(النص الادبي) سلسلة صناعة الكتابة ... (الحلقة الثانية)
.............................................................
ان النص الادبي بفنيه الشعر والنثر، نستطيع ان نعتبره اشبه بلوحة فنان ، ان كانت رسماً أو نَحتاَ ، فهي قد تحاكي الواقع تماما من حيث عناصر الطبيعة (الاشجار، الماء ، الجبال ، الحيوان ، الانسان وما الى ذلك) وقد ترمز الى الواقع رمزاً من حيث الحركة او اللون وغير ذلك من الرموز الفنية . وهذه اللوحة تُعتبَر إحدى ادوات التعبير عن مكنونات الذات البشرية . وهكذا يكون النص الادبي إن كان شعراً او نثراً .
.............................................................
ان النص الادبي بفنيه الشعر والنثر، نستطيع ان نعتبره اشبه بلوحة فنان ، ان كانت رسماً أو نَحتاَ ، فهي قد تحاكي الواقع تماما من حيث عناصر الطبيعة (الاشجار، الماء ، الجبال ، الحيوان ، الانسان وما الى ذلك) وقد ترمز الى الواقع رمزاً من حيث الحركة او اللون وغير ذلك من الرموز الفنية . وهذه اللوحة تُعتبَر إحدى ادوات التعبير عن مكنونات الذات البشرية . وهكذا يكون النص الادبي إن كان شعراً او نثراً .
فالنص كثيرا مايكون حاملاً لعناصر الشد والجذب بين ذات المؤلف والموضوع او الفكرة ، ويرافق هذا الشد والجذب كل الثقافات التي تحملها ذات المؤلف والفضاءات اللغوية والبيان والبديع لملء كل الفجوات والثغرات ، ثم تشذيب ما يمكن تشذيبه ومما لافائدة فيه ، حتى يظهر نصاً متقناً رائعاً .
والنص الادبي عندما يتمثل بفكرةٍ ما ، فإنه يسلك طرقاً وينتهج اساليباً متباينة ومتنوعة في درجة نضجها ، وقدرة ولوجها الى افهام ومدارك المتلقين . فقد يصل احياناً الى الفهم والادراك مباشرة وبقوة ، وقد يتخلف عنها بدرجات ، وقد يعيش حالة تماس معها . ويأتي هذا النص ، اما حاملاً للصراحة والمباشرة في الطرح ، او حاملاً للرمزية والايحاء ات الواضحة ، او الرمزية بالأيماء .
وتُعتَبر (الكلمة) في اي نص أدبي ــ شعرا كان ام نثرا ـــ كائناً حياً يحمل عناصر التطور والحركة ، وهي الأداة التعبيرية في الكلام . فهي وحدها لها القدرة على رسم (الاسلوب) التصويري للعمق الفكري للكاتب والمؤلف .
وكل نص ادبي لابد أن يمر بمحورين اساسيين هما (الشكل والمضمون) وهذين المحورين ــ كما لايخفى على الكثير من الكتّاب ــ يترابطان بقوة وبأواصر واضحة للوصول الى الوحدة العضوية للنص . فكل مايتعلق بجودة المطلع والمقطع والخاتمة وحسن اختيار عبارات الاستهلال وطول النص وقصره وقوة اللغة او ضعفها ونوع الموسيقى والايقاع ، ونوع اللغة التي نُسِجَ بها النص واسلوب الكاتب نفسه ، كلها تقع تحت عنوان (الشكل) . أما (المضمون) فيقصد به محتوى النص والفكرة التي أنشيء عليها او من اجلها ، وكل العواطف والوجدانيات والاحاسيس والانفعالات التي تفرزها ذات الكاتب .
ولابد للنص ان يقوم على اركان وأسس تعينه على الثبات والتماسك والنضج ، ليصل ويرتقي الى مستوى الابداع والدهشه . فالكاتب ناظماً كان ام ناثراً عليه ان يضع هذه الاركان نصب عينيه في كل عبارة وتركيب لغوي . منها :
• العناية البالغة بين انسجام وتوافق الالفاظ ومعانيها ، فهي عماد النص وبنيته الاساسية ( وسنبين ذلك في الحلقات القادمة بشكل مكثف ومختصر)
• قوة الفكرة التي يُبنى عليها النص ، وصبهّا كتلة واحده دون تشتت وتصدع وانفضاض ، ليظهر النص واضحاً جلياً ، مفهوماً مراده ، ومعروفة اشارته .
• العناية بالايقاع والموسيقى في النص المنظوم ، والايقاع الداخلي او السجع في النص النثري مما يزيده جذباً وجمالا ، بشرط ان لايكون تكلفاً يتعب كيان النص . وهذا الركن هو الذي يجعل النص راقصا متحركاً ، مما يشد الانتباه الحسي والسمعي ، لتحصل عملية الجذب والدهشة والابداع.
• الصدق الشعوري والوجداني لعاطفة الكاتب ينعكس على نسج العبارات واختيار المفردات ، والتي بدورها تشكل تفاعل حسي مع المتلقي (القاريء والسامع) . اما النسج المتكلف وانزال المفردات عنوة ، فإنها تكسب النص الادبي صفة الجفاف والجفاء ، وهذا يظهر جلياً في الكثير من النصوص ، كون التفاعل الانساني هو شد وجذب بين المشاعر والعواطف وصدق البيان ضمن قدحِ فكرة ما لـ (مَلَكَة) الكاتب .
• إلمام الكاتب بعناصر البديع والفصاحة والبلاغة ، والقراءة المستمرة والتثقيف الموازي هو خير معين على متانة النص وقوة السبك ودقة وجمال النسج . فلا يمكن ان يُعرض النص بمفردات تحمل سمة البساطة والكلام الدارج ، مما يضفي عليها صفة السذاجة والركّة (وهذا ماسنبينه في الحلقات القادمة).
ــ من كل ماتقدم ، لابد للكاتب ان ينتهج (اسلوباً) ادبيا واضحاً له ، بل ويجهد نفسه للوصول الى هذا الهدف ، فهو البصمة الخاصة لقلمه وتأليفه وانشائه . فالاسلوب كقطعتي الحُليّ قد يكونان بنفس النقش ، ولكن سبكهما وصياغتهما موضع اختلاف ، وحسب خبرة وتفنن الصانع .
وهنالك فرق كبير بين الاسلوب الادبي للكاتب ، وبين الكلام العادي ـــ وهذا ماسنتطرق اليه في القادم من الحلقات ـــ ويأتي هذا الفرق من خلال الاستعمالات اللغوية في الحالتين ، وفي دقة اختيار وانتخاب المعاني للالفاظ .
ــ بين يدينا نص شعري لاستاذي محمود البريكان ـ رحمه الله ـ بعنوان (عن الحرية) ، يجسد فيه الخيال المبهر، والثورة الداخلية ، وجمال النسج ، وسلاسة اللفظ ، وذكاء الرمزية والإيحاء ، مما يولد لدى المتلقي استمرارية المتابعة والتأمل :
" دعوتموني لاكتشاف قارة أخرى معاً
وأنكرتم عليَّ رؤية الخريطة.
أؤثِرُ أن أبحر في سفينتي البسيطة
فإن تلاقينا فسوف نُحسن الذكرى.
**********
قدّمتمو لي منزلاً مُزخرفاً مريح
لقاء أغنيّه
تطابق الشروط.
أؤثر أن أبقى
على جوادي ... وأهيم من مهبّ ريح
إلى مهبّ ريح
***********
جئتم بوجهٍ آخرٍ جديد
لي ، متقن حسب المقاييس المثاليِّه
شكراً لكم . لا أشتهي عيناً زجاجيه،
فماً من المطاط .
لا ابتغي إزالة الفَرق . ولا أريد
سعادة التماثل الكامل .
شكراً لكم . دعوهُ يبقى ذلك الفاصل .
أليسَ عبداً في الصميم سيّد العبيد ؟
ـــ ولو لاحظنا النص النثري التالي القصيرلـ (ابن الرومي) في عيادة بعض اصدقاءه ، لوجدنا قوة النص ومتانة السبك ماثلة ، وبمايناسب الفكرة والمقصَد ، مع توارد العبارات متسلسلة المعنى ، دون انحراف او تشظّي ، حتى يصل الى نهاية فيها نوع من الدعاء :
" أَذِنَ الله في شفائِكَ وتلقَّى داءَكَ بدوائِكَ ، ومسحَ بيدِ العافيةِ عليكَ ، ووجَّهَ وفدَ السلامةِ اليكَ ، وجعلَ عِلَّتَـكَ ماحيةً لذنوبكَ ، مضاعفةً لثوابكَ "
ـــ والآن لنتفحص هذا النص لكلام الامام علي (كرَّم الله وجهه) كي نرى عمق المعنى وسلاسة اللفظ وشروق الحكمة وفيض المعرفة ومتانة النسج ، حتى يأتي النص متكاملاً مع الفكرة وهو يحتوي من جمال البديع والبيان ، ورشاقة السجع ، وبلاغة قلَّ نظيرها ، فلايجد السامع او القاريء مفراً الا والانسكاب على النص لمعرفة هذا المد الجارف من الحكمة ، وجمال النداء والثقة بالمعنى ، فتنجذب له الأسماع ، وتدركه ألألباب والأفهام :
" يا كميل ، إنّ هذه القلوب أوعية ، وخيرها أوعاها ، فاحفظ عنـّي ما أقول لك :
الناس ثلاثة ، فعالِمٌ ربّاني ، و متعلّم على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعاع أتباعُ كل ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق فيَنجوا .
يا كُمَيل ، العلم خيرٌ من المال ، العلم يحرسك و أنت تحرس المال ، المال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله.
يا كُمَيل بن زياد ، معرفة العلم دِين يُدان به . به يكسبُ الإنسانُ الطاعةَ في حياته ، وجميلً الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم ، والمال محكوم عليه .
يا كميل ، هَلَك خزّان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر. أعيانُهم مفقودة ، و أمثالهم في القلوب موجودة. "
ـــ ويصف الشيخ (محمد عبده) نصوص كلام الامام علي (كرّم الله وجهه) في مقدمة نهج البلاغة فيقول :
" وكان الإمام عليّ بن أبي طالب، بعفويته الثاقبة، يباشر عمله الإبداعي الفوري، فيأتي النص المرتجل، مثل النص المكتوب، آيةً في الإتقان والروعة. ومن الثابت، أن جريان خطب عليّ عليه السّلام، على نحوه الباهر، في طوله وقصره، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقلٍ مبدع ، موهوب ، هو السيّد المؤكد في عالم العقول. "
ــ وبعد كل هذا العرض نقول :
ينبغي على الكاتب حين يقرأ فائدة ما ، عليه ان لايقرأها لمجرد الاستمتاع فقط ، انما يتناولها درساً وفهما ، حتى تتكرر فوائدها في اعماله ، ويظهر تأثيرها في نصوصهِ ، وتصبح نوعاُ من (المَلَكَة) تنطلق بعفوية عند المباشرة بالتأليف والنظم والانشاء.
وقد قُـدِمَتْ لنا النصيحة ذات يوم :
" بأنكَ يجب ان تنظر الى النص بأنه عمل غير متكامل ، ويعوزه الكثير من التهذيب والرعاية ، مع عدم الزهو والاعجاب بما تكتب او تنظم ، حتى يحين موعد ولادته ، باحسن حال وعافية . "
ــ لذلك فإن القدرة التعبيرية للكاتب ، هي المسؤولة عن الامساك بالمعاني وكشف مدلولاتها ، كي ينجح الكاتب قي الوصول الى محطات الادراك ومراكز الفهم في النفوس . وهنا تكمن (مفارز الابداع) التي يتفاوت الكتّاب في مستوياتهم للوصول اليها والتعرف عليها ، وفي هذا التفاوت تظهر طاقة النصوص الادبيه ، وما تدّخره من طاقة ادبية كامنة ابداعية تعبيرية وجمالية في الاسلوب ، كالحرارة في الجمر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق