الجمعة، 19 أكتوبر 2018

( الاقتباس في نظم الشاعرغسان الحجاج ) دراسة نقدية بقلم الاديب الناقد كريم القاسم

( الاقتباس في نظم الشاعرغسان الحجاج )
دراسة نقدية
.....................................................
عند تصفحي للنشر الادبي بفنيه الشعر والنثر في الآونة الأخيرة ، لفتت انتباهي ظاهرة تضمين النصوص الأدبية لجمل وعبارات مقتبسة من القرآن الكريم ، وقد اوغل البعض في ذلك حتى بات يُركِّب ويرصف كلماته بين الفاظ القرآن ، او يمازج توليفهُ مع آية قرآنية ظانّاً بأن هذا الفعل سيضفي جلالاً ومنزلة ومتانة لنظمه او نثره ، حتى أخذ البعض يقلد مايقرأ وما يجد ، وهو يظن بأن هذا الفعل فيه نوع من الذكاء والبراعة والفطنة ، بينما هو جهل وطيش . لان العلوم والفنون لا تؤخذ بالتقليد الاعمى ، انما وضعَ اهل الصنعة لكلِّ فَـنٍّ وعِلمِ اُسس واصول واركان ، فلا ينبغي أن نخوض في ما لانعلم كي لانقع بما لانعلم .
وقد انتشرت كذلك ظاهرة الاقتباس لمفردات أو عبارات منسوبة الى رموز أدبية او سياسية او مشاهير وتضمينها في قصائد او نصوص نثرية وإحاطتها باقواس التنصيص لفرزها عن كلام المؤلف مع إيجاد هامش للتعريف بها . وهذا امر لابأس به بل ومعمول به حتى عند الأوائل ، لكن الذي يجعلنا نقف في حالة استنفار كنقّادٍ وادباء هو خطورة الاقتباس القرآني الذي بدأتْ بوادره تملأ مساحات كثيرة من تآليف الادباء دون رعاية لما يُقتبَس ودون دراية في التوظيف ، وفي وسط هذا المخاض تذكرتُ قصيدة يمكن ان نقف عندها كمثالٍ لما تقدم ، ووجدتها خير معين لهكذا مقصد وهكذا دراسة ، فهي ذات عيار ابداعي جميل ذكي ، وابداع متمرد على تملق بعض الأقلام الغير رصينة ، وهذا الابداع هو الذي يرسم للقلم بصمة الالتزام والرصانة والعنفوان .
ــ الشاعر العراقي المهندس (غسان الحجاج) قلم يكتب لكل مايتأثر به ، وهو سريع الاستجابة . يتفاعل مع النص بعقل وثقافة مهندس ، فيُهَيء الفكرة ثم يرسم ويخطط ، وبعدها يُنفّـذ التأليف بعناية مستغلاً كل مساحة وزاوية مهما صغرت لجعلها قطعة فنية رائقة تتحرك بفاعلية وسلاسة .
ما أن قرأتُ عنوان قصيدته (طربٌ على وتَـرِ المآسي) ، حتى بادرتُ الى قرائتها كلها والتطلع إلى خلجاتها ، ولقد وجدتُ الجماليات والروائع فيها ، فأنا أحبُكُ المقال النقدي واضع ديباجته معتمدا على القراءة الأولى حيث اضع احداثيات المقال كلها ، اما الثانية والثالثة فهي للاستمتاع بجمال السبك ولمعان الفكرة وجمال الطرح ورشاقة الالفاظ وقوة وذكاء الاقتباس ، بعدها اقتنص ماشرد عن بالي وخاطري .
القصيدة
ـــــــــــــــ
(طربٌ على وترِ المآسي)
الشاعر غسان الحجاج
...................................
طربٌ على وترِ المآسي .. وترنّمٌ مــــن ابــــتئاسِ
واسيتُ نفســـي شاعراً .. فنديميَ الشعر المواسي
انا بانتــــشاءٍ دائــــــمٍ ... عندي كؤوس ابي نوآسِ
أنبيذُ صاحبــةِ اللــمى!... كأسٌ طبــاقيُّ جناسي
متغــــزّلٌ كهـــــلٌ غوى ... هو مغرمٌ صبٌّ يقاسي
فالنبض قطـــعان الظبا ... والهمُّ ذئبُ الافــــتراسِ
******
وطــــنٌ وحــــــبٌّ شاحبٌ .. عطشٌ أيروى من يباسِ؟
ما قد سقتــــني غصّةً .. أسطورة العام الدراسي
ففســــادنا لا ينــــــــتهي .. متيمـــــمٌ بالارتـــــماسِ
رجعت عجول السامري .. لكن بزيٍّ دبلومـــــاسي
جلدي تزوّج ســــوطهُ .. والســـامريُّ بلا مساسِ
نجمُ الظــلامِ حكايـــــةٌ .. ابعادها ثقبٌ ســـداسي
******
خسرتْ سماسرة الردى .. وتجارتي موتٌ حماسي
نزفتْ موارد ناقتـــــي .. والضرْعُ مال الاختلاسِ
واخافُ ينبـــعثُ الشقيْ .. وحشاً بأقْنعــــــــة الاناسِ
كم من بلايــــينٍ ذوتْ .. وبناؤنا صفرّ قيـــاسي
******
الشــعبُ ردّد صادحا ... ليعيش (آمون)السياسي
تحيــا أباطــــرة العُلا .. نفدي الأريكة والكراسي
بكمٌ وعــــميٌ انــــــنا .. حتى الحواس بلا حواسِ
أننــامُ في كهف السدى؟ ..هل نـــحن آلهة النعاسِ
أم ان قدوتـــــنا غدا ... في ذلك النوم الرئاسي
هي باختــصارٍ أمــــةٌ ... موءودةٌ فـــي الانتكاسِ
خرقتْ سفينةَ موطــني ... دوّامةُ الغـــرق السياسي
عرّافتي كتــبتْ هنـــــا ... ما بين اقواس اقتـــباسِ
(ان النجومَ عقيمةٌ) ... فتشبّــثوا بالانعكاسِ!!
.........................................................
ــ عندما نتطلع الى كلام قد سُبِكَ بعناية فإنه يجعل العصب الساكن متحركا ، وها أنا اكتب واعيش ذات الوقت ألَم الحال الممزوج بالانتشاء في هذه الديباجة الشعرية الرائعة وهذا النظم الباهر.
ــ كان بودي ان يستنبط الشاعر عنوان القصيدة من فحوى النص ، لكنه ثائر النفس والوجدان فجعل العنوان هو الشطر الاول من البيت الشعري الأول (طربٌ على وترِ المآسي .. وترنّمٌ مــــن ابــــتئاسِ ) والشاعر هو حر في اختيار العنوان ، فأما ان يقتطع كلمة او عبارة من النص لتكون عنوانا ، او يستنبط مفردة او عبارة يراها مناسبة لشد ذهن المتلقي وجذبه ، وهذا لا إشكال فيه .
ـــ القصيدة التي امامنا ذات الـ (25) بيتاً قد وظَّفها الشاعر بعناية مدروسة ، لتعكس حال البلاد والشعب والأمة كلها التي مازالت تعيش تحت وطأة التآمر الخارجي والفساد الإداري الداخلي ، ليتعاضد الأمران على اضعاف الوطن ، ومحاولة صد إرادته نحو التقدم والنماء .
ــ كعادته الشاعر (غسان الحجاج) فإنه يولي عناية ورعاية لمطالع قصائده وخواتيمها . فمطلع قصيدته يدل منذ البداية على ان هنالك استعراضا دفينا وذكيا سيظهر للعيان ، حيث زاوج الشاعر بين المتضادات ، فزاوج بين الحزن والطرب ، لكن الطرب والغناء هذه المرة جاء مرافقاً لعزف وتر المآسي والحزن والأسى والشجى ، وهذا من النظم الحسن ، فالمتلقي المتأمل لمطلع القصيدة يجد الشاعر يعيش في غيبوبة السكر الوجداني المرافق للانتشاء ، لكبر اللوعة ، وعظم الخطر ، وهذا يُنذِر بقدوم فيض هائل من الصور الشعرية والبديع اللغوي ، وقد افصح الشاعر عنها فقال :
" واسيتُ نفســـي شاعراً .. فنديميَ الشعر المواسي
أنبيذُ صاحبــةِ اللــمى! ... كأسٌ طبــاقيُّ جناسي
انا بانتــــشاءٍ دائــــــمٍ ... عندي كؤوس ابي نوآسِ "
ــ وشاعرنا يميل بفطرته الى الغزل والتغزل في نظمه ، فهو لايترك النص الا ويزرع به شتلة تفوح بتلك النكهة الغزلية ، فأوردَ البيت الشعري في مقدمته (أنبيذُ صاحبــةِ اللــمى! ... كأسٌ طبــاقيُّ جناسي ) ونلاحظ هنا كيف احسن نسج الالفاظ وتقديمها بصورة شعرية رائعة جدا ودالة ايضاً ، وقد استعمل مفردة ( اللمى) وهي شفة الفتاة التي تحوي شيئاً من السمرة ، والتي يستحسنها اهل العلم بمواطن الجمال في المرأة ، ثم يأتي بتعبير مجازي اجمل واروع حينما يصف كأسه بانه مملوء بالجناس والطباق وهما من المحسنات البديعية البلاغية . وهذا دليل على ان الشاعر سيغدق على قصيدته بهذين الامرين ضمن طباق وجناس خفي زاد القصيدة ابداعاً آخر . ورغم ان القصيدة يمكن ان يُستخرج منها اكثر من مقال نقدي لوجود اكثر من فائدة نقدية ، لكننا سنفترق عن ذلك كله كي نتوجه الى مرادنا وهو (الاقتباس) ، حيث ان هكذا سبك جميل يحوي مقدمة مترابطة المعاني تجعلنا لابد ان نسترسل معها دون توقف للحصول على عِلّة هذا الانتشاء الممزوج بالحزن والكَمَد ضمن دراسة الاقتباس .
ــ عند تطلعي في هذه القصيدة وجدتها تحتضن نوعين من الاقتباس :
أ‌- اقتباس تاريخي
ب- اقتباس قرآني.
الاقتباس التاريخي /
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
القصيدة تحمل بصمة الاقتباس المتناثرة في جميع ارجائها ، وقد استنفر الشاعر طاقته التأليفية ممزوجة بالابداع ليلتقط مفردات والفاظاً من ذاكرة التاريخ ، وبما يناسب الفكرة والهدف ، ليرسم صوراً شعرية بالغة الدقة والجمال . هذه الاقتباسات التاريخية (كؤوس ابي نوآسِ ـ ثقبٌ ســـداسي ـ آمون ـ آلهة النعاسِ) سنتناولها تباعاً لتسليط الضوء على الجهد المبذول في سبك العبارات وحسن رعاية معانيها كما في الآتي :
ــ منذ الوهلة الأولى وشاعرنا بدأ بنشاطه الاقتباسي ، ففي البيت الشعري الثالث من مقدمة القصيدة :
" انا بانتــــشاءٍ دائــــــمٍ ... عندي كؤوس أبي نوآسِ "
وصفَ الشاعر حالهُ بأنه في نشوة مستمرة دائمة ، وأعطى دليلا لهذا الدوام بـ (كؤوس ابي نوآسِ) والكأس والشراب صفة لاصقت الشاعر أبي نؤاس واصبح كالمثل الذي يُضرب به لكثرة السكر والانتشاء ، وهذا الاقتباس وظّـفَهُ الشاعر منذ البداية لانه سيأتي بكلام ووصف لايصدّهُ حَد ولا يوقفه نَـد ــ أي يتصف بالجرأة ــ فالثمل يطلق لسانه بما يأتي على الخاطر دون خوف او وجَل . وهو توظيف جميل وصورة مجازية جميلة أيضا .
ــ بعد عرض واستعراض لصورٍ شعرية ومعان كثيرة تصف حال الامة والشعب ، يأتي الشاعر ببيت شعري يؤشر فيه على سبب الجرح والالم والظلام ، فيقول :
" نجمُ الظــلامِ حكايـــــةٌ .. ابعادها ثقبٌ ســـداسي "
في هذا البيت الشعري نجد الشاعر قد حدَّدَ مصدر الظلام الذي يلفّ جسد الامة وهو الورم الصهيوني الخبيث ، وهذا ما بدا جليا في إقتباسه للمفردات (نجم ــ ثقب سداسي) والثقب السداسي إشارة الى نجمة داود السداسية والتي اتخذها الصهاينة اليهود شعارا لهم .
ـــ ثم يستمر الشاعر بسرد الصور الشعرية الرائعة ليقتبس رمزا تاريخيا آخر وهو (آمون) ليجعله تعريفا للسياسي ، وليصف حالة التردي للشعب المنهوب والمتهالك الذي مازال يصفق ويهلل للقادة الفاسدين الذين هم اصل البلاء الذي أوصل الامة الى هذا الحال ، كما في البيت الشعري التالي :
" الشــعبُ ردّد صادحا ... ليعيش (آمون) السياسي "
وآمون هو أحد الآلهة في الاساطير الفرعونية والذي كان يتمتع بقدسية كبيرة .
ــ اقتباس تاريخي جديد وهو (آلهة النعاس) ويسمى هذا الإله في الاساطير الاغريقية بـ (هيبنوس) الذي سخره الشاعر لرسم صورة عالية النقاء لوصف حال الشعب الساكن الخامل الذي بدا وكأنه خالد في النوم ، ويتوسد غفوة لاصحوة بعدها كما في الاستفهامين التاليين :
" أننــامُ في كهف السدى؟ ..هل نـــحن آلهة النعاسِ ؟ "
ــ هذه المسميات والاقتباسات جعلها الشاعر دلالات لوصف دقيق ثاقب لصورٍ
أراد بها توضيح حجم الغفلة والمعاناة ، والمتأمل لها يجدها قد اضافت بريقاً للسبك فظهر النظم بعافية تأليفية ونشاط دافق .
الاقتباس القرآني /
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ في هذا النوع من الاقتباس وجدتُ الشاعر قد قدّم نموذجا اقتباسيا رزنا رصينا يدل على احكام صنعته وحسن درايته ومتابعته لما يجوز ولما لايجوز . وسنقدم تحليلا نقديا لكل نوع من هذه الاقتباسات في الآتي من العرض والتحليل .
ــ إن الاقتباس القرآني يحتاج الى فطنة ودراية لايُستهان بها ، وعلى الناثر او الناظم أن يكون حذرا في هذا الفعل اذا كان الاقتباس من القرآن الكريم ، كونه كلام الله المقدس الذي لايمكن ان يُرافق كلام البشر ضمن معادلة لغوية واحدة . وقد تجرأ البعض القليل والنادر جداً في فترة تاريخية قديمة على ان يوظفوا هذا الاقتباس في شعرهم ، حيث انكر أصحاب الصنعة عليهم ذلك ، وبقي الحال طويلا هكذا دون المساس او التقرب من اللفظ المقدس إلّا في الشعر الحالي والذي سمي بـ (الحداثوي) . ولسِعَةِ الفضاء النسجي في هذا الفن نجد ان البعض اقتبس ــ جهلا وحمقاً ــ بعض عبارات القرآن بنصِّها ليتضمنها نصّهُ الادبي ، وهذا يدل على عدم الدراية وعدم الاحترام لحدود التأليف ، حيث كتبَ اهل اللغة قديما في هذا الشأن واشبعوه ، ولو اتعب الشاعر او الناثر نفسه في الاطلاع على هذه الشروط والبحوث والدراسات لكفَّ نفسه عن الخوض فيما لايجب . وهذا هو السبب الذي استوقفني لكتابة هذا المقال .
ولغرض القاء الضوء ولو بصورة مكثفة لا تخلو من الفائدة الجلية نتطرق الى مايلي :
ــ ان المؤلف عندما يحتاج الى ضخ الفاظ ومفردات في نظمه وشعره مقتبسة من القرآن الكريم فهو امام خيارين :
1- اقتباس جمل أو تراكيب لغوية .
2- اقتباس إشارات و دلالات قصصية .
ففي الخيار الأول قد يقع المؤلف بالخلاف الشرعي ويزج نفسه في باب التحريف القرآني ، وهذا ــ للأسف ــ قد وقع في فخه الكثير من الادباء لتوقعهم بأن الكلام المؤلَف سيكون اكثر قوة ومتانة وبلاغة . لكن أصحاب الصنعة يعتبرون هذا الاقتباس فيه إهانة واستهتار بمعايير اللغة القرآنية وبلاغتها . إلا اذا كان الاقتباس بمفردة او مفردتين تخدمان معنىً موازياً لا إسفاف فيه ، وسنبين بعض الأمثلة التي توضح ذلك في هذه القصيدة .
اما الخيار الثاني وهو الإشارة والدلالة ، فلا بأس في ذلك إذا ما تَقيَّـدَ المؤلف في توظيف مفردة ما او لفظة تشير الى قصة قرآنية تجعل القاريء يفهم القصد ، على شرط ان لايخالف الدلالة أوالاشارة التي جاءت في القرآن . فلايمكن اقتباس مفردة ذم من القرآن الكريم لتوظيفها في المدح أو غير ذلك من الاستعمالات الغير موفقة . علما ان تاريخ الشعر العربي برمته لم يشهد اقتباساً قرآنيا زاد على الحد . وقد ازدحم اهل الشرع واهل الرأي في مناقشة هذا الامر ، لكن الأس المشترك هو وجوب الاحترام وعدم الاقتباس دون فهم وعلم ودراية . لأن اختلاط النص القرآني بأي لفظة دخيلة يُعَدُ تحريفا .
والآن سنبحر في هذا الإقتباس الغني ، ونقف عند محطاته الإبداعية ، لتتوضح الصورة وتشرق الفائدة :
ــ مقطع القصيدة جاء محملا باقتباسات قرآنية رائعة ، استطاع الشاعر ان يدمجها مع حال المجتمع (عجول السامري ـ لا مساسِ ـ ناقتـــــي ــ ينبـــعثُ الشقيْ ـ بُكمٌ عميٌّ ـ خرقتْ سفينةَ ـ موءودةٌ ) وسأتوقف عند هذه المحطات قليلاً لأبعث الفائدة النقدية التي لابد من الإيفاء بحقها لخطورتها في فضاء التأليف .
ــ لقد استطاع الشاعر ان يُنظِم بيتاً شعريا باذخا يخبرنا بعودة السياسيين المغلفين بالدبلوماسية ، وقد شبههم بـ (العجل السامري) الذي يخدع ماحوله ، وهو تعبير مجازي رائع ، كون عجل السامري قد خدع امة بكاملها وهو عجل واحد فكيف اذا جاء جمعا :
" رجعت عجول السامري .. لكن بزيٍّ دبلومـــــاسي "
وهنا نجد الشاعر قد اقتبس مفردتين (عجل ـ السامري) من الآيتين الكريمتين :
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } طه 85
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } طه 88
ــ ان نباهة الشاعر جعلت هاتين المفردتين مرافقتين لوصف رجال السياسة الفاسدين ، وهو توظيف حسن لاغبار عليه ، وهذا ما عضده نظمه للبيت الذي يليه :
" جلدي تزوّج ســــوطهُ .. والســـامريُّ بلا مساسِ "
ــ وقد اعجبني جدا التصوير في هذا البيت الشعري ، فقد جاء الشطر الأول بمفردات ثلاث تفضح سياسة العجل لكنها رُكِّبَت بعناية فائقة لتنتج هذه الصورة الكبيرة التي تجسد معنى الألم الكبير (جلدي تزوج سوطه) واستخدام لفظة (تزوج) تعني العقد بين الطرفين ، فالشاعر يصور علاقة السوط بالجلد التي أصبحت حالة اقتران ، بل وكأنها امر شرعي ، اما (السامري ) وهو السياسي ، فمازال بحالة (لامساس) واقتبس الشاعر هذه المفردة من الآية الكريمة :
{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } طه 97
وهذا الاقتباس القرآني يعني ان السامري لايمس احدا ولا يُمَس طول الحياة ــ وهي عقوبة غير اعتيادية ولايمكن تحمّلها ضمن معايشة المجتمع والناس ــ لكن الشاعر وظفها في ان السياسي لايمسه أحد بشيء وهو لايمس الآخرين كناية عن اعتزاله وابتعاده عن الناس ، وهو أمر لايصب في صالح السياسي الذي يريد ان يخدم شعبه ، فهو كالمعاقب بـ (لامِساس) ، وطرح الشاعر استفهاماً ، إذا كان السياسي لايمس الاخرين فكيف يجعل من سوطه زوجاً ولصيقاً لجسدي ؟
أليس في هذا الاقتباس ابداع يُحسَب للشاعر ؟؟
فهو لم يخرج عن أدب الاقتباس ، ولم يوظّف مفردة او لفظاً الا بعد التقليب والتنقيب لمعرفة وجهتها ومرتبة معناها ومغزى هدفها .
ــ ثم يأتي اقتباس قرآني آخر عندما يستخدم الشاعر الالفاظ ( الناقة ـ ينبعث ـ الشقي) إشارة الى (ناقة صالح) و(الشقي) هي صفة الرجل الذي عقر الناقة كما في ألايتين الكريمتين :
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } هود 64
{ إِذِ انْبَعَثَ أشقاها} الشمس 12
إن هكذا اقتباس وهكذا توظيف في صور شعرية مزهرة لابد ان تجعل الناقد او المتلقي المتذوق يهيم بها ويقف عندها متنزها وهو يتأمل هذا النظم الدقيق وكيفية مزج الاقتباس بالفضاء السياسي .
" نزفَتْ موارد ناقتـــــي .. والضرْعُ مال الاختلاسِ
واخافُ ينبـــعثُ الشقيْ .. وحشاً بأقْنعــــــــة الاناسِ "
وهنا يصف الشاعر وطنه الغني بـ (الناقة الحلوب) التي سُرِقَ خيرها ، ويخاف ان يقود هذا الفساد الى استنزاف الخيرات وقتل البلاد وتركها يبابا ، والسارق هو الذي تنطبق عليه لفظة (الشقي) . وعندما جاءت هذه اللفظة أعطتْ دلالة اقتباسية قرآنية لـ (ناقة صالح) التي كانت تدر لبنا لكل فرد ، لكنهم مالبثوا أن عقروها وقتلوها على يد اشقى الاشقياء ، فسلَّط الله عليهم العذاب نتيجة فعلتهم هذه .
وهذا اقتباس ونظم ذكي جدا. فالشاعر لم يقتبس سوى مفردة واحدة (الناقة) في البيت الأول ومفردتين (ينبعث ـ الشقي) في البيت الذي يليه ، والأهم من ذلك إنه وظَّف هذا الاقتباس بما لا يتنافى او يتعارض مع هدف الصورة القرآنية للقصة ، فالناقة مصدر خير والشقي مصدر شر .
ــ اقتباس قرآني آخر ينجح الشاعر في توظيفه ليصور حال الامة بإستعمال لفظتي ( بُكمٌ ـ عميٌّ ) من الآية القرآنية الكريمة :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} البقرة 18 .
وترجم الشاعرهذا الاقتباس لإنشاء صورة شعرية جميلة :
" بكمٌ وعــــميٌ انــــــنا .. حتى الحواس بلا حواسِ"
وكم جميل عندما عطف على (البكم والعمى) بـ ( الحواس ) التي أصبحت هي الأخرى بلا حواس .
والفائدة النقدية من هذه هو ان الشاعر قد اقتبس مفردتين (بُكمٌ ـ عُميٌّ) وعوض عن (صُمٌ) بالشطر الثاني (حتى الحواس بلا حواسِ) حيث شمل العدم كل الحواس ، وحتى لا يقع في (التحريف) وهو نسج واستعمال ذكي ايضاً .
ــ إن لفظة (الموؤدة) وردت في الآيتين الكريمتين :
{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } التكوير 8 ـ 9 .
استطاع الشاعر ان يقتبس هذه المفردة ليضمّها الى توليفة ذكية أخرى في بيت شعري حينما جعلها اختصارا لوصف الحال الذي تعيشه امتنا العربية ، وهذا الاختصار جاء في نهاية النص بعد ان اشبع النص بالصور الشعرية التي تصف الحال المنتكس المزري . ولكي يضع اشارته الذكية نراه قد جاء بهذه المفردة التي وصَفَتْ بأدق صورة وهو (الوأد) ولاشيء غيره يناسب هكذا حال :
" هي باختــصارٍ أمــــةٌ ... موؤودةٌ فـــي الانتكاسِ "
والجميل في التوليف انه جاء بمفردة (انتكاس) بعد (الوأد) وهذا توليف دقيق جداً لإظهار صفة الامة المُحبَطة ، فـ (الوأد) لايحدث الا للجسد الحي ، وقد يصرخ او يصدر صوتا عاليا ويولول ولكن لافائدة .وصورة (موؤدة في الانتكاس ) تعتبر نكبة نفسية بالغة تصور فداحة الضعف الذاتي ، ثم ان الانتكاس هو عكس التقدم لذا فقد جاء التصوير عنيفا جدا ليصور هذا التدهور الذاتي للامه ، فعندما يكون القبر هو الانتكاس فمن المؤكّد لا أمل في بعثها وقيامها وتقدمها من جديد .
وفائدة نقدية أخرى هنا ... ان الشاعر عندما اقتبس لفظة (موؤودة) ليحعلها صفة للأمة ، كأنه أراد بذلك ان يقول : (بأي ذنبٍ قُتلَت هذه الامة) لان القاريء لابد ان يردف هذا المعنى لمفردة (موؤودة) من خلال فهمنا وحفظنا للسياق القرآني .
والحقيقة ان الشاعر غسان الحجاج قد قدَّم انموذجاً رائعا بديعا لوصف دقيق .
ــ اقتباس قرآني جديد للمفردتين (خرق ـ السفينة) من الاية الكريمة :
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرً } الكهف 71 .
وهي قصة معروفة تروي لقاء الخضر بنبي الله موسى ـ عليهما السلام ـ لكن الشاعر استطاع ان يجعل من هذا الاقتباس صورة شعرية رائعة أخرى كما في البيت الشعري التالي :
" خرَقتْ سفينةَ موطــني ... دوّامةُ الغـــرق السياسي "
فشبه الشاعر موطنه بالسفينة المخروقة من قبل السياسي ، والجميل انه جعل سبب الغرق السياسي هو (الدوامة) وهي أمواج الماء التي تدور بعنف لابتلاع أي جسم من الأعلى . وعندما نصفُ نظم القصيدة هذه بالنظم الدقيق فإننا نعنيه تماما ، وهذه علامة فوز تحتسب للشاعر ، حيث وظَّف المفردة المناسبة (الدوامة) لمفردتي (السفينة ـ الغرق ) ولو جاء بغيرها لاصبح المعنى مشوشاً فيه نوع من الاضطراب . وهذا النظم هو الذي يوصي به أصحاب الصنعة الأوائل كي تظهر البلاغة ناصعة هادفة مفهومة من خلال اختيار الالفاظ المناسبة لمعانيها .
ــ مما تقدم يتبادر الى ذهن المتلقي تساؤل مشروع :
ما الدليل على ان وجود بعض المفردات في القصيدة تعتبر اقتباس قرآني ؟
الجواب :
أن اللفظ القرآني واضح جدا ، فهو حَبْكٌ وسَبْكٌ إلهي ، وقد نزل ليكون إعجازا لغويا بلاغيا امام امة الشعر والنثر والخطابة ، فحينما تَرِد لفظة قرآنية في أي نصٍّ أدبي لابدَّ أن تحجز لها مكانا ومرتبة عليا لايمكن للشاعر او الناثر ان يأتي بمثلها ، ولكن قد تاتي مفردات مثل ( كهف) كالتي وردت في البيت الشعري :
" أننــامُ في كهف السدى؟ ..هل نـــحن آلهة النعاسِ "
هنا لايمكن ان نعتبر هذه المفردة اقتباس قرآني من سورة الكهف ، لان الشاعر لم يأت بأشارة دلالية على ان هذا الكهف يشير الى قصة أصحاب الكهف . ولكن عندما جاء بلفظة (الناقة) في البيت الشعري :
" نزفتْ موارد ناقتـــــي .. والضرْعُ مال الاختلاسِ "
اردفها ببيت شعري آخر ذكر فيه مفردة (الشقي) كما في البيت التالي :
" واخافُ ينبـــعثُ الشقيْ .. وحشاً بأقْنعــــــــة الاناسِ "
هنا اعطى الشاعر دلالة واشارة قوية الى ان الناقة المقصودة هي (ناقة صالح) الوارد ذكرها في القرآن الكريم ، وهكذا في الموارد المشابهة الأخرى .
ــ ثم ورود مفردتي (بكمٌ ، عميٌ) في احد الابيات الشعرية أو(عجل السامري) نجدها لاتحتاج الى إشارة او دلالة ، فالمفردات وطبيعة رصفها واضحة قد نطق بها القرآن قبل البشر من حيث الحبكة والنسج والصياغة ، فأول ولوجها للسمع ندرك انها نسج قرآني .
إذاً مفردات والفاظ ودلالات القرآن واضحة جدا لايمكن اخفائها أو التمويه عليها ، فهي عندما تُرصَف مع كلام البشر نجد بريقها يخطف الابصار قبل الاسماع .
ــ الختام جاء مناسبا جدا لجودة المطلع والمقطع كما في البيتين الرائعين :
"عرّافتي كتــبتْ هنـــــا ... ما بين اقواس اقتـــباسِ
(ان النجومَ عقيمةٌ) ... فتشبّــثوا بالانعكاسِ "
المتأمل لهذا المسك الختامي النبيه سيجد أن الشاعر يقصد مايفعل ، فقد جعل مفردتي ( اقواس ـ اقتباس ) دلالة قوية على بصمة القصيدة ونوع النول الذي نُسجَتْ به ، والاجمل هو كيفية جعل هاتين المفردين في صورة شعرية باذخة الخيال ، وخاصة عندما جعل مصير الامة وكأنه مرهون بنبوءة عرّافة ، وكأنما ترك الاختيار للقاريء ، فالنبوءة تقول ان مَن تحسبونهم نجوماً قد عُقِموا عن انجاب الضوء ، وخيرٌ لكم ان تتشبثوا على الأقل بانعكاس الأضواء ، وهذا خيار لاخير فيه ، فإنعدام مصدر النور هو انعدام الحياة . وهو دعوة مكبوتة الى ثورة الذات ، وقد جاء بفعل الامر (تشبثوا) للسخرية والتهكم ، حيث لا انعكاس عند انعدام الضوء . وهكذا هو ديدن الشاعر (غسان الحجاج) في سبك خواتيمه الشعرية الرصينة .
ــ بعد استعراض هذه الاقتباسات وبيان جوازها وحسن توظيفها ، لابد ان نضع تقييما لهذا النظم :
• استطاع الشاعر ان يجسد الفكرة بابيات شعرية مترابطة ، وهذا مايؤكد عليه العرب القدماء ممن تفحصوا الشعر وانغمسوا فيه ، فهم يرون جودة النظم يتمثل بارتباط الافكار بعضها برقاب بعض كي لايأتي النص وكأنه نسج مشوه .
• احتوى النص على جماليات لاذعة ساخرة ، يتطلبها الحال والوجدان ، كي يجعل الشاعر قصيدته عبارة عن فوهة بركان يهمس بالدخان الذي يليه الانفجار . وقد شدني هذا البيت لقوة السبك ولبديع الصنع وقوة الخيال :
" جلدي تزوّج ســــوطهُ .. والســـامريُّ بلا مساسِ "
فياله من خيال خصب وإيماءة هائلة .
• استطاع الشاعر (غسان الحجاج) ان يقتبس من القرآن الكريم الفاظا ومفردات تليق بالمرتبة النظمية التي انشأها ، ولم يوظفها لمعنى مخالف لما كانت تحمله هذه الالفاظ من معان واهداف في القرآن الكريم . وهذا هو الذي نوصي به وننشده .
• هذا النص من النوع المتفاعل مع الذات والوجدان ، ومن النصوص الجاذبة لذائقة المتلقي ، رغم همسها الدفين ، فهي زفرات نفس ، وعبرات وخلجات ذات ، قد رسمها الشاعر بمهارة ، وحاكها بخبرة ، فانتج قُماشة تسر الناظر ، وتلهب الخاطر ...
الشاعر غسان الحجاج ... لقلمك العز والنماء .
تقديري الكبير 

...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق