الجمعة، 2 يونيو 2017

(الاسلوبية في الكتابة) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة الثالثة) بقلم / كريم القاسم

(الاسلوبية في الكتابة) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة الثالثة)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأُسْلُوبُ : الطَّرِيق ، المذهب ، النَمَط
الاسلوب هو الكاتب نفسه ، وهو البصمة التي لايختلف عليها اثنان في الانتماء الى صاحبها . والاسلوبية في الكتابة ، تعني الخصوصية التي يتمتع بها ويمتلكها الناثر او الشاعر في طريقة اختيار الالفاظ وتأليف الكلام ، لغرض الانشاء ، للتعبير عن المعاني وللوصول الى قصد الايضاح والتأثير في النفوس والاذهان .




وكثيراً ما يتعرف الناقد او المتلقي الحصيف على نمط التفكير لدى صاحب النص من خلال اسلوبه في الكتابة ، حتى اعتبره بعض اصحاب الاختصاص بأنه الصورة اللفظية التي يعبّر بها الكاتب عن المعنى أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار وعرض الخيال .
وقد تعددتْ تعاريف الاسلوبية وتنوعتْ ، ولها مدارسها ومناهلها ، والخوض فيها يقع تحت صفحات كثيرة قد تبعث على الملل والأعياء ، لكنها تصب في بوتقة تعريفية واحدة ، هي انها الطريقة التي يختار بها الكاتب أدواته الكتابية بالشكل الذي يميزه عن غيره ، وتحكم له بالتفرد في صياغة أفكاره والتعبير عنها .
ان اللغة هي عنصر التغذية لاسلوب الكاتب حيث تقدم له كل الادوات من الالفاظ والتراكيب التي يفصح بها ويترجم افكاره ، فيبدأ بهندسة هذه الادوات وحسن طرق بنائها ، وانتقاء مايصلح ومالايصلح من الانشاء والتعابير بحيث تثير ذائقة وشعور المتلقي ، بشرط التمسك بقواعد النحو والصرف وما الى ذلك من مدلولات لفظية متفق عليها .
وكان ومازال اصحاب الخبرة في الشعر او النثر يعرفون ويَستدلّون على الكاتب من خلال اسلوبه في الكتابة ، وهذا هو الذي يميز ذلك الكاتب عن غيره ، فالمتنبي مثلاً يكاد شعره ينطق باسمه والشعر الجاهلي يستطيع الخبير والمتتبع ان يميزه عن الشعر الاندلسي او غيره ، وهكذا مع بقية الفنون الادبية .
ــ يقول ابن الأثير الموصلي :
" إن أبوتمام مثلاً : كان يُحرّك ألفاظه (كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأَموا سلاحهم، وتأهّبوا للطِّراد)
" السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ .... في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في .... مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة ً .... بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافي السَّبْعَة ِ الشُّهُبِ "
ـــ والبُحتري كان يُحرّك ألفاظه (وكأنها نساءٌ حِسان عليهنّ خلائل مُصَبّغات، وقد تحلّينَ بأصناف الحليّ)
" قَبَّلْتُها مِنْ بَعيدٍ فانْثَنَتْ غَضَباً .... وقَدْ تَبَيَّنَ فِيهَا التِّيهُ والخَجَلُ
ومَسَّحَتْ خَدَّها مِنْ قُبْلَتِي ،ومشَتْ .... كَأَنَّها ثَمِلٌ أَو مَسَّها خَبَلُ
قد جَاءَك الْحُبُّ بِي عَبْداً بِلاَ ثَمَنِ .... إِنْ خَانَكَ النَّاسُ لَمْ يَغْدُرْ ولَمْ يَخُنِ "
ـــ لكنّ أبا تمام كان حاضراً وراء الألفاظ والأشخاص، وكذلك البحتري، كُلاً بطبيعته الخاصة ، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة. "
ـــ ولوتفحَّصنا النص التالي ، لوجدناه خالياً من التكلّف والغريب من الالفاظ ، ويمتاز بالبساطة والوضوح ، والابتعاد عن المحسنات والخيال ، والتركيز على الفكرة فقط ، حتى بَدَتْ عليه سِمة السهل الممتنع ، لتبادر الى اذهاننا انه من أدب المهجر ، واسلوب (ميخائيل نعيمة) :
" أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
سوى أشْبَاح مَوْتَانا
*******
أخي ! إنْ عادَ يحرث أرضَهُ الفَلاّحُ أو يزرَعْ
ويبني بعدَ طُولِ الهَجْرِ كُوخَاً هَدَّهُ المِدْفَعْ
فقد جَفَّتْ سَوَاقِينا وَهَدَّ الذّلُّ مَأْوَانا
ولم يتركْ لنا الأعداءُ غَرْسَاً في أراضِينا
سوى أجْيَاف مَوْتَانا "
*******
ــ ومَنْ مِنّا لم يسمع بـ (المتنبي) ... ؟؟
الذي ما أن يقرأ متتبع شعره الا ويعرف بأنه من نظم هذا الشاعر الفحل ، الذي تميز باسلوبه القوي المتميّز بجزالة اللفظ ، والخيال الخصب ، وسكب المعاني الشعرية اللذيذة ، مع القدرة والمهارة الفائقة في دقة الوصف ، وهذا ما جعله متقدماً على الكثير من الشعراء ، بل ومن اكابر الشعراء العرب :
" يا أعدل النـاس إلا فـي معاملتي ..... فيك الخصام و أنت الخصمُ والحكمُ
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ..... وأسمعتْ كلماتي مَن بهِ صممُ
أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها ..... ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ
وجاهِـلٍ مَـدَّهُ فـي جَهْلِـهِ ضَحِكـي .... حتـى أتـتـهُ يَـدٌ فَرّاسـةٌ وَفـَــمُ
إذا نظـرتَ نيـوب اللـّيـثِ بـارزةً .... فـلا تظـنَنَ أَنَّ اللـّيـثَ يبْتسـِــمُ "
ــ ولو تحققنا في عبارات كلام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (كرّم الله وجهه) لعرفنا قوة الاسلوب الانشائي المتدفق والذي يجذب الحواس ويقودها انصياعاً ، مما يجعل السامع او القاريء يقرُّ إقراراً بأن هذه اللغة وهذا الكلام هو لـ (علي) لاغيره . وهذه السِمة في الاسلوب هي التي تصبح لصيقة (المَلَكَة) عند الكلام او التأليف .
ولنستعرض جانباً مكثفاً مختصراً ما (يميز اسلوب ) الامام علي في خطبه وكلامه ومايندرج تحتها من تعابير وانشاء :
• قوة التأثير في السامع إن كان الكلام شفوياً ، والتأثير في القاريء ان كان النص تحريرياً ،وهذا الاسلوب شبه معدوم على أَلسنةِ الادباء في وقتنا الحاضر، الا مانَدَر، حيث إن الامام يُكثر من استخدام الصيغ الإنشائية (الاستفهام ، الترجي ، التمني ، الامر ، النهي ، النداء، القسم وغيرها ) وهي اقوى من الصيغ الخبرية ، مما يزيد في خلق التأثير في جارحة السمع وتحفيز ذهن المتلقي على الاستيقاظ والانتباه والتأثر.
• انتقاء المفردة المباشر من قبل الامام ووضعها في مرتبتها الصحيحة من حيث الموسيقى وخفة نطقها على اللسان وشدة وقعها في الآذان بما يناسب الحدَث ، بحيث تطوِّق الفكرة برمتها . فعندما يخاطب عُمَّاله او القادة فانه يستعمل اسلوب الأمر، فكلامه إلى (قثم بن العباس) وهو عامله على مكة :
" أما بعد ، فأقم للناس الحَج ، وذكّرهم بأيام الله ، وأجلسْ لهم العصرين ، فأفتِ المُستفتي ، وعَـلِّمْ الجاهل ، وذاكرْ العالِم ، ولايكنْ لكَ الى الناس سفيرٌ إلا لسانكَ ، ولا حاجبٌ إلا وجهكَ ، ولاتحجُبَنَّ ذا حاجة عن لقائكَ بها ، فأنها إن ذِيدَتْ عن أبوابكَ في أولِ ورودها ، لم تُحمَد فيما بعد على قضائها ..... "
• سماكة النسج وقوة التعبير ، وقصر العبارة ، وتوازنها مع اخواتها مع السجع والترسّل ، وكان ضليعاً باستخدام (التشبيه) و (الاستعارة) و (الكناية) و (المجاز) وغيرها من البديع والمحسنات ، حتى اصبحتْ منهلا لكل من اراد الارتواء والاستزادة ، وكان يستخدم الجزل في مواضعه المناسبة حتى يخيل للسامع او القاريء بانه قريب منه ، ويدخل الرعب في نفوس اعداءه أو نفوس من يؤنبهم . فعند مكاتبته الى (ابوموسى الاشعري) وكان عامله على الكوفه :
" من عبد الله امير المؤمنين الى عبدالله بن قيس :
أما بعد ، فقد بلغني عنكَ قولٌ هو لكَ وعليكَ ، فإذا قدِمَ عليكَ رسولي فارفعْ ذيلكَ ، واشددْ مِئزركَ ، واخرجْ من جُحركَ ، واندبْ مَنْ معكَ ، فإن حقَّـقتَ فانفذْ ، وإن تفشَّلتَ فابعُدْ ، وأيمَ الله لتؤتيّنَ حيثُ أنتَ ، ولاتُترَكُ حتى يُخلَطَ زُبدُكَ بخاثِركَ ، وذائبكَ بجامدكَ ، وحتى تُعجَلَ عن قَعدَتكَ ، وتَحَذَّرْ مِن أمامكَ كحَذَرِكَ من خلفكَ ، وما هي بالهوينى التي ترجو ، ولكنها الداهية الكبرى ، يُركَبُ جَملُها ،ويُذَلُ صَعبها ، ويُسَهَّلُ جَبَلها ، فاعقِل عقلكَ ، واملِكْ امرَكَ ، وخذْ نصيبكَ وحظكَ ، فإن كَرهتَ فَـتَنَحَّ الى غير رَحْب ولا في نجاة ، فبالحريّ لَتُـكفيَّنَ وأنت نائم ، حتى لايقال : أين فلان ؟ والله إنه لَحَقٌّ مع مُحِق ، وما أبالي ماصنع َ الملحدون ، والسلام . "
ــ وعند استعمال رقيق اللفظ يأتي بأرشق العبارات واعذبها حتى تدخل السرور الى النفس او تجبر العين على نزف الدموع سراعا ، او تأمر الجوارح بالخشوع لسحر بيانه . ولنقتطف جانباً من كلامه (كرّم الله وجهه) :
ــ قام رجل يقال له (هَمَّام) إلى أمير المؤمنين وهو يخطب ــ وكان (هَمَّام)عابدا، ناسكا، مجتهداً ــ فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا المؤمن كأننا ننظر إليه .
فقال :
" يا هَمَّام ، المؤمن هو الكيس الفطِن ، بشره في وجهه ، وحزنه في قلبه ، أوسع شئ صدرا وأذل شئ نفسا ، زاجر عن كل فان ، حاض على كل حسن ، لاحقود ولا حسود، ولا وثّاب ، ولاسبّاب ، ولاعيّاب ، ولا مُغتاب ، يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ، طويل الغم ، بعيد الهَم ، كثير الصمت ، وقورٌ ذكور، صبورُ شكور، مغمومٌ بفكره ، مسرورٌ بفقره ، سهل الخليقة ، لين العريكة ، رصين الوفاء ، قليل الاذى ، لا متأفِك ولا متهتِّك . إن ضحكَ لم يخرق ، وإن غضب لم ينزق ، ضحكهُ تَبسّم ، واستفهامه تعلّم ، ومراجعته تفهّم , كثيرٌ علمه ، عظيمٌ حلمه ، كثيرُ الرحمة ، لا يبخل ، ولا يعجل ، ولا يضجر، ولا يبطر ، ولا يحيف في حكمهِ ، ولا يجور في علمهِ ، نفسُهُ أصلب من الصلد ، ومكادحته أحلى من الشهد ، لا جَشِع ولا هُلِع ولا عَنِف ولا صَلِف ولا مُتكلِّف ولا مُتعمِّق، جميل المنازعة ، كريم المراجعة ، عدلٌ إن غضب ، رفيق إن طلب ، لا يتهوّر ولا يتهتّك ولا يتجبّر ، خالص الود ، وثيقُ العهد ، وفيُّ العقد ، شفيقٌ ، وصولٌ ، حليمٌ ، خمولٌ ، قليلُ الفضولِ ..... "
وعند انتهاء الخطبة صاح (هّمَّام) صيحة ، ثم وقعَ مغشياً عليه، فقال أمير المؤمنين (كرّم الله وجهه) أما والله لقد كنتُ أخافها عليه . وقال: هكذا تصنع الموعظة البالغة بأهلها. "
وهذا دليل على قوة الاسلوب وتمنكنه من السيطرة على المشاعر ، والتمازج مع الروح ، ومن يريد الاستزادة من هذه الخطبة (خطبة المتقين) فليرجع الى كتاب نهج البلاغة .
ــ وكما يقول ابن أبي الحديد في وصف كلام الامام علي :
" إذا تأملته ، وجدتَه كلَّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية "
ــ إذاً نحن امام صنعة لابد لمن اراد تعلمها ان يستقصي حيثياتها وتجارب اهلها ونماذج خبرائها ، كي يبدأ بالمقارنة والانتقاء .لذا فأن كبار المؤلفين والكتَّاب لم ينفكوا عن قراءة هكذا نصوص وبمختلف اتجاهاتها وعناوينها ، لزيادة الخزين الاسلوبي ولمعرفة مكامن القوة والجمال التي تعين على رصانة الاسلوب . فالكاتب الرصين هو الذي يرصد علامات الابداع في انشائه وكتابته ويتفحص جوهرها لينتقي اسلوبه الخاص . وهذا لايأتي إلاّ بالمران والبحث والقراءة والكد والتعب والاجتهاد. ومن لايريد التعلم والاستزادة المعرفية في ذلك ، عليه ان لايُتعِب الناس بالحشوِ والتِفلِ من التأليف ، وهو مغرور بما يأتي به من زَبَد أو نخالة .
ــ وقد انتقد (ابن قتيبة) أولئك الكتّاب الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه، فقال:
" رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدِعة ، واستوطأوا مراكب العَجَز، وأعفوا أنفسهم من كَـدّ النظر وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدَّرَك بغير سبب ، وبلغوا البُغية بغير آلة . "
ـــ وقد أجاد (ابن قتيبه) في وصفه الكتّاب من ذلك النوع ، فالكاتب الرصين هو الذي لاينقل المعاني وحدها ، لان غاية الادب ليست المعرفة وتقرير الحقائق ، بل نقل المعاني الى الاذهان وهي ممزوجة بشعور الكاتب ، وتحمل القوة التي تبعث شعور المتلقي ، ولاتحدث هذه الديناميكية الادبية الا اذا كان تعبير الكاتب يحمل الاسلوب الفني المتميز .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق