السبت، 5 أغسطس 2023

تقانة السرد في رواية"فواضل" للروائي جمال قيسي Jamal Kyse -العراق- (بحث إجمالي)بقلم الاديب الناقد غازي احمد الموسوي

 تقانة السرد

في رواية"فواضل"
للروائي Jamal Kyse
-العراق-
(بحث إجمالي)
بقلم الاديب الناقد غازي احمد الموسوي






يقول الناقد بيرسي لوبوك في كتابه الشهير (صنعة الرواية
The Craft of fiction by Percy Lubock)
:
(إنّ المرء لايحتاج لأن يتذكر التفاصيل الصغيرة في القصة لكي يدرك حقيقة وقوة الشخصيات الروائية،ولو حدث أن نسينا قدراً كبيراً من التفاصيل،فإنّ ابرز وجوه هذه الحالة ستعلق بالفكر حين نتطلع إلى الوراء،وإلى الحوادث الدراميّة والمقاطع الوصفية الجميلة،وفوق ذلك حضور العديد من الأشخاص البارزين الذين يثيرون الإهتمام حيث الكثير الذي يقفز مباشرة الى دائرة النور ساعة يذكر الكتاب)1..
هذا الإحساس بالضبط هو ما خالجني وانا أنوي مخامرة هذا العمل الروائي الذي يأخذ أهميته أولاً من نوع شخصياته التي يندر أن يتوجه إليها الكُتّاب لشدة غرابتهم بل غربتهم وعجائبيتهم أحياناً، وما ينتج عن سلوكهم من الاحداث الخارجة عن المعتاد ..
ولم نجد أية مقاربة أو تناص مع روايات أخرى اكثر قرباً من (أولاد حارتنا) للكبيرنجيب محفوظ ،مع الاختلاف الجوهري بين
فُتُوّات محفوظ المكتنزة بالحضور الاجتماعي العالي النبرة حدّ التجليات القيادية التي أهَّلها محفوظ للتصديات المجتمعية الكبيرة، والتي قادت بعض النقاد أو القرّاء المعمقين و بعض رجال الدين أيضاً إلى اعتبار هذه الشخصيات مرايا إيحائية من نوع ما ،وكأنها إيماءة خفية للنبوات،
ألامرالذي خلق الكثير من الإشكاليات في حينها للكاتب الكبير..
بينما على العكس من ذلك كان خيارالقيسي منحازاً لنوع آخر نقيض تماماً،وأعني الشخصيات المهملة او المتغربة او المستلبة أو الطريدة أيضا.
كما وقد تلمّسنا وجود إشارات أخرى للإستلهام سنبينها بعد قليل.
زمكان الحدث الروائي :
…………………
سنختصر الكلام حول زمان ومكان هذا الحدث بما تفضل به كاتبنا ذاته في أول اطلالات روايته التي قصد بها التوطئة والتفسير
من خلال مقال أروع مافيه أنه يصحُّ اعتباره نافذة تأويلية أوتحليلية للرواية في جانب،بيد أننا لايمكن أن نفصله بحال من الاحوال عن متنها كونه يتصل به بل يتداخل معه بطريقة مدهشة في الخواتيم،
حتى لكأنه جزء لايتجزأ منه، في جانب اخر..
تدور مجمل أحداث هذه الرواية في العاصمة بغداد وفي منطقة نفق ساحة التحرير والبتاوين،أي المنطقة الموسومة بالباب الشرقي على وجه التحديد ،مع امتدادات عاجلة ومؤقتة ،سرعان ماتؤوب الى ذات البيئة الجغرافية.
شخصيات الرواية:
………………………
ألغريب ان جميع شخصيات هذا النص الروائي الاساسية تحمل ذات الاسم ونعني( فاضل)،
ومن مجموعهم تم توليف عتبة النص،هذه العتبة التي تسببت بتساؤلات كثيرة كون العنوان يمثل (ثُريّا النص) بحسب جاك دريدا،ومن هنا تبرز أهميته باعتباره يشكل ضوءًا كاشفاً على مجمل ما سيرد بين دفتي هذا الكتاب،أو غيره، كما يؤكد السيميائيون المعاصرون .
إنَّ مضمون هذه العتبة يتصل بجمع التكسير المؤنث بأساسه الفصيح، (فواضل جمع فاضلة،وفواضل المال تعني غلة الارض وأرباح التجارة بحسب معجم المعاني الجامع ).
كما وتوحي بمعنى فضلة الشيء اوفُضالته أو بقاياه 2 كما هي حال بقايا الطعام ،وهذا المعنى الأخير يتصل من طرفٍ خفيٍّ برؤية الكاتب كونه لم ينطلق باختياره من الفصحى كما نتصور وإنما كان يستعير-عن سابق تقدير-لغة العوام انحيازاً لهذه الشريحة أو توكيداً لكونهم كائنات بشرية مغمورة بحسب الفهم الشعبي،
إنما هناك وحدة حياتية من نوع ما تجمعهم،لكن بحيث تظل لكل منهم هويته وطبيعته الخاصة، وقد جَمَعَتْهم هنا في هذه الجغرافية صروف حياتية من عوز وخوف وشعور بالدونية لفقدان الحضور والأهميةالإجتماعية..
إن لجوء الكاتب الى تلهيج العنوان كما نتصور كان بقصد تبيان الشريحة الباعثة على السخرية بحكم نوع السلوك المتقارب في الذهن الجمعي السائد..
والذي يؤكد ما ذهبنا إليه أن القيسي لم يكتفِ بالتلهيج المتعمد ،وإنما ذهب إلى التنكير ،وعمد إلى حذف ال التعريف زيادة في هذا التنكير وإن كنّا منحازين الى غيره،وإن كان يحقق إرادة الكاتب وطبيعة فهمه ،ولكننا نرى أن التعريف أوقع في النفس ،وأقوى أثراً من ناحية الإيقاع ومن ناحية المفاد ،كما نتصور.
وقد تكون لدى كاتبنا فكرة أخرى تتعلق بالمفهوم الوظيفي للعنوان ،
يقول أمبرتو إيكو: "إن العنوان قاعدة عليها أن ترن دائماً، وتخلخل الأفكار لدى المتلقي، حسب معرفته وثقافته، حيث يتباين أفق التوقع من إنسان لآخر" ولهذا وقع اختياره على عنوان يحقق الوظائف المفترضة ،ونعني بها: (الإيحائية،إلإغرائية والوصفية )،مبتعداً في الآن نفسه عن العناوين التي لا يكون لها في الغالب تعالق وظيفي مع النص رغم جماليتها ليستمد نصه قيمته من النص نفسه لا من العنوان . "فأن يكون الكتاب (النص) أغرى من عنوانه، أفضل بكثير من أن يكون العنوان أغرى من كتابه (نصه)" وهذا (لكي لا نَسُوقَ القراء لِعَماء غير مرئي، ولكي نبقيَ على ذلك الميثاق الأخلاقي السليم للقراءة.)كما يقول جون بارث.
الحدث والشخصيات:
………………..
تدور أحداث هذه الرواية في تسعينيات القرن الماضي،فيتحرك الحدث العام من خلال هذه الشخصيات بحيث نشهد على طبيعة المرحلة التاريخية والمكابدات التي عانى منها المجتمع مفصحاً عن التيارات الفكرية التي سادت آنذاك ،بحيث تتوزع شخصيات النص بشكل ممنهج وفق خارطة سرد مقصودة ومحكمة معاً ،أما شخصيات الرواية الأساسية فهم كل من:
*فاضل السلفي *فاضل الشيوعي،صاحب الآراء التي يصعب على أي كاتب المجازفة بالتطرق إليها
*فاضل الصوفي *فاضل بوستر (القواد)،وزوجته لمياء،ذات السلوك غير المرضي.
*فاضل ابو العباس المتشرد *ثم فاضل الأسير ....
هؤلاء يمثلون (الشخصيات النامية المتطورة روائياً)،ولكلّ واحد منهم حكايته وبيئته بل وحدثه الخاص المتصل،مع وجود الكثير من الشخصيات الرجالية والنسائية المجاورة التي تختلف قيمتها الفنية بحسب مستويات نشاطها وفاعليتها وقدرتها على التنامي،بل ونعثر كثيراً على (شخصيات مسطحة) جامدة لا اعتبار لها سوسيولوجياً أو فنّياً..
ولقد اجتمعت هذه العناصرالفاعلة وغيرالفاعلة عبر الاحداث التفصيلية والحدث العام في هذا النفق العجيب بحيث نرى بكل وضوح نوعاً من التناقض المدهش المتمظهر باشكال التعايش بين افراد هذه البيئة التي تختزل إلى حدٍّ كبير مفصلاً مهماً من مفاصل تركيبة مجتمع العاصمة البغدادي.
فحياة كل شخصية وردت آنفاً،تتفاعل من خلال موضعية عملهم ونعني نفق ساحة التحرير،في حين يسكن بعضهم منطقة البتاوين المحاذية حدّ التلاصق،
والبتاوين كما هو معلوم جزء من الباب الشرقي أيضا..
ولكي تتوضح الفكرة أكثر سنقرأ معاً هذا المقطع الذي يجيبنا بكل وضوح عن زمكان الحدث، على لسان الكاتب ذاته حيث يقول:
( قصتنا تدور حول هامش عابر وأبطاله،تكسّر الزمان والمكان في تسعينيات القرن الماضي في بغداد وهو أمر دوريّ وظهر الفواضل أبطال نفق ساحة التحرير في قلب بغداد،مجموعة انزلقت من المجارير كيف اجتمعوا،وكيف انتهى امرهم؟!..
هذا ما سنحكيه..).
علما أنه يسجل هذه المرحلة التسعينية كمنطلق للأحداث وإمساكاً من بدايتها للشخصيات ،ولكن الحدث سيتحرك زمنياً باتجاه أخطر أيام العراق المعاصر ونعني بها حقبة الاحتلال البغيض،بعدها يؤشر تفصيلاً جميع المثابات التي تحيط بساحة التحرير من جميع الجهات مع التركيز على مواضع الخصوبة القصصية على وجه الخصوص،
ومن قبيل ذلك يقول في موضع آخر وهو أمر يسترعي الانتباه لعلاقته بما ألمحنا إليه في مدخل البحث :
( بعد ان جثمت المجنزرة الامريكية على نهاية منحدر الجسر بين برج "المطعم التركي" !، وثانوية العقيدة للبنات"الراهبات"
كان البرج والمطعم في طابقه الأخير من الأماكن المحببة لدى " أبو العباس"،طبعاً هو لم يكن زبوناً عادياً للمطعم ،ولم يُسمح له بالدخول اليه بسبب هيئته المفزعة وثيابه الرثّة!!)..
محطات العمل:
…………………
هذه اذن،هي جغرافية الحدث التي سينطلق منها فاضل الأول بشخصه الغرائبي المركب للمقاومة العزلاء إلا من عصاه المجردة لمقاومة الأجنبي الدخيل..
ومما يلفت النظر ويبعث على الدهشة أن هذه البقعة المضيئة بالتجليات الكبرى هي ذاتها جغرافية الحدث الجماهيري المحوري المعاصر..
لقد تنقل كاتبنا عبر رواياته الثلاث ( نساء المجرّة..يوميات اسماعيل التي هي الآن تحت الطبع كما علمنا،ثم روايتنا-مدار البحث-فواضل)، صعوداً بطريقة تشي برحلة بحث إنثروبولوجية بدءًا بالحي الذي نشأ فيه وعاش رَدْحاً من شبابه،حيث نساء المجرة، ومروراً بعوالم شارع المتنبي والسراي والقشلة الدفينة في يوميات اسماعيل،ولكنه لم يكتف بهذه الحدود على رغم بعدها الثقافي العميق،كونه باحثاً مركّباً هو الاخر، عن بقعةٍ تجمع بين الأبعاد الحضارية والسياسية
والفلسفية والسوسيولوجية والسيكولوجية، في وقت واحد. فكان أن وقع اختياره على نفق التحرير وساحته والمطعم التركي ومدخل شارع السعدون ومدخل شارع الرشيد والمُجمّع السينمي لمقترح " والت ديزني" غير المتحقق ، حيث المباني اليهودية القديمة ذات السمات الخاصة والغايات الخاصة،
ثم حديقة الأمة ولوحة فائق حسن وساحة الطيران والبتاوين،تلك المساحة البالغة التعقيد في تنوعها المذهل كمحطة يلتقي خلالها كل متحرك في العراق.
إنه يبحث إذن،عن أفق أكثر اتساعاً في ناحية،كما ويبحث عن عالم سُفلي أعمق دفانة وأكثر اكتنازاً،
ليخرج علينا بكائناته الروائية الفريدة المنتخبة بحرفنة وفطنة من عوالم ( إنليل*
وبغداد الازل بين الجد والهزل)*
حيث المتراكم المكتظ من المزيج الواقعي البغدادي الذي يختزل العراق برمته قبالة الوجه الإبداعي الاخر المتمثل بكائنات جواد سليم التشكيلية الخالدة،التي تم تجميدها على جداريته الكبرى لزمن طويل ،
ولكنها بما تمتلك من المخزون الطاقاتي السوبرماني الهائل، يبدو أنها قد قررت أن تنزل هي الاخرى إلى ساحات الحرية في لقاء عجيب حقا مع كائنات القاع المحتشدة بالرفض والتمرد الثائر..
كائنات السرد الروائي السرّانية الخبيئة الدفائن ،
وكائنات الفن التشكيلي الجمالية البعيدة الإيحاءات، حيّة تمشي على أرض العراق الذي لايموت رغم آلاف الطعنات..
والمذهل في الامر أن تاريخ صدور هذه الرواية قد سبق مجريات الاحداث الحالية باكثر من شهرين من الآن..
وقفة موجزة مع تقنية الحوار:
……………………..
ا-من الواضح أن الكاتب يُحَمِّلُ نصوص الحوار الكثير من الاعماق الفكرية المتنوعة،
ولكن عمقها لا يمنع الإلتفات إلى وجود قلق واضح في بنية التعاقب..
وأعني ضرورة أن يكون تسلسل الحوارات بطريقة أكثر سلاسة وتلقائية،خاصة بعد تهيئة المشهد للدخول بأي حوار، بحيث يعرف المتلقي عناصر هذا الحوار ابتداءً،وبذلك ينتفي قلق الكاتب أو خيفته من عدم استلام المتلقي لتراتبيته المتناسلة،
وتكفينا علامة البدء وأعني هذا (الداش-)لتعاقب الاستلام والتسليم، وهذا سيشذب الحوار ،ويُرَشِّقه، ويمنعه من الوقوع في مطب التداخل في آن.
من هنا بات التخلص من البدء مع كل حوار
ب(قال فلان أوقال الآخر)إلا عندما يستلزم الحال،ضرورة سردية بالغة الأهمية،ولا نجد هنا مايستدعي استلهام إسلوبية السردالقرآني،
لاختلاف الحال والمقال والإسلوب،
وهذا مبحث دقيق يرتبط بالشأن البلاغي،وطبيعة السياق القرآني،لا يتحمل هذا المقام طويلَ حديثٍ عنه.
نزعة التجديد:
…………….....
لقد تلمّسنا نوعاً بيِّناً من الجِدَّةِ في شكل هذا العمل،
وهي في الواقع ظاهرة تستلزم من الناقد الإلتفات،كما وأنها قابلة للتطوير في ذات الوقت،
سواء في طبعة الرواية الثانية،أوفي النتاجات المستقبلية أيضا..
وللأمانة تجدر بنا الإشارة الى أنّ الدعوة الى ضرورة الإهتمام بالشكل الروائي وضرورة تجديده في عموم القص العربي،جنباً إلى جنب مع الدعوة إلى تجديد الموضوعات والاحداث،كانت قد صدرت عن د. سلمان كاصد ،في كتابه المهم ( صنعة السرد)،الذي أشَّرَ فيه خللاً في السرود العربية المتأخرة ،يتجسد في التوجه الى أنماط موضوعاتية متشابهةحيث يقول مانصه:
(أعتقد أن الروائي العربي ومن خلال نماذج أتناولها في كتابي هذا-صنعة السرد-لايزال صانعاً غير مجترح لأشكال جديدة،إذ ظلت الرواية العربية التي تطرح الآن تقليدية،تعاقبية،
جلّ مايحاوله الروائي حين يتلاعب بشكلها أن يعتمد الإسترجاعات المبسطة،دون ان يبني هياكل معمارية جديدة، صادمة،تثير القارئ بشكلها الجديد)3.
هذه المطالبات التي ننحاز إليها لضرورتها، نجد أن كاتبنا جمال قيسي قد حقق الكثير منها خاصة في هذه الرواية بالذات،وتلك سمة تحسب له لكونها محاولة تجريبية لاتخلو من المغامرة،ولكنها كانت مغامرة ناجحة وعميقة التأثير.
وعلى سبيل المثال،لقد تخطى جمال قيسي الفصول والتبويبات الروائية المعتادة،
باتجاه تراتبية قصصية متراكبة متعالقة،بحيث تكون لكل محطة عتبة خاصة منفصلة ومتصلةفي آنٍ واحد.
من هنا نجد من الضروري وضعها بعناوينها الغريبة على عالم الرويَ المعتاد تحت أنظار القارىء الكريم،كما ولابد من الإشارة إلى إحساسنا بوجود نسمة قرآنية خفية مستلهمة في احدى المحطات من حيث التركيبة اللغوية،وتلك ضربة رائعة منه،
كما وتلمّسنا وجود صلة هاجسية بعتبات جرجي زيدان الداخلية في رواياته التاريخية،رغم الإختلاف الكبير في طبيعة الأحداث والموضوعة والأطاريح وعموم الإسلوب.فالحدث هناك تاريخاني وجداني مبسط،في حين يصب القيسي جلّ اهتمامه على المباحث التحليلية النفسانية والإجتماعية والفلسفية،وكأني بالمسافة بينهما تختزل الزمن الإبداعي بين البدايات التاريخية الاجتماعية عند زيدان إنموذجاً، والمعاصرة الروائية العنقودية الغارقة في أعماق الإنثروبولوجيا الحديثة عند القيسي.
علماً أنّ الكاتب قد ألغى أي نوع من أنواع الفهرسة التي يضعها بعض الكتاب في بداية أو نهاية الرواية،وعليه سنقوم بإدراجها هنا للإيضاح كما يأتي:
(الإهداء-مقتربات-السماء ذات الدخان(وهذا هو التناص الذي ذكرناه قبل قليل مع آية السماء ذات الحُبُك القرآنية*،
وفيها إشارة واضحة إلى أزمنة الحروب الاخيرة)-قبل أربع سنوات- فاضل بوستر -جلسةصباحية-إقتران الأقدار-إله نزق-إحكام الشرك-صك الحياة-فاضل السلفي-لقاء في منطقة نائية-ملامح سيرة-كتيبة الأورفلي ،وهي المحطة الأطول-ليلة صاخبة-صباح سعيد-فاضل الشيوعي( اللوري العجيب)-لقاء أخير).
هذه هي مجمل محطات الرواية يبثها الكاتب بشكل متعاقب وفق منهجية تُعنى بتركيز عالٍ بالتوزيع الفكري المجتمعي السياسي النفسي ،وفق رؤية حضارية تحليلية ،بعيداً عن الفهم او التوزيع الطبقي الإقتصادي المحض،إنما لايعني ذلك إغفال الفوارق الإقتصادية الهائلة بين افراد المجتمع كونها ستبرز هنا وهناك،ولكن من منطلق ثقافي أكثر عصرنة من الأفهام الطبقية المعتادة.
وهذا بالتحديد ما أردنا التنويه والإشارة الجديرة إليه..
أنْ نهبط بالفكر العقلي الفلسفي المجرد، والآيديولوجي المعقد، والتحليلي المعمق،نهبط بها جميعاً من أبراجها العاجية العالية إلى قاع الحياة بحيث نحيلها إلى كينونات حية حركية وفاعلة من خلال حلِّ مادتها الخام في كأس المشاعر الإنسانية العامة ،حتى باتت أفعالاً بشريةإعتيادية،
يمكن أن يفهمها أو يتواصل معها الإنسان بجميع شرائحه،أو حتى طبقات وعيه،بشكل بالغ السلاسة،بحثاً عن أعلى مستويات التواصل والإلتحام،بحكم كون نصوص هذا الكاتب بنية حمل تحتشد بمُرَكَّبٍ حيوي من الفكر والنفس والمجتمع .
وإذا كان كاتبنا قد أجرى مسحاً سوسيولوجياً للبيئة البغدادية خصوصا والعراقية عموما في روايته الأولى( نساء المجرة)،فهو هنا ينطلق منها إلى منحىً روائي
أكثر توغّلاً وعمقاً، وأكثر اشتمالاً على مجسات الشعور الإنساني بكل خيباته وإشراقاته وأحلامه وآماله وأحزانه وأفراحه، في إطار من الحدث السردي المبطن باعمق احوال الفكر الإنساني المعاصر.
………………………
1-صنعة الرواية،بيرسي لوبوك،ص15 المركز العربي للطباعة والنشر ،بيروت.
2-مختار الصحاح،دار الرسالة ،الكويت، ص506.
3-صنعة السرد ،
ص5،د.سلمان كاصد،مطبعة الرّوشم،شارع المتنبي،إصدارات إتحاد الأدباء والكتاب في البصرة.
*إنليل: إله العالم السفلي في ملحمة جلجامش.
*بغداد الأزل بين الجدّوالهزل:
مسرحية عراقية معاصرة،إعداد وإخراج قاسم محمد.
*آية7 ،سورة الذاريات.
…..
الموسوي

(تجنيس القصيدة والنص النثري)بقلم الاديب علاء المرقب

    (تجنيس القصيدة والنص النثري)

بقلم الاديب علاء المرقب



عرف الشعر العرب على أنه قصائد يعتمد بناؤها الوزن والقافية اللذان وضع قواعدهما فيما بعد الخليل بن أحمد الفراهيدي, بما يسمى بحور الشعر العربي, ليختم الأخفش هذه القوانين الأربعة عشر ببحر أطلق عليه المحدث, ولم يتم التعديل على هذا القانون العروضي حتى هذه الساعة, وأنا أراه من أصعب القوانين الوضعية, لكون حساباته فنية لاعلمية, ومع ذلك فقد أنشأها بشكل علمي رصين, عدم التعرض له أو التغيير به يثبت قوة البنية التي اعتمدها الفراهيدي, لذا صمدت أمام التطورات الحياتية ولم تتغير رغم تغير الكثير من القوانين الفيزيائية أو الرياضية. أما النثر فهو المسمى الذي يطلق على جنس أدبي يشتمل عدداً من المفاتيح كالخطابة والمقالة والنصوص التعليمية وغيرها, ولذا فهو لم يبن فنياً على قواعد محددة سلفاً, وحتى منهجيته لاتعتمد إلا على مسميات متداخلة المضمون, ولذا تبقى هنالك فوارق واضحة الأسس مابينه وبين جنس الشعر. ما أراه أن إطلاق عناوين شعرية على عدد من النصوص ليس سوى تقريباً معنوياً أو فنياً , ينتفي بانتفاء القواعد الثابتة, فمطاطية محتوى الجنس النثري تتيح له التقارب من أجناس الأدب الأخرى لا التسمّي بها, لهذا لم نجد إلى الآن تسمية ثابتة للنصوص التي تحتوي نفساً شعرياً أو مايسمى بالإيقاع الداخلي, فيطلق عليها مجازاً ( قصيدة النثر, الشعر النثري, ....) وغيرها من المصطلحات كونها تفتقد الهوية الحقيقية فتعتمد الذائقة الشخصية لتسميتها وهذا مايجعلها عرضة الأهواء, لذا ستبقى محل جدل قائم لايتم حسمه إلّا بقاعدة ثابتة وذلك أقرب للمستحيل, كون النص النثري لايخضع للقواعد أصلاً, مما يجعله مثار جدل بلا حسم, خلافاً للشعر العمودي المتسلح بجذور لم يطرأ عليه تغيير منذ قرون, بل حتى محاولات التجديد بقيت حبيسة قوانينه العلمية ولم تخرج من جلبابه كما فعل السياب والبياتي والملائكة. من هذا المنطلق أرى ان النص النثري سيبقى نثري التجنيس, تعتمد مقبولية نصوصه على قوة وجمالية التأثير ويبقى مكمن الابداع ضمن هذا الحدث(النص) ويستمر في مساره المتعارف عليه فنياً وتاريخياً, بدل محاولات إضفاء الشرعية الشعرية عليه, والتي ستبقى دون مقياس, معتمدة على أهواء أو قرارات المتلقي سماعاً أو قراءة, وهذا محل جدل اخر بأبواب مشرعة.

ملاحقة بَصًرية لخزائن بلورات الضوء قراءة لمرئيات استثنائية • خليل الطيار الجزء الخامس " التجريد والاكتساء البَصًري " ثالثا سيِمِياء القدم و الماء واليابسة (مغادرة الماء للغرق برا) مرئيتان لطارق العساف وسعد سالم "نحن لا نريد الشكل وإنما الوظيفة" بول كيلي

 ملاحقة بَصًرية لخزائن بلورات الضوء

قراءة لمرئيات استثنائية
• خليل الطيار
الجزء الخامس
" التجريد والاكتساء البَصًري "
ثالثا
سيِمِياء القدم و الماء واليابسة
(مغادرة الماء للغرق برا)
مرئيتان لطارق العساف وسعد سالم
"نحن لا نريد الشكل وإنما الوظيفة" بول كيلي
رمز الافتتاح
يدرس علم (السيميوطقيا) ومرادفه علم (السيميولوجيا) * انساق الرموز والإشارات والأيقونات وفق نظم تأويلية، يتعقبون دلالاتها ومدلولاتها في مواطن النصوص السردية، سواء المكتوبة منها، أو تلك التي تظهر مشخصة بصريا. فقد ظهرت العلامات "السيميائية" سواء المنطوقة أو المرئية او المصنعة، لتدل عن معنى محدد. فمذ ان بدأ الإنسان الأول يفكر بكيفية التخاطب مع الآخر، ولدت حاجته لابتكار وسيلة تواصلية، كانت أدواتها الأولى الأصوات والإشارة بالحركة، ورسم الرموز، والإيحاء بأشكال الحيوانات. أو التدليل عن الوقت بأيقونات الطبيعة، الشمس- القمر- النجوم) كمحمولات لمعان يراد الإفصاح عنها في سياق متصل. وعد ذلك أول مؤشر لصيرورة اللغة، وجدت آثارها في الرقم والألواح الطينية، ومدونة بالكتابات السومرية (المسمارية) والمصرية (الهيروغليفية) والصينية القديمة (التشو والهان) كأقدم لغات التاريخ البشري.
"السِيمِياء" لم تفارق متون الفنون "التشكيلية" بعموم ألوانها، وشكل وجودها مقاربة "علاماتية" فاعلة في "الفوتوغرافيا"، كأحد أجناس السرديات، تعتمد لغتها على مجموعة عناصر دلالية في سطوحها، سواء ظهرت بصورة مباشرة أو تماهت مبطنة في محمولات نصوصها.
هذه المقدمة نسوقها للحديث عن نصين بَصًريين اعتمد خطابهما على توظيف دلالة العلامات وتحديدا، ثلاثية القدم- الماء- اليابسة. نعمل في هذا الجزء من دراستنا على إيجاد مقاربة تحليلية لإيضاح الكيفيات التي اشتغل عليهما "طارق العساف و" سعد سالم "في توظيف رمزية هذه العلامات في مرئيتين احتوت جمالياتهما على الكثير من القيم التأويلية، نحاول تفكيك مداليلها المشتقة من متونهما البَصًرية.
دالة الأقدم ومدلولها
اكتسبت "الأقدام" تجليا ملفتا في الفكر الدلالي، كشاهد قوي وصريح لا يقبل الدحض عن وجود الحياة، وشغلت علامتها مساحة في النصوص والتحليلات الأدبية، واعتمدت كمصدر قوي في علم التحليل الجنائي، وعلم التنقيب الآثاري. فمذ أن مشت الكائنات على السواء تركت آثارها على الأرض داالة عن وجودها، ومبرهنة عن اتجاهات خطواتها، وكاشفة عن عمرها ووزنها وجنسها.
وتجلت علامة "الأقدام" كأحفورة تاريخية، ظهر نموذجها الأمثل في قدمي نبينا "إبراهيم" عليه السلام، تدليلا لفاعلية بنائه الكعبة المشرفة، وإشارة لدعوته التوحيدية، ليستدل عباديا بآثار أقدامه في "مقام إبراهيم"، كأحد أركان العلامات الشاخصة بَصًريا في شعيرة الحج...
واتخذت رمزية "القدم" تشهيدا دقيقا على قدرة الإنسان لقهر المستحيل، وتمكنه من اقتحام الفضاء الخارجي، لتختزل بها كاميرا "هازلبلاد" كل قصة هذا المنجز، عندما التقطت أثر قدم أول رائد فضاء نزل على سطح القمر، وترسلها إلى الأرض لتصبح أقوى أيقونة مرئية تعبيرا عن تقدم الإنسان المعاصر. وما تزال آثار "الأقدام" تشكل علامة "سيميائية" تختزل وجود الإنسان وكاشفة عن فاعلياته وإن غاب عن المكان. وبناء على ما تقدم لنتساءل: كيف تعاطى "طارق العساف وسعد سالم" مع علامة "القدم"؟ وما هي الدلالات التي تركته تأويلات نصوصهما السردية؟ هذا ما نسعى للإجابة والاستدلال عنه.
اولا :
(الغرق براً، مرئية لطارق العساف)
الماء واليابسة، الموت والحياة
يربط الفيلسوف "تشارلز بيرس" تأويلاته "السيميائية" بجميع مظاهر الكون، ويتخذها "أداة تقرأ بها كل مظاهر السلوك الإنساني من انفعالات وطقوس اجتماعية، وصولا عند الأنساق الأيديولوجية الكبرى"(1). يضعنا التنظير "البيرسي" للعلامة أمام منحنى تأويلي استند عليه أولا "طارق العساف" في مرئيته وأنشأ مكوناتها الجمالية على نسق علاماتي، متوقفا عند مشهد بَصًري "سيميائي" بامتياز، قسم توازنه في ثلاثة مستويات، وضع في مقدمته آثارا لأقدام إنسان خرجت للتو من الماء متجهة نحو اليابسة. وترك في الوسط كتلة مائية لشاطئ ما زال يحتفظ بامتداد آثر الأقدام التي انطلقت منه. وثبت في أعلى مرئياته حيزاً صغيراً لسماء ملبدة توشك أن تفصح عن فعل ما!
مخاض العلامات ومداليلها
يغلب طابع "التشاؤم" على مناخ مرئية "طارق العساف" تمثل في قصدية تسلسل مخاضات مثلثها السيميائي؛ مخاض بمساحة كبيرة لعلامة الأرض، التي يبست وتشققت لتصبح دالة لدفن الحياة. ومخاض لعلامة الماء كدالة لابتعاث الحياة. ومخاض السماء التي تشكلت دالة حمولتها بوجه أسود مكفهر ظل يحتفظ بمدلول مخبوء، لا يفصح عن إرادة هطول أمطار تزيل ملوحة الأرض لتبعث فيها حياة مخضرة من جديد. ولا ينبئ عن حبس للغيث، قد يتسبب بقحط ويبِسٍ للأرض.
هذه العلائق "السيميائية" الثلاث، بدأ "العساف" صريحاً في تحديد موقفه المتشائم من نتائج مخاضاتها، وبرهن على ذلك من خلال مخالفة قواعد توازنات التكوين في كادره البَصًري ليركز اهتمامه على إعطائنا دلالة قصدية لأسباب هذا التفاوت في نسب توزيع حجوم علاماته الثلاث. ابتدأها من الأعلى للأسفل ليقودنا تدريجيا نحو خيار القناعة بنتيجة مدلولات سرديته، فعمل على حصر مخاض سمائه بحيز مقتضب، بالكاد تستطيع التعبير فيه عن هوية حملها! وبمخالفة أخرى، ترك لعنصر الماء مساحة وسطية أظهرها بلون أزرق، مانع عنها شرط فيزيائية انعكاس لون السماء السوداء عليها! ليدعها تحتفظ برغبة منح الإنسان أملاً للبقاء في الحياة، طالما أبقى أثراً ممتداً يطهر أقدامه فيها!
هذا الانحدار المتدرج، تقصده "طارق العساف" لإيصالنا إلى تقبل مخاض مدلول مساحة أرضه اليابسة، فترك حجمها وتأثيرها اللوني القاني يبسطان نفوذاً قويا، لجذبنا وتوقفنا عند علامتها. ملوحا بأدلجة مصير إنسانه الغائب، عندما قرر إخراج أقدامه من مساحة الماء، (علامة الحياة) متجها نحو مساحة ارض يابسة متشققة، (علامة الموت) وليس العكس! كقرار منطقي، لا بد ان نجر فيه أقدامنا نحو مساحة الماء لنرتمس فيه تطهر من عطش الأرض المجدبة. لكن هذه المغايرة في قصدية مفهوم علامته، أراد بها "طارق العساف" التدليل على حتمية نتائج قرار خروج إنسانه من دالة الماء نحو دالة اليابسة ليذهب إلى مصير مجهول تقل فيه تدريجيا فرص النجاة! وكي لا يعطي أي فرصة لانتزاع مدلول اخر، استعان بعنوان دلالي مباشر لمرئيته هو (الغرق في البر)! ليربطنا نهائياً بمعنى صريح لا يقبل أي تأويلٍ آخر لمداليل علاماته الثلاث الفاعلة.
ثانيا :
(أحفورة رملية لسعد سالم)
تحجر بلل الأقدام
بالعودة إلى المفاهيم " البيرسية " تعد العلامات "بمثابة نسيج من الأدلة التي تحيل على أدلة أخرى، بطريقة تراجعية غير منتهية وتقوم على المؤول كأساس محوري تنبني عليها العلامة، وهو لا يقصد منه الدلالة البسيطة، بل هو لحظة تفكير تنطلق من مقدمات منطقية، وتصبح الدلالة في حاجة دائمة إلى الفهم بطريقة دلالية" *(2) من هذا المفهوم سنحاول تعقب الأثر الدلالي وتأويله في واحدة من أكثر الأعمال التجريدية التي حققها المصور "سعد سالم" وبيان كيفية توظيف سمتها "سيميائيا" باعتماد أثر القدم كأساس محوري لبناء متنها. لكن من دون اكتفائه بتشخيص مدلولاتها المجردة، بل اتخاذها مقدمة للتلقي بطريقة "تراجعية" لمعرفة أسباب تعقب الأثر، واستيضاح المؤشرات العامة المحيطة بتشكله بهذه الكيفية، والدوافع النفسية الخاصة التي جالت في لحظة انطلاق تفكير المصور للتماهي مع علامتها مرئياً.
الدليل لا التدليل
بالعودة إلى مفاهيم السيمولوجيين "الذين يعتبرون الدليل مجرد أداة تواصلية تؤدي وظيفة التبليغ وتحمل قصداً تواصليا. وهذا القصد التواصلي حاضر في الأنساق اللغوية وغير اللغوية*(3). "سعد سالم" في مرئيته لم يسع إلى إعطاء دليل (القدم) نسق أيديولوجي لمخاض علامتها، فهو لم يرغب بالتدليل عليه بدليل آخر، قد يشكل ثنائية تأويلية يعقد مسار فهم مغزاها، كما فعل" طارق العساف "في مرئيته عندما قام باستحضار مجموعة علامات تشكلت في نسق علائقي "سيميائي" أفضت إلى تأويل واضح لسياقات مدلولاتها وهي مجتمعة. بينما اكتفى "سعد سالم" بتسجيل شكل علامة مجردة كأداة تبليغ، قبل أن يتفاعل معها مرئيا كأثرٍ دلالي، يحمل قصداً تواصلياً مع إنسان غاب وترك سيرة مجهولة على أرض رملية ميتة رغم اقترابها من حافة الماء!". كما تعامل مع علامة (قدمه) وفق رؤية "رولان بارت" في كتابه "عناصر السيميولوجيا" والتي خالف فيها مرادفيه "السيميوطقيين" باعتبار أية علامة هي "دال" بَصًري يفضي تشكله إلى إنتاج معنى لغوي يدل على مدلول. وأرادنا: أن نبحث معه عن تدليل لدالته، فهو لم يشغله التبليغ المباشر لعلامته كقدم، بقدر اهتمامه بوظيفة العلامة كمحفز للتدليل عن معنى مختفٍ، يترك للمتلقي اكتشاف مداليله الخاصة فيها، ولا يقصر تأويله في معنى واحد، كما تعمل العلامة المرورية مثلا.
الانعكاس النفسي للعلامة
منذ أن وضعت الحرب أوزارها، بقيت العدسة " الموصلية " يكتنفها هاجس تمثيل فكرة (الغياب) وهي فكرة "فرويدية" شكلت انعكاساً نفسياً في نتاج المصورين "الموصليين"، وتبلورت عندهم في هواجس غياب علامة الإنسان والمكان والطبيعة، وغياب للحياة والأمان والحب والحرية. هذه "الغيابات" بدأت تظهر هواجسها في أغلب أعمالهم المنتجة ما بعد سنوات الحرب، كسمة شاخصة بوضوح كما في سرديات بَصًرية لأنور درويش، انعكست فيها علامة "الكراسي" كعلامة غياب لجالسها، وغياب الحياة من البيوت المهدمة والمهجورة. واتضحت في أعمال تعبيرية مميزة "لمحمد الجليلي" تحسس فيها افتقار أمكنة مدينته لإنسانها المغيب، وارتحاله بعيدا. كما برزت في أعمال د مصيب محمد، التي أظهر فيها معالم موحشة لمدينته وعزلة طبيعتها، وتعقب فيها علامات تركها إنسانه الغائب على جدران وبطون البيوت المهجورة. كما ظل هذا الهاجس يتضح في أعمال "سعد سالم" بغياب علامات المدينة التاريخية وروحها (المنائر والحمائم) ".
الاقتران الشرطي للعلامة
ما يميز سمة "القدم" في مرئية "سعد سالم" كعلامة لغياب الإنسان، هو تقصده عدم التماهي معها مرئيا كدالة صريحة، بل اختار قاعدة "بافلوف" للاقتران الشرطي عندما استخدم مؤشر التغريب لقدمه كدال لأحفورة غامضة، بالكاد يستدل عن جنسها، وتركها تكتسب معالم محيطها الرملي وتتجذر فيه، ليسيل لعابنا عن سؤال صحابها الغائب! كما لم يسمح لظهور علامة أخرى قرينة لها، قد تؤطر مدلول قدمه. وكل ما حققه ونجح فيه هو انتاج دالة تحفيزية تمنح متلقيها فرصة الاقتران بها لاستذكار من غاب عن حياته، وترك أثره ذكرى متجذرة في الأرض، لن تزول أو تمحى وإن اغتسلت بمياه البحر!.
كما عمد "سعد سالم" لتعزيز اقتران مرئيته الشرطية بتركيزه على اختيار علامة ساكنة لقدم مفردة، لم يعقب تنقلاتها بآثار خطوات أخرى، قد تكشف سلوكها واتجاهها، كما فعل زميله "طارق العساف" الذي تعقب في مرئيته خطوات آثار أقدام إنسانه وهي تخرج من الماء نحو اليابسة. فما أراده "سعد سالم" هو التسبب بزيادة تحفيز اقتران متلقيه بعلامته، ويفعل ردة فعله لإثارة سؤاله الافتراضي عنها؛ قدم من هذه التي تركت يتيمة الخطوة بلا تعقب؟ فيأتي الجواب مشروطا بتفريغ ذاتي: هي حتما أقدام من غاب ولم يعد، وهي قدم الإنسان في أي زمان ومكان (رجلاً كان أم امرأة، شاباً كان أم كهلاً). ويقترن أيضا بدلالتها المتمثلة بأنفسنا وأهلينا وأحبائنا، الذين غابوا وارتحلوا بلا اتجاه، ضيعتهم فواجع الحروب واغتسلوا بمياه شواطئ أوطانهم، غسلة ارتحالهم الأخير وتركوا أثارهم عليها مجهولة بلا هوية، لتصبح من بعدهم دلالة اقتران لاستذكار تواريخ مؤلمة، تقول (إنما الناس سطور كتبت... لكن بماء)! وهي العبارة التي اختارها "سعد سالم" بدلالة لغوية عززت مدلول علامته المثبتة على أرض رملية لم يطمرها بلل الأزمنة...
حتمية رحلة الأقدام
"سيمياء" بصرية أبدع تشكيل دوالها ومدلولاتها "مرئيان كبيران، هما "طارق العساف وسعد سالم" وقدما عملين " سيميائيين "حملا رسائل واقعية ومبطنة تحيط بحتميات مجهولة لمصايرنا، عندما ندر ظهورنا بعيداً عن إرادة السماء والحياة نخالف مشيئتهما، ونعبث بمساراتهما الطبيعية، عندما نقرر إخراج أقدامنا من مياه شواطئ حياتنا المتبقية، نترك عند حافاتها آثارنا بلا هويات، فتكون النتيجة غيابات قسرية نتوه فيها بأرض يبِسٍ، تتشقق وتترمل من أثر ذنوبنا، لندفن فيها بلا شواهد.
المفاهيم
* إذا كان مصطلح (السيميولوجيا) Sémiologie يرتبط بتنظير العلماء الفرنسيين وبكل ما هو نظري بفلسفة الرموز وعلم العلامات والأشكال في صيغتها التصورية العامة، فإن اصطلاح (السيميوطيقا) Sémiotique ارتبط بتنظيرات الفلاسفة الأمريكان وحصرها العلماء وفي مقدمتهم دي سوسير وتشارلس بيرس بما هو نصي وتطبيقي وتحليلي. ومن هنا يمكن الحديث عن سيميوطيقا المسرح وسيميوطيقا الشعر وسيميوطيقا السينما. وعندما نريد الحديث عن العلامات علميا أو نظريا أو تصوريا نستخدم كلمة السيميولوجيا Sémiologie. ومن أبرز منظريها رولان بارت وامبرتو ايكو (تعاريف من ويكيبيديا).
المراجع
*1 (ذرائعيةُ تشارلز ساندرس بيرس التأويلية: بحث في العلامة و أنماط إنتاج المعنى سيميائيا) الكاتب "الوافي سامي" - مجلة قراءات. مجلد 11- عدد ا- سنة 2019
*2 (العلامة والتأويل عند بيرس) المؤلف/ كريمة بالخامسة / مجلة سيميائيات – مجلد9- العدد1 سنة 2019.
*3 الاتجاهات السيميوطيقية (التيارات والمدارس السيميوطيقية في الثقافة الغربية) الدكتور جميل حمداوي

المكنون في (مازلت اسمع الصدى).. مطالعة بقلم الاديبة نائلة طاهر الفاضلة ( تونس).. وخاطرةٌ بقلم غازي احمد ابوطبيخ الموسوي


المكنون في (مازلت اسمع الصدى)..
مطالعة بقلم الاديبة نائلة طاهر الفاضلة ( تونس)..
وخاطرةٌ بقلم
الموسوي

النص:

مازلتُ
أسمعُ الصدى:
هكذا…
بعضُ الأحجارِ
ناطقةٌ
أكثرَ من المحسوبينَ على…
جدرانُ مدينتِنا
القديمةُ مثلاً
تبوحُ بأسرارِ الماوراءِ
كلّما جنَ الليلُ
ونامَ الرّقيبُ
أسمعُها بروحي
من الجهة النازفة
فبيني وبينها
طرقٌ شتّى للإصغاءِ
تسمعني وأسمعها ،
طرقٌ لا يعرفُها سوى الحالمين،
مسالكُ مسكونةٌ
بالأمالِ الصاديةِ
والأرواحِ ذواتِ الفوانيسِ
ذواتِ الوشيجةِ
معَ ديوجين
او البهلول
بينا لا شمسَ
في نهاراتِ القلقِ
والأماني
معقودةٌ ب"فردوسِها المفقود"،
هي تتدلّى
كالعنقودِ
بانتظارِ لحظةٍ حالمةٍ
بيدٍ بيضاءَ صادقةٍ
مضيئةٍ
خاطفةٍ كالبرقَِ الأيمنِ
والعنقودُ
في موسمِ القطافِ الآنَ
والهواجسُ
تتبركنُ رويداً
في أفئدةِ الرعاةِ
أعني الرعاةَ المغنين
توائمُ ديموزي النبيلُ،
الذينَ يجيدون العزفَ
على أوتارِ الكَلِمِ
بنبراتِ الحبِّ
وشهقاتِ الحنين!!..
ألرّدى حبلُهم المتينُ
إلى الخلود!!..
وها أنا أسمعُ الصدى
في حفيفِ الأشجارِ
من شفاهِ السّواقي
من حمحماتِ الليالي العميقةِ
وتأوّهاتِ الحمامِ المتخفّي
واليمامِ الزائرِ للشبابيكِ المفتوحةِ
هكذا..
أهتف كلّما كلكلَ السكونُ:
-يامدينتي العتيدة،
يا أمَّ البساتينِ الفقيدةِ
ويا حسرةَ روحي
المخنوقةَ
سأظلُّ "بانتظارِ غودو"!!
آمالي الحبيسةُ
ستبقى سادرةً
أنْ يسطعَ المأمولُ
في سمائِكِ
من جديدٍ
شمساً
وإنشودةً
وزهرةَ لوتس...
أنْ تعزفَ أناملي
على سعفاتِ
نخلةِ بيتِنا القديم
بيتِنا المثخنِ
بذكرياتِ الوجعِ القاني
أغنيةً
تُزهرُ على أنغامها
جراحُ الأرضِ
من بين حباتِ
الترابِ المضمّخِ
بدموعِ الثكالى
ورداً
وأطفالاً
وعصافير!!....
……………...
.............................................
القراءة:
"""""""""
للمكان في القصيدة خصوصية هامة لا تعتمد بالضرورة على تحديده ولكنه يبرز من خلال المعنى ،و هو يتجلى تدريجيا عبر تواتر الصور الشعرية وتصاعد إيقاعها ،خاصة اذا ما كانت للشاعر علاقة وشائجية عميقة معه ،تصاعد الايقاع هو ميزة هامة بالنص إذ تنبئنا موسيقاه بما هو ضاج في عاطفة الشاعر ولعل العاطفة هي السمة الغالبة في النص يكاد معها يغيب العقل ، فنرى الشاعر كتلة مشاعر محترقة صادحة مذهولة ولكنها مع كل ذلك متحركة ،الضامن لتلك الحركية ايقاع غريب سري يتسارع كلما ضاق المكان أو اتسع أوكلما تأزمت علاقة الشاعر به وكأنك إزاء هارموني تصنعه نبضات القلب التي تتحكم في الأنفاس والشهقات وبالتالي في الوقفات. يمكن ان نسميه الايقاع "المتوتر" أو كما قال عنه الشاعر و الباحث المغاربي فرج العربي الايقاع الغامض هنا يستغني الشاعر عن الايقاع الخارجي و يوظف الايقاع الداخلي الذي يشكل القصيدة فتتحول كما يقول ميتشونيك الى "دال جوهري".
المدلول الجوهري الايقاعي استخدم جيدا لاستلاب وتملك ذهن القارئ فحين قلنا إن النص خال من توصيف تفاعلات العقل لم نكن نعني ان لا رؤية فكرية به ،وانما كان اتجاهنا يسير نحو لفت الإنتباه إلى ما تحويه القصيدة من إشارات شبيهة بطرائق الصوفية للوصول إلى الحقيقة .تطلق الصوفية على ادراك العقل علما (العالم )وادراك القلب معرفة وذوقا (العارف ) لذلك عمد الشاعر إلى خلق مدمج بينهما تصبح بمقتضاه القصيدة حاملة لوجهتين متجانستين ، وجهة معرفية وأخرى علمية ،او رحلة بحث عن مُجسد حقيقي لما ينطق به الصمت ويردده الحجر ليستقر في القلب أمل صادٍ متعطش و فكرة محرضة على السعي نحو الرواء .
بعض الأحجار
ناطقة
مثل جدران مدينتنا
القديمة
اسمعها بالروح
من الجهة النازفة
فبيني وبينها
طريق مسكونة
بالأمال الصادية
هذا ما جاد به طريق القلب من سبل تلتقي مع طريق العقل حين يدخلنا الشاعر دائرة ضوئية شبيهة بفانوس ديوجين ذاك السراج الذي يمسكه الفيلسوف نهارا بحثا عن حقيقة ما .ولجوء الشاعر إلى استعارة رمزية هي سراج ديوجين المستعين بالضوء نهارا في بحثه عن إنسان ما لا يراه بين كل الناس التي يحيا معهم ، فيه مفارقة مقصودة تؤكد أن القصيدة كتبت على النحو العرفاني الممتلك صاحبه للمعرفة ببواطن الأمور وحتى شخصية ديوجين نفسها لها دلالة مشتركة مع المتصوف بِشْرُ بِن الحَارِث الحَافِي فكلاهما كان يسعى حافيا في الأرض دون نعل في رحلة بحث لا تنتهي.
لذلك تضيق دائرة المعنى لتصبح في مجملها دفقا روحيا يتسرب إلى عقل القارئ من خلال التحكم في ردات فعله كلما تدرج المعنى نحو الاقناع .فديوجين كان يبحث عن رجل نبيل يسطع بالحقيقة ،والشاعر كان ينتظر يدا تأتي بالخلاص لمدينة تنطق أحجارها و تحترق مدنها وزياتينها في لحظات ذهول من ساكنيها ،ذهول قد يتمناه المرء لحظة حلم صاخب لا يتحول ابدا الى كابوس .وككل شاعر أصر شاعرنا على أن تكون ذاكرته ملتحمة بإرادته فجعل من ذاته الخاصة السراج المنتظر .وحين تمنى أن يعلق هو على سماء مدينته لم يكن يقصد سوى الإشارة إلى أن ما حواه عقله المستنير وما جعل روحه تسمو كفيل بأن يعم بعده السلام ،لكننا لا نعرف ان كان ذلك السلام روحيا أو ماديا أم هو كما اراده الشاعر مزيجا من الاثنين وقد يتوقف ذاك على مدى الٱستجابة للرؤية .فلكل شاعر استشرافي رؤاه الخاصة ولكل قصيدة قدر لا يحدد من التورية والتغيير خاصة مع القصائد التي تبلغ فيها مستويات التحديث أقصاها .

الخميس، 3 أغسطس 2023

مقالة / وفرة الأقنعة والترميز العددي واللوني / قراءة سيمائية في ديوان (لا نزيف لليواقيت) للشاعر ناصر الأسدي* مقالة نشرت في صحيفة المثقف (العدد :2192 الاربعاء 25/ 07 / 2012) بقلم / د. مرتضى الشاوي

 مقالة / وفرة الأقنعة والترميز العددي واللوني / قراءة سيمائية في ديوان (لا نزيف لليواقيت) للشاعر ناصر الأسدي* مقالة نشرت في صحيفةالمثقف (العدد :2192 الاربعاء 25/ 07 / 2012)


مدخل :

تهدفُ الدراسة إلى إبراز بعض الجوانب السيمائية الطارئة على حداثة الشعر المعاصر ولاسيما في جنس قصيدة النثر السردية، متخذة من ديوان (لا نزيف لليواقيت) أنموذجاً بصرياً عراقياً للتطبيق .
وقد لاح نجم الشاعر والقاص ناصر الأسدي في سماء الإبداع الشعري والقصصي، وفي مجال الخطاب النقدي الحداثوي ، فضلاً عن كونه باحثاً أكاديمياً وتدريسياً في جامعة البصرة .
تجلّت الدراسة عن ثلاثة محاور رئيسة يقتفي النص الشعري أثرها بباقة من الصور المعرفية المتعددة، وقد ارتأيت تلك المحاور الثلاثة من (وفرة الأقنعة والترميز وفاعلية الأعداد وجاذبية الألوان) عند تجربة الشاعر ناصر الأسدي في باكورة أعماله الشعرية الأولى المطبوعة (لا نزيف لليواقيت)، لما لها من أهمية فنية وبراعة أسلوبية في توظيف الشخوص رمزياً، وأيضاً لما لها من وقع تاريخي وفني وموضوعي، فضلاً عن الحراك العددي في جذب انتباه المتلقي وشده في توظيف الشاعر نفسه لا لغاية العدد نفسه، بل لفاعلية تلك الأعداد في التصوير الشعري في مجال القصيدة السردية الحداثوية .
ويضاف إلى ذلك مدى استعماله التصوير اللوني متخذاً من جاذبية الألوان في طرح الأبعاد النفسية القائمة الصورة الشعرية برتابتها، وليس قاصدا ًاللون نفسه بل اعتباطاً، لتكمل الصورة الشعرية بوصفها لوحة فنية متعدد الجوانب من تراكيب لغوية وأبعاد اجتماعية وزخارف لونية وظواهر أسلوبية متنوعة .
وفرة الأقنعة والترميز:
تبدو ظاهرة التقنيع والترميز جلية في شعر ناصر الأسدي في باكورة أعماله الشعرية، وهي حالة فريدة واستثنائية في استدعاء الشخصيات العائدة إلى حضارات قديمة مستفيداً من البعد الثقافي الخزين، فمرة يستدعي شخصية تراثية كلياً، ومرة أخرى يستدعي الشخصية جزئياً كما ورد في قصيدة " صحو العقيق":
" وفي الكعبةِ أبوابٌ وأستار
وفي الركن صخرٌ صلدٌ ومعاول
لأرتقى .
و أبرهة
والفيل
في عامه
نفقت أفياله " (ص 29)
وربما يستدعي الشخصية بسماتها وأفعالها ومنظوماتها القيمية والفكرية، كما أشار إلى " وليد الكعبة " في القصيدة نفسها:
" ولا شيء يحرك الصخر موضع
غير المتسامي
في علوه علي .
إذ جاءها المخاض
ولم يكن غير صحو العقيق
وفي الحجر القدسي
كيف يكن هذا النفوذ ؟
أرأيت كيف تنفذ من حنايا الحجر الأصم أرواح وأجساد ؟
أم كيف زحزح الحجر القبول ؟
أم كيف تذعن للوليد حجارة من الأصم ؟ " (ص 30)
لكنّ الشخصية نفسها تعاد مرة أخرى في رمزية ثلاثية (الإمام علي (ع)، وسيف ابن ملجم، وقطام)، لتشكل نهاية مأساوية في تاريخ الأمة الإسلامية، وهي مقتل الإمام علي بن أبي طالب (علي السلام)، لقد استفاد الشاعر من الأبعاد الفكرية والقيمية في نقل تركيبة المجتمع الإسلامي آنذاك، وهو يتآمر على رمز من رمز الأمة كونه أخ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السراء والضراء وأبا سبطيه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وخليفته من بعده وكيف تطاولت الأيادي لا من أجل ملك زائل بل اشتراك بين حسد وحقد في انهيار الكيان الإسلامي وضربه من الصميم، كما أشار إلى تلك الثلاثية في قصيدة (الرهان الأخير):
" خلا المسجد
وغير عليّ لم يكن !!
وغير نائم على الوجه !!!
يخفي سيفه المسموم
هو ذاك الشقي مهر قطام
سيف،
وجارية،
وقتل عليّ " (ص 23)
ويستدعي الشاعر أكثر من شخصية تراثية في نص واحد، ليمزج فيما بينها الأبعاد النفسية والاجتماعية، وهو يشير إلى شخصيات تراثية لحضارات قديمة قبل الإسلام تمتدّ في عمق التاريخ، كما أشار في قصيدة (مراثي السكون):
" والريح تسرق المسير
وتشرب الأعنة والخيول
وحدها
" عشتار " إذ تكون
وتموز تسفح البقا
وتموز قربان حقي
وهابيل واهب الجمال
وأجمل الخراف قربان قابيل
قابيل يقتل الحياة
وامرأة في أعماقنا
تندب الخطوب
تلطم الصدر المعبأ بالسواد "(ص 84)
وهو في هذا النص يمازج مقاربة ومقارنة بين شخصيات مؤمنة وأخرى غير مؤمنة وبين شخصيات تراثية داعية للحس الإنساني في أصالتها للخطب والنماء .
بلا شك أنّه يستفيد في رحلته في الحياة وتجربته الاجتماعية، إذ يستذكر تاريخ أبيه، ليمضي في معادلة أقنعة تراثية، كأنّه سندباد الأقاليم وهي ترنيمة يستوحي منها تراثه من أجل أن يفخر بالتراث الأصيل نفسه لغرض المدح والفخر كما في قصيدة (أنا وأبي):
" مثل أبي أغدو بمعولي
وكلّ الصخور الأرض
تعرف غايتي أحارب العدى
أحطم القنا لكنني أعيش في جلبابه
.....
أنا الفتى
ودائماً أقول
إنّي أنا ذلك الفتى
أسبق المدى
أعشق النجوم والثريا والثرى
أنا السندباد في عصره
أغامرُ في البحار "(ص: 77 – 79)
مجازية فاعلية الأعداد:
قد يأتي العدد في النص الشعري في نص ما بوصفه المبهم لدى المتلقي لكن يأتي، ليرفع الغموض ويشتمل على أبعاد مجازية بيانية كان هذا من نصيب قصيدة النثر السردية، وفي هذه الفعل أنّ الشاعر الحداثوي يعمد إلى تخصيب نصه الشعري بمخصبات فنية تثري الدلالة، وتمنح قدراً في كشف الغامض منه في المستوى الفكري والموضوعي، ومن هذا نشعر بنزعة الشاعر إلى التفوق حتى في المجال الحسابي بتقنية الأعداد الرياضية لمجازية خاصة تخفي وراءها النفس الكنائي، إذ تتجلى تلك الجدلية في ضوء ما يميز العدد الفرادي به من تلك العلاقة الفريدة، جاء في قصيدة (الرسم بالكلمات) قوله:
" فكلُّ لنا يوماً ملاقيينا
وصوب الكون
نسعى فرادى
كما جئنا صغاراً وعميانا " (ص
😎
لأنّه الأفضل في الاختيار من حيث نهاية المفاجئة التي ينتظرها الإنسان بعد رحيله تنم عن فلسفة كونية، ولأنه قابل على التكرار إذا استدعي ذلك، كما نصّ في هدفه السامي مثلما ورد في قصيدة (الرهان الأخير):
" من أجل واحدة
.......
أخبرتك سراً
بما تنطوي نومتك
شيطان وسيف
وراقصة من أجل واحدة
في حقدها سادرة
تغلي كمرجل في الغدر سائرة " (ص 24- 25)
ذلك العدد الذي يفترض الوجوب دون غيره في ذكره لا ينفصل عنه في الواجبات الرئيسة المقدسة كما في قصيدة (الرهان الأخير) قوله:
" صرح الدعي
وفي الركعة الأولى
جبان
غال كوناً
هوت ضربة بالسيف
أطارت الرأس المعمم بالصلاة " (ص 25)
وربما يرمز لبيان المعدود القريب من النفس في موضوعة نسبية يتفاعل معها العدد واحد في لقبه الحرفي، ليعلن فرادة الحدث مع ثبات الصفة للمعدود المبهم كما ورد في قصيدة (القراءة الأولى):
" وأنت قراءتي الأولى
أقرأك حتى أشبع
وبلون الورد أشرب من حزنك
مقادير المدن الأخرى " (ص 74)
فيدعو العدد المكنى به إلى معنى دلالي يخفى حوله رمزية فاصلة ما بين شيئين متساويين ليقيم فيه وهو عال بمكانه واستقامته كما ورد في قصيدة (ذاب في قرار):
" ويداك تصطفقان
تحنو على وجل
خوف افتضاح الخجل
وتضم رابعة النهار كؤوس خمر
ذاب في قرارة النهر " (ص 20 – 21)
فرابعة النهار كناية عن منتصف النهار ووضوحه، وهو بشير إلى حالة جزئية مخفية بوصفها حاجزاً دلالياً، والنصف يدلّ على نصف العدد بشكله وهيئته، ليشاكل معه بين شكليين هندسيين (ارض مربعة) و(نصف دائرة) بين إحاطة كلية وأخرى جزئية، كما ورد في قصيدة (الاختباء):
" فمتى تخبؤنا الزوايا
قالت: فلو كنا على ارض مربعة
لأختبأنا، ولكننا في نصف دائرة " (ص 54)
و ربما يصل العدد المشار إلى رمزية العدد المشؤوم الدال على السعر المبخوس، لأجل قتل شخصية إسلامية تعدّ ثاني شخصية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، لمكانتها في الإسلام وفي نفوس المؤمنين .
ويتجلى ذلك في المقارنة الأدبية ما بين ثلاثة أشياء رمز الشاعر إليها في اختيار واحدة منهن كما ورد في قصيدة (الرهان الأخير):
" هو ذاك الشقي
مهر قطام
وسيف
وجارية
وقتل علي خيرة الأمرا
الذميم القبيح من أجل واحدة
في السر عابرة
سيف بمائة
وسم بمائة
وقتل أبي تراب صار مأثرة " (ص 23- 24)
ثمّ ينحدر السيل نزولاً للتسجيل الذاتي، ليحصر العدد بياناً في الأربعة من أولاده، وهي إشارة لجاذبية الأب في ابتهاج الأبناء بذكرهم مع استيعابهم في زحمة الحياة، وهو يمضغ الخبز على مضض وضنك ذلك العيش المعتم، لكنه يتباهى، لأنّه معجون بثرثرة لا تبتعد عن ذاكرته كما ورد في قصيدة (القراءة الأولى):
" وأنا لا أنسى
أنّي أمضغ خبزك
معجوناً
بثرثرة أبنائي الأربع "(ص 74 )
في حين ينماز العدد بوصفه صفة تحلّي الفاصلة النثرية بصوتها المهموس وهو(السين) في تماثله في مفردتي (الكأس والشمس)، كما ورد في قصيدة (ولادة كأس):
" انقلب الكأس
ففاحت
بصمات
أصابعنا الخمس
وانقلب الكأس
فصرنا نعيد آلهة الشمس " (ص 46)
لكن الشاعر مرة يستدعي بالعدد صفة للتبيين في إزالة الغموض النوعي كما ورد في قصيدة (الموت مرة ثانية):
" طويس
يحمل لعن التاريخ
حين ينقر الدامي
بأنامله الثلاثة
.......
طويس يخرج دفه البدوي
يمتطي بغلة
نهضت مدن ترتاب
في حلمي ترعف المدن الثلاث " (ص 67)
وقد يكون العدد تراتبياً في تمييز الأشياء السردية التي يشير إليها الشاعر، وهي فرضية رياضية في معرفة الأشياء وتقسيمها وترتيبها وتصنيفها عملياً كما في قصيدة (نعوش محترفة):
" أتراك تذكر قصة الجنود ؟
حين تفرقوا
وقبل أن يتعاهدوا
أولهم: صار طعما للغم هناك .
وثانيهم: صار ذليلاً تجره الحبال
وأنت ثالثهم: الرابح الوحيد
كنت منتشياً بالهروب " (ص 60 – 61)
وربما يبلغ العدد حداً يفوق حدّ النشوة، فيهمس إلى عمره الذي أوشك على مرحلة البؤس في حالة التيه الذي أربك في داخله مواجع من الخطايا، وهو يمضغها كحلاوة التمر في عبادة الخطايا التي تجولت إلى أصنام طيلة الأربعين عاماً، كما في قصيدة (خطوط الوهم):
" فهل تتذكرين
الخطايا،
أصنامنا
حين عبدنا
أكلنا تمرنا وارتحلنا
الصحراء والتيه خلفنا
وتهنا أربعون عاماً من البؤس
أطفالنا أكلنا " (ص 87 – 88)
ولم يكتف بالعدد (الأربعون)، بل يقفز على رمزية عالية للكناية عن الكثرة لطالما عبر به عن التكثير، وهو عدد(المليون) كما في قصيدة (نقطة ارتكاز):
" من تاريخنا
الملطخ بالقلم
ونقطة
من ملايين المواثيق
تتجلى في مخاض الألم " (ص 44)
جاذبية الألوان:
لكلّ لون دلالة ممزوجة بمشاعر وأحاسيس الشاعر المرهفة، فهي تعلو وتنخفض كموج البحر المتلاطم، ويبدو ذلك من عتبة الإهداء التي مزج فيها باقة من ثلاثة الألوان مغمورة، ينصّ الإهداء عليها بقوله:
" إلى اليواقيت التي لا تنزف حمرتها
إلى كل زمردة تتباها بخضرتها
إلى رائحة التراب العبق بأكوان الغسق البنفسجي
أهدي سطور قصائدي " (ص 4)
هذا التمازج بين ثلاثة ألوان بين الأحمر الحيوي الذي يشع نشاطاً وانبساطية بحيوية الشباب والأخضر الذي يرمز إلى لون النضارة، فضلاً عن النمو والقوة والتفاؤل يشاطرهما اللون البنفسجي المثالي بحساسية نفسية عالية، إذ يصل اللون البنفسجي المقتول إلى عدمية يطرحها العالم بظلامية الغسق العتيد المعاند، كما في قصيدة (سطو الفراش):
" وننادي
يا أيها العالم المخمور بالغسق العتيد
وامتلأنا نصب الورد
أكفاً على البنفسج القتيل " (ص 72- 73)
ويمضي الشاعر في طرح ألوانه بطريقة الأشكال النباتية، مستفيداً من عطرها ولونها في الوصف بفيض من صفات الإنسانية كما في قصيدة (خيولنا تموت واقفة):
" فان الجنود استباحوا
مدينتك الباصرة
استباحوا عنفوانها
شهق الأقحوان حين قشره الخجل " (ص34)
في حين يعمم اللون، ليتمازج بين ندرة الأحجار مع ندرة الورود في تعاملها، للدلالة على الصلابة والثبات، فطبيعة الأحجار لا تنزف مهما بلغت من التكسر والذوبان، فالآخر صوت أنثوي أراد منه الثبات والاستمرار على حالة واحدة في استقرارها كما في قصيدة (لا زيف لليواقيت):
" وأنت ياقوتة لا تنزف حمرتها
وأنت أقحوانة لا تبدي خجلتها " (ص 58)
وهو يبرز هذا التمازج المكثف بروعة الفنان التشكيلي ليأنسنها في نفسه في مجازية معمقة، كما في قصيدة (الانسكاب في حضرة الياسمين) :
" فيا زمارد اتقدي
ويواقيت انثري
ورد الفرائد
فقد بدا الخافقان
على انسكاب الوسائد
وانّي الفت الصحو في قافلة الأقاحي " (ص 70)
بل راح أكثر من ذلك الحد في جدلية ليصوغ لوحة فنية قوامها الأحجار الكريمة بدقة ألوانها وجاذبية وبراعة السماء اللازوردية في جودها بالمطر الأزرق في عمقه وصفائه وهدوءه العاطفي كما في قصيدة (القراءة الأولى):
" فيا عقيق الأرض
زماردنا تعشق لونك
لكن يواقيتك هي الأروع
وتناجينا عند الأمس
نسمع صوت المطر الأزرق "(ص 74 – 75)
لكنّ اللون الاسود يسجل صفات عامة في بلد عرف بأرض السواد لكثرة أشجاره ونخيله بدلالته المأساوية من الخوف من المجهول والاستسلام النهائي ولا استسلام في تجليات الحنين العابر كما قوله مرتين:
" تركوا بساطيلهم على أرض السواد " (ص 34)
" وعاودنا الحنين لأرض السواد " (ص 56)
على الرغم من عدمية اللون الأبيض في شعره إلا أنّه قد وظفه ضمناً لدلالته على زمن مضى وندرة صفائه في الوقت الحاضر كما في قصيدة (الاختباء):
" العجائب
حين كنا، فلتلك كهوفنا من الجليد " (ص 56)
وربما يحذر من اللون الأصفر بحقده وحسده وعجبه بالنفس إذا ما استعمل للريح مرة معرفاً، لأنّ فيها غدراً من شيء معلوم، ومرة أخرى يأتي من دون تعريف بياناً لصورة إبلاغية عن حالة القادم المشؤوم، لما يحمل من رمز للعدمية والفناء على الرغم من طابعه الإشعاع والانشراح كما في قصيدة (خيولنا تموت واقفة):
" الريح قادمة
............
الريح الصفراء
وأبوابنا تصفعها الليالي
الغادرة
.........
الريح صفراء
ونوافذها من ورق
وحدائقنا لا شيء غير القطيات منتظرة " (ص 35)
وفي نهاية المطاف من خلال هذه الخيوط المتشابكة من التقنيات السيميائية تسجل لنا الدراسة منجزاً بفاعلية التحليل الفني وتبحث عن العوامل النفسية وراء استعمال هذه المتغيرات الثلاثة التي تعدّ من التقنيات التي يلجاً إليها الشعراء المعاصرون في الغوص والتحري في دلالتها في خطاباتهم الشعرية الحداثوية .
والشاعر ناصر الأسدي شاعر معاصر استثمر هذه التقنيات ورؤيته السردية من وفرة الأقنعة والترميز ومجازية الأعداد وفاعلية الألوان في منجزه الشعري بشكل متميز وفي هذا الجانب الحيوي جاد بجوانب الحركة القائمة بين عالمي الواقع والإمكان النصي، لما يحمل الشاعر من تصورات وصور في ذهنه تبعاً لتجاذبات عميقة الدلالات .
.................
* الشاعر ناصر الأسدي تدريسي وباحث أكاديمي في جامعة البصرة وهو ناقد وشاعر وقاص في الوقت نفسه، صدر ديوانه البكر (لا نزيف لليواقيت) عن مؤسسة السياب (لندن)، ط1، سنة 2011 م، وأيضاً مجموعته القصصية (لا ظل فوق الجدار القصير)عن دار أزمنة، ط1، مطبعة السفير، الأردن، 2012 م .
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
العودة الى الصفحة الأولى
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2192 الاربعاء 25/ 07 / 2012)

x

الأحد، 29 مارس 2020

مدينة الليل المرعب بقلم الدكتور شاكر حسن راضي، أستاذ مساعد


ربما لم يصدق أحد الشاعر جيمس تومسن وهو يصف عاصمة الضباب بأنها مدينة الليل المرعب في أوج غرور المدن وهي تحتفي بمبانيها وشوارعها المزدحمة . وها هي لندن ومدن كبرى في كل أنحاء العالم تستغيث وتحذر..نداء لكل الناس كي يستعيدوا إنسانياهم ويتداركوا الخطأ الفادح والمأساوي...السلام والخير والصحة لكل الناس



مدينة الليل المرعب
شاكر حسن راضي، أستاذ مساعد
قصيدة طويلة للشاعر الأسكتلندي جيمس تومسن ( بي. في) (1834-1882) كتبها خلال الفترة الممتدة ما بين 1870 و 1873. أطلق الشاعر على نفسه إسم " بيشي فانوليس" تيمناً بإسم الشاعر الرومانسي الثوري بيرسي شيلي. وقد عانى جيمس تومسن من حالة حزن وإكتئاب طويلة كما كان مولعا بالسفر إلى أماكن نائية في حينها.
كتبت القصيدة على صورة مدينة لندن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد توحش الثورة الصناعية والمدن الكبيرة وإنهيار الريف والقيم التي نشأ عليها جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين. وعلى الرغم من سوداوية القصيدة في موضوعها ونغمتها حظيت بإعجاب النقاد والشعراء ومنهم الشاعر جورج سينتسبري الذي كتب عنها " ما ينقذ تومسن هو الكمال الذي يعبّر فيه عن الجانب السلبي واليائس لذلك الأحساس بالغموض" ووصفها الناقد المرموق رايموند وليامز بأنها " نسخة رمزية للمدينة بإعتبارها شرطاً من شروط الحياة البشرية. فهي حالة متخيلة لمدينة وعاصمة لإمبراطورية" لكن الشاعر يجدها في تلك اللحظة ، مدينة يضيع فيها الأيمان ويفقد فيها الأنسان الهدف والأمل:
هي مدينة الليل
وليست مدينة النور
هناك حلاوة النوم
ليست للعقل المتعب
الساعات القاسية فيها مثل السنين
والعصور تزحف
ليل يبدو كإنه جحيم لا ينتهي
هذا هو الهول المرعب
من الأفكار والصحو الذي لا يتوقف
أو الذي يسبت وهلة
ثم يطول
هذا الذي هو أسوء من الكرب
يحيل التعساء هناك إلى مجانين
ينفذ سكان هذه المدينة أدوارهم المرسومة كجزء من ماكنة كبيرة دائمة الدوران:
فهم الأكثر عقلانية
لكنهم مجانين
ولا يمكن التحكم بالجنون المطلق
عقل كامل في الدماغ المركزي
لكنه بلا صلاحية
ليس لديه شيء سوى الجلوس خاملاً وبارداً
يرى الجنون
دون أن يتأثر بشيء
الدمار مساره ومسعاه هباء
يخدع نفسه
حين يرفض النظر
في هذه القصيدة، الراوية مسافر غريب، يلتقي أثناء رحلته برحالة آخرين لا هدف لهم من رحلاتهم. وفي الحقيقة، تعج المدينة بالناس لكنها في ذات الوقت مكان تسكنه الأشباح . يمشي فيها المتجولون ليس ليصلوا إلى مكان ما ولا لتحقيق غرض آخر، لكن للوصول إلى شكل من أشكال التوبة تكفيراً عن خطيئة تجاه " الضرورة العليا" الصامته التي تغلف المدينة برمتها. ويرى تومسن أن آمال سكان " لندن" الحقيقيين ما هي إلا " أحلام يقظة" وبالنسبة للشاعر، فإن التجوال في شوارع المدينة ليس نسخة بديلة لها وليس نقيضاً للكآبة التي تقضي على إي إمكانية لوجود أمل وهو ما يتناقض حتى مع أكثر القصائد حداثة في رؤيتها السوداوية وأقصد فصيدة الشاعر الأنجليزي ، ت.س. إليوت ، صاحب الأرض اليباب وأغنية حب بروفروك؛ حيث نجد بارقة أمل، وتسود مشاعر إنسانية رغم الجحيم الذي يجد الناس فيها أنفسهم، في مدن، غير حقيقية، فيما يحشد تومسن قصيدته بصور غريبة ومظلمة ، تسودها نغمة متشائمة ، إستبق بها تومسن شعراء الحداثة ومدنهم :
أجواء تلك المدينة
مظلمة ومشحونة
ورغم قلة أعداد المنفيين
الذين يجوبون شوارعها
وقد تأبط الكثير منهم الشر
ليضيف كل واحد منهم
سماً للهواء المسموم
عدوى الجنون التي لا يمكن الأفصاح عنها
عدوى يأس عضال.
وهكذا تجسد هذه القصيدة صورة المدينة مكاناً للوحدة والغربة واليأس الروحي، الأمر الذي يتناقض مع الثقة السياسية والأقتصادية التي تمتعت بها أقلية في ( لندن) في القرن التاسع عشر، لندن، عاصمة الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لكنها عند تومسن، مدينة إدلهم ليلها وأنتشر سكانها هلعاً.. في بيئة ترمز إلى حالة من " التشاؤمية المعتمة في مراكز حضرية فاقدة لجوهرها الأنساني " وما أشبه اليوم بالبارحة...
وأنا أشق طريقي في الصحراء، هكذا بدت المدينة
و أنا أشق طريقي في الصحراء: كل شيء كان مدلهماً
في السماء ليس هناك من نجمة واحدة
وعلى الأرض ليس هناك من مسار
صمت متأمل دون حركة أو نغمة
كان الهواء ثقيلا حتى أنه تخثر في حنجرتي
وهكذا لساعات، بعدها، مرقت مسرعة أشياء هائلة ، تصيح بصرخات مهولة وأجنحة مقعقعة
لكنني مشيت رغم القسوة
غياب الأمل لا يمكن أن يحمل خوفاً
وفي كل مقطع يلي يكرر تومسن البيت الذي صار لازمة للقصيدة: و أنا أشق طريقي في الصحراء، تأكيداً لهول الكارثة التي وجد فيها الأنسان المعاصر نفسه بعد أن فرح بزوال الظلام وسرعة الأنتقال وعلو المباني الشاهقة، ليسأل من جديد:
ماذا أنا فاعل هنا؟
وينهي الشاعر حيرته بسؤال لنفسه والأخرين: مصيرهم موحش
ولكن، تراهم لا يأملون ولا يخافون
وأنا، ماذا أنا فاعل هنا؟
ربما لا شيء سوى التجوال في مدينة " لم تزرها الشمس" حيث يكتشف الشاعر أن " الحياة حلم " يأتي بأشكال مختلفة ، وفي هكذا مكان، ينتاب الشاعر إحساس بأنه في " مدينة موتى" حيث نجد ناع واحد أو ناعية واحدة لكل ألف ميت، في مدينة الليل ولكنها ليست مدينة النوم، ذلك لأن " النوم اللذيذ ليس للعقول المتعبة" التي تستنزف أصحابها بفعل " ساعات قاسية مثل السنين والعصور، تزحف" ويبدو فيها الليل " جحيماً لا نهاية له" ، معاناة تدفع الشاعر نحو الجنون، لأانه يدرك من يدخلون مدن الليل المرعب يتركون الأمل خلفهم.
نعكس قصيدة تومسن حالة القلق وعدم اليقين تجاه حالة التحديث التي إجتاحت بلاد الأنجليز والجزر البريطانية في العصر الفكتوري وما بعده. وحتى على مستوى الشكل والقافية والموسيقى، يجد الفاريء قصيدة تومسن إنعكاساً لحالة القلق والتوق للعودة إلى ثقافة تقليدية وفرت الأحساس بالأمان واليقين. فيما تعكس الصور قسوة التحديث وغياب الروح على وجوه سكان المدينة، صورة تعكس الشعور بالعزلة والأكتئاب الذي وجدناه فيما بعد في قصائد إليوت ومعاصريه وتابعيه: عشرات من السكان في نوم دائم أو مونى أو هاربون من طاعون لا إسم له...وما أشبة الليلة بالبارحة مرة أخرى.