*
تساقط الوقت من ساعة الحائط مغرقا غرفة الطبيب ببحيرة من ذهول، إلى أين يمضي العمر فكر السيد حكيم وهو ينظر إلى مريضته المستلقية باسترخاء على منصة الفحص ولأول مرة منذ عشرين سنة مارس فيها الطب النفسي بهمة يحس انه ابتدأ يفتتح أستار عالم مرضاه، هو قادر الآن على الإنصات بل ورؤية الأشياء الغير مسموعة التي يخبرونه عنها رفع رأسه إلى الساعة ألجداريه المثبتة فوق لوحة للطبيعة الجميلة ابتدأت ألوان اللوحة الزاهية تخفت حتى أنها لتبدو من بعيد بالأبيض والأسود،فكر السيد حكيم قليلا وتذكر حينما اشتراها أول مرة كانت بأرض حشيشيه صافية ممتدة وكان هناك كوخ في الجهة اليمنى من اللوحة وبحر تتكسر أمواجه ناثره زبدها على صخور بنية مكسوة بالطحالب في الجهة اليسرى ومن نافذة الكوخ وجه فتاة تنكب على رقعة تطريز ربما، ثم جاء الشاب وليد المريض النفسي وأعجبته الساعة وقال إنها المرة الاولى التي يشاهد فيها ساعة مثبتة على رقعة شطرنج !!!!
ـ لكنها مثبتة على مشهد للطبيعة، رمز للحياة الرتيبة الهادئة (قال الطبيب)
لكن وليد أصر على أنها رقعة شطرنج بالأبيض والأسود وأكمل
ـ هذه هي القلعة وهذا هو الملك وهؤلاء هم الجنود ..
ـ أين هم يا بني (صاح الطبيب في حينها وكانت اللوحة تزدهي أمامه بألوانها النقية،على أي حال كان وليد يعاني من فصام حاد، هذا ما أجاب الدكتوربه أفكاره المتفاقمة دون أن يعيد النظر إلى اللوحة )
همست المريضة المستلقية باسترخاء على منصة الفحص
ـ (كن حذرا يا دكتور قد يسمعوننا)
ولأنه كان معتادا على تلك التسربات الشفوية العجيبة لمرضاه فقد قلد صوتها المتوجس طالبا منها بلطف أن تخبره ما تشاء وأكد لها أن جدران غرفة الفحص مصممة لعزل الأصوات
ـ (هذا آخر ما أتذكره عن العالم الآخر العالم الحقيقي الذي تستمع فيه إلى أصوات الروح لم اعد استمع الآن للتحذيرات لأن الأدوية التي أعطيتني إياها تغلق حواسي تماما وسأقع قريبا بمشكلة كبرى(همست المريضة وتفاقم الهلع في عينيها)
قد يقتلونني يا دكتور(تصاعد صوتها مقتربا من الصراخ و كان الطبيب يعرف أنها تعاود الانتكاس والتخيل بين حين وآخر كلما تركت العلاج، فطلب بهدوء منها أن تكمل حديثها، حينها همست بخوف)
ـ كانوا أربعة أشخاص يتآمرون للدخول إلى البيت وقتلنا أنا وأبي المريض، سمعتهم يتهامسون في الشارع كنت مختبئة خلف النافذة، بيني وبينهم رواق صغير فقط كان صوتهم واضحا جدا ، لاشيء سيوقفهم جلبوا معهم رفشا وسيحفرون نفقا ليتسللوا إلينا تحت جنح الظلام، يمكنني أن اختبئ لكن أبي لا يستطيع(كانت أنفاسها تتلاحق ونبضاتها تتصاعد وبدا بؤبؤ عينيها يضيق )
سيقتلونه وسيقضون الوقت الباقي في البحث عني لاشيء سينهي الرعب يا سيدي الطبيب.
كان حديثها يحفر عميقا في روحه،لم يكن ينبغي له ان يقطع تسلسل أفكارها،كان الأمر يقتضي فقط أن يسجل ملاحظاته ثم يقيم كل الحالة وابتدأ بتطمينها ان كل ما تقوله هو بسبب المرض الذي تتعالج منه منذ سنين وإنها يجب أن تتجاهل الأصوات التي تسمعها لأنها غير حقيقية ..
انتهت الجلسة وقبل ان تخرج المريضة من الباب استدارت وتركت يدها على أكرتها وهمست بيقين، كن حذرا يا سيدي فالممرضة العرجاء ـ سكرتيرتك ـ هي من اخبر العصابة عن مكان خزينة النقود في منزلك) قالت هذا وخرجت صافقة الباب .
ساد الصمت، صار يطرق بنواقيسه فتمتلئ أفكار السيد حكيم بذبذباته الطاغية،تلك المريضة تعاني من وسواس وقلق وكآبة مزمنة لكنه أحس بصدق نبراتها الصدق الأبيض ساح من بين شفتيها فاغرق فطنة حكيم تماما
كلماتها النافرة من جدول الكلمات التي نعرفها تشبيهاتها الفريدة ووصفها لما تراه،يبدو صادقا جدا،دخلت السكرتيرة إلى الغرفة
ـ هل تحتاج شيئا يا سيدي؟
ـ كلا يا سلمى يمكنك الانصراف (وظل يتابع مشيتها ولم تكن تعرج طبعا) !!!!
خلع الحكيم العجوز رداءه الأبيض علقه في شماعة العيادة لملم أغراضه واقفل الباب بنفسه وخرج،وقف في طابور الفرن و اشترى خبزا طازجا وجبنا من محل قريب ثم اقفل سائقا إلى البيت .
يا للسماء!!!! لقد نسي أن يفتح ضوء الكراج قبل أن يذهب للعيادة عصرا ككل مرة،ومنذ ان سافر ولده الوحيد إلى أمريكا بعد زواجه وتوفيت زوجته صار عليه أن يعمل كل شيء بنفسه وان يتلقى كل أوزار الوحدة التي كان يتمناها قبلا بلا تذمر،فتح باب البيت وضع إناء الشاي على النار واستلقى باسترخاء قرب النافذة
فجأة تسربل صوت أربعة أشخاص يتحدثون بهمس خلف السياج،أصاخ السمع؟؟؟؟
(انه يسكن وحيدا،يمكننا أن نحفر خندقا وندخل إليه،سنخنقه بسهولة بهذا الحبل)صاح إبريق الشاي من على الموقد و فز السيد حكيم من نومه وقلبه يكاد يتوقف كان حلما فضيعا،أطفأ الموقد وابتلع حبة مهدئ ونام،كانت الأحلام لئيمة هي الأخرى وتعاونت هي والآلام المفاصل على تقليبه على فراش من عذاب وفي اليوم التالي لم يكن يتذكر سوى البرد والخوف الذي صاحب ليلته السابقة، مر النهار ببطء وعند الثالثة ظهرا كان جالسا كعادته خلف طاولته في العيادة
حينما دخلت السكرتيرة وهي تعرج
ـ ما بك(صاح فور رؤيتها السيد حكيم)لم تعرجين ؟
فأجابت باستغراب
ـ أنا مصابة بشلل الأطفال منذ الصغر يا سيدي
ووضعت الجريدة أمام الطبيب الذي عاد يتساءل بذهول
ـ لكنني لم ألاحظ !
ـ ربما لأنني البس في قدمي حذاءا يساوي طول الساقين (قالت مبتسمة بخجل)
كان أول خبر طالعة في الجريدة خبر مقتل رجل مسن وابنته في حي قريب ويقول شاهد عيان أن العصابة كانت مكونة من أربعة أشخاص و..
اخرس الدكتور الهلع وقرع جرس الغرفة بتكرار محموم فدخلت السكرتيرة العرجاء مسرعة
كان الدكتور يشير إلى الساعة ألجداريه التي بدت غائمة الآن
ـ كم الساعة الآن يا سلمى ؟
نظرت الفتاة باستغراب صوب الحائط
ـ الثالثة ظهرا يا دكتور
أترين المنظر الجميل الذي اخترته للوحة الساعة
ـ نعم أجابت بقلق
ـ صفيه لي
انبرت الفتاة وهي تدقق في اللوحة
ـ رقعة شطرنج بالأسود والأبيض،
هذه هي القلعة وهذا الحصان وهؤلاء هم الجنود ..
*
نص الدراسة النقدية:
"""""""""""""""""""""""""""
يمكن ان تكون لدينا نسختان من هذه القصة بما ان العنوان يؤسس لهذا التناظر بين لفظتي
الحلم بابعادها الخيالية الاسرة غير المحددة المفتوحة وبين لفظة الصلصال وهي المادة الصلبة المحددة ذات البعد الواحد ،وهنا تتشكل.بؤرة النص.وتنفتح مكوناته بين هذين
العالمين .عالم الحلم.والذاكرة.وعالم الواقع المتاصل في كلمة الصلصال،البنى الداخلية
في النص تمارس فعل الغياب والحضور مع البنى العاملة خارج النص فتكون لدينا
نسخة النص الاولى وهي نسخة الحلم
بؤرتها هي العلاقة بين الطبيب المعالج والمريض النفسي لتنتشر هذه البنية في كل النص ،وتتوزع كالاتي.
الحلم.الساعة الجدراية .الوان الطبيعة في
خلفية الساعة.خيال المريض النفسي
افكار المريضة .عن شخوص تطاردها
ذاكرة الطبيب
نبدا في فتح الغاز هذا النص.وخلق العلاقات
بين مكوناته التي هي بنى صغيرة مغلقة
مثلا .الساعة الجدارية التي اصابهاالفصام
فكانت ذات بعدين
الاول في ذاكرة الطبيب وهو الحلم الجميل
ومنظر خلاب.والبعد الثاني هو رقعة الشطرنج
لدى مريضه النفسي .وهذه الرقعة بماتحتوية
من مربعات سوداء وبيضاء
تعلقت في اللفظ الثاني من عنوان النص
وهو الصلصال..ترميز ودال للحياة الواقعية
المعاشة وصراعها الازلي بين احلام وامنيات
الانسان وبين مصائره المرسومة.
نحاول الان ايجاد.تقاطع بين مكونات هذا العالم الموجود في غرفة الطبيب.
المكون الاول .الذي فتح المعنى وحول الغرفة
الى بحيرة من الذهول.وهو جريان الوقت
وماخلقه من حالات في الذاكرة عن جدوى المكوث مع هذه الادوات وهولاء المرضى
اما النسخة الثانية من النص
فهي نسخة الصلصال.وتبدأ في الضهور
بالتزامن مع ظهور النسخة الاولى
فتتوزع بين افكار الشخوص بين مربعات الرقعة السوداء والبيضاء
في احدها نرى الشخوص الاربعة وهي تطارد
المريضة.وفي مربع اخر نرى الطبيب النفسي
جالسا في البيت مع افكاره
ومخاوفه .وفي مربع اسود اخر.تظهر الممرضة وهي تشي للصوص بمكان خزنة الطبيب،
امتألت المربعات السوداء بمكونات الصلصال، وايضا امتلأت النسخة الثانية بمكونات الحلم واقصد ذاكرة الشخوص عن وجود انساني
لم تصله الحياة بعد متمثلا بمنظر الساعة ذي اللون الاخضر لون الحياة
يقابله لون الحياة الحقيقية وهي الوان رقعة الشطرنج ومصائر تشترك في النهاية بماهية الوجود الانساني والهدف منه او تماهي الحلم مع الواقع احيانا
فتغدوا الاحلام حقيقة والمخاوف تتحقق..
ان توضيح العلاقة بين رقعة الشطرنج كمعادل موضوعي لعنوان النص الثاني .الصلصال.اوجب الدخول في متاهة الاشارات الصادرة من شخوص القصة وهي تتحرك بين جزئي العنوان .فمرة تنمي اشارة
ما .المقطع الاول وهو الحلم.واشارة اخرى تدفع بالجزء الثاني الصلصال.الى الواجهه
فحيرة الطبيب النفسي في موضوع طريقة
الممرضة وصدمته بانها معوقة .دلالة على عدم اليقين من ذاكرته وبانها لاتميز بين الواقع والخيال.وبين الكذب والصدق.
فصار مكان الحدث وهو عيادته .مكان لتشظي
الذاكرة والقطيعة مع الحاضر المتواجد بقوة
والعودة الى الماضي .للتخلص من الاستلاب
والضغط النفسي.كما رتب على رقعة الشطرنج
في مربعاتها السوداء. والبيضاء .
الفرائس الان تتحقق من مخاوفها وهل هي حقيقة ام اوهام المرض النفسي.
الطبيب في بيته ظل عالقا في هذا الطقس
المخيف ولم يعد يميز بين الحلم والواقع
حين سمع اربعة اشخاص يتحدثون عن سرقة
منزله وهم ايضا ذكرتهم المريضة المستلقية
في عيادته..هو ايضا كان فريسة ستوضع
قريبا وترتب على رقعة الشطرنج.كما رتبت
الاحداث السابقة .وتدفع بالمقطع الثاني وهو
الصلصال.واشاراته العدمية من العنف والاستلاب.والاغتيال.الى الواجهه..ليتم .حذف
المقطع الاول وهو الحلم. والابقاء على الاسم
الاخر للنص وهو .رقعة الشطرنج
ومما سبق في هذه الدراسة .ترشح لدينا قراءة جديدة لنص جديد اطاح بنص حلم من صلصال..