(التكرار في مرايا الجرح )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة (مرايا الجرح)
.......................... للشاعر جبرائيل السامر
1- دماكَ تخضِّبُ وجـــهَ الزمـانِ ... فكــلٌّ سيُفنى ولســتَ بفــانِ
2- جرحتَ القفارَ بسيف اخضرارٍ... فغرَّدَ فيهــــا رفيفُ الجنـــــانِ
3- وكـانَ الخلودُ بضحكةِ جــرحٍ ... لســـاناً يُجيد ابتكارَ المعــاني
4- شفاهُ الجراح وأُخرى تلظَّتْ .... نـــــداها من الذكر ماتقرآنِ
5- فمذ باء أمِّ الكتابِ وجدتُ الـحســـــــــــينَ مرايــا بسحر البيانِ
6- فألقيتُ في كربلاء عصايَ ... وأقررتُ أن الحسينَ رهاني
7- أيا نشوةَ الله صحوي ذنوبٌ ... وعشقُك خمرٌ وقلبي دناني
8- ويا خبزَ جوعِ الضمائر جئنا ... نعلِّلُ جوعاً بخبز الأماني
9- فما كان إلَّاكَ يشدو ربيعاً ... وتنبتُ في جرحهِ زهرتانِ
10- وجدناك صبراً يؤثثُ حقلاً ... ويطبخ جرحاً بقِدر التفاني
***********
11 - فيا ألفَ جرحٍ بنحرِ العراقِ ... يزيدٌ وشمرٌ هنا يرقصانِ
12 - هنا يبذرانِ بقمحِ الحروبِ .... ونحصدُ -جهلاً- لِما يبذرانِ
13 - تعبنا احتراقاً نؤدي الطقوسَ ... و (لاءاتُنا) اختنقتْ بالدخانِ
14 - نمدُّ الأكفَّ نداعبُ رفضاً .... فيرتدُّ كفٌّ قطيعَ البنانِ
15 - لأنَّ الحسينَ خميرةُ كلِّ .... النبوّاتِ لم تحوِهِ جملتانِ
16 - لأنَّ الحسينَ اختصارُ السماءِ ... وإنَّ العراقَ اختصارُ المكانِ
17 - دعا يا صديقي حسيناً جرحتُ ... كجرحكِ في الطفِّ هلَّا تراني
----------------------------------------------------------------
يا عزيزي ..
يا ايها الشاعر الشاعر الشاعر ، لقد اتيتَ بها سبعة عشر بيتاَ شعرياً فكانت القصيدة ، وأية قصيدة وقد طرزتها بمعاني الفصاحة والبلاغة والبيان والهتاف الصريح مع ايمائة خفية لاتخفى على كل ذي لبٍ لبيب .
هذا الفيض الخلاّب المكتنز منذ مطلع النص وحتى ختامه .
هذه الصرخة الحسينية الموازية لمعنى الثورة ، والتي هتفت بـ (لا) متنوعة ضمن اشارة مضمرة بين ثنايا القصيدة .
ــ لابد من الوقوف في محطة ادبية شعرية ، عندما نقتنص فيها فوائد نقدية كثيرة .
رغم احتفاء القصيدة بفوائد نقدية كثيرة ، إلّا اننا سنبرز فائدة ظاهرة ناهدة ، وهي (التكرار) لبعض الاسماء التي تضمنتها هذه القصيدة المكثفة .
في مثل هذه الحبكة التي يغلفها الالم والصرخة ضد الباطل ، والرفض للواقع المُتبَّـل بالجهل والطيش والحُمق ، لابد للشاعر ان يكون ذكياً في اختيار المفردات ومعانيها التي توازيها ، ويبتعد عن الحشوِ واللفظ الهزيل ، انما يختار من الالفاظ انقاها وارشقها وابهاها ، فقد بدأ نصَّهُ بـ (دماك) وهو انجح مطلع وأنسب ابتداء لمثل هكذا منزلة ومرتبة في ميزان التضحية العالمي لجلب خاطر المتلقي :
" دماكَ تخضِّبُ وجـــهَ الزمـانِ "
ثم اختتم النص ببيت شعري محملا بالجراح . وهكذا نص لابد ان يحمل صور الجراح والدم ، فهما لون وعنوان لهذه الثورة الخالدة .
قبل الشروع بظاهرة التكرار أود ان أحلق في فضاء هذا البيت الشعري الذ توقفت عنده كثيراً :
" جرحتَ القفارَ بسيف اخضرارٍ... فغرَّدَ فيهــــا رفيفُ الجنـــــانِ "
يالها من صورة شعرية رائعة تحيل القاريء الى صهارة ممزوجة بهذا الدم الخالد الطهور . لقد تعودنا ان نسمع او نقرأ مفردات الجزل التي تحمل بين معانيها فخامة اللفظ اذا خالطها الشاعر بالسيوف والجراح والدم ، لكن الشاعر هنا اراد ان يقلب المعادلة برمتها فتلاعبَ بوجدان المتلقي ، وجاء باللفظ الرشيق والرقيق لينزله منزلة رائعة توازي معاني التضحية والفداء التي تضمنتها معاني فداء (الحسين) عليه السلام . فلو تأملنا هذه المفردات (اخضرار، غرَّدَ ، رفيف ، جنان)
فلو عُرِضَتْ هذه المفردات على المنلقي سيظن دون ريب ان هذه المفردات والالفاظ تخص وصف الجمال والطبيعة والتي تدل على نص شعري ذي حواشٍ زاهية رقيقة بعيدة عن معاني الحروب والدماء والطعان والسيوف ؟؟
لكن مقدرة الناسج لهذه القُماشة الشعرية الرائعة ، جعلت من هذه المفردات متناسقة تماماً مع المرام والقصد بل وروح الفكرة برمتها وهي انبعاث الامل والحياة بعد جفاف الحق ونمو الياس في النفوس ، فمزاوجة الشاعر للسيف مع اللون الاخضر بدل الاحمر او الدم هو من بدائع السبك وذكاء الصنعة . وهذا هو الذي نبتغيه في صناعة الشعر ، بحيث يأتي الشاعر بما يدهش الخاطر .
ــ ان التكرار قد صنفَ بنوعين (لقظ ومعنى ومعنى دون اللفظ) والذي يعنينا في هذه الفائدة هو النوع الاول تكرار (اللفظ والمعنى) وله تفرعات كثيرة استخدمها الشعراء العرب والاجانب لدلالت وتوكيدات ومرامي مختلفة ، تختلف بإختلاف المكرر، ولقد انتقيت تكرار الفاظ بعينها دون اشتقاق من لفظ آخر ، كي لايطول المقال ويتعب البال .
المتأمل والقاريء لهذا النص لابد أن ينتبه الى ظاهرة قد تميزتْ وتجلَّت فيه ، فقد جاء النص متضمنا في ربع ابياته ظاهرة التكرار لبعض الالفاظ والمفردات . حيث تأتي المفردة في صدر البيت ثم لاتلبث ان تتكرر في عجزه ، وان ظاهرة تكرار اللفظ يضعف النص ويدعو للركة في بلاغته إلّأ في بعض الاتجاهات التي سمح بها الذوق ، وأقرَّ في حسنها اهل الصنعة ، وهي قصد الشاعر في التنبيه والتركيز والتشديد على معنى اللفظ المكرر.
فقد ورد التكرار في هذا النص عند اربعة مواضع :
ــ في البيت الشعري الثامن تكررت لفظتي (خبز) و (جوع) :
" ويا خبزَ جوعِ الضمائر جئنا ... نعلِّلُ جوعاً بخبز الأماني "
لقد تكررت هنا لفظتان هما (خبز) و (جوع) وجائتا في صدر البيت الشعري ، ثم تكررتا في عجزه ، حيث استطاع الشاعر بمهارة سبكه أن يغير مبتغاه في تحويل المعنى باستخدامه لذات اللفظتين ولكن بتقديم وتأخير احداهما على الاخرى وبمجاز ابداعي ، مما يجعل المتلقي متأملا لقدرة الشاعر في التلاعب في مراتب الالفاظ ومنازلها للحصول على معانٍ مختلفة ، لكنها تصب في الفكرة الاساسية وهو (الحسين) فشبههُ مجازاً بالخبز ، ولاشيء في الوجود غير الخبز يداوي جوع المعدة ، وهكذا اذا جاعت الضمائر فلاشي غير (الحسين) فكراً وثورة ومنهجاً يُشبع هذا الجوع ... وياله من مجاز مهيب .
ــ في البيت الشعري الثاني عشر تكررت لفظة (يبذران) :
" هنا يبذرانِ بقمحِ الحروبِ ... ونحصدُ -جهلاً- لِما يبذرانِ "
ففي لفظة ( يبذران) استخدم الشاعر (التذييل) فختم العجز بنفس المفردة التي احتضنها صدر البيت وأراد بذلك ان تتجلى فكرة البيت وتنطوي تحت معنى (البذرة) التي يبذرها الطغاة والقتلة والمتلاعبون بمقدرات الناس ، فالجهل كل الجهل ماينتجه هذا البذار . وقد افصح في توضيح ذلك عندما جاء بلفظة (جهلا) اعتراضية .. وهذا من جمال السبك .
ــ في البيت الشعري الرابع عشر تكررت لفظة (الكف) :
" نمدُّ الأكفَّ نداعبُ رفضاً .... فيرتدُّ كفٌّ قطيعَ البنانِ "
قبل التوغل في توضيح التكرار في هذا البيت ، لنتأمل كيف يدخل الشاعر الذكي مفردة (نداعب) في عبارة (نمدُّ الأكفَّ نداعبُ رفضاً) وهي عكس المراد في رفع ومد الكفوف ولايستقِم معناها مع قصد العبارة ، وهذه السخرية انما أُستوضِحَتْ بما تلاها من شطر (فيرتدُّ كفٌّ قطيعَ البنانِ) ثم يستطرد في البيت الذي يليه لتوضيح هذا الارتداد . لذا تكرر لفظ الكف في صدر البيت فجاءت جمعاً (الاكف) والتي تخص العموم ، وفي العجز مفردة (كفٌ) لانها تحمل صفة الخصوصية لـ (الحسين) عليه السلام . فكان التكرار بلفظتين متشابهتين لكنهما تحملان وتشيران الى معان مختلفة ومقاصد متباينة . ويعتبر اصحاب الصنعة ان هذه الصفة اذا توفرت فانها من مليح الشعر .
ــ وفي البيت السادس عشر تكررت لفظة ( اختصار) :
" لأنَّ الحسينَ اختصارُ السماءِ ... وإنَّ العراقَ اختصارُ المكانِ "
هذا التكرار للمفردة (اختصار) جاء لبيان نوعين من الاختصارات على سبيل الايضاح بين اسمين (الحسين ، العراق) كل منهما ينتمي للآخر مترابطان دون انفكاك ، وهذا التعبير المجازي الهائل في صدر البيت وعجزه ، والذي استخدمه الشاعر جبرائيل السامر عندما جعل الحسين إختصار السماء ، والعراق اختصار المكان ، هو من جمال الرصف ، حيث جعل الفضاء الظرفي سبباً لهذا التكرار الذكي .
القصيدة تحمل درجة الجودة ، ويعجبني هذا السبك الذي ليس بالقصيرضعفا فيضيع مبتغاه ولا بالطويل تكلفاً فتتشوش رؤاه ، انما جاء النص على قدر نزف الوجد وثورة (المَلَكَة) التأليفية ، حيث بدأت بنزف مدادها حينما تواردت الخواطر وتهيأ الذهن ، وتوقف المداد حينما أحس الشاعر بأن مَلَكَة الذات نضحت بما لديها ، فما جاء بعد ذلك ماهو إلا حشو لايرتقي الى منازل ومراتب الشعر الجيد ، ويشعر المتلقي بان هنالك فاصلة بين وجدين وحالين ، فيظهر النص متبكاً مشوشاً يدعو الى النفور .
ــ الذي يعجبني في الشاعر جبرائيل السامر عند نسجه لخيوط عباراته ، فإنه يستحضر ماتعلمه من فوائد وعلم اكاديمي ليقدم نموذجاً شعرياً ثرياً ، مهذباً ، من غير تكلف وابتذال . لذا فقصائده دائما تستوقفنا لنقتطف فوائد نقدية من بين جنانها .
ــ اقول لك يا جبرائل الشاعر :
مازلتَ تمسك بزمامها ، فلا تدعها تبطيء وأرخِ لها العنان حتى تعدو عدو الفرس حين يضطرم عدوها ، عندها تجدها قد وصلت الى مرامها .
مازلتَ ايها الرائد تحتضن قلماً مهيباً مطيعاً لذاتك ولشجنك العالي ...
ــ لقد القيت عصاك في كربلاء وأقررت بأن رهانك هو الحسين ... فبوركت العصا وبورك الرهان ، ولقد فزتَ برهانك .
تقديري الكبير .
التعليقات
جلال سعد ألاحق هذه الفيوضات النقدية الرائعة مستمتعاً ومتتلمذاً بوركت استاذ كريم
غازي احمد أبو طبيخ الموسوي آفاق نقديه الخيار الذكي ينبئ عن حكمة الناقد..
هذه حال لا بد من تاشيرها عميقا ،كمدخل لتعليقي،على هذا النص الشعري الحداثوي بامتياز..واعني المنهجية الكلاسيكية الحديثة بحسب الاصطلاح الاتفاقي القديم،واعني من ايام النهصه..
وانت بهذا ايها الناقد الخبير الاستاذ كريم القاسم ،لم تكشف عن جديد في مشهدنا وحسب..بل طرحت جديدا ثرا بالغ الاهمية من طرفك انت ،وذلك من خلال التناول التفكيكي التطبيقي الذي دخل جغ افا التفاصيل الصغيره..في نفس الوقت اخذت جانبا مهما واحد احببت الترميز عليه والبخث الجاد في حيثياته دون غيره ..بحيث بات حال تسليط الضوء المتخصص في جانب محدد شخصه الناقد سلفا من انه سيتناول هذا المحور او المستوى وليس غيره..في حين ترك الباب مفتوحة لكل من يرغب في تناول شان اخر او مستوى اخر من مستويات قصيدة شاعرنا الاستاذ Jebrail Alaa Alsamer،
والذي احدث بدوره في النص جانبين مهمين الفت النظر اليهما وهما:
1-الصورة التعبيرية الحداثوية الاداة والتعبير والمناخ والعوالم..
2- عمق الموضوعة ورشاقة الافكار تفصيلا واجمالا..مع الحرص الواضح على منطلقاتها الفنية ،..
الاستاذ ابا عمار الغالي..
خالص التقدير على هذا الجهد الراىع..العزيز الشاعر ابا ميار،مبارك عليكم هذا الالتفات النقدي الباذخ،بما وفره قصيدكم من الابداع ..تحياتي وخالص مودتي وتقديري...
هذه حال لا بد من تاشيرها عميقا ،كمدخل لتعليقي،على هذا النص الشعري الحداثوي بامتياز..واعني المنهجية الكلاسيكية الحديثة بحسب الاصطلاح الاتفاقي القديم،واعني من ايام النهصه..
وانت بهذا ايها الناقد الخبير الاستاذ كريم القاسم ،لم تكشف عن جديد في مشهدنا وحسب..بل طرحت جديدا ثرا بالغ الاهمية من طرفك انت ،وذلك من خلال التناول التفكيكي التطبيقي الذي دخل جغ افا التفاصيل الصغيره..في نفس الوقت اخذت جانبا مهما واحد احببت الترميز عليه والبخث الجاد في حيثياته دون غيره ..بحيث بات حال تسليط الضوء المتخصص في جانب محدد شخصه الناقد سلفا من انه سيتناول هذا المحور او المستوى وليس غيره..في حين ترك الباب مفتوحة لكل من يرغب في تناول شان اخر او مستوى اخر من مستويات قصيدة شاعرنا الاستاذ Jebrail Alaa Alsamer،
والذي احدث بدوره في النص جانبين مهمين الفت النظر اليهما وهما:
1-الصورة التعبيرية الحداثوية الاداة والتعبير والمناخ والعوالم..
2- عمق الموضوعة ورشاقة الافكار تفصيلا واجمالا..مع الحرص الواضح على منطلقاتها الفنية ،..
الاستاذ ابا عمار الغالي..
خالص التقدير على هذا الجهد الراىع..العزيز الشاعر ابا ميار،مبارك عليكم هذا الالتفات النقدي الباذخ،بما وفره قصيدكم من الابداع ..تحياتي وخالص مودتي وتقديري...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق