السبت، 12 أغسطس 2023

عادل مردان يستخرج اللؤلؤ والمرجان من اصدافه / بقلم الاديب هيثم جبار

 عادل مردان يستخرج اللؤلؤ والمرجان من اصدافه

بقلم الاديب هيثم جبار
ها هو مرة اخرى صاحب انشاد حامل الجمر ومنسق احلام الشرق , الذي لا تحضره السكينة , صاحب صباحات العالم , جامع الاصداف عاد من البحر , يحمل كيسا من المحار , فترحب به بقرته الحمراء , وتبشره بانها ولدت ثلاثة توائم , غير انه كان لا يبالي , واخذ يفكر بالاصداف يرفعها من المحار ليستخرج لؤلؤ المعنى ومرجان الكلمات , لا يريد اي حنين يقيده في مكان واحد , عنده الاشجار عارضات ازياء , روحه روح طير اخضر تلاحقه العيون اليابسة , وهو يرفرف من سطح لسطح , حتى احس في وجع بجناح روحه الخضراء ,هذا هو عادل مردان له شطحاته اليومية يمشي على رؤوس اصابعه ويدندن باغنية عتيقة , فيتبعه سرب من اللقالق والنوارس , الا ان الصيادين يتبخترون بحقائب موّن الموت لهذه الطيور, لذا لا صاحب له سوى الليل حيث قال اتركني يا ليل هنا واذهب , فانا سكير ادعو الله ان يغير يوم ميلادي , وجنيتي تسالني ماذا جنيت من الالهام , ثم يعود الرائي الى كأسه الرابعة تحت شجرة الابد , فما الزمن عنده الا اجسادا مكومة كالزقورات والأبراج , والتأمل هو الدواء الوحيد لهذا الزمن , فهو جليس داره يصوغ الامنيات لانوثة الجداول , ويبحث بالرمل عبثا عسى ان يجد بغيته , مهووسٌ بالموسيقى الا انه يساق الى المقصلة , لانه ارتكب مجزرة في سرب النمل , ومن فرط حبه للمراة اخذ يرثيها بكلمات لم يخلق مثلهن في عالم الاغنيات الحزينة , حيث وصف تقاليدنا الاجتماعية بالمكنسة الكهربائية التي تكتسح القوارير في اي شجار معهن .
يوم الشجار اسود
حتما ستنحاز مكنستنا
الكهربائية الى القوارير
عادل مردان الخبير بتربية الكلمات , كلمات رشيقة وكلمات سمان , كلمات قصيرة وطويلة , كلمات واضحة ومبهمة .لا اعرف ما هذه الكلمات هل هي جياد برية صعبة الترويض , هل هي طواويس جميلة تنفش ريشها في الحدائق , هل هي قطط بريئة ام نمور شرسة , هل هي ارانب ام ثعالب ماكرة , ؟؟ تهويمات عادل مردان تفتح آفاقا واسعة في البحث والقراءة , البحث عن المكنون والمخفي داخل هذه التهويمات.
قبل اكثر من اربعمائة عام سُؤل الناقد باكثير الحضرمي المتوفي سنة 975 هــ صاحب كتاب ((تنبيه الاديب على ما في شعر ابي الطيب من الحسن والمعيب)) ماهو اجود الشعر واقبحه ؟؟ فقال : اجود الشعر اخفاه واصدقه , واقبح الشعر اكذبه واظهره .. نعم اجود الشعر اخفاه , على الشاعر ان يخفي معان المفردات ولكن كيف اذا جعل هذا الاخفاء مثل اختفاء اللؤلؤ داخل الاصداف ؟ هنا على القارئ ان يجهد نفسه , فليس كل محارة نرفع عنها الصدفة نجد داخلها لؤلؤة , لذا اخذت اقرا كل تهويمة ثلاث او اربع مرات حتى تتشكل عندي الرؤيا , رؤيا المعنى , المعنى الذي تصوغه مخيلتي ،مخيلتي التي تنسج الخيوط ، الخيوط الدقيقة التي علق بها عادل مردان هذه التهويمات , فارتأيتُ ان ابدا من اخر الاصداف الى اولها , من حوريات النهر حيث يجتمعن تحت شجرة الاكاسيا قرب الشط في منتصف النهار , الى الانزواء والابتذال الى الحياة المتبرعمة المسافرة في الخيال , وفي نهاية كل عام يتطاير رماد السنين.
فعرفت انه يميل ببعض تهويماته الى الانثى , الانثى التي سيبني لها كوخا على نهر خياله الجارف , حيث تطل عليه بعد عودته باسمة وقانعة , ها هو المفتون بغمازتيك في وجنتيك المدهشتين , كأنك ملكة تتسللين من جدارية آشور وتنامين قرب زهرة البابونج , اهدأي ايتها الانثى فالاعشاب هنا لا يدانيها القلق .
على الرغم من ان الشاعر لا يحبذ فن الهايكو , ويعده فنا خاصا باليابانيين الا ان في تهويماته التي تصل الى المئتين تهويمة نجد سبع او ثمان منها جاءت بزي الهايكو وبشروطه اليابانية ومنها
الغنى لا يطاردهم
يرتدي الفقر اقنعة الوقاية
في شبكات التسول
****
تكتشف اخيرا
حمية سكان الكهف
حتى معرفة تفاصيلها
النساء في هلع
****
اي تعزيمات
ينشدها الى النجوم
ميت يبتسم في الحياة
*****
الكلاب تنبح الجهات
مشاهد الخوف تتعاقب
مثل نشاط النحل
فلكيات الميديا
في هذه التهويمات حياة الشاعر باكملها بهدوئها بصخبها بجنونها بعشبها المصادق للانسان , فهو يطالب بتكوين جديد لكل من حوله ويبدا بنفسه حيث يقول / تكويني صار قديما / اريد ان اتخلق / بكيان اخر / , فكلما راقص ظله اختفى الظل وبقي وحيدا , فاوهامه تلعب في حديقة مخياله , والدنيا طفلة تحبو لا تفهم مرثيات هذا المشاغب الذي يمسك بيده سفرجلة سيضعها يوما على ضريح هذه الكلمات , اخطاؤه كثيرة ولكنه دائما يعنفها , والرماديون الجاثمون على صدورنا يعرفهم الشاعر واحدا واحدا , ولكن رحابة الرؤيا علمته كيف يكسر انف اليأس بهذه التهويمات
فهو يصف تهويماته بهذا الوصف المبدع حيث يقول :
لا اريدها منسوجة
من حروف فقط
بل تقصف العمق
دورنز مفخخة
في فضاء التلقي
الدورنز جمع دورن , والدورن هي الطائرة المسيرة بدون طيار , رغم هذا الصخب وهذا الانفجار وهذه الضجة تخاطبه احدى مرجاناته التهويمية الهادئة على لسان شاعرها حيث يقول :
الهدوء سلامك الداخلي
يا من افنيت ايامك
بالكلمات
الله على هذا اللؤلؤ وهذا المرجان الذي استخرجته من هذه الاصداف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق