرص شاعرنا على عدم التنازل عن اصالة الاداء , متمسكا بممارسة كافة الإنزياحات البلاغية الناجحة , توكيدا لادبية النص , هذا فضلا طبعا عن كون النص مغمّسا بالنشاط النفساني البالغ الحيوية , وهو الاشتراط الثاني وربما الاهم..
هي اذن شعرية نصية لاتحيل الا اليه..فبقدر مايصيب النص من تغيير سيصيبها شئ من التغيير ايضا..لانها تستنبط قوانين النص من النص نفسه..وبغير هذا لايمكننا استلهام المعاني التكوينية الدفينة من البنية الشكلانية الرومانسية الاصيلة..التي منحت النص طاقة حركية شفيفة وعذبة جعلته اقرب مايكون الى اي متصل كان , مبسطا او معمقا في آن واحد..
تقديرينا الكبير..
........................………
1-د.سلمان كاصد..
قصيدة النثر دراسة تفكيكية بنيوية..ص 20..
.
2.مواقف سلبية من الشعر والشعراء ، د.حسين عبود الهلالي ، ص48.
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏ابتسام‏‏
كل التفاعلات:
غازي احمد ابوطبيخ، وأحمد البدري و١٩ شخصًا آخر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق