الجمعة، 9 يونيو 2017

(اركان الكتابــة) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة الرابعة) بقلم / كريم القاسم

(اركان الكتابــة) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة الرابعة)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتابة هي صنعة الكاتب ، وكما جاء في (المعجم الوسيط) بأن الكتابة هي لغة الانشاء من أدب ونحوه . وهي عبارة عن رموز وحروف ، بواسطتها يمكن توثيق النطق والكلام .




ومادامت الكتابة هي لغة الانشاء ، فلابأس ان نتعرف على مدلولات هذه اللفظة ( الانشاء) :
الانشاء /
ــــــــــــــ
(اسم) ، وجمعه : إنشاءات
يُعرف الإنشاء عند الادباء وأهل الصنعة ، بأنه علمٌ وفَنٌّ يُعْلم بهِ جَمْع المعاني والتأْليف بينها وتنسيقها ثم التعبير عنها بعباراتٍ أَدبيّة بليغة . وهو ثمرة علوم اللغة ، بل وأساسها الذي ترتكز عليه .
وللإنشاء اهمية كبرى في كل مراحل حياة الانسان ، لانه في حاجة مستمرة لهذا الفن الادبي الجميل ، فهو الوسيلة للتعبير عن الانفعالات والمشاعر والشجون ، وهو وسيلة الاتصال وايصال الافكار الى الآخرين إن كان تحريرياً ام شفهياً ، ويعتبر المحصلة النهائية لتعلم اللغة ، حيث ان كل الفنون تصب فيه.
ويعتبر الانشاء من الفنون الادبية التي لابد للكاتب ان يهتم بها ويدرك أسسها ومقوماتها وكيفية تأليف المعاني وتنسيقها والتعبيرعنها وفقًا لمقتضى الحال ووفقا لشعور ووجدان الكاتب ، ثم يضعها في قالب (التعبير).
وقد يخلط البعض بين الانشاء والتعبير ، إلا ان التباين بينهما واضح وجلي :
التعبير /
ــــــــــــــ
هو البوتقة او القالب الذي يصب فيه الكاتب إنشائه ومالديه من الأفكار والمشاعر بعبارات متناسقة تؤدي إلى وحدة فكرية منتظمة ، أو بعبارة مختصره ، هو مجموع الأفكار والمشاعر التي يعكسها الكاتب بلغة عربية سليمة وبتصوير جميل .
ـــ ولكي نتقدم في شرح مفهوم الكتابة واركانها و استقصاء صناعة الكلام ، علينا إن نتعرف على التعاريف الآتية :
اللفظ /
ـــــــــــــ
هو النطق بالكلمات ، وهو الصوت المشتمل على بعض الحروف سواء كان ملفوظا بها او متحدثا بها أو مُقدَّرا. وهو مجرد صوت يخرج من الفم ولا يلزم أن يفيد معنى .
الكلام /
ــــــــــــ
الكَلاَمُ في النحو ، هو عبارة عن جملة مركّبة مفيدة ، تتكون من مجموعة من الالفاظ . ولايعتبر الكلام كلاماً إلا اذا اجتمع فيه أمران هما (اللفظ و الإفادة).
واللفظ والإفادة: ما يكون يفيد معنى مستقلا تاما يحسن السكوت عليه.
القول /
ـــــــــــ
هو اللفظ الدال على معنى.
فمثلاً : عنما نقول (محمد) فإن هذا لفظ ، وهو يدل على معنى .
ـــ والكتابة التي تعنينا هنا هي كتابة النصوص الادبية بفنيها الشعر والنثر .
ولكتابة النص الادبي اركان ثلاث :\
الركن الاول /
ــــــــــــــــــــــــــ
ان يحتوي مطلع النص على الحِدّة والرشاقة في اللفظ .
حيث قال العرب : الكاتب هو من اجاد المطلع والمقطع . وان يحتوي مطلع النص على الفكرة وقصد الكاتب.
الركن الثاني /
ــــــــــــــــــــــــ
ان تكون معاني النص آخذة برقاب بعضها ، ولايكون اللفظ مُقتضَب ، اي مُرتجل ، بحيث يجب أن لايشعر القاريء بالتشظي والتشويش .
الركن الثالث /
ــــــــــــــــــــــــ
ان لاتكون الالفاظ مُخلقة ومُشاعة . ولانقصد بذلك الغريب منها ، إنما الفاظ مسبوكة سبكا يعجب القاريء والسامع ، مع العلم انها مستخدمة عند الكثير من الكتاب . وهنا تظهر مهارة الفصاحة وشجاعة القلم ورتبة الكاتب الادبية ، اي (ان الالفاظ هي المستعملة ولكن سبكها هو الغريب) على شرط ان لايهمل جانب المعاني ، انما ياتي تحته بما يساويه من معاني .
• على الكاتب الذكي ان يزن الكلمات قبل عرضها ، ويقلبها على بواطنها وظواهرها وبتصريفاتها بما يوافق القصد ، حتى يطمئن الكاتب الى لياقتها وتناسبها مع موضعها ، ولايجعل المفردة قلقة نافرة لاتليق بالمقام . وقد شبهها العرب بالثوب المرقوع بغير جنسه من النسج ، فيصبح مشوّهاً لايجذب الذوق السليم .
فمثلا قول ابو تمام :
" الودُ للقربى ولكن عرفُه ..... للأَبعدِ والأوطانِ دونَ الأقربِ "
ــ لقد اعتبر اهل الصنعة والخبرة بأن ابوتمام قد أخطأ هنا في نسج هذا البيت . فهو بيت مدح ، الا انه حرم اقارب الممدوح عرفهُ وصيَّرهُ للأبعدين ، حتى ان القاريء الذكي يشعر بأن هنالك صفة نقص الفضل في صلة الرحم ، وإذا لم يكن مع (الود) نفعٌ ، لم يُعتَد به .
وكلما جاء الكاتب بالفاظ عذبة وسهلة المخارج ، كانت اسهل ولوجاً الى الاسماع . فتحرك ذائقة الارتياح والشوق الى متابعة القراءة من لدن المتلقي.
وقد مَثَّـل العرب اللفظ بالجسد الظاهر ، والمعنى بالروح الخفي للجسد.
ـــ فمثلاً الشاعر الناسب (الذي يتغزل ويصف محاسن محبوبته) عليه أن يظهر الرغبة في الحب لا الضجر والسأم والتبرم . ولايظهر ذلك الا بنسج العبارات التي تحوي الفاظاً تناسب المعنى ، وسهلة النفوذ الى ذائقة المتلقي . فمن جميل النظم قول الشاعر :
" تشكَّى المحبون الصبابةَ ليتني ...... تَحمَّلتُ مايلقون من بينهم وحدي
فكانتْ لنفسي لذةُ الحبِّ كلُّها ...... ولم يَلقَها قبلي محبٌّ ولابعدي "
• ان يكون سريع الخاطر حاضر البديهة ، تتوفر في كتاباته المحسنات البديعية والتنميق والتجنيس ، ومبتكرا للعبارات البليغة والالفاظ الفصيحة ، ويجلو الالفاظ السهلة ، ويختصر عندما يكون الاختصار كافيا ، ويطيل حين لابد من الاطالة ، بل ويكتب ويخاطب حسب الطبقة والمقام دون تكلف او زيادة غيرمنسجمة او نقص يؤدي الى ثلمة وركّة .
ــ فمثلاً عند مكاتبة نبينا محمد (عليه وعلى آله واصحابه المنتجبين أفضل الصلاة والسلام) لكسرى عظيم الفرس :
" من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله ، فأدعوك بداعية الله ، فإني أنا رسول الله إلى الخلق كافة ، لينذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإثم المجوس عليك. "
هنا استخدم النبي الفاظاً ومفردات واضحة لايصعب ترجمتها ، ولايخفى معناها على من له أدنى معرفة بالعربية.
ــ ولكن عندما كتبَ الى اهل حضرموت ، كتب لوائل بن حجر الحضرمي :
" من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من اهل حضرموت ، آمركم بإقام الصلاة وايتاء الزكاة ، على التبعة الشاة ، والتبعة لصاحبها ، وفي السيوب الخمس ، لاخلاطَ ولاوراطَ ، ولاشناقَ ولاشغار ، ومن أجبني فقد أربى ، وكل مسكر حرام ... "
نجد هنا إن النبي قد فخّمَ اللفظ لمعرفته بقوة اهل حضرموت على فهم هذه الالفاظ وادراك معناها ، وقد تعودوا على سماع مثلها.
ـــ وكما نعلم إن اللفظ هو قالب المعنى ، والمعاني لربما تخفى او تتشابك مع غيرها من المعاني والاقوال ، فتأتي وهي مقيدة لاتنفذ الى الفهم والادراك ، لذا لابد من ازالة هذا اللبس والتشابك والاشتراك بالمعنى ، وتكون هذه الازالة بمعرفة المعنى ، ولايعرف المعنى الا بــ (الايضاح) ، اي ايضاح ما أراده الكاتب وعناه . وإن الاجماع انعقدَ على ان الوصف بالعام (ابلغ) من الوصف بالخاص .
ـــ فمثلا غندما نقول:
( يوسف اجمل الناس ) ابلغ من ( يوسف اجمل بني ابيه ) ، لأن (الناس) أَعَم مِن (بني ابيه) والمخاطبة (بالألف واللام) افضل وأسنى من المخاطبة بــ (الاضافة) .
ـــ وكذلك في معنى اللفظتين (العلو ) و (الارتفاع) ، وهما في الظاهر سواء ، لكن الفرق بينهما هو من حيث المعنى ، فالارتفاع تخص ما ارتفع . فعندما نقول :
( فلان جالس على الكرسي ) اي بمعنى مرتفعا عن الارض ، ولايسمى (عالياً ) فالعلو تعني علواً واضحا جلياً بحيث لايُنال .
ولهذا وصف الله تعالى نفسه بالعلوِّ فقال : ( الكبير المتعال) وجعل الرفعة صفة مخلوقاته .
فعندما يصف السماء يقول ( رفعَ السماء بغيرِ عَمَدٍ ) .
فاصبح البيان هو (كل عالٍ مرتفع وليس كل مرتفع عال) .
ـــ لننظر الآن الى هذا السلسبيل اللفظي في كلام الامام علي (كرم الله وجهه) :
" ألا وإن مع كل جرعة شرقاً وإن في كل أكلة غصصاً ، لا تُنال نعمة إلا بزوال أخرى ولكل ذي رمق قوت ، ولكل حبة آكل ، وأنتَ قوت الموت . أعلموا أيها الناس أنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها ، والليل والنهار يتنازعان في هدم الأعمار .
يا أيها الناس: كُفر النعمة لؤم ، وصُحبة الجاهل شؤم . إن من الكرم لين الكلام ، ومن العبادة إظهار اللسان وإفشاء السلام . إياك والخديعة فإنها من خلق اللئيم ، ليس كل طالب يُصيب ، ولا كل غائب يؤوب . لا ترغب فيمن زهد فيك. رُبَّ بعيد هو أقرب من قريب. سَلْ عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار. أَلا ومَن أسرع في المسير أدركه المقيل . أسترْ عورة أخيك كما تعلمها فيك . إغتفرْ زَلَّة صديقك ليوم يركبك عدوك . "
ـــ يصف (ابن أبي الحديد ) كلام الامام فيقول :
" إذا تأملته وجدتَه كلَّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية .. وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحُسن اللفظي، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى، والتي تَرِد في خطب، وفقرات ممتازة التميّز "
ــ يقول (الجاحظ) : إنّ عظمة نثر الامام علي ظلت آيةً من آيات الأدب والحكمة والمعرفة ، تفيض كنوزها بالتلقّي ، فتزدادُ ثراءً وتألّقاً.
ــ وقال : حدثني ثمامة، قال : سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول:
" الكتابة ، بضمِّ اللفظة إلى أختها. ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر : أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه ، وأنت تقول البيت وابنَ عمه. ثم وناهيك حسناً بقول عليّ بن أبي طالب : هل من مناص أو خلاص ، أو معاذٍ أو ملاذ ، أو فرار أو محار . "
ــ وهكذا نرى إن الكتابة والنظم وانشاء النص الادبي لايمكن ان تظهر متانة سبكه للعيان إلا بعد إفراغه في قالب المعنى المناسب الذي يستخدمه الكاتب الحاذق لربط الالفاظ برقاب بعضها لتزيد النص بهاءً وجمالا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق